كذلك أراد كالفان أن تكون موسيقاه الدينية بسيطة معبرة عن تواضع النفس. وكانت حجته في ذلك هي أن الإصلاح الديني ما هو إلا إنكار للتبهرج والطقوس المعقدة التي تتميز بها الكنيسة الكاثوليكية. وإذن فمن الواجب حماية الموسيقى البروتستانتية من إنتاج أولئك المغرورين الذين لا يؤلفون الموسيقى لتمجيد الرب، وإنما لكسب الشهرة لأنفسهم فحسب؛ فالموسيقى جزء لا يتجزأ من العقيدة الجديدة، ولا يمكن أن تظل بمعزل عنها. وليس لمؤلف الموسيقى الشعائرية الحق في تبديد طاقته في أي نوع من الإبداع الموسيقي، فيما عدا ذلك الذي يضمن تحقيق البروتستانتية وتقدمها.
وقد سار السوفييت في ذلك الطريق أبعد من ذلك؛ إذ رأوا أن التغيير الفني لغرض التجديد وحده إنما هو تبديد لا طائل تحته. إنما الواجب أن يكون ذلك التغيير موجها نحو غاية اجتماعية بناءة؛ فاللجنة المركزية تقول: «إن الكثير من الموسيقيين السوفييت، في سعيهم وراء التجديد الذي أساءوا فهمه، قد فقدوا في موسيقاهم الصلة بحاجات الشعب السوفييتي وذوقه الفني، وأغلقوا على أنفسهم الأبواب إلا من فئة محددة من المتخصصين ومحترفي التذوق الموسيقي، وقللوا من أهمية الدور الاجتماعي الأساسي للموسيقى، وضيقوا معناها، فقصروه على إرضاء الأمزجة المنحرفة لأصحاب النزعات الفردية في الفن ...» «وقد بلغت الأمور حدا كبيرا من السوء في ميدان تأليف السيمفونيات والأوبرات. وحين نقول ذلك، فنحن إنما نتحدث عن أولئك المؤلفين الموسيقيين الذين يقتصرون على الاتجاه الشكلي المضاد للروح الشعبية. ويتبدى هذا الاتجاه بأجلى مظاهره في أعمال مؤلفين موسيقيين كالرفاق ديمتري شوستا كوفتش وسرجي بروكوفيف، وآرام خاتشاتوريان، وف. شيبالين، وج. بوبوف، ون. مياسكوفسكي وغيرهم ... مثل هذه الموسيقى تتميز بإنكار المبادئ الأساسية للموسيقى الكلاسيكية، والدعوة إلى اللامقامية والنشاز والتنافر الهارموني، وكأن هذه هي علامات «التقدم» و«التجديد» في نمو القوالب الموسيقية، كما تتميز برفض مبادئ أساسية في التأليف الموسيقي كاللحن
melody ، والميل إلى التجمعات الصوتية المضطربة المريضة، التي تحيل الموسيقى إلى تخليط في الأصوات، وإلى تكديس فوضوي لها.»
22
والخلاصة إذن أن أفلاطون كان قد ذهب إلى أن المقامات والأنغام الموسيقية المضبوطة بدقة، والتي تؤثر في الانفعالات تأثيرا فعالا نظرا إلى بساطتها المباشرة هي وحدها المفيدة. ولو استمع الإنسان إلى النوع الصحيح من الموسيقى لساعده ذلك على أن يبعث التوافق الإيقاعي بين نفسه المتناهية وبين اللامتناهي. أما التخليط الصاخب فيجعل النفس تصطدم بالنظام المثالي للأشياء، فمن الواجب إذن أن يطرد من المجتمع أولئك الشعراء المغنون الذين يؤلفون موسيقى تتعارض مع النظام الطبيعي؛ إذ إنهم محطمون للنفس، ونذر سوء بانهيار المجتمع.
وقد اتخذت هذه الآراء الفلسفية دلالة دينية في أعمال أولئك الموسيقيين الدينيين الأوائل الذين تشبعوا بروح الرهبة، فدفعتهم إلى تأليف موسيقى لتمجيد الرب والكنيسة، وأخذ هؤلاء على عاتقهم أن يطرحوا مشاعرهم الشخصية وميولهم الموسيقية جانبا لكي يلبوا حاجات الكنيسة.
وكان لوثر، شأنه شأن السابقين عليه، يعتقد أن من الضروري الالتجاء إلى كل وسيلة ممكنة لتعبئة القوى الانفعالية والنفسية للإنسان. وقد وضع لوثر، بوصفه هو ذاته مؤلفا موسيقيا، وكذلك بوصفه زعيما لحركة الإصلاح الديني، مذهبا جماليا في الموسيقى، كان بطبيعة الحال أوغسطينيا في ملامحه العامة، ولكنه كان واقعيا إلى حد أنه جعل من الفن مجرد أداة لخدمة الدين، ولكي يعمل لوثر على تحقيق هذا الهدف، أحل اللغة الألمانية محل اللاتينية التي كانت مستخدمة في الشعائر الكاثوليكية، واستعاض عن الأناشيد الجريجورية المعقدة بموسيقى أبسط وأقل غرورا، كانت أقرب إلى الأغاني الشعبية الألمانية.
23
أما كالفان فنظر إلى آراء لوثر على أنها متحررة أكثر مما ينبغي، وكما سبق لأوغسطين أن حذر المسيحيين الأوائل طالبا إليهم أن يصموا آذانهم عن الألحان الوثنية المنبعثة عن المسرح الروماني، فكذلك حاول كالفان أن يحتفظ بنقاء البروتستانتية بمحو أية آثار باقية احتفظ بها لوثر من الموسيقى الكاثوليكية الشديدة التنوع والتعقيد. على أنه قد اتفق مع لوثر على أن شعائر الصلاة ينبغي أن تكون مفهومة للجميع؛ ولذلك كانت الشعائر عنده تقام باللغات المحلية.
وبعد حوالي ثلاثمائة عام من ذلك التاريخ، حاول تولستوي في روسيا القيصرية أن يحقق إصلاحات اجتماعية ودينية مبنية على المبادئ المسيحية؛ ففي كتابه «ما الفن؟» نجد فقرة تجمع داخلها الآراء الجمالية الموسيقية لأفلاطون وأوغسطين ولوثر وكالفان. وكما كانت هذه الفقرة تلخيصا للآراء الجمالية ذات الطابع الأخلاقي عند السابقين عليه، فقد كانت أيضا تنبؤا بالآراء الجمالية الموسيقية السائدة في روسيا اليوم. في هذه الفقرة يقول تولستوي: «وإذن ففي المستقبل سيكون مختلفا كل الاختلاف، في شكله وموضوعه، عما يسمى الآن بالفن؛ فالموضوع الوحيد لفن المستقبل سيكون مشاعر تدعو الناس إلى التآلف، أو مشاعر من النوع الذي كان يؤلف بينهم بالفعل. وأما أشكال الفن أو قوالبه، فسيكون من شأنها أن تكون في متناول يد الجميع. وعلى ذلك فإن معيار الامتياز في المستقبل لن يكون ضيق نطاق المشاعر واقتصارها على البعض وحده، بل سيكون على عكس ذلك، عمومية هذه المشاعر وشمولها. ولن يكون هذا المعيار هو ثقل القالب وغموضه وتعقده، كما يظن الآن، وإنما سيكون إيجاز التعبير ووضوحه وبساطته. وعندما يصل الفن إلى هذه المرحلة، فعندئذ فقط لن يعود عاملا على تلهية الإنسان أو الحط من شأنه، كما هو الآن ...» وفي موضع آخر يضيف تولتسوي قوله: «إن ألحان المؤلفين المحدثين خاوية تافهة إلى حد يبعث على الدهشة، ولكي يعمل الموسيقيون المحدثون على زيادة التأثر الذي تتركه هذه الألحان الخاوية، تراهم يكدسون تحولات سليمة معقدة على كل لحن تافه، لا على النحو المعروف في بلادهم فحسب، بل أيضا بالطريقة المميزة لدائرتهم المقفلة ومدرستهم الموسيقية الخاصة. إن اللحن (الميلودي) - كل لحن - حر، ويمكن أن يفهمه الناس جميعا، ولكنه ما إن يرتبط بتوافق هارموني خاص، حتى يغدو فهمه مقصورا على الناس المدربين على مثل هذا التوافق، ويصبح غريبا، لا على الناس العاديين من قومية أخرى فحسب، بل أيضا على كل من لا ينتمي إلى الدائرة الخاصة التي عود أفرادها أنفسهم على أنواع معينة من التنظيم الهارموني. وعلى هذا النحو تدور الموسيقى كالشعر، في حلقة مفرغة؛ فالألحان التافهة التي تقتصر على دائرة ضيقة تثقل بتعقيدات هارمونية وإيقاعية وأوركسترالية لكي تزداد جاذبيتها، ولكن هذا لا يزيد نطاقها إلا ضيقا، وبدلا من أن تصبح مفهومة للجميع على نطاق العالم بأسره تعجز عن أن تكون مفهومة حتى على المستوى القومي ذاته؛ أي لا يفهمها الشعب كله، بل بعض الناس فحسب.»
Unknown page