Fī adab Miṣr al-Fāṭimiyya
في أدب مصر الفاطمية
Genres
وكانت هذه الحرية الفكرية سببا في ازدهار الحركة الفلسفية في مصر، وظهور عدد كبير من الفلاسفة على نحو ما ذكرنا من قبل، ولكن هذه الدراسات الفلسفية كانت في أغلبها تتبع عقائد الفاطميين، فدراسة الأفلاك والنجوم وإنشاء الرصد مثلا كانت كلها بسبب معرفة ابتداء شهر رمضان، ويغلب على ظني أن الفاطميين لو لم يدينوا برؤية الهلال رؤية استبصار وعلم، لما ازدهرت هذه الألوان من الدراسات.
وروينا أن مصر الفاطمية شاهدت دراسات أدبية عربية، ولكننا نلاحظ أن هذه الدراسات مقصورة على دراسة النصوص القديمة وشرحها والتعليق عليها، دون أن تنتج مصر شيئا جديدا، وهذا ما كان أيضا في مصر إبان ازدهار مدرسة الإسكندرية حين كانت الدراسات الأدبية تقوم على دراسة شعر هوميروس، ووضع المعجمات لمفردات هذه الأشعار وغيرها من الشعر القديم، دون أن يكون للدراسات الوجدانية أثر قوي في هذه الدراسات التي قوي فيها عمل العقل والآراء العلمية، أكثر مما يظهر تأثير العاطفة التي تستوحى من نفسية الشعب؛ ولذلك تتفق الدراسات الأدبية في العصر الإسكندري مع العصر الفاطمي في أن هذه الدراسات لا تظهر فيها شخصية مصر، وكذلك في المزاوجة بين الدراسات الأدبية الخالصة والآراء الفلسفية بمصطلحاتها وتعبيراتها، ومن هنا نرى سبب هذا التعقيد في أسلوب الدعاة والعلماء، حتى يخيل إلينا أن هؤلاء العلماء بعدوا عن التعبيرات الأدبية التي تتمثل فيها البساطة والذوق الموسيقي والعاطفي في اللفظ والمعنى، ولكن الدعاة والعلماء في العصر الفاطمي حشوا كتاباتهم بالتعبيرات الفلسفية، واستعملوا مصطلحات اضطروا أن ينحتوها من ألفاظ عربية، وأن يتلاعبوا بقواعد الصرف المعروفة، فجاءت كتاباتهم غريبة عن الأسلوب العربي. حقيقة حاول بعض الدعاة والعلماء أن يستعيدوا الأسلوب الأدبي، وأن يبتعدوا عن تعقيدات الفلاسفة، ولكنهم وجدوا مشقة في تعبيرهم، وصعوبة في صناعتهم؛ فاضطروا إلى استخدام المحسنات البديعية والإغراق فيها ليفتنوا الجماهير بالزينة اللفظية، فكانت نتيجة ذلك أنهم تجنبوا تعقيدا ليقعوا في تعقيد آخر، وهذه الشروح والحاشيات التي وضعت حول النصوص القديمة، احتاجت هي نفسها فيما بعد إلى شروح وحواش أخرى لتوضيحها وتقريبها إلى المتعلمين، وهكذا كانت جناية الدراسات الفلسفية والمصطلحات العلمية على الأساليب العربية.
على أن هذه الظاهرة لم تكن في مصر فحسب، بل كانت في جميع الأقطار الإسلامية منذ عرفت هذه الأقطار هذه العلوم التي عرفت بالعلوم الدخيلة، ومنذ أخذ أصحاب الفرق المختلفة الصياغات المنطقية والفلسفية للتعبير عن آرائهم، ودحض رأي خصومهم، ومن يدري لعل هؤلاء العلماء تعمدوا تعقيد أسلوبهم حتى يقال عنهم إنهم علماء، وها هو ذا الجاحظ يحدثنا عن هؤلاء الذين تعمدوا التعقيد فيقول: «قلت لأبي الحسن الأخفش: أنت أعلم الناس بالنحو، فلم لا تجعل كتبك مفهومة كلها، وما بالنا نفهم بعضها ولا نفهم أكثرها، وما بالك تقدم بعض العويص وتؤخر بعض المفهوم؟ فأجاب: أنا رجل لم أصنع كتبي هذه لله، وليست هي من كتب الدين، ولو وضعتها هذا الوضع الذي تدعوني إليه قلت حاجات الناس إلي فيها، وإنما كانت غايتي المنالة، فأنا أضع بعضها هذا الوضع المفهوم؛ لتدعوهم حلاوة ما فهموا إلى التماس فهم ما لم يفهموا، وإنما قد كسبت في هذا التدبير ، إذ كنت إلى التكسب ذهبت.»
17
ومهما يكن من شيء، فقد كانت هذه الحركة العقلية في مصر الفاطمية في نمو مطرد في كل نواحيها وألوانها وفنونها، وتعددت مراكزها في مصر، وكانت حلقات الدرس في المساجد أو الدور في القاهرة والفسطاط وفي الإسكندرية وتنيس في الشمال، وفي أسوان وقوص وقفط في الجنوب، كما كان أمراء الأقاليم يجمعون حولهم العلماء والشعراء، وها هو ذا عمارة اليمني يحدثنا في «النكت» عن بعض هؤلاء الأمراء وعن مجالسهم وشعرائهم؛ فالحياة العلمية كانت مزدهرة في مصر الفاطمية، وعن مصر أخذ كثير من العلماء في الغرب والشرق، فلا غرو إن قلنا إن مصر الفاطمية كانت بدءا للزعامة المصرية للأقطار الإسلامية، تلك الزعامة التي لا تزال مصر تحمل لواءها إلى الآن.
الكتاب الثاني : في الحياة الأدبية
الباب الأول
في الشعر
الفصل الأول
ازدهار الشعر
Unknown page