جلست إلى مكتبي وأمسكت بالقلم واستعرضت ما مر علي أثناء الأسبوع لأختار منه موضوعا أكتب فيه، فخطر لي:
1
أن أكتب في المساجلات الأدبية التي دارت بين شيخ العروبة والأستاذ مسعود في (الطرطوشي ولاردة)، وبين الدكتور زكي مبارك والأستاذ عبد الله عفيفي في كتاب (زهرات منثورة)، وبين الدكتور طه حسين والأستاذ العقاد في (اللاتينيين والسكسونيين)، وقلت: إن هذا موضوع طريف جدير أن يكتب فيه الكاتب ويعرض فيه لنوعي النقد اللذين ظهرا في كتابة هؤلاء الأدباء؛ فأحد النوعين قاس عنيف، حتى يخيل إلي أن أصحابه لم يبق لهم إلا أن يتسابوا بالآباء، أو يتضاربوا بالأكف، أو يتبارزوا بالسيوف! والآخر عفيف خفيف فيه لذع، ولكن بالإيماء والإشارة ، وفيه مهاجمة عنيفة، ولكن للفكرة لا لقائلها؛ ويخيل إلي أنهما إذا تقابلا تعانقا، ومهما أطالا فلن يتباغضا. وليس في أسلوبها إدلال وفخر وإعجاب وعجب، وليس فيه إسفاف وتنابذ بالألقاب، وإدخال للعمامة والقبعة في وسط المعمعة، يدعو أحدهما الآخر إلى التلمذة له، ويلقي كلاهما درسا في النحو على أخيه.
وقلت: من الحق أن تصرخ في وجه هؤلاء، وأن تعلن أن نقدهم يعجبك موضوعا ولا يعجبك شكلا، وأن الذوق إذا رقى اكتفى في الخصام بلمحة، وأن الأديب يعجبه التعريض والتلميح، ويشمئز من الهجو المكشوف والتصريح، وأن العامة إذا تسابوا أقذعوا، وأن أولي الذوق إذا تخاصموا كان لهم في الكناية ومراتبها، والإيماء ودرجاته، والتعريض ومقاماته، مندوحة من الأسلوب العريان والصراحة المخزية، وأن الحقيقة الواحدة يمكن أن تقال على ألف وجه، يتخير الأديب أحسنها، على حين لا يعرف العامي إلا وجها واحدا يتلوه الضرب، وأن في أعماق شيوخ الأدب حقا للناشئة من المتعلمين الذين يضربون على قالبهم ويسيرون على منوالهم، وإن هؤلاء الناشئة ليجدون في هذه الصحف والمجلات مدرسة تثقفهم وتغذيهم. ثم هم بعد قادة الأدب وهداة الأمة؛ فلو أنا علمنا النشء هذا النقد الذي لا يراعي صداقة ولا يأبه لوفاء كان علينا وزرهم ووزر الأجيال بعدهم، وكانت مدرستنا التي ننشئها قاسية البرامج فاسدة الطريقة.
وقلت: إن هذه الطريقة لا تخدم الحق كما يزعم أصحابها، فلسنا نطلب منهم أن يسكتوا على باطل، وأن يغمضوا عن خطأ؛ بل نحمد منهم جدهم في خدمة الحق، وسهرهم في كشف الصواب، ولكنهم يسيئون إلى الحق إذا ظنوا أنه لا يؤدى إلا بهجر، ولا يكشف إلا بسباب. والحق إذا عرض في أدب كان أجمل وأجدى على رواده، وإذا عرض في سفه حمل المعاند أن يصر على عناده وحمل الخجول أن يكتم آراءه في نفسه حتى لا ينهش عرضه ولا تبتذل كرامته، فقل التأليف وضعف الإنتاج.
جال كل هذا في نفسي، ولكني خفت أن أكتب مقالتي في هذا الموضوع، وقلت: إنك إن فعلت هاجوا بك، وتركوا خصومتهم لخصومتك، وتصادقوا لعداوتك ، وقالوا: أتلقي علينا درسا في الأدب ونحن أساتذة الأدب؟ ومن أنت؟ وما شأنك؟ وجلسوا مني مجلس الملكين يسألون ويسفهون. وأنت ما أغناك عن هذا الموقف وما أبعدك من هذا المأزق! فتركت هذا الموضوع، وعدلت عن المشروع.
ففيم أكتب إذا؟
2
كنت في الترام عصر يوم من هذا الأسبوع، فصاح بائع الجرائد: المقطم! البلاغ! فلم ألتفت إليه لأني كنت قرأتهما، فلم يصدق أني سمعت، فصاح صيحة أنكر من الأولى، فكان موقفي منه موقفي، فأمعن في الصراخ وأمعنت في البرود؛ فما وسعه إلا أن صعد الترام، ومسني بالمقطم والبلاغ، فاضطررت إلى أن أقول: إني قرأتهما ليصدق أني سمعت وفهمت.
وقلت: إن هذا الموضوع للكتابة طريف، أدعو فيه إلى دقة الحس ورقة الشعور وظرف المعاملة؛ فإن ذلك لو كان لأغنانا من كثير مما نلاقي من عناء وجفاء؛ وما معاملاتنا إلا كالآلة بلا زيت: تسير ولكن تصدع.
Unknown page