ومن حسنات الديمقراطية فيه أنه كان يكره الأبهة في حله وترحاله، فقلما كان يخرج في موكب، أو يظهر في حلقة براقة من أبهة الملك. ما كان الناس ينتبهون لسيارة الملك أو يعرفونها إذا مرت في شوارع بغداد؛ فقد كان فيصل يكتفي بياور واحد يجلس إلى جانب السائق، ويسوق هو نفسه السيارة في بعض الأحايين.
قلت إنه كان يؤم الحارثية للغداء ويقضي شطرا من يومه هناك، ثم يعود عند الغروب ليتناول العشاء في المنزل المجاور للبلاط. ومما استحبه وألفه في أوروبا الثوب الرسمي في المساء، أما إذا كان ضيوفه من الأهالي فيتناول العشاء - إكراما لهم - في ثوبه العادي. وإذا كان بينهم أوروبيون، فإما أن يرتدي الجوخ الأسود والقميص الأبيض، وإما أن يظهر في ثوبه العسكري بصفته القائد العام للجيش. سأل أحد السوريين رئيس التشريفات، بعد أن عين له وقتا لمقابلة الملك، أي الأثواب يجب عليه أن يرتدي، فأجابه قائلا: «تعال في الثوب الذي أنت لابس؛ الملك لا يسأل.»
وإذا كان ضيوف الملك من حاشيته وأهله، أو من أصدقائه في الحكومة ودار الانتداب والسفارات، فقد كان يجلس وإياهم بعد العشاء جلسة بيتية، ويلعبون ال «بريدج» الذي كان يؤثره على سواه من الألعاب. قيل لي إنه كان في لعب «التنس» كذلك من المجيدين المبرزين. فإن قارنا بينه من هذه الناحية وبين زملائه جنوبا، أي بينه وبين ابن سعود مثلا أو الإمام يحيى، بدا لنا عصريا إلى حد المبالغة. أما إذا كانت المقارنة بينه وبين جاريه الآخرين شرقا وشمالا، أي بينه وبين داهية طهران وداهية أنقره، فهو دونهما في ألاعيب هذا العصر؛ لأنه ما كان يحسن لعب ال «بوكر» ولا يرغب فيه. بيد أنه كان متساهلا في الأمور الاجتماعية أكثر من أخويه علي وعبد الله، وقد كان يحترم على الأخص عليا، ويحرص على كرامته.
أقول هذا لأخبرك بما جرى ذات ليلة في رمضان؛ كان الملك فيصل يتناول العشاء وبعض رجال الحكومة المقربين، احتفالا بحدث مفرح في سياسة العراق، وكان ضيوفه - إخوانه - وهم فرحون مرحون يشعرون بنقص في الضيافة ولا يفصحون، فقرأ الملك الخبر في وجوههم وأمر لهم بالشمبانيا، وفي تلك الليلة جاء الملك علي يزور أخاه، دون سابق إعلام منه بذلك، فدخل قاعة الطعام ساعة كانت سدادات القناني تفرقع وتتطاير في الجو ...
إني أذكر قصة أخرى سمعتها في جدة، كان الأمير علي وبعض رجال حكومة أبيه الملك حسين مصطافين في الطائف، ومعهم شيخ مدمن كان يجيئه الحين بعد الحين صندوق من الوسكي من تاجر مسيحي في جدة، فأرسل الصندوق ذات يوم خطأ إلى بيت الأمير علي، ففتحه وأخذ منه زجاجتين، ثم أرسل الباقي إلى صاحبه يقول: «إن الصندوق فتح في الجمرك وأخذ الرسم عليه ... أما ما كان من أمر الزجاجتين فالأرض تدري.»
كان الملك فيصل - عملا بمهنته وبتقاليد بيته في الأقل - من المحافظين، بيد أنه لم يتقيد بالقيود كلها، وما استولى الماضي عليه استيلاء العقل والحكمة؛ فقد كان مدركا ما للتطرف السياسي والاجتماعي في زمانه من الشيوع والسطوة، وكان مدركا كذلك أن العرب وإن كانوا بطبيعة الحال محافظين، ينزعون إلى التمرد، ويقبلون على النعارين فيهم المشاغبين. فعلى من يتولى أمرهم ويدير شئونهم أن يقرن في مبادئه وأساليب عمله شيئا من المصلح، شيئا من الحاكم المستبد؛ لذلك كان الملك فيصل يتحرى الوسط في الأمور.
وقد سمعته يقول مرارا: «كم من تقليد مفيد يفسده الغلو!» أحب أن يقتدي بملوك العرب وأمرائهم في الجلوس للناس، بل باشر الأمر، فكان يجيئه الناس من بدو وحضر في يومي الأربعاء والسبت من كل أسبوع، مسلمين عارضين شكاويهم، فيسمع لهم ويقضي ما استطاع بينهم، وقد كان يرتاح إلى هذه الاجتماعات ويرى فيها ما يزيد بخبره، ويصحح علمه بطبائع الناس، فضلا عن أنها تقرب بينه وبين الرعية.
ولكن الحكومة نظرت إليها بغير عينه، وقد تكون عدتها من البدع؛ فهناك محاكم وقضاة، وهناك دستور، وهناك ... فلا يجوز للملك التدخل في شئون المواطنين الخاصة، ولا يليق بالناس أن يحملوا الملك فوق طاقته. ظل الملك مع ذلك يقابل كل من جاء زائرا في ذينك اليومين، ولكن العادة المثمرة خيرا في صنعاء وفي الرياض أمست عقيمة في بغداد، وقد تبطل قطعا، فيذكرها الناس كما يذكر الحاج حجة لا تعاد أو كما يذكرون تقليدا مهملا.
وهذه السدارة هي اختراع الملك فيصل، وهي اليوم تدعى باسمه ال «فيصلية»، إن هي إلا دليل آخر على أن حب الوسط كان من طبعه. أما الكلمة المأثورة: خير الأمور الوسط، فلا تمثل الحكمة دائما ولا حسن الذوق. وما السدارة؟ لا قبعة هي ولا قلبق، هي احتجاج على الطربوش، وما هي في الصيف أخف من الطربوش، ولا هي صحيا أحسن منه. إن في خطوطها، في شكلها، شيئا من الظرف، ولا تخلو طريقة لبسها من شيء يتحداك، ولكنها في المواقف الرسمية - على الأقل - رمز الخفة والدعابة، أراد الملك فيصل عمرة جديدة لأهل العراق، أو للعصريين من أهله، وأبى أن يقلد الأمة التي نبذت الطربوش كما نبذه، فيختار مثل مصطفى كمال القبعة كاملة؛ لذلك اضطر أن يقف عند الحد الوسط، اكتفى بنصف قبعة.
لا أظن أن السدارة تدوم طويلا، فالعمرة التي لا حافة ولا رف لها إنما هي مبتورة ناقصة، قد تكون بليغة فيما تقوله وطنيا، ولكن الوطن إذا توطدت أركانه يستغني عن الرموز، والعمرة التي لا رف لها تفضح الوجه إذا كان قبيحا، ولا ترمقه إذا كان مليحا بشيء من الظل يزيد الملاحة فيه. لقد أدرك العرب ذلك، وأدركوا الناحية الصحية في العمرة، فلبسوا فوق العرقية الكوفية، وربطوها بعقال للزينة والفائدة معا، فإذا نبذنا العقال والعمامة فيليق بنا أن نظهر، في المواقف الرسمية على الأقل، مكشوفي الرأس، وهذا مكروه عند المسلمين المحافظين ومخالف للتقاليد المرعية.
Unknown page