وكان الملك فيصل الذي جمع حوله الشرق والغرب متجاملين متلائمين، المثل الأعلى لمحاسن الطرفين، على أنه كان ممسكا في كلماته وإشاراته، وما استطاع أن يخفي ما بدا على جبينه من أثر الجو المكفهر. أما أنه ملك ديمقراطي، ومن أصدق ملوك هذا الزمان في روحه الديمقراطية، فمما لا ريب به. وما أجملها ديمقراطية يزينها جلال طبيعي موروث، ويكللها النبل المتسلسل من سدة عالية طاهرة! وما كان فيصل يظهر أنه مدرك ذلك، ولا كان يحب أن يدركه الناس. وعندي أن قليلا من هذا الإدراك في الطرفين لا يضر، بل هو يمكن الثقة بالنفس، فلا يقلق الملك، ويمد بالعزة والأمل، فلا ييئس الناس.
أما في تلك الليلة فقد كان الملك كالباني الذي باشر البناء، وهو غير متيقن أن الأساس صالح متين، فقرأنا في طلعته الناعمة سطرين خطهما الغم والاضطراب. وقد كان عالما كل العلم بمجاري السياسة الظاهرة والخفية، إن كان على ضفة دجلة الغربية (الإنكليزية) أو على الضفة الشرقية (العراقية)،
2
فلا عجب إذا سرت منه تموجات نفذت إلى قلوب الضيوف فبدا تأثيرها في وجوههم، وكأنهم جميعا عالمون بما لا يجوز أن يظهر، بما لا يجوز أن يذكر، بما لا يجوز أن يفكر أحد به، فكانت الكآبة الملكة تلك الليلة، وكان الملك أول من خضع لسلطانها.
يقال إن المآدب الملكية هي دائما قاتمة جاهمة، يحف بها السكوت، ويسودها التحفظ، ولكني أؤكد لك أن المآدب الملكية العربية ليست كذلك. ومع أن هناك تقليدا يستوجب السكوت لدى الخوان، فالعرب لا يفرضونه على الضيف ولا يتقيدون به، بل تراهم على عكس ذلك محدثين، مشجعين على الحديث، وهم فوق هذا يحبون النكتة ويحسنونها، بل يحسبون المزاح ملح الطعام، والضحك خير المقبلات.
والملك فيصل - وهو من صميم العرب - كان في الساعة الصافية مثل والده الحسين عذب الحديث، مفكها، محبا للفكاهة، مقدرا لمن يجيدها. أما في مثل هذه الحال، وهذا الجو المكفهر، فصوت أفصح المحدثين يخفت، وروح الزهو والمرح تجمد، حتى في أمثال أبي نواس.
وما كانت المائدة لتنعم بما حرمته ردهة الاستقبال، نقلنا، ونقل الجو معنا، فجلست إلى يمين الملك فيصل اللادي كوكس، وإلى يساره القائد العام، وما كان الملك يحسن الإنكليزية في تلك الأيام لينجو بنفسه من عربية السيدة المكسرة، وفرنسية الجنرال المتعثرة، على أن المس بل، التي كانت جالسة أمامه إلى يسار الأمير زيد، حاولت أن تخفف من مصيبته فيما كانت تتبرع به، بلسانها العربي العراقي، من قصة أو حديث، ولكنها ما أفلحت فيما حاولت.
وكان السر برسي كوكس يراقبها، فساءه أن عييت فانبرى لنجدتها، وجاء بما كان يضحك حقا في غير تلك الساعة العاصية. سأل السر برسي، وهو يرفع بناظريه إلى السقف، سؤالا في علم الحيوان، ما هو اسم ال
badger
3
Unknown page