Fi Ahkam al-Jarh wa al-Ta'dil - within the Works of Al-Mu'allimi
في أحكام الجرح والتعديل - ضمن «آثار المعلمي»
Investigator
علي بن محمد العمران
Publisher
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤٣٤ هـ
Genres
الرسالة الثانية
رسالة في أحكام الجرح والتعديل
15 / 63
[ص ٢٩] (^١) وقد عنَّ لي أن أجمع رسالة في أحكام الجرح والتعديل، ومذاهب أئمة الفن في ذلك تفصيلًا بقدر الإمكان، وأرجو إذا يسّر الله ﷿ ذلك أن تنحلّ به كثير من مشكلات الفن، بل أن يتيسَّر للعالم في هذا العصر السبيلُ إلى أن يعرف بالحجة والدليل درجات التابعين وأتباعهم فمن بعدهم، حتى يمكنه أن يوثّق من لم يعلم أحدًا وثقه، ويجرح من لم يعلم أحدًا جرحه.
هذا، ولست بجاهلٍ قصور باعي، وقلة اطلاعي، ولكن عسى أن يكون الله ﵎ قد أراد إظهار شيء من هذا العلم على يدي، والله على كل شيء قدير.
فإذا أتمَّ الله ﷿ ذلك شرعتُ إن شاء الله تعالى في رسالة في أحكام الاتصال والانقطاع، ثم أخرى في أحكام الشذود والعلل. والله المستعان، وعليه التكلان.
قال الله ﵎ في صفات المنافقين: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾ [التوبة: ٦١].
قولهم: ﴿هُوَ أُذُنٌ﴾ معناه كما في كتب اللغة والتفسير: أنه يُكثر الاستماعَ والتصديقَ لما يقال (^٢). يريدون أنه يصدّق ما يُخْبَر به صدقًا كان أو كذبًا.
_________
(^١) لم يتحرر ترتيب الرسالة، فابتدأناها بهذا الموضع؛ لأنه أشبه شيء ببدايتها، وأخرنا [ص ٢٥ ب -٢٨ ب] إلى آخرها.
(^٢) الكلمة غير واضحة ولعلها ما أثبت.
15 / 65
واختلف المفسرون (^١)؛ فقال قوم: المعنى أن هؤلاء كانوا يؤذون النبي ﵌ فيبلغه أذاهم، فيصدّق من بَلّغه، فيلومهم بعض المؤمنين فيما قالوه، فيجحدون، ويقولون (^٢): محمد أذن.
وقال قوم: بل المعنى أنهم كانوا يؤذون النبي ﵌. ويقولون: لا علينا أن نقول ما شئنا، فإذا بلغ محمدًا، فلامنا، أتيناه فجحدنا ذلك، وحلفنا له فصدَّقَنا، فإنه أذن.
والمعنى الأول هو الصواب إن شاء الله تعالى.
وقوله تعالى: ﴿قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ﴾ الظاهر أن الخطاب هنا عام، كأنه قيل: خير لكم أيها الناس، ويشهد له قوله فيما بعد: ﴿وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾.
وخصَّ جماعةٌ الخطاب بالمؤذِين القائلين: هو أذن.
وعليه، فوَجْه كون إيمان الرسول بالله وإيمانه للمؤمنين خيرًا لهم أنه ﵌ إذا عرف أذاهم يَعِظُهم ويذكِّرهم، وفي ذلك أعظم الخير لهم إن انتفعوا به، فإن لم ينتفعوا فخير رفضوه.
وقوله تعالى: ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ فيه معنى التصديق بما يوحى إليه، وذلك تنبيه على أن من أخبارهم التي يحاولون جَحْدها ما جاء به الوحي من عند الله ﷿.
_________
(^١) انظر تفسير ابن جرير: (١١/ ٣٥٤ - ٣٥٦)، وابن عطية: (٣/ ٥٢).
(^٢) غير محررة في الأصل، ولعلها ما أثبت.
15 / 66
وقوله: ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ اتفقوا على أن المعنى: أي ويصدِّق المؤمنين، كما قالوا في قوله تعالى حكاية عن أخوة يوسف في خطابهم أباهم: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ [يوسف: ١٧] أن المعنى: وما أنت بمصدِّق لنا.
قالوا: وأصله من الأمن الذي هو طمأنينة النفس، وانتفاء الخوف عنها. فقوله: آمنت لفلان، معناه: جعلته آمنًا من تكذيبي له.
ثم قالوا: والأصل: "آمنت فلانًا"، ثم قال بعضهم: إنما يزاد اللام للتقوية. وقال غيره: بل على تضمين "آمن" معنى أذعن وسلَّم.
وقد يقال: مما حسَّن ذلك هنا: إن قولك "آمنت فلانًا"، المتبادر منه عند الإطلاق: جعلته آمنًا فقط، فإذا قيل: آمنت لفلان، عُرِف أن المراد الأمن من التكذيب.
ويلوح لي أن أصل التقدير: آمنت نفسي لفلان، أي جعلتُها آمنةً له لا تخاف كذبه، فهذا أقرب إلى إفادة التصديق من التقدير الأول، ويمكن غير ذلك.
والمقصود هنا إنما هو أن ﴿يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ في الآية بمعنى يصدِّقهم. وهذا لا خلاف فيه.
[ص ٣٠ ب] (^١) فقد نصّت الآية على أن تصديق المؤمنين فيما يخبرون به من صفات الحقّ التي أثنى الله ﷿ بها على رسوله، وقد أمر أُمته باتباعه
_________
(^١) ضرب المؤلف على [ص ٣٠ أ] كاملة.
15 / 67
والتأسّي به، فكان حقًّا على الأمة تصديق المؤمنين فيما يخبرون به.
فصل
المراد بالمؤمنين في الآية إما مَنْ أظهر الإسلام، وإما مَن أظهره ولم يعلم منه ما يريب في إيمانه، وإما مَن أظهره وظهرت دلائل إيمانه، بمحافظته على مقتضى الإيمان، ومجانبته ما يخالفه، حتى اطمأنت إليه نفوسُ من عَرَفه ويخالطه بأنه مؤمن صادق. وإما من أعْلَم الله ﷿ رسولَه بأنه مؤمن حقًّا.
الأولان باطلان؛ لأن مجرد إظهار الإسلام ليس بإيمان على الحقيقة، قال تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: ١٤].
ومجرد عدم العلم بما يريب، بدون اختبار ولا مخالطة، لا يدلُّ على ثبوت الإيمان. ويؤكِّد ذلك أنه قد تقرّر في الأصول أن تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بعلَّة ما منه الاشتقاق، فإيمان المؤمنين هو العلة المقتضية لتصديقهم.
ولا شك أن فيمن كان يظهر الإسلام من لم يؤمن، بل ومن هو منافق. والحاصلُ لهؤلاء بإظهارهم الإسلام لا يقتضي أن لا يكذبوا، فلا يقتضى تصديقهم.
وأما الرابع: ففيه بعد؛ لأن الله ﷿ لم يكن يُطْلِع رسولَه على حال كلّ واحد في صدق الإيمان أو عدمه، بل قد قال سبحانه لرسوله: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ [التوبة: ١٠١].
15 / 68
وقال تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [القتال: ٣٠].
والمعرفة بلحن القول لا يختص به ﵌، وإن كنا لا ننفي أن يكون الله ﷿ أطلعه على بعضهم، أو على جميعهم بعد ذلك.
فالمتعيّن هو الثالث، وهو أن المراد بالمؤمنين في الآية هم الذين ظهرت دلائل الإيمان عليهم بمحافظتهم على مقتضاه، ومجانبتهم ما يخالفه، وعُرِف أن ذلك [ص ٣٢] صار خُلقًا لهم، بحيث تطمئنّ نفوسُ عارفيهم إلى صدق إيمانهم، فيكون كلّ منهم بذلك قد آمن عارفيه، أي جعلهم آمنين من أن يقع منه ما يخالف الإيمان من كذب أو غيرهم (^١)، فاستحقّ أن يؤتمن ويؤمَّن من التكذيب.
وقريب من هؤلاء قوله ﵌ في الحديث المشهور: "المؤمنُ مَن أَمِنَه الناسُ على دمائهم وأموالهم" (^٢).
وإنما يأمنه الناس إذا كانوا قد اختبروه فعرفوه بعدم الاعتداء والخيانة، فكذلك في الآية. والله أعلم.
ويؤكد هذا المعنى مفهوم قوله تعالى ﷿: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
_________
(^١) كذا ولعلها: "أو غيره".
(^٢) أخرجه الترمذي (٢٦٢٧)، والنسائي (٤٩٩٥)، وأحمد (٨٩٣١)، وابن حبان (١٨٠)، والحاكم: (١/ ١٠) وغيرهم من حديث أبي هريرة ﵁. قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم على شرط مسلم.
15 / 69
فَتَبَيَّنُوا﴾ (^١) [الحجرات: ٦].
والمراد بالفاسق عندهم: أي من بان لهم أنه فاسق، فإنهم لم يكلَّفوا علم الغيب.
ومن التزم الإيمان، واستمرّ مدّةً محافظًا على ما اقتضاه، مجانبًا لما نافاه، حتى اطمأنت النفوس إلى أن ذلك خلق ثابت له، فليس بفاسق عندهم اتفاقًا. فهؤلاء هم المؤمنون في الآية الأولى، ويزيده في حق الآية وضوحًا، بل يصل درجة اليقين القاطع: ما عرف من الدلائل على وجوب العمل بخبر الواحد الثقة، وقد ذكرت كثيرًا منها في رسالة "العمل بخبر الواحد" (^٢). والله أعلم.
فصل
دل قوله تعالى: ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ بمنطوقه، وقوله: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ بمفهومه: أن من عُرِف بالإيمان والمحافظة على ما يقتضيه، واجتناب ما ينافيه، حتى اطمأنت النفوس إلى أن ذلك خلق له، فهو حقيق بأن يصدَّق في خبره، وهو المسمى عندهم بالعدل.
ودلت الأولى بمفهومها، والثانية بمنطوقها على أن من عُثِر منه على ما يقتضي الفسق، وجب التبيُّن في خبره.
فخبر العدل بَيِّن بنفسه، وخبر الفاسق غير بَيِّن بنفسه، بل يحتاج إلى
_________
(^١) في الأصل سقط من الآية ﴿بِنَبَإٍ﴾.
(^٢) وهي مطبوعة ضمن "رسائل أصول الفقه" في هذه الموسوعة المباركة.
15 / 70
التبين، أي بالنظر، فإن وُجدت بينه على صدقه أُخذ به؛ لدلالة تلك البينة، وإلّا طُرِح.
* * * *
15 / 71
فصل
العدالة
يقال: حَكَم عَدْل، وشَاهِد عَدْل، أي لا يخشى أن يميل عن الحق، كما يقال: هو رضًا ومأمون، أي: يرضاه الناس ويأمنونه، لثقتهم بأنه لا يجور.
فالعدل في الرواية هو من يوثَق بأنه لا يكذب؛ لأنه مسلم معروف بالاستقامة في الدين، ولزوم ما يقتضيه، واجتناب ما ينافيه من الكذب وغيره.
وقال الله ﷿ في ما حكاه عن المنافقين، وردَّه عليهم: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾ [التوبة: ٦١].
كان هؤلاء يؤذون النبيَّ ﵌ بألسنتهم بأشياء يقولونها، فتبلغ النبيّ ﵌ فربما ذَكَر لهم ذلك، ووعظهم، فكانوا يجحدون ذلك، ثم يقولون لمن لقوه من المؤمنين: محمد أُذُن. يعنون: يقبل ما يُبَلِّغه الناس عنّا ويصدِّقه، مع أننا لم نقله، فردَّ الله ﷿ عليهم بقوله: ﴿قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ﴾. يظهر أن الخطاب هنا عام، أي أُذُن خيرٍ لكم أيها الناس، بقرينة قوله بعد ذلك: ﴿وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾.
فإن كان خطابًا للمؤذين فقط، فوَجْه كون قبوله لما يَبْلُغه عنهم خيرًا لهم أنه يبعثه ذلك على أن يَعِظَهم وينصحهم، وفي ذلك خير لهم إن أرادوا الانتفاع به.
15 / 72
وقول: ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ تنبيه على أن من أخبارهم التي تبلغه ما يأتيه به الوحي من عند الله، وهو مؤمن بالله، فكيف لا يصدّق ما يوحيه إليه؟
وقوله: ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي يصدِّقهم، كما اتفق عليه المفسرون.
فالمعنى: إن الأخبار التي تبلغه عنكم [ص ٣٢] فيصدقها، ليست إلا من أحد هذين الوجهين:
الأول: الوحي.
الثاني: إخبار المؤمنين.
إما بمعنى: الذين آمنوه وغيره من أن يكذبوا.
وإما بمعنى: المؤمنين بالله ورسوله.
وإما بالمعنى الثاني مع الإشارة إلى المعنى الأول.
ويظهر أن هذا الأخير أرجح، فالمعنى: أنه يصدِّق المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله، وظهر للرسول وغيره بطول اختبارهم ما بان به صحةُ إيمانهم، وتحرّيهم ما يقتضيه الإيمان من الصدق وغيره، وتجنّبهم ما ينافيه، فبذلك جعلوا النبيّ وغيره ممن عَرَف حالَهم لا يخافون منهم أن يأتوا ما ينافي الإيمان الراسخ من الكذب وغيره، فكما آمنوا النبيَّ وغيرَه من أن يَكْذِبوا كان من الحق أن يؤمِنَهم من أن يكذِّبهم، بل كان من الحقّ أن يصدّقهم.
فحاصل المعنى أنه ﵌ إنَّما يصدق من الأخبار ما كان صدقًا، إما يقينًا وهو الوحي، وإما ظاهرًا شرعًا وعقلًا، وهو خبر من عرف إيمانه واستقامته.
15 / 73
وقد تقرر في الأصول أن تعليق الحكم بالمشتق يؤذِنُ بعِلّية ما منه الاشتقاق، فكأنه قيل: وإنما يصدقهم لإيمانهم، فيفهم منه أن من ليس بمؤمن لا يحقّ أن يصدَّق.
وقد تقدم أن المراد الإيمان مع الثبات على ما يقتضيه، بحيث يحصل لمن عرف صاحبه الوثوق به، والركون إليه. وعلى هذا فيخرج الكافر والفاسق، وقد قال الله ﷿: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ فنصّ على أن خبر الفاسق لا يحق أن يصدَّق، بل ينبغي التبيّن فيه، فإن وُجِدت بيّنة على صدقه، وإلّا طُرِح. والكافرُ فاسقٌ وزيادة.
فصل
جاء عن الإمام الشافعي وغيره: أنه ليس من شرط العدل أن لا يعصي الله ﷿ البتة، فإن هذا يؤدّي إلى أن لا تُقْبَل شهادة ولا رواية، ولا يُقام إمام ولا قاضٍ، إلى غير ذلك، ولكن المراد من كانت الطاعات أغلب عليه من المعاصي (^١).
أقول: وفي كلام الشافعي وغيره أنه لا تُقْبَل شهادة من شرب الخمر، أو زَنَى، إلى غير ذلك، إلا (^٢) من ظهر منه شيء من ذلك ثم ظهرت توبته.
فواجبٌ حَمْل النقل الأول على هذا، أي أنّ مَن كان الغالب عليه الطاعة، وإنما تقع المعصية منه زلة، ثم يتوب منها، ثم أخرى ثم يتوب منها، فإنه يقبل، يعني عند ظهور توبته مما سبق منه من المعاصي.
_________
(^١) حكاه عنه المزني في "مختصره" (٥/ ٣١٠ ط المعرفة).
(^٢) في الأصل: "إلى" سبق قلم.
15 / 74
فأما من كان الغالب عليه المعصية، فإنه ما دام على ذلك لا تتحقق له توبة.
وفي كتب الفقه ما يوضّح هذا، وهو أن يشترط في قبول من ظهرت معصيته وتاب منها: أن تظهر توبته بأن تمضى مدةٌ يظهر منه فيها الندم على تلك المعصية، والامتناع عن العَوْد إليها، حتى يكون الظاهر أنه لن يعود.
أقول: والظاهر أنه يُغْتَفر لمن عُرِفت عدالته، وظهرت استقامته من الرواة ما قد يقع منه مما يكون الظاهر أنه وقع فلتة. فقد حكى وكيع قصةً لأبي حصين عثمان بن عاصم الأسدي مع الأعمش، وفيها: أن أبا حصين قذف الأعمش [فحلف] ليحدّنّه، فكلّمه فيه بنو أسد. القصة (^١).
والقذف كبيرة، ولاسيَّما لمثل الأعمش، ولكن لم يجرح أحدٌ أبا حصين بهذا، بل وثقوه، وأحسنوا الثناء عليه، فكأنهم حملوا هذا على أنه فلتة جرى على لسان الرجل عند الغضب. والظاهر أنه تاب في الحال؛ لما عُرِف من فضله وصلاحه قبل ذلك وبعد.
وجاء عن أبي داود الطيالسي عن شعبة: أنه سمع أبا الزبير محمد بن مسلم بن تَدْرُس غاضَبَه إنسانٌ، فافترى عليه. يريدُ: فَقَذَفه (^٢).
لكن عندي في صحة هذا وقفة، فقد جاء عن أبي داود الطيالسي مثل
_________
(^١) القصة في "تاريخ دمشق": (٣٨/ ٤١٣)، و"السير": (٥/ ٤١٥).
(^٢) القصة في "تهذيب الكمال": (٦/ ٥٠٣) و"تهذيب التهذيب": (٩/ ٤٤٠). وانظر ما سلف (ص ٤١).
15 / 75
هذا في محمد بن الزبير التميمي الحنظلي (^١)، فلعلّ محمد بن الزبير هو صاحب الواقعة، ووقع الوهم في جَعْلها لأبي الزبير محمد بن مسلم. والله أعلم.
فصل
وذكروا أن المعاصي الصغيرة لا تخلُّ بالعدالة إلا في صورتين:
الأولى: أن تدل على الخِسّة، كسرقة تمرة، وخيانة فلس.
الثانية: أن يصرّ صاحبها عليها.
* * * *
_________
(^١) انظر "تهذيب التهذيب": (٩/ ١٦٧). وانظر "الاستبصار في نقد الأخبار- ضمن هذا الكتاب" (ص ٤١) للمؤلف.
15 / 76
[ص ٣٣] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
العدالة مباحثها مستوفاة في كتب الفقه ومصطلح الحديث، وقد نظرتُ في عدة من كتب الجرح والتعديل، فرأيتُ تصريحَ الأئمة بالجرح بالمعاصي قليلًا، وإنما أقصد في رسالتي هذه قَصْد ما تكثر الحاجة إليه، مع الحاجة إلى تحقيقه.
فمن ذلك: البدع التي لا يُحْكَم بكفر أصحابها؛ فقيل: جرح مطلقًا.
وقيل: جرح إذا كان صاحبها داعيةً، يدعوا الناسَ إلى بدعته.
وقيل: ليست بجرح مطلقًا، ولكن لا يقبل من صاحبها ما يرويه مما يوافق بدعته لمكان التهمة.
وقيل: ليست بجرح، ويقبل من صاحبها ما رواه، وإن وافق هواه.
أقول: [الذي] (^١) ينبغي اختياره أن المدار على قوَّة التهمة، فالرواة على طبقات:
الأولى: من اشتهر بالثقة والصدق والأمانة، وكثر ثناء أهل العلم عليه.
فهذا ينبغي أن يُقْبل منه كلّ ما روى، وإن كان له هوًى يدعو إليه، وروى ما يوافقه، وذلك أن الذي يغلب على الظن في مثله (^٢) أنه إنما يدعو لاعتقاده أنه يدعو إلى حقّ، وأنه صادق فيما رواه مما يوافق هواه، وهو من جملة ما أداه إلى ذلك الهوى.
_________
(^١) زيادة يستقيم بها السياق.
(^٢) الأصل: "مثل" سهو.
15 / 77
الطبقة الثانية: مَنْ لم يبلغ تلك الدرجة، وقد وثَّقه بعض الأئمة.
فهذا ينبغي التوقُّف عما يرويه موافقًا لهواه، ولاسيما إن كان داعية، فإن الداعية تكثر منه الخصومة، والخصومة توقع في اللجاج، واللجاج مظنة المجازفة.
فقد يتأوّل أحدهم إذا لج أنه لا حَرَج عليه في أن يكذب لنصرة ما هو الحق عنده، وقد لا يشمل الكذب، ولكن يورِّي تورية خفيَّة، ويدلِّس تدليسًا خفيًّا، وإن كان ممن يتقي التدليس في غير ذلك.
فأما الطبقة الأولى فلا يُعْرَف أحد منهم كان يخاصم ويلجّ.
الثالثة: من لم يوثق.
فهذا أولى بالاتهام، فإن كان ممن يصلح للمتابعة في الجملة، فالصالح من حديثه للمتابعة هو ما لا يُتَّهم فيه.
وبهذا أجبتُ لمَّا حُكِي لي عن بعض المتأخرين ــ ممن كان يُظهر التشيع بلا غلوّ شديد ــ أنه ناظر بعضَ العلماء من أهل السنة، واحتج بأحاديث.
فأجابه السنِّي: أنها ضعيفة؛ لأن في أسانيدها مَنْ ضعَّفه الأئمة.
فقال: إنما ضعفوه بأنه كان يتشيّع، فلي الحق أن أردّ الأحاديث التي تحتجّون بها؛ لأن في رواتها من كان يُظهر النصب، فإن ما تسميه أنت تشيعًا، أقول أنا: هو السنة في الحقيقة، وما تسميه أنت مذهب أهل السنة، أسميه أنا: نصبًا، وأقول: هو البدعة في الحقيقة.
15 / 78
قال: فقال ذلك العالم السني: إذن يسقط الاحتجاج بالأحاديث من الجانبين. هذا معنى الحكاية.
وعلى ما قدمتُه لا تسقط الأحاديث بحمد الله ﷿، ولكن الإنصاف أن لا يحتج على المتشيع بأحاديث الطبقة الثانية ممن عرفوا بالسنة ولا يحتج هو بأحاديث الطبقة الثانية ممن عرفوا بالتشيُّع.
فإذا وافق على هذا، وكان الإنصاف، فما أسرع ما يكون الاتفاق، وإن أبى فقد سقطت شبهتُه، وظهرَ عنادُه.
وقد ذكرتُ هذا لبعض أهل العلم، فقال: وكيف يكون الرجل عدلًا في شيء، وغير عدل في شيء؟
والجواب: أن العدالة تتفاوت قوة وضعفًا، كما لا يخفى.
[ص ٣٤] وقد جاء عن شريك أن رجلًا ادّعى على آخر عنده بمائة ألف دينار، فأقر، فقال: أما إنه لو أنكر لم أقبل عليه شهادة أحدٍ بالكوفة إلا شهادة وكيع وعبد الله بن نُمير (^١).
يعنى أن المال عظيمًا (^٢)، فلا تنتفي تهمة الشاهد فيه حتى يكون عظيم
_________
(^١) القصة في "تاريخ بغداد": (١٣/ ٤٩٩). وقد حكم عليها المؤلف بالانقطاع، وأجاب عنها بأنها "لو ثبتت لوجب حملها على أن مراده القبول الذي تطمئن إليه نفسه، فإن القاضي قد لا يكون خبيرًا بعدالة الشاهدين وضبطهما وتيقظهما وإنما عدّلهما غيره، فإذا كان المال كثيرًا جدًّا بقي في نفسه ريبة ... ". انظر "التنكيل": (١/ ٦٩) و"تعزيز الطليعة" (ص ١٣٢ - ١٣٣) للمؤلف.
(^٢) كذا والوجه "عظيم".
15 / 79
العدالة، ولو كان ألف دينار فقط لكان بالكوفة يومئذٍ ألف عدل أو أكثر ممن تنتفي التهمة بشهادة رجلين منهم فيه.
وذكر الشافعي في "الأم" أنه ينبغي للقاضي إذا سأل عن الشهود مَنْ يطلب منه بيان حالهم أن يبين للمسؤول مقدار ما شهدوا فيه، قال: " فإن المسؤول عن الرجل قد يعرف ما لا يعرف الحاكم من أن يكون الشاهد ... وتطيب نفسه على تعديله في اليسير، ويقف في الكثير " الأم (٦/ ٣٠٩) (^١).
وقد قال الله ﵎: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ [آل عمران: ٧٥].
يعني أن منهم من هو عظيم الأمانة حتى لو ائتمن على قنطار لأداه، ومنهم من هو ضعيف الأمانة حتى لو ائتمن على دينار واحد لخان فيه. والقنطار المال العظيم، جاء عن الحسن البصري: أنه ملء مَسْك ثورٍ ذهبًا (^٢).
وغالبُ المسلمين تطيب أنفسُهم ببذل الزكاة المفروضة، والسفر للحج، والقتال في سبيل الله عند رجاء السلامة، ولو كُلِّفوا أعظم من هذا ما فعله إلا قليل.
قال الله ﵎: ﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا
_________
(^١) (٧/ ٥٠٨).
(^٢) ذكر القول في "تفسير الطبري": (٥/ ٢٥٩) و"تفسير ابن المنذر": (١/ ٢٥٩) لكن منسوبًا إلى أبي نضرة العبدي.
15 / 80
وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ [القتال: ٣٦ - ٣٧].
يعنى ــ والله أعلم ــ لا يسألكم أموالكم كلها فرضًا محتومًا.
وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾ [النساء: ٦٦].
وقد تقرر في الشهادة أنه لا تقبل شهادة الرجل لنفسه، ولا حيث يجرّ لنفسه نفعًا، إلى غير مما هو معروف في الفقه بدون تفرقة بين الناس، حتى لو كان الرجل بغاية العدالة لما خرج عن ذلك، وعللوه بالتهمة.
وتقرر في الشريعة قبول إقرار الرجل على نفسه، وإن كان غاية في الكفر، أو الفجور، وإنما ذلك لبعد التهمة. والله أعلم.
15 / 81
(^١) [ص ٢٥ ب] هذا، وضبط الخبر وإتقانة يحتاج إلى التيقُّظ في ثلاثة مواضع:
الأول: عند تلقّي الخبر، فيجب على المتلقّي أن يتثبّت في حال المخبِر أنه فلان بن فلان، وفي إخباره بالخبر أنه أخبر به من لفظه جازمًا به، أو قُرئ عليه وهو منصت لا يخفى عليه من القراءة شيء حتى أقرَّ به، أو عُرض عليه مكتوبًا فتأمله حقّ التأمل، وهكذا في سائر أنواع التحمّل، كلٌّ بحسبه.
ثم يتثبّت في أخذه للخبر، فإن كتبه بإملاء الشيخ، تثبَّت في كتابته حتى يثق بأنه كتبه كما تلقَّاه، لم يزد ولم ينقص ولم يغير. ويدخل في ذلك نَقْط ما يحتاج إلى النقط، وضَبْط ما يحتاج إلى ضبط.
وإن كَتَبه مما قُرئ على الشيخ تثبَّت في المنقول عنه أنه مكتوب كما قُرئ على الشيخ، ثم في المنقول أنه كُتِب كما في المنقول عنه.
وإن حَفِظه راجع نفسه حتى يثق بأنه حفظه كما يجب، وإن اقتصر على فهمه راجع نفسه حتى يثق بأنه فهمه كما يجب، وقس على هذا.
الموضع الثاني: بين التحمّل والأداء، فإن كان مسموعه في كتاب احتاط لحفظ الكتاب، فلا يزيد فيه ولا ينقص ولا يغير، ولا يُمَكِّن منه مَن يُحْتَمل أن يصنع ذلك.
وإن كان حَفِظَه أو فَهِمَه تعاهَد حِفْظه أو فَهْمه، [ص ٢٦] وذاكر الحفَّاظ،
_________
(^١) أخرنا من هذا الموضع [ص ٢٥ ب- ٢٩] إلى آخر الرسالة مع تقدمه في الترقيم؛ ليتناسب مع ترتيب موضوعات الرسالة.
15 / 82
وتفطّن لمظان الاشتباه والالتباس، فاحترز منها.
الموضع الثالث: عند الأداء، فأولًا: يمرّ بفكْرِه على الموضعين الأولين ليستحضر هل تثبَّت فيهما كما يجب، ثم يتثبَّت في الإلقاء بحيث يثق بأنه ألقاه كما تلقاه.
ومن اختبر الناسَ، وعرفَ أحوالَهم، عرف أن من المؤمنين الصالحين [من] (^١) تغلب عليه الغفلة، وقلّة التيقّظ، كأن ترى في زمن سفيان بن عيينة رجلًا، فيقول لك هو: أنا سفيان بن عيينة، أو يقول لك آخر لا تعرفه: هذا سفيان بن عيينة، ثم يخبرك بخبر، فتذهب فتقول: أخبرني سفيان بن عيينة.
هذا مع أنه لم يقم عندك دليلٌ يحقق أن الذي أخبرك سفيان بن عيينة حقًّا.
والضابطُ المتيقِّظ يقول في مثل هذا: لقيتُ رجلًا لا أعرفه زعم، أو قال لي رجل آخر لا أعرفه: إنه سفيان بن عيينة، فأخبرني.
هذه صورة من صور الغفلة، وصورها كثيرة، فقد تغلب الغفلة على الرجل حتى إن من يعر ف حاله لا يثق بخبره ألبته، فيصير حينئذٍ في الحال (^٢).
ومن اختبر أحوال الناس وجدهم يتباينون في الضبط والإتقان، فقد تكون مؤمنًا صالحًا، فيلقاك رجل لا تعرفه، فيقول لك: أنا فلان بن فلان، ويخبرك بخبر، فتذهب فتقول: أخبرني فلان بن فلان.
_________
(^١) الأصل: "مع" سهو.
(^٢) كذا، وتقدير باقي الكلام "بحيث لا تُقبل روايته" وقد كرر المؤلف هذا المعنى في الفقرة التالية.
15 / 83