ولعل فولتير كان يتجه بذهنه إلى مثل هذه المظاهر في الأوبرا عندما ذكر أن كل ما يبلغ من السخف حدا يحول بينه وبين التعبير عنه الكلام، كان نصيبه أن يغنى. غير أن أروع ما في سخرياته البارعة هو تشبيهه للفيلسوف الميتافيزيقي براقصي «المنويتو» الذين يقبلون وقد تحلوا بأبهى زيناتهم، وينحنون بضعة مرات، ويخطرون برشاقة عبر القاعة كاشفين عن سحرهم الطاغي، ويتحركون دون أن يتقدموا خطوة واحدة، بحيث ينتهي بهم الأمر إلى نفس البقعة التي بدءوا منها.
8
وكان اللورد تشسترفيلد
Chesterfield (1694-1773م) يعتقد أنه على الرغم من أن الموسيقى تسمى فنا حرا، فهي أقل قيمة من النحت والتصوير، أما علو مكانة الموسيقى في إيطاليا، فدليل على انحطاط هذا البلد، فكتب يقول: «من الصحيح تماما أن يوصف النحت والتصوير بأنهما من الفنون الحرة؛ لأن الشرط الأساسي للتفوق فيهما هو خصب الخيال وقوته، بالإضافة إلى دقة الملاحظة، وهو أمر أعتقد أنه لا يلزم في الموسيقى، وإن تكن تسمى فنا حرا ... فالنحت والتصوير مرتبطان بالتاريخ والشعر، أما الموسيقى فلا ترتبط فيما أعلم، بأي شيء سوى رفاق السوء.»
9
ولقد كان «دني ديدرو
Denis Diderot » (1713-1784م) يرى في الموسيقى محاكاة للانسجام الكوني. وكما أن الطبيعة ذاتها لا تخطئ في تقديراتها أبدا، فكذلك يتألف الجمال في الموسيقى من نسب صحيحة. وقد امتدح فيثاغورس؛ لأنه وضع أسس علم الموسيقى بأن استخلص النسب والعلاقات الرياضية الدقيقة من الطبيعة، وبذلك أنشأ أول مذهب في علم الأصوات، ومع ذلك فقد اعترض على التفكير الجمالي الميتافيزيقي عند «رامو»، الذي ذهب إلى أن «الهارمونيا» هي المبدأ البديهي، الذي يستطيع الفيلسوف والموسيقي بواسطته أن يتوصلا إلى فهم للمبادئ الأساسية للطبيعة والموسيقى. وحاول ديدرو أن يقنع رامو بأن الموسيقى أكثر من مجرد علم للصوت مبني على حسابات هندسية؛ فالجمال في الموسيقى لا يتألف من علاقات أو نسب صحيحة فحسب، وإنما يستحيل في رأي ديدرو الفصل بين الموسيقى والشعر. ومن الواجب أن تراعى مقتضيات النص عند وضع اللحن والهارمونيا.
أما «جان فيليب رامو
Jean Philippe Rameau » (1583-1674م) مؤسس نظامنا الهارموني الحديث، فقد وضع مذهبا جماليا في الموسيقى مبنيا على فلسفة ديكارت. ولقد كانت المشكلة الأساسية في نظر ديكارت هي تطبيق المنهج الهندسي على الميتافيزيقا من أجل جعلها علما دقيقا. وقد اتفق رامو مع ديكارت على أن الموسيقى مبنية أساسا على الرياضة، فقال في كتابه «دراسة في الهارموني
Traite de l’harmonie »: «إن الموسيقى علم ينبغي أن تكون له قواعد معينة، وهذه القواعد يجب أن تستمد من مبدأ واضح بذاته. ومن المحال أن نعرف نحن هذا المبدأ إلا بمساعدة الرياضيات.»
Unknown page