وكان من الطبيعي بعد أن كثرت هذه الرويات في أيدي الشباب والرجال, أن يبدأ الأدباء في محاكاتها، وكان أول المقلدين وأنشطهم جرجي زيدان2, فنحا في تأليف الروايات منحى "ولترسكوت" الإنجليزي، واستمد من التاريخ العربي قصصه وأبطاله، وغير في حقائق التاريخ وبدل حتى يدخل عامل التشويق والتتابع القصصي, وأخرج عددا كبيرا من هذه القصص التاريخية؛ منها: فتاة غسان، وأرمانوسه المصرية، وعذارء قريش, وغادة كرباء، والحجاج، وفتح الأندلس، وشارل وعبد الرحمن، إلخ هذه السلسلة الطويلة التي بلغت ثماني عشرة قصة مستمدة من التاريخ الإسلامي، وأربع قصص أخرى مكتوبة كلها بأسلوب صحفي، خالية من التحليل النفسي، والنظريات الفلسفية, وما هي إلا تاريخ في قالب قصة لم تكمل شروطها الفنية، وتاريخ لم يحافظ فيه على الحقائق، وإن كانت الحقائق التاريخية ليست شرطا في القصة التاريخية, كما نرى عن "سكوت"، وكما نرى عند شكسبير في "أنطوني وكليوباترة", "يوليوس قيصر" وغيرهما من الروايات والمسرحيات التاريخية، ولكن هذه القصص فيها نفحة الأديب، وخيال الشاعر، وعبقرية الفنان، وليست سردا تاريخيا مكتوبا بأسلوب صحفي، ومثل زيدان في هذا سليم البستاني2 في رواية "زنوبيا وبدور" وغيره ممن سلكوا هذا النهج التاريخي، وزيدان أسلم من سواه عاقبة، ثم ظهرت بعد ذلك، وللأسف قصص رخيصة تتملق النزعات الدنيا عند الشعوب، وتقرأ لقتل الوقت، وتمثل كثيرا من وجوه الحياة الإنسانية المخزية، فالإجرام # بأنواعه وطرقه، والعشق السافل, وما شاكل ذلك من نواحي الضعف الإنساني، ولا سيما وهي في المدنية الغربية المسمومة قد زحفت في صورة قصص مزرية بالأدب, مطوحة به في مهواة سحيقة، مضللة عقول النشء، ومفسدة لأهوئهم وأخلاقهم، وباعثة منازع الشر والإجرام على طريقة رعاع باريس, وغوغاء لندن، وصعاليك برلين, وشطار نيويورك وشيكاغو، من أمثال: "اللص الشريف" و"جونسون"، و"ملتون توب" و"طرزان": وغير ذلك مما لا يخرج عما كان متداولا في مصر إبان عصور الضعف من قصة "أحمد الدنف" "ودليلة المحتالة" ومغامرات العيارين والشطار، وإن اختلف اللون والزمان والحوداث، ولكن الفكرة واحدة، والنهج متشابه، والغاية السلوى وقتل الوقت، وتملق النزعات الدنيا. وأين هذا من الأدب؟
وظل هذه الفيض من السخف يغمر المطابع العربية حتى قامت الحرب العالمية الأولى، واستمر بعدها ولا زال للآن، ولكنا نكتفي بتتبعه عند هذا الحد، ولنا في الكلام عن القصة ومنزلتها في الأدب عودة قبل أن نفرغ من هذا الفصل -إن شاء الله، وحسبنا أن نقول هنا كلمة طالما رددناها في هذا النوع من الاتجار بعقلية الجماهير: لقد تفتحت أعيينا في الصبا, فإذا نحن في بيداء موشحة, نخبط في دروب ملتوية, ونعرج يمنة ويسرة, بعيدين عن جادة الحق، وأبواق الثقافة الدخيلة يقودون القافلة إلى مصرعها الوخيم، وينفثون فيها السموم المخدرة حتى تستكين لهم وتسلم قيادها, وهي في غفلة عما انطوت عليه جوانحهم، جاءوا وهي ترزح تحت أصفاد الجهل والانحلال، وأرادوا مسخها وتشويهها، حتى تتناسى ماضيها, وتفقد ما كمن فيها من عزة وأنفة.
جاءوا بقصص خليع يثير الشهوة، ويقتل الحياء، ويلطم وجه الفضيلة والشرف، يوحي بالإجرام والفسق، وجاءوها بمهازل تمثل على المسارح باسم الفن، وأدب موبوء يزلزل العقيدة، ويخدش وجه العفاف, ويعرض على الناس باسم القصة، إنه أدب نغل، ورود آسن, وغذاء عفن, التقطه من يتجرون بعقلية الجماهير، ومن وقعوا وقوع الذباب على الفضلات الفاسدة من نفايات الحضارة الأوربية, وقدموه لقونهم في شكل زري.
Page 371