Katharsis ، تزيل في رأيه الضيق وتهدئ الانفعالات.
القسم الثالث: الأناشيد الجريجوريانية
كانت الكنيسة المسيحية، منذ نشأتها الأولى، تشن حملات منتظمة للقضاء على الوثنية. ولقد كان من الضروري للقضاء على عقيدة الوثني، تحطيم معابده ومحو آثار فنونه. وترتب على ذلك حدوث تدمير واسع النطاق للمعابد الوثنية التي كانت تضم أصنام الكفرة وتعاويذهم، وكانت أذهان المسيحيين المتمسكين تجد لذلك المبرر الكامل في أن هذه الأفعال إنما هي تنفيذ للإرادة الإلهية، ولكن هؤلاء المتمسكين وجدوا أنفسهم عاجزين تماما عن القضاء على الموسيقى الوثنية؛ إذ لم تكن هناك مخطوطات تحرق أو موسيقيون يعاقبون. ولم تكن الموسيقى ذاتها تمثل شيئا ملموسا، وإنما كانت تمثل أفكارا وتعبيرات فحسب، فأنى للمرء أن يقتل الأفكار والتعبيرات؟
ومنذ عهد مبكر، يرجع إلى وقت أوغسطين، كانت هذه العداوة الدينية للفن قد رسخت بالفعل؛ فقد اجتاحت رجال الكنيسة في القرن الرابع موجة عارمة من المعارضة حتى للفن المسيحي ذاته. وبحلول القرن السادس كان جريجوريوس الأكبر الذي ولد عام 540م، وتولى منصب البابوية من عام 590م إلى عام 604م، قد أمر، وهو لا يزال أسقفا لمرسيليا، بنزع وتدمير كل الصور المقدسة داخل نطاق أسقفيته. وكانت تصرفاته مبنية على الاعتقاد بأن هناك فارقا بين تقديس الصورة ذاتها وبين النظر إليها على أنها رمز. وكان جريجوري يخشى أن يبدأ الإنسان العادي في تقديس الرمز بدلا من الموضوع المرموز إليه. وكانت نفس هذه المشكلة تتمثل في الموسيقى، فإذا كان الشخص العادي الذي يؤم الكنيسة يفتتن بالطابع الحسي للموسيقى الدينية إلى حد نسيان أن الموسيقى لا ترمي إلا إلى تجميل النص المقدس فحسب، فلا بد عندئذ من تبسيط الموسيقى وتأكيد النص.
ومن الجائز جدا أن البابا جريجوري قد تذكر تحذير أوغسطين الموجه إلى المسيحيين بألا يخلطوا بين رمز الإيقاع الموسيقي وبين ما يمثله الرمز؛ إذ إن الجمال والموسيقى ليسا إلا محاكاة فنية لنظام أعلى أضفاه فضل الله على البشر. ولا بد أن جريجوريوس قد تأثر أبلغ التأثر بعبارة أوغسطين القائلة: «ويل لمن يحبون إشاراتك بدلا منك، ويضلون طريقهم وسط آثارك»، وما كان من الممكن أن تجد آراء أوغسطين عن الموسيقى في الحياة المسيحية نظيرا أكثر تحمسا من البابا جريجوري.
وربما كان جريجوري الأكبر أشهر شخصية في تاريخ البابوية. وقد صوره التاريخ تارة على أنه شغوف بالفن، وتارة أخرى على أنه شخصية قوية تفتقر إلى كل إحساس أو خيال فني. وقد امتدحه كثير من الكتاب في العصور الوسطى بوصفه رجلا عظيما فاضلا من رجال الكنيسة، دون أن يعبئوا بالتفرقة بين عبقرية البابا جريجوري الدينية في دعم الكنيسة، وبين احتقاره للعلوم والفنون، وعزا إليه هؤلاء الكتاب نظريات متحررة كانت بعيدة كل البعد عن فلسفته، ولكن من المفارقات العجيبة أن الأجيال التالية لم تعد تعرفه بفضل مقدرته السياسية والتنظيمية الفذة، بل بفضل الموسيقى التي ارتبطت باسمه.
ولكي يتأكد البابا جريجوري من أن المبادئ والتعاليم المسيحية لا توضع موضع الشك، أو تتعرض لتفنيد المارقين، فقد حرم التعليم الدنيوي، وأضفى على الدراسات اللاهوتية أهمية لم تكن لها من قبل على الإطلاق، واستبعد العلم والفن من التعليم الديني، ولكن لما كان العرف الشائع في العصور الوسطى قد جرى على النظر إلى الموسيقى على أنها فرع من الرياضيات، فقد أدرجت ضمن الرباع التعليمي، الذي يتألف من الحساب والهندسة والفلك والموسيقى .
ولما لم يكن جريجوري يعبأ كثيرا بالتعليم الدنيوي، فليس من المستغرب أن نجده ينفر من الاتجاهات الموسيقية اللادينية، التي كانت في حاجة إلى قمع مستمر. ولقد بلغ من صرامته في إدارة شئون الدين أنه عاقب أصحاب المناصب في الكنيسة، بعد خمس سنوات من توليه منصب البابوية؛ لأنهم استمعوا إلى نوازع الشر في نفوسهم، ودربوا أصواتهم على أداء الجزء الموسيقي من الصلاة، وقضوا في ذلك وقتا كان ينبغي أن يكرسوه لأغراض أشرف؛ ومن ثم فقد أمر جريجوري بأن يقتصر القساوسة على غناء الإنجيل، ويغني مساعدوهم بقية الجزء الموسيقي من الصلاة. وقد اتخذ الخطوات اللازمة لتوفير هؤلاء المساعدين، بتشييد معاهد دينية إضافية، وإنشاء مدرسة للغناء «سكولا كانتوروم» زودت فرق الإنشاد البابوية بالمغنين.
ولقد حذا جريجوري حذو أوغسطين، فرأى في الموسيقى مجرد عامل مساعد في أداء الصلاة. كذلك التزم معتقدات أوغسطين المتأخرة، فحظر كل ما له صبغة وثنية، ويمكن أن يكون له تأثير في المسيحيين. وهكذا محي الفن والموسيقى من الوجود بوصفهما نشاطا حضاريا، واستعيض عن العلم والبحث، مهما كان ضيق نطاقهما، بالنظام الصارم والعزوف والتبتل. ومع ذلك فإن البابا جريجوري الأكبر هذا هو نفسه الذي نسب إليه دور خلاق في تلحين جزء من القداس، هو الجزء التبادلي، وتنظيم الطقوس الدينية، ولكن هناك من الأسباب ما يدعو باحثي الموسيقى إلى الاعتقاد بأن هذه النسبة خيالية أكثر منها واقعية.
15
Unknown page