ولقد جاءكم من حديث القوم عن الحياة الأدبية في المشرق والمغرب أن المغرب كان يصوغ على نماذج المشرق، لكن كانت المذاهب الفنية تنقل إلى الأندلس نقلا مضطربا، فلم يكن التقليد دقيقا؛ إذ كانوا يلفقون بين طرق ومذاهب فنية مختلفة لغير شاعر واحد. وهذا نفسه من قولهم فرق واضح، بل شديد الوضوح؛ فالمذهب الأدبي في المغرب حين قلد المذاهب المشرقية - إن صح قولهم في وصف التقليد - كان مذهبا انتخابيا، جمع نواحي من المذاهب المختلفة، أو كان مذهبا اختلاطيا اضطرب بين المذاهب المختلفة حين كان الأمر في المشرق ليس على شيء من هذا الانتخاب أو الاختلاط الذي في المغرب.
وهكذا أراد القائلون أن يذهب الشرق بالفضل كله، والإمداد كله، وأن ينكروا على الأندلس أن يكون قد أحدث مذاهب جديدة في صناعة الشعر ، وأسرفوا في ذلك وأطنبوا في بيانه، فقرروا في هذا البيان أن حال الأندلس من هذه الناحية، لم تجر على ما جرت عليه الحال في المشرق، بل تغايرت وتخالفت، وإن يكن هذا التغاير والتخالف اضطرابا واختلاطا.
وجلي أن سبق المشرق وابتكاره شيء غير ما نحن فيه، فإنما يعنينا تغاير ما بين المشرق والمغرب، وهذا السبق نفسه، وهذا الابتكار مفرق بينهما ومغاير، له تأثيره، وله بالبيئة صلته. ولو لوحظ مع هذا أن الأخذ كان تخليطا وجمعا، ولم يكن محاكاة صحيحة ولا دقيقة، فإن هذا الاختلاف أيضا بين الأخذ وبين التقليد والمحاكاة اختلاف له أثره، وهو حقيق بالوقوف عنده. ولا محل لاختلاط الأمر بين الذهاب بالفضل والسبق، وبين الوحدة وعدم أثر الإقليم والبيئة، فإن قولهم في تقرير هذا الفضل يقرر هو بنفسه الاختلاف والتغاير الذي يعنينا النظر إليه. •••
وآخر من قولهم قد اعترفوا فيه بالفرق، لكنهم هونوا من شأنه في غير سبب، إلا أنهم أرادوا ذلك، فلقد سمعتهم يذكرون ما أحدث الأندلسيون من التغيير في الشعر العربي بموشحاتهم وما إليها من أزجال ونحو ذلك، فيهونون من شأنه بأنه لم يحدث ثورة في الأوضاع القديمة في الشعر العربي إلا من حيث الأوزان والقوافي. وهو توهين يخلقه الغرض، وإن كان لا يسوغ في تقدير الفن. فهذه الأوزان المستحدثة كما تعرف لم يحدثها إلا الضيق بالأوزان القديمة، والشغف بطراز من الحرية الفنية، والسعة الموسيقية التي لا تواتي عليها الأوزان القديمة، ولا تسعف بها أبحرها، وما يكون هذا إلا أثرا لتطلع فني موسيقي خليق بأن يعد شيئا خاصا بأهله له قيمته ودلالته، وما هذا الوزن الشعري إلا إدراك موسيقي يتبع شخصية الشاعر، ويساير جو الموضوع، ويتغير بتغير ذلك كله، فيلون الفن القولي، ويشف عن صنوف من الإحساس تنم عن الأشخاص، وتوائم موضوعات القول، فليس كل بحر يصلح لكل غرض، ولا كل مزاج يستسيغ كل وزن، أو يحس بالشاعرية في التفاعيل كلها على السواء، وما يستطيع هؤلاء القائلون - مهما يكابروا - أن ينسوا أن رواج أبحر الشعر هذه قد تفاوت بتفاوت العصور، وتفاوت باختيار الشعراء، وتغير بتغير الموضوعات، وتأثر ذلك كله بالحياة الموسيقية والغنائية، رقيا وانحطاطا، وإذا لم يكن مجال القول هنا ذا سعة فإنا نكتفي بأن نقول: إن هذا الوزن ليس من السطحية بحيث تسقط دلالته، وتهمل قيمته، فلا يعد في شيء من الفروق بين فن وفن، ولا يحتسب التغيير فيه والابتداع - على نحو ما كان بالأندلس - ذا أثر في الدلالة على فرق ما بين أصحاب هذا الابتداع وبين غيرهم! وليس إهمال هذا الفرق وتيسير شأنه إلا ضربا من عدم الدقة التي تؤذي الحياة الفنية، والتي نعتبر نحن القول بالإقليمية خروجا عليها، أو تلافيا لنقصها وعلاجا. •••
وإن تعجب فعجب أنهم وهم ناشئة المذهب السياسي في تاريخ الأدب، قد لقنوا ربط حياة الأدب بحياة السياسة، يديرون عليه عصوره، ويتبعونها رقيه وانحطاطه، قد نسوا مع ذلك أو أنسوا صلة السياسة بالأدب في هذه الناحية، فلم يقدروا فرق ما بين هذا المشرق وذاك المغرب في السياسة، فقد اختلفت المنعة في الجانبين، وتغيرت أيما تغير عوامل التأثر السياسي في البيئتين، وافترقت افتراقا - ليس باليسير - المؤثرات الحيوية على السياسة في الأفقين، فلم يكن في الأندلس ذلك النزاع بين الأسر العربية في الحكم، ولعله لم تكن تحتكم بذلك تيارات دينية أو روحية في سير الحياة السياسية، فلا شيعة غلاة أو معتدلون، ولا طالبيون ولا علويون، ولا زنادقة ولا متصوفة، يعملون في سر أو علن لشيء مما يعملون لمثله في المشرق، ويهزون به أصول الحياة الاجتماعية والأوضاع السياسية هزات عنيفة. هذا إلى ما للأندلس من علاقة قريبة بمن صاقبهم من البشكنس وفلول الإسبان، ومن إلى هؤلاء من الفرنجة المطبقين جمعيا على هذه البلاد، المناصبين أهلها العداء، الجادين في سبيل إجلائهم وغلبتهم. وكل ذلك وأمثاله من فروق كثيرة بين السياستين المشرقية والمغربية، والحكومتين الأندلسية والشرقية، والبناء السياسي للجماعتين، كل ذلك مما يتصل من قرب أو بعد بالحياة الأدبية، ففي الشرق أحزاب لها شعراؤها، وأسر لها مقاولها ، وشيع لها دعاتها. وللعقائد والمنافع، والدعاوة، والاستقلال، ثم للعصبية حينا ، ولغير ذلك مما يشبهه تأثيره العنيف في حياة فن القول، وتوجيهه، ودفع المتفننين في الشرق إلى أغراض ومعان كبرى، ليس لها شبه ولا مثل في هذا الغرب المتميز. فما هذه الدعوى المجازفة بوحدة الفن فيهما وحدة تامة!
ومما يلقاك به بعض من يتصل بالأدب أو من لا صلة له بأدب أيضا، منكرين فكرة المصرية، أن يقولوا: أين هذا الأدب المصري فإنا لا نجده ولا نعرفه؟ يعنون بذلك أن ما تناقل الناس من أدب سائر، وما رددوا من أسماء مشتهرة ليس فيه مصري، فقد عرفوا البحتري وأبا تمام والمتنبي والمعري ومن إليهم، وحفظوا من الشعر كذا، وتمثلوا بكذا ونحوه من النثر، فما كان بين هؤلاء أسماء مصرية، ولا كان في هذا لذي دار بينهم ما هو مصري. •••
وتلك فكرة نرى فيها جورا على المنهج، ما نستطيع أن نلقاه بمثله؛ ذلك أن قضيتنا عامة، إنما تقوم على أثر البيئة في الفنون ومنه الأدب، وهذه المصرية بيئة كملت لها المزايا المتفردة، وتهيأ لها التميز الواضح، فوجب أن تترك أثرها فيمن فيها من الأحياء، أشياء أو أشخاصا، وعلى الدارس أن ينطلق باحثا عن هذا الأثر، واثقا أنه لن يخلفه. تلك مقدمات وقضايا ما أحسب فيها ما هو موضع لمشاحة أو إنكار، وكذلك تكون النتيجة لازمة لها، وهي أن لهذه البيئة أثرا ما بعينه؛ فاللغة العربية وأدبها مما عاش في هذه البيئة، ووجب أن يكون قد تأثر بها، أما أن يكون هذا التأثر كذا وكذا لا كيت وكيت، فشيء لم ندعه، ولم نتعجل فيه قولا.
وعلى هذا إن صح في رأي هؤلاء أن تكون هذه العربية قد جفت في مصر، وما نمت، وأن يكون العرب الذين نزلوا مصر قد يكئوا لا يقولون شعرا ولا نثرا، وكذلك كان المصريون من أهل هذه البلاد لم يشعروا بهذا التحول الذي تم في حياتهم حين اتخذوا العربية لغة لهم بعدما اتخذوا - أو اتخذ أكثرهم - الإسلام دينا، فلتكن تلك هي النتيجة التي يصل إليها بحث الباحث، ويسجلها راضيا مغتبطا؛ لأنه لا يبحث عن شيء يريده أو يفضله، ولكنما يبحث عن شيء يصححه ويصدقه.
وتكون هذه البيئة المصرية قد استعصت على العربية لم تنفعل بها، أو قد عرض لها من الموانع والعوائق ما حال دون تأثرها بهذه العربية، أو ما شأن الله أن قد كان من الأسباب والظواهر، فتلك هي النتائج التي يدونها دارس الأدب المصري في الإسلام. •••
وإذن فلننظر هذه الأمة المصرية التي تشق طريقها في الحياة، وتبني نفسها، فنجد أن هذه العربية لغة قد ماتت بها الحياة الفنية في مصر، وأجدب الوادي أدبيا، وتلك آفة لا تصبر على مثلها أمة تشعر بحقها في الحياة، وترنو لأملها في المستقبل. وإذ ذاك فلن ينفع القائلين بالعروبة أو الشرقية، أن تكون مصر هذه عربية لا مصرية؛ لأنها لم تعرف من آثار العربية الأدبية شيئا خلال بضعة عشر قرنا من الزمن، ولن ينفعهم أن تكون مصر هذه شرقية لا مصرية؛ لأنها لم تجد نفسها، ولم تخلف أثرا لحياة لا يمكن أن تفقدها جماعة من الجماعات، وهي تعد في الأحياء، وهي الحياة الفنية، وبخاصة الحياة الفنية القولية.
Unknown page