ولكنها وهي تخدم «سيدي فيصل» بكل قواها - فيما يتفق طبعا وسياسة حكومتها - كانت تعجب كل الإعجاب بالسر برسي كوكس، وتجهر دائما بأنه رئيسها الأول. وها هي تساعد الآن، عملا بمشيئته، لإطفاء شعلة الحماسة في صدور المتطرفين الذين شاءوا أن ينادى بالأمير ملكا حين وصوله؛ ذلك لأن ساحر المفوضية الذي وصفه أحد رؤساء العشائر في قوله إنه «رجل ذو أربعين أذنا ولسان واحد.» - وما أبطأ ذلك اللسان وأحذره! - لا يريد أن تكون الكلمة الأولى في الأمر للمتطرفين، وقد ردهم ردا حسنا في قوله أن ينبغي أن يكون العمل شرعيا، وذلك لا يتم في يوم واحد.
وكان العمل شرعيا، فقد قرر مجلس الوزراء، في 11 تموز، أن يكون الأمير فيصل بن الحسين ملكا على العراق، وأن يكون الحكم دستوريا نيابيا ديمقراطيا. فأشار المندوب أن يثبت القرار بالمبايعة أو ما نسميه اليوم بالاستفتاء، ثم شرعت الحكومة تعد العدة لهذا الاستفتاء، الذي تولى إدارته وأشرف عليه في أكثر النواحي الوكلاء السياسيون. وقد وضع المبايعون في بعض المدن، منها البصرة والرمادي، شرطا فرضته دار الانتداب رأسا؛ لأن مجلس الوزراء رفض أن يثبته في القرار؛ أما هذا الشرط فهو أن يقبل فيصل بمشورة الإنكليز.
قلت إن دار الانتداب فرضت هذا الشرط فرضا، فقبل في بعض المدن، وما كان ذلك منها إلا لأن السر برسي رأى الاستئثار في العمل خيرا من النزاع بينه وبين المجلس، ولكن هذا الأسلوب في تنفيذ الأمور لا يبشر لسوء الحظ بحسن المصير. إننا نسلم بالمستطاع من حقكم، ونتمسك بالباقي الذي هو حقنا، فننفذه بالأمر وإن تعددت أساليب التنفيذ. هو ذا موطن الضعف في سياسة السر برسي كوكس، وقد طالما زاد هذا الاستئثار - المقنع تارة، المكشوف طورا - في سوء التفاهم وسوء الظن، وبما كان ينشأ عنهما من النزاع والعداء بين الحكومة العراقية ودار الانتداب. إن الجرح يبرأ من الأسفل فصاعدا، وإذا سارع الطبيب في لأمه قبل الأوان، استحال قرحة مزمنة.
ولكن السر برسي كوكس كان يؤثر الفصل في الأمر ولو مساومة على العلاج الطويل البطيء، فيقطع العقدة في بعض الأحايين ويمشي دون أن يقف أو يتلفت ليرى ما عسى أن تكون نتيجة عمله، وهو كذلك في هذه المهمة الملكية، فقلما كان يدرك وهو يقيم ملكا ويوازن القوات السياسية حول عرشه، أو قلما كان يهمه ما قد يتبع القطع السريع أو اللأم من التقرح، بل من الانفجار.
على أنه في بداءة أمره استبشر بالأمير فيصل، الذي كان في أحاديثه، وخطبه ذلك الأمير المنتظر؛ فقد حقق آمال الإنكليز والعراقيين.
وقد حذا خصوصا في خطبه حذو جده الرسول، فجعل كلامه على قدر عقول الناس؛ فجاء عفو القريحة، خلوا من التعمل والتفوق، سهلا واضحا، صريحا فصيحا، وكان فوق ذلك يخص كل فريق من الناس وكل وفد من الوفود، بكلمة توحيها إليه تقاليدهم ونزعاتهم السياسية والدينية، فيتمثل لهم فيها معاني الثقة والكرامة والفلاح.
كأني الآن أسمعه يناشد الشيعة بوحدة الإسلام والإخاء الإسلامي: «أولا نؤمن نحن وإياكم بالله وبالرسول، ونكبر آل البيت؟! أوليس السادة والأشراف جميعا من سلالة واحدة؟!» وأسمعه يتلو على أهل السنة من صفحات العباسيين الذهبية آيات المجد والنور، فيذكرهم بالرشيد وبالمأمون، وبما كان في عهدهما المجيد من فضل العرب على الأوروبيين، ثم يحثهم على النهوض والتعاضد لتجديد ذلك المجد والزيادة فيه. وكان يصرح ويؤكد للأقليات أنه مقيم على مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين الرعية، على اختلاف المذاهب الدينية، فيعيد ما قاله مرارا: «كنا عربا قبل موسى وعيسى ومحمد.»
وكان يحدث المعتدلين في ثقة المرء بنفسه، وفي الشجاعة والإقدام، وفي الحماسة التي تضرم في نهضات الشعوب نار الإيمان، وتكللها بالنصر والفلاح. وكان يحذر المتطرفين من المزالق والأخاديد الظاهرة والخفية، ومن شر الردات التي تنجم غالبا عن استعجال الأمور، وعن الفوز الذي يجيء ناقصا قبل أوانه. وكان يختم كل حديث وكل خطبة بهذه الكلمات: «إني أطمئنكم وأؤكد لكم أن مساعدة الإنكليز للعراق هي كمساعدة الصديق للصديق، وإننا نقبل هذه المساعدة كأمة حرة من أمة حرة، دون أن نفادي بشيء من المصلحة أو من الكرامة.»
ومع ذلك كله فقد تخلل أصوات الاستحسان وهتاف الإعجاب، غنات من الريبة، وخنات من التردد، وقد كان في استطاعة الإنكليز، بعد أن ظهر الأمير في أصدق مظاهر التناسب والتضامن التي كانوا يحبذونها وينشدونها، بل بعد أن برهن بنفسه على أنه عونهم الأكبر في نجاح المهمة، وفي تحقيق الاستقرار، كان في استطاعتهم - أقول - أن يغنوه عن استماع شيء بنفسه من تلك الغنات والخنات بين أصوات الإعجاب والثناء.
وما كانوا في هذه الفعلة صريحين كل الصراحة، فقد سمع الأمير أن بعض القبائل مترددة في ولائها، بل معادية له، فأرادوا أن يتحقق الأمر بنفسه في زيارة دبروها، ولكنهم جهروا بشيء وكتموا أشياء.
Unknown page