وقد أكد كالفان ضرورة غناء المزامير بصوت موحد، ودون مصاحبة الآلات، كما ألغى المجموعة الغنائية المتخصصة (الشمامسة)، حتى تكون الشعائر أكثر ديمقراطية، ويتسنى لجمهرة المصلين بأكملهم أن يغنوا مسبحين لله بأفواههم. وعندما كتب الموسيقي الهوجنوتي (أي البروتستانتي الفرنسي) «جوديمل
Goudimel » (حوالي 1505-1572م) الذي كان من أشهر موسيقيي عصره، تلحينا للمزامير موزعا على أربعة أصوات مختلفة، لم ينظر كالفان إلى هذه المحاولة بعين الرضا؛ فهي في رأيه «أعقد من أن تتمكن من غنائها جمهرة المصلين، وإن نفس جو تركيبها التوافقي (الهارموني) لكفيل بأن يحول الانتباه إليها»، وقد كتب كالفان بلهجة تذكرنا بأوغسطين يقول: «من المؤكد أن الغناء إذا ما وجه إلى ذلك الجلال الذي يليق بحضور الله والملائكة، فإنه يضفي على الأفعال المقدسة مهابة ورقة، ويكون له تأثير فعال في بعث روح الإيمان الحق وحرارته في النفوس. ومع ذلك فلا بد من توخي الحذر الشديد، حتى لا يكون انتباه الأذن لمجرى الأنغام أعظم من انتباه الذهن للمدلول الروحي للألفاظ ... إن أية موسيقى تلحن لكي تطرب الأذن وتسرها فحسب، لا تليق بجلال الكنيسة، ولا يمكن أن تحظى برضاء الله على الإطلاق.»
وكان كالفان يعتقد أن كل فن جدير بهذا الاسم إنما هو هبة من الله للإنسان؛ فالفنون التي تحمل إرادة الله على الأرض فنون صالحة، أما تلك التي لا تقدم إلا المتعة الحسية، ولا تساعد على إعلاء دعوة المسيحية، فما هي إلا أساليب لقهر الإنسان. ولم يكن كالفان يسمح بعزف الآلات الموسيقية في الشعائر الدينية، وقد حرم استخدام الأرغن في الصلوات بالكنيسة لئلا تؤدي موسيقى الأرغن إلى تحويل الأنظار عن معنى الأنشودة الدينية البسيطة. وقد يتجه العازف المغرور للأرغن إلى استعراض براعته في العزف، ويزخرف الموسيقى البسيطة، وهو ما يتنافى مع فكرة كالفان عن الموسيقى الشعائرية؛ ذلك لأن كالفان قد أكد أن الكلمة المقدسة، لا اللحن ولا التوزيع، هي أهم ما في الصلاة. وينبغي ألا تحول آية عقبة دون انصراف جمهور المصلين بكليتهم إلى العبادة.
وقد أثرت فلسفة كالفان الموسيقية في المذهب البروتستانتي بأسره، بحيث أخذ الموسيقيون يكتبون موسيقى لا تحول الانتباه عن التقوى والإيمان؛ فمن حيث الأسلوب نقلت النغمة الغنائية من الصلوات «التينور» التقليدي إلى أحد الأصوات؛ أي السوبرانو. كما اهتموا باللغات القومية، وأكدوا عنصر البساطة، وحذف أي نوع من الزخرف الفني. ومع ذلك فإن العناصر البوليفونية الغنية التي أضافها «كلود لوجين
Claude Le Jeune » (حوالي 1528-1600م) إلى البروتستانتية كانت مناقضة بالفعل لروح الزهد والبساطة الكاليفونية؛ ففي البروتستانتية كما في الكاثوليكية، وكما سنرى في اليهودية بعد قليل، كان الموسيقيون، على ندرتهم، يطلقون العنان لمشاعرهم، ويرفضون التقيد بتلك التعاليم الجمالية التي وضعها أناس متدينون نصبوا أنفسهم متحدثين باسم الإرادة الإلهية في مجال الموسيقى. ومع ذلك فإن آراء كالفان اللاهوتية والموسيقية مارست ضغطا قويا على العالم اللوثري، وأصبح لها بمضي الوقت تأثير متزمت في نظرة أنصار لوثر أنفسهم إلى العبادة، وإلى الموسيقى.
وقد أدت روح كالفن النارية إلى التحكم في مجرى موسيقى الهوجنوت في فرنسا، وكان لمجموعات الأغاني الدينية الهوجنوتية، التي كان يوجد منها ما يربو على مائة طبعة فرنسية في القرن السادس عشر، تأثير هائل في أوروبا البروتستانتية كلها، وفي المستعمرات الأمريكية؛ ففي إنجلترا عارض كثير من أقطاب البروتستانتية، بنفس القوة، إدخال الفنون في مجال العبادة، وقيدت حرية الأديرة، ودمرت آلاتها الموسيقية بلا رحمة. وقد حاول هنري الثامن (1491-1547م) بعد انشقاقه عن كنيسة روما أن يحتفظ بالطقوس الكاثوليكية. غير أن رجال الدين المتحمسين الذين أيدوا انفصاله عن الكنيسة الأم، لم يقبلوا أن يحول شيء دون إتمامهم لرسالتهم في تخليص إنجلترا من النفوذ البابوي، فذهبوا إلى أن الموسيقى الكاثوليكية تشجع على استعراض البراعة الفنية، ولا تؤكد كلمة الله. ووصفوا الموسيقى الكاثوليكية بأنها معقدة تتحدث بلسان أجنبي. وقد لخصت مطالبهم الفنية في رسالة بعث بها رئيس الأساقفة كرانمر
Cranmer (1489-1556م) إلى هنري الثامن يقول فيها، مشيرا إلى موسيقى الكنيسة: «ينبغي ألا يكون الإنشاد مليئا بالأنغام، بل إن من الواجب - بقدر الإمكان - أن يكون لكل مقطع نغمة، حتى يمكن غناؤه بوضوح وخشوع.» وهكذا كان أقطاب البروتستانتية، شأنهم شأن آباء الكنيسة الأوائل، متفقين على نوع الموسيقى اللازمة للصلاة والعبادة.
وقد قام «المتطهرون» الإنجليز (
) بتسريح المجموعات الغنائية الكاثوليكية، ودمروا آلات الأرغن بالكنائس، وكذلك كتب الغناء الجماعي حيثما وجدوها؛ وذلك تعبيرا منهم عن كراهيتهم المتعصبة للأساليب الموسيقية البابوية، التي ظلت آثارها باقية في شعائر الصلاة، وكانت أفعالهم هذه مبعث أسف شديد في نفس أوليفر كرومويل
Oliver Cromwell (1599-1658م) الذي أظهر مع كثير من أتباع إعجابه بالموسيقى علنا، وكان يدرك بوضوح حاجة الإنسان في حياته إلى التعبير والتذوق الفني. غير أن كرومويل ومساعديه كانوا متفقين تماما مع أتباعهم الأشد تعصبا، على أن الموسيقى إن لم تستبعد من شعائر الصلاة، فمن الواجب على الأقل ألا تؤكد على حساب تهذيب الروح بالكتب المقدسة. وقد أغلق المتطهرون المسارح؛ لأن الموسيقى التي تعزف فيها دنسة تحض على الخطيئة، واعترضوا على عزف الموسيقى وسماعها يوم الأحد، وعلى استخدام الموسيقى المعقدة في شعائر الكنيسة. أما الموسيقى التي تعزف في البيوت فلم يعترضوا عليها، بشرط ألا يكون فيها ما يسيء إلى الفضيلة المسيحية.
Unknown page