Fi Awqat Firagh
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
Genres
لمناسبة وفاته
متى؟
نعاه البرق منذ أيام، فنعى كبيرا من كتاب فرنسا المعدودين وأحد محبي الإنسانية الذين امتازوا بالعطف على الشرق وعلى مصر عطفا خالصا من كل شائبة؛ فقد ظل لوتي، رغم أحداث السياسة في هذه الأيام الأخيرة، شديد العطف على تركيا، شديد التعلق بها، شديد الأمل في ألا يقع بينها وبين فرنسا ما يدفع الألم إلى قلبه الذي جمع بين محبة وطنه وإعزاز تركيا.
ولو لم يكن من آثار لوتي الأدبية إلا كتابه (موت أنس الوجود) الذي كتبه عن مصر، وأهداه إلى المرحوم مصطفى كامل باشا، لحق على المصريين أن يشاركوا فرنسا في الأسف على موته، وأن يقيموا له بينهم ما يخلد ذكره ويديم أثره. ولو لم يكن إلا هذا الكتاب لوجب عليهم أن يعنوا بدراسة كاتبه، وبمعرفة ما انطوت عليه روحه من عبقرية، وما اشتمل عليه قلبه من عواطف دائمة التجدد، ولكان أول واجب عليهم في هذا السبيل أن ينقلوا الكتاب إلى اللغة العربية؛ ليقف بنو مصر جميعا على ما انطوى عليه من قوة عبارة، وسحر أسلوب، وجمال وصف، وسلطان عاطفة.
على أن (موت أنس الوجود) ليس إلا جزءا من عشرات الأجزاء التي وضعها لوتي، والتي أحدثت في الأدب الفرنسي نوعا طريفا جمع بين بساطة القديم وجمال الحديث، وكان ولا يزال له أثر على قارئيه إذا هم قرأوه في سن معينة، واستمعوا فيه إلى نغمات أسلوبه المتجاوب البديع الذي يحرك في النفس الشابة كل أنغام حياة الشباب، والذي يبعث إلى النفس التي تعدت الشباب صورا من الشباب تحييها فتلذ لذكرى ماض كان لذيذا حين عاشته، ثم لم يزده تدثره في طيات الماضي إلا جمالا وروعة.
وليس يسعنا، نحن أبناء الشرق، إذا قرأنا كتب لوتي إلا أن نشعر بشيء من التجاوب بين نفوسنا الممتلئة بالخيال، وبين ما في هذه الكتب من صور العالم وخيالاته. ويصل هذا التجاوب إلى حد التمازج أحيانا ثم ينقضي التمازج ويضعف التجاوب، وتحتاج النفس إلى غذاء عقلي أكثر دسما مما يجود به الخيال.
ونحن أبناء الشرق في أشد الحاجة إلى المتاع بهذا التجاوب، ثم التمازج ثم الانفصال؛ فإن أدبنا القديم غني ولكنه قديم، فيه العواطف الرقيقة القوية، وفيه نزعات النفس للفضيلة ونزغها للهوى، وفيه المعاني الكثيرة، لكن لكل عصر ميولا خاصة، ومهما يعترف الأوروبي بأن أدب القرن السابع عشر الفرنسي بالغ غاية الإبداع، فإنه يعترف بأنه لا يتجاوب مع نفس رجل القرن العشرين؛ ولذلك يحب الرجل منا بعد إذ يعيش عصور امرئ القيس وحسان وجرير وأبي نواس والمتنبي أن يعيش العصور الحديثة. والأدب العربي في العصور الحديثة متهم بالضعف، وهو من غير شك قليل في كمه، لا يروي ظمأ النفس في هذا العصر الذي فتح من كنوز مخبآت العالم ما لا تقنع النفس أمامه بوشل من خيال فج أو ذهن محصور أو عقل ضيق الأفق.
أنت بحاجة إذن أن تقرأ لوتي، وأنت تحس بنفسك تتحادث مع نفسه، وخيالك في حاجة إلى السبح مع خياله. وأنت تتركه بعد ذلك متطلعا إلى غذاء أدسم، فإذا وقفت عليه وانقضت سنون ورجعت إلى لوتي شعرت بلذة الماضي، ورأيت في هذه الكتب صديقا قديما كان معك زمنا ثم تخطيته، وقد يتعذر أن تعود فتبقى طويلا معه.
ولا عجب، فليس لوتي بالرجل الذي حبس نفسه في غرفة جعل فيها يستقصي تاريخ الأمم، ويرد فيها الوقائع إلى أصولها ويحلل هذه الوقائع، ثم يضع قصة تاريخية أو تحليلية أو يقيم نظرية خاصة تؤيدها قصته، بل هو رجل نشأ ضابطا في البحرية الفرنسية، فجاب أقطار العالم وتخطى البحار فوق ظهر الموج المضطرب فعرف الوحدة اللذيذة المتشابهة، وعرف الانكماش فوق سطح المركب الساعات الطوال يناجي الطبيعة الهادئة أحيانا، والمضطربة أخرى، والمتجددة دائما في صور متشابهة متعاقبة لا يمل تشابهها ولا يؤيس تعاقبها. وهو في انكماشه لا يفتأ يستعرض أمام خياله ما قد يكون وراء الحجب التي يحيطه بها الأفق من كل جانب من ذلك الغيب المريب الذي بدأ منذ الأزل ولزم العالم وما زال ملازما له برغم جهود الأجيال المتعاقبة لكشف مستوره. ولم يكشف له خياله من ذلك الغيب إلا عن مخاوف تلخصت عنده في ذلك الشبح المفزع الذي أفسد عليه نسمات الحياة، شبح العدم المتجدد في صور الموت الذي يحصد كل صور الحياة والتجدد. كشف له خياله عن ذلك الشبح فرآه في كل قوته وكل سلطانه لا يغالب ولا يقهر، فاستسلم له وأنكر كل ما سواه، وأقر له بالقدرة وجعل منه الغاية الأخيرة للحياة، فرتب حياته وفاق هذه الغاية.
كثيرون غير لوتي يرون فيما رأى هو من صور الطبيعة ومظاهر الوجود دليلا على الخالق، ووسيلة إلى الإيمان، ودافعا للإمعان في تقديس الله والتسبيح بحمده. أما هو فقد أثقلت هذه المظاهر كاهله بفكرة العدم والموت، فكان عبوسا، لكنه استسلم لفكرته فكان عبوسه في غير ثورة ولا قطوب، بل كان عبوس أبيقوري مستسلم لفكرة الحياة استسلامه لفكرة العدم، مندفع في سبيل المتاع بالحياة حتى ينسى نفسه في الحياة قبل أن يدركه العدم.
Unknown page