بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين حمدا لا يقوى على إحصائه إلا هو، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين صلاة يرضون بها عنا منتهى الرضا، ويشفعون بها لنا، ونستعينه، ونستهديه، ونتوكل عليه، ولا حول ولا قوة إلا به، ولا خير إلا ما أعطى، ونسأله أن يوفقنا لما يرضى، وينفعنا بما وفق وهدى.
أما بعد:
فإنه لما بعد العهد عن زمان الأئمة عليهم السلام وخفي أمارات الفقه والأدلة، على ما كان المقرر عند الفقهاء، والمعهود بينهم بلا خفاء، بانقراضهم وخلو الديار عنهم، إليه أن انطمس أكثر آثارهم، كما كانت طريقة الأمم السابقة، والعادة الجارية في الشرائع الماضية أنه كلما يبعد العهد عن صاحب
Page 85
الشريعة تخفي أمارات، ويحدث خيالات جديدة، إلى أن تضمحل تلك الشريعة.
توهم متوهم: أن شيخنا المفيد رحمه الله، ومن بعده من فقهائنا إلى الان كانوا مجتمعين على الضلالة، مبدعين بدعا كثيرة غير عديدة ضالين مضلين، متابعين للعامة، مخالفين لطريقة الأئمة عليهم السلام، ومغيرين لطريقة الخاصة، مع غاية قربهم لعهد الأئمة عليهم السلام ونهاية جلالتهم وعدالتهم ومهارتهم في الفقه والحديث وتبحرهم و زهدهم وورعهم وتقواهم وتقدمهم، وكونهم المؤسسين لمذهب الشيعة، المروجين له في رأس كل مائة، المتكفلين لأيتام الأئمة عليهم السلام مع كونهم في غاية الفهم والفطانة والقوة القدسية، بل ربما كانوا في صغر سنهم كذلك، فضلا عن الكبر، وبناء شرع الشيعة من بعد غيبة إمامهم إلى الان على قولهم في أصول دينهم، وفروع مذهبهم في الاعصار والأمصار.
فمن هذا التوهم اجتراء كل من لا اطلاع له أصلا بمباني أدلة الفقه و قواعده، حتى أدخل نفسه في الفقه، وحصل لنفسه فقها جديدا من تركيبه مقدمتين:
الأولى: أن كل من ظن من جهة الأحاديث حكما، وفهم في نفسه منها أمرا يكون ذلك حجة له، ولا يجوز له تقليد غيره، لأنه فقيه.
الثانية: أن كل ما لم يظهر له وجهه، وما لم يفهمه مما ذكره الفقهاء لا أصل له. ويكتفي في ذلك بمن قال: ومن أين ثبت؟ فربما يعد نفسه أفقه من جميع فقهائنا، ويحكم بصحة فقهه الحاصل له من المقدمتين الفاسدتين، وبطلان فقه الفقهاء، وان كان ذلك أمرا متفقا عليه
Page 86
بينهم.
ولا يتأمل في أنه كيف يكون فكره - الواحد الفاتر، القاصر، البعيد العهد غاية البعد عن صاحب الشرع، الجاهل بجميع مباني أفهام الماهرين القريبي العهد، الذين هم أئمة في فن الفقه - صوابا؟ و الأفكار القوية المتراكمة الماهرة القريبة العهد - إلى غير ذلك مما أشرنا إليه - خطأ؟ ولو كان له إنصاف لحكم بكون فكره وهما من جهة مخالفته لها، كما هو الحال في سائر العلوم، والأمور التي مرجعها إلى أهل الخبرة، مع أنه وغيره من العقلا لا يختارون خلافهم، بل يتبعونهم، ويقلدونهم، ويعدون الراجح في نظرهم هو الذي اختاروه، وإن كان في ظن أنفسهم أن الامر ليس كما اختاروا، مع أنه لا يتأمل في أنه من أين ثبت أن كل من ظن حكما يكون حجة له؟
كيف؟ وهو مخالف للآيات والاخبار والاعتبار، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.
وإن توهم: أن المجتهد يعمل بظنه فهو توهم فاسد، لأنه في الحقيقة يعمل باليقين كما ستعرف.
هذا مع أنه ثبت بالأدلة أنه يجوز تقليد المجتهد، كما ستعرف إن شاء الله تعالى، ولم يثبت أن كل من ظن أمرا يكون ظنه حجة، فالتقليد على مثله واجب لازم بالنسبة إليه، صحيح البتة، لعموم الأدلة، بخلاف الاجتهاد لعدم الدليل، بل دليل العدم كما ستعرف. مع أنه لو تم لثبت حجية ظن الجهال والأطفال والنساء أيضا.
مع أنه لو ضاع من هؤلاء درهم أو فلس ليجتهدون غاية الجهد في
Page 87
تحصيله، ويشتدون في الطلب، ولا يسامحون، ولا يكتفون بقول من قال: ومن أين ثبت؟ ولا يقنعون بمجرد ذلك، بل يستفرغون الوسع في الفحص، حتى إنهم لو لم يجدوا لا يرفعون اليد عن الفحص، ويعملون على وفق مضمون:
(من طلب شيئا وجد وجد)، (وقرع بابا ولج ولج).
وأين الفقه عن الفلس؟ ولو عاملوا فيه معاملتهم في الفلس لوجدوا كما وجده المحققون الأعاظم، وصاروا بذلك فريدي دهرهم و عصرهم، مقبولين عند العالم.
نعم ربما يلاحظ بعضهم لكن بقلب آب قد اشرب في قلبه حب الشبهة الردية الماضية والآتية، فيصير في غاية الاباء، فلم يدرك شيئا.
ومعلوم أن القلب إذا كان بهذه المثابة لا يدرك البديهي، فضلا عن النظري، ولا يتفطن بالقطعي، فضلا عن الظني.
وشبهتهم الأخرى، وهي أيضا مخالفة للبديهة، وهي: أن رواة هذه الأحاديث ما كانوا يعملون بقواعد المجتهدين، مع أن الحديث كان حجة لهم، فنحن أيضا مثلهم لا نحتاج إلى شرط من شرائط الاجتهاد، و حالنا بعينه حالهم.
ولا يتفطنون أن الراوي كان يعلم أن ما سمعه كلام إمامه، وكان يفهم - من حيث إنه من أهل اصطلاح زمان المعصوم - مرامه، ولم يكن مبتلى
Page 88
بشئ من الاختلالات التي ستعرفها، ولا محتاجا إلى علاجها، وفي كل فائدة فائدة - مما سنذكره سوى الفائدة الأولى - ما ينادي بأعلى صوته: أن في الآيات والاخبار - بالنسبة إلينا - اختلالات بأنحاء شتى، فضلا عن مجموع الفوائد، وإنه لا بد من علاج تلك الاختلالات حتى يتمسك بها فلاحظ، سيما الفائدة الرابعة والسابعة وبعض آخر منها.
وعلى فرض أن الراوي كان مبتلى ببعضها كان يعرف علاجها البتة، و نحن نحتاج إلى المعرفة البتة.
وعلى فرض أن يكون الرواة ما كانوا عالمين بالعلاج، وكان عملهم بغير مستمسك شرعي لكان خطأ البتة، فكيف يصير متابعتهم حجة؟ وبالجملة نحن نجد بالعيان اختلالات لا تحصى: من جهة السند، ومن جهة المتن، ومن جهة الدلالة، ومن جهة التعارض، ومن جهة العلاج، ونشير إلى الكل مشروحا، وإلى علاجها، ووضع هذا الكتاب لأجل هذا، يسر الله تعالى لاتمامه وتشييده وتسديده على حسب ما يحب، وأن ينتفع منه المؤمنون الطالبون نفعا كاملا بالغا بمحمد و آله.
ولما كان تأليفي له حين التجائي إلى حرم سيد الشهداء وخامس آل العبأ - عليه وعلى آبائه وأبنائه والمستشهدين بين يديه، وعلى الملائكة الحافين حول حرمه الشريف ألف ألف تحية وسلام وصلاة وثناء - سميته ب (الفوائد الحائرية) على مشرفه ألف تحية.
Page 89
الفائدة الأولى في عظم خطر الفقه اعلم أن المسامحين في التفقه لا يقربون إلى الطب ومثله، خوفا من خطره، ولو كانوا يتعلمونه، ويعملون له لكانوا يبالغون غاية المبالغة في الاحتياط والتأمل والملاحظة، حذرا من الضرر، مع أن الفقه أعظم خطرا، وأشد ضررا، لان ضرره في الأبدان والفقه فيها و في الفروج والأنساب والأموال والايمان وغير ذلك، حتى في مثل فعل الطبيب أيضا، لأنه برخصته وتجويزه.
مع أن أثر الطب يفنى، وأثر الفقه يبقى، وربما يبقى إلى يوم القيامة، و أثره عام يشيع ويذيع بخلاف الطب.
ومع أن الطب تجربيات وعقليات، والفقه تعبدي غالبا لا طريق للعقل والتجربة إليه، فليس بيد الانسان شئ لا من جهة عقله، ولا من جهة
Page 91
تجربته، ولا غيرهما.
وأيضا الطب لا يقع فيه الاختلالات الشديدة، المتكثرة غاية الكثرة، المحتاجة إلى بذل الجهد في علاجها.
وأيضا التهديدات التي وردت في الفقه لم ترد في الطب.
قال تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله الآية، فحكم بالظلم، و الفسق، والكفر، جميعا في آيات متوالية.
وقال في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو أعز الخلق إليه، و أقربهم لديه -: ولو تقول علينا بعض الأقاويل الآية، فانظر إلى هذا التهديد الشديد في الآية، وانظر إلى غيرها من الآيات والاخبار، حتى أنه ورد: (من حكم بدرهمين بغير ما أنزل الله تعالى فقد كفر بالله).
وعنهم عليهم السلام: أنه (تبكي منه المواريث، وتصرخ منه الدماء، و تولول منه الفتيا، ويستحل بقضائه الفرج الحرام، ويحرم به الفرج الحلال، ويأخذ المال من أهله، ويدفعه إلى غيره).
Page 92
وورد أيضا: (ان المفتي ضامن قال: أنا ضامن، أو لم يقل).
وورد: (أن القضاة أربعة: ثلاثة في النار، وواحد في الجنة، ومن الثلاثة من يقول الحق، لكن لا يدري أنه حق).
وورد مكررا: (أنه هلك وأهلك) إلى غير ذلك.
ومنه (ان المفتي على شفير السعير). و (إن أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على الله تعالى).
وأيضا إن الفقه كله ظني لا طريق لنا إلى اليقين مع أن الظن ربما كان في غاية القرب من الشك . مع أنه قريب منه البتة وبأدنى شئ من المسامحة والغفلة يزول، ويصير شكا، بل وربما يصير وهما، وليس مثل العلم لبعده عنهما، سيما وأن يكون الظن وقع فيه الاختلالات التي سنذكرها، وفي العلاج عنها، حتى أنه يكثر في بلدة أو محلة أطباء، ولا يوجد في عصر فقيه سلمه
Page 93
أهل ذلك العصر، نعم ربما يكون بعد فقده مسلما.
وأيضا اشتهر عند أهل المعرفة أن الطبيب إذا كان قاصرا ناقصا فهو عدو النفوس والأبدان، وأما الفقيه إذا كان كذلك فهو عدو الدين والايمان.
والفقهاء كثيرا ما يأمرون بالمبالغة في الاحتياط في الفتوى ويحذرون من ضررها.
Page 94
الفائدة الثانية [في دفع توهمين] ربما توهم بعض أن كل شئ يجب أخذه من الشارع ووظيفته توقيفي موقوف على نصه.
وتوهم بعض آخر: أنه ربما يرجع في بعض الأحكام الشرعية إلى العرف. وفساد الوهمين واضح.
وعند المجتهدين والأخباريين أن الأحكام الشرعية بأسرها توقيفية موقوفة على نصه: سواء كانت في العبادات أو المعاملات، وسواء كانت الأحكام الخمسة، أو الوضعية مثل: النجاسة، والطهارة، و الصحة، والفساد، وكون شئ جز شئ، أو شرط شئ، أو مانع شئ، وأمثال ذلك، وسواء كانت مما يستقل بإدراكها العقل أم لا، لان مجرد إدراكه لا يجعلها حكما شرعيا ما لم يثبت أن الشارع حكم بها.
لكن فقهاء الشيعة والمعتزلة لما قالوا
Page 95
بالملازمة بين حكم العقل والشرع وكون الثاني كاشفا عن الأول، و بالعكس جعلوا حكم العقل من جملة أدلة حكم الشرع لا نفسه.
وتدل على ذلك الأخبار الكثيرة الدالة على كون العقل حجة، وأنه يجب متابعته على الاطلاق، وأن كثيرا من أصول الدين مبني على تحسينه وتقبيحه، مثل عدم صدور القبيح عن الحكيم، وقبح ترجيح المرجوح، وغير ذلك، مع أن أصول الدين أشد من الفروع.
وربما تأمل بعض في ذلك محتجا بالآية، والاخبار الظاهرة في عدم التكليف ما لم يكن من الشارع بيان، وأنه يجب الاخذ من الأئمة عليهم السلام وأن دين الله تعالى لا يصاب بالعقول.
ويمكن الجمع بينهما بحمل الثانية على ما لا يستقل العقل بإدراكه أو غيره، إلا أنه لا ثمرة في كونه دليلا، لان كل موضع يستقل العقل بإدراكه بعنوان الجزم يظهر من دليل شرعي آخر أنه كذلك، لكن ما عاضده العقل يصير يقينيا.
وأما موضوعات الاحكام - وهي عبارة عما تعلق به الاحكام، وما
Page 96
يتعلق بما تعلق به الاحكام - ومعنى لفظ الوجوب، وصيغة الامر، و أمثال ذلك فهي ليست بتوقيفية إلا العبادات.
والمراد منها: ما يتوقف صحتها على النية، لا كل ما هو راجح، ولذا يقولون: إن العبادات توقيفية ووظيفة الشرع، يعنون بيان ماهيتها، لا أحكامها، فإن أحكام المعاملات عندهم توقيفية أيضا قطعا.
والمراد من المعاملات (هنا) ما قابل العبادات المذكورة، فدخل فيه (مثل) غسل الثوب النجس للصلاة، وغيره من شروط العبادات ما لم يكن هو عبادة مثل غسل الجنابة، وكذا ما يقول به الشارع في بيان ماهية العبادة، مثلا قوله تعالى: إذا نودي للصلاة الآية.. حكم الشارع فيها - وهو وجوب السعي، وترك البيع وقت النداء - توقيفي قطعا.
وأما كلمة - إذا، ويوم، والجمعة، والبيع، وصيغة ذروا ومادتها، و أمثال ذلك - فليست بتوقيفية، وليس بيانه وظيفة الشارع، بل يرجع فيه إلى اللغة أو العرف، أو غير ذلك مما نبينه.
وأما لفظ الصلاة والنداء - إذا كان المراد منه الاذان - وذكر الله - إذا كان المراد منه الصلاة - فتوقيفي أيضا، إذ لا يمكن للعرف أو اللغة أو العقل أو غير ذلك إدراك ماهية الصلاة والنداء ما لم يكن بيان من الشرع. وهذا ظاهر لا خفاء فيه.
كما أن الحكم الشرعي توقيفي يكون ظاهرا أيضا وستجئ الأدلة على ذلك.
إنما الخفاء في مقامين:
Page 97
الأول: الفرق بين مثل غسل النجاسة مما هو داخل في المعاملات، و غسل الجنابة مما هو داخل في العبادات والثمرة في الفرق.
الثاني: في دليل الرجوع في المعاملات إلى غير الشرع. وسنذكر المقامين إن شاء الله.
وأما ما يقول الشارع في بيان ماهية العبادات فليس بتوقيفي أيضا - كما قلنا ذلك - مثل أن يقول في الوضوء: اغسل وجهك ويديك، و غير ذلك، فلا يحتاج إلى البيان ما لم يكن فيه إجمال، مثل: (الصعيد) في (التيمم) وغير ذلك.
والفرق بين (المجمل) و (العبادات) أن (المجمل) يكون له معنى معروف إلا أنه غير متعين، بخلاف (العبادات) فإنا لا نعلم معناها، وإن كنا نعلم أن فيها أمرا معتبرا، مثل: (الغسل للجنابة) مثلا نعلم أنه معتبر فيه غسل، لكن نعلم أنه بعد يكون فيه شئ لا نعرفه، فبمجرد استماع اللفظ لا نعرف مجموع معناه.
لكن القاضي من العامة ذهب: إلى أن ما زاد على الغسل المعلوم شرائط الصحة بحسب الشرع، وجعل العبادات مثل المعاملات في أنه إذا ورد لفظها يحمله على المعنى اللغوي، أو العرفي، فإذا ورد من الشرع:
- أنه لا بد فيه من كذا وكذا - يجعله من شرائط صحتها بحسب الشرع، لا أنه داخل في ماهيتها.
فإذا قال لنا: (اغسل ثوبك) نحمله على الغسل اللغوي أو العرفي (فيصح من غير الماء أيضا) من دون تأمل، وهو مسلم عند الكل، فإذا قال:
Page 98
لا بد من أن يكون بالماء، وأن يكون غسالته غير متغيرة - وغير ذلك، مما ثبت منه نجعله شرائط الصحة بعد ما ثبت، ولو لم يثبت نقتصر على اللغة والعرف ولا نتعداهما أصلا، كما هو الشأن في كل موضع من مواضع المعاملات.
وكذلك يجعل القاضي قول الشارع: - اغتسل من الجنابة، وصل، و أذن، وغير ذلك - بأنه يحمله على الغسل العرفي واللغوي، والصلاة على مجرد الدعاء، والاذان على مجرد الاعلام، إلى غير ذلك: حتى يثبت شرائط الصحة، فما لم يثبت فالأصل عدمه، وفساده في مثل الصلاة والاذان في غاية الوضوح.
وأما في مثل غسل الجنابة، فكذلك أيضا على القول بثبوت الحقيقة الشرعية.
وأما على القول بعدمه، فبعد وجود القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي، وإرادة المعنى الشرعي، نحمله على المعنى الجديد الشرعي، لان نزاعهم ليس إلا أنه حقيقة في اصطلاح الشارع، أو مجاز، وكيف كان فهو معنى جديد مغاير للمعنى اللغوي ثبت لنا من استقرأ كلام الشارع، ولا يخفى على المطلع وسيجئ ما يفصل ذلك.
والحاصل أن الحقيقة المتشرعة في المعنى المستحدث من الشرع المعلوم إجمالا يقينية وإجماعية، وأمارات الحقيقة مثل التبادر، و عدم صحة السلب، وغيرهما متحققة فيها، ولا شك في أنه معنى مغاير للغوي والعرفي، سواء كان حقيقة شرعية، أم لا، ويفهم من مجرد اللفظ، أو بانضمام القرينة.
Page 99
وأما المعاملات فلم يتحقق فيها حقيقة المتشرعة، - كما هو ظاهر - مع أنه يكفي عدم الثبوت، والأصل بقاء المعنى على ما كان، وعدم النقل.
فظهر أن طريقة الاستدلال في العبادات مغايرة لطريقته في المعاملات، ومن لا يعرف الفرق بينهما ولا يميز يخرب في الفقه من أوله إلى آخره تخريبات كثيرة هذا حال الأحكام الشرعية، وموضوعاتها.
أما الاحكام الغير الشرعية وموضوعاتها فليست بتوقيفية، مثل الاحكام العادية، والعقلية والظنية، والمنطقية، وغير ذلك، إذ لا مانع من أن يقول هذا قبيح عندنا، أو في عادتنا، أو عندي مثلا، بعد أن لا يكون كذبا، وإن لم يكن قبيحا عند غيره أو في عادة غيره.
ولا مانع أيضا من متابعتها، والعمل بها ما لم يجعلها داخلة في الشرع، وما لم يرد عن العمل بها مانع من الشرع، لان الأصل عندنا براءة الذمة، كما ستعرف، بل مدار العالم في أمور المعاش على ذلك، بل و لا مانع من أن يجعل أحد أمرا وسيلة لنجاته بحسب استحسان عقله، بعد أن لا يدخله في الدين، ولا يدل على منعه مانع من الشرع.
Page 100
الفائدة الثالثة [عدم ثبوت مجموع الأجزاء الواجبة وشروطها من النص إلا نادرا] قد عرفت أن الموقف على النص ليس إلا نفس الحكم الشرعي و ماهية العبادات، لكن ثبوت ماهيتها من النص لا يكاد يمكن إلا بالنسبة إلى قليل منها.
نعم يثبت أجزاؤها غالبا من النص وأما مجموع الأجزاء الواجبة و شروطها - من حيث المجموع - فقل ما يثبت من النص.
ومنهم من يثبتها بضميمة أصل العدم، مع أن الأمور التوقيفية لا تثبت به ألا ترى أنهم لا يقولون: الامر حقيقة في الاذن لأصالة عدم مدخلية غيره في معناه، وكذا الحال في غيره من الألفاظ لا يثبتون معناها بضميمة الأصل أبدا مع جريانه فيه، وكذا معاجين الأطباء، و أدويتهم المركبة.
مع أن التمسك بالأصل موقوف على ثبوته حجية الاستصحاب، حتى
Page 101
في نفس الحكم الشرعي، لان حال العبادات حال نفس الحكم.
مع أنه ربما يعارضه أصالة عدم كونها العبادة المطلوبة، وأن شغل الذمة اليقيني مستصحب حتى يثبت خلافه، وهذا يعارض أصل البراءة أيضا لو تمسك به، ولا يثبت إلا بإجماع أو نص، والثاني مفقود، فتعين كون البيان بالاجماع.
ولا شك أن التي وقع الاجماع على كونها عبادة تكون العبادة المطلوبة، فإن الخطاب إنما يتعلق بما هو مثل المجمل، والامتثال ميسر بإتيان كل ما هو محتمل، فيصح التكليف وتعين ذلك الامتثال.
وربما يثبت الاجماع من تسليم المخالف: أنه لو لم يكن هذا المقتضي - أي مقتضي وجوب جز أو شرط أو فساد - لكانت العبادة صحيحة، ويثبت بطلان مقتضية وغفلته فيه، وربما لا يسلم ذلك صريحا لكن يظهر من كلامه فإنه أيضا كاف في ثبوت الاجماع.
ويمكن إثباتها من اصطلاح المتشرعة بأن يقال: المتبادر في اصطلاحهم هو هذا، فيكون حقيقة عند المتشرعة، فيكون مما ورد الامر به من الشارع أيضا.
أما على القول بثبوت الحقيقة الشرعية فظاهر. وأما على القول بالعدم فيكفي وجود القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي إذ سلم حينئذ أن المراد هو هذا المعنى الحقيقي عند المتشرعة، لان كثرة الاستعمال من الشارع فيه صار إلى حد اعتقد الفحول أنه صار اللفظ حقيقة فيه عند الشارع، فيترجح في النظر: أنه هو المراد، لا المعنى الذي لم يعهد من الشارع استعماله فيه، أو ندر استعماله فيه.
مع أن الحقيقة الشرعية عندنا ثابتة في زمن الصادقين عليهما السلام و من
Page 102
بعدهما، كما سيجئ، وقل ما نحتاج إلى أخبار غيرهم.
لكن الفقهاء من المتشرعة وقع بينهم نزاع في أن ألفاظ العبادات: هل هي أسام للصحيحة المستجمعة لشرائط الصحة، أم للأعم منها؟ فعلى هذا يشكل الثبوت من هذه الطريقة. هذا إذا وقع النزاع في شرائط الصحة.
وأما إذا وقع في الأجزاء فلا يمكن الثبوت مطلقا، سواء كانت أسام للصحيحة أو الأعم، فحينئذ ينحصر الثبوت في الاجماع.
وأما على تقدير كونها أسامي للأعم يسهل طريقة الاثبات، بل يصير حالها حال المعاملات من دون فرق، لكن الشأن في ثبوت ذلك.
حجة هذا المذهب: أنها تتصف بالصحة والفساد، وتنقسم إليهما و مورد القسمة أعم، وأنها تستعمل كثيرا في الأعم.
وفيه إن غاية ما ثبت منهما الاستعمال، وهو أعم من الحقيقية. إلا أن يدعى الظهور من الاخبار (لكن الشأن فيه لا الأول).
وحجة المذهب الأول: التبادر عند الاطلاق، وصحة السلب عن العاري عن الشرائط، وكون الأصل في مثل: (لا صلاة إلا بطهور الاستعمال في نفي الحقيقة، لأنه المعنى الحقيقي.
Page 104
الفائدة الرابعة [في جواز أخذ عنوان المعاملات من غير الشارع] قد عرفت أن موضوع الحكم إذا كان المعاملات يجوز أخذه من غير الشارع.
والدليل على ذلك قوله تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه.
وفي الحديث: (إن الله تعالى أجل من أن يخاطب قوما بخطاب ويريد منهم خلاف ما هو بلسانهم وما يفهمون).
وأيضا نجزم أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام إذا كانوا
Page 105
يتكلمون مع قوم ويخاطبونهم، ويكالمونهم لا يريدون منهم إلا ما هو مصطلحهم، وما يفهمونه، وما هو طريقتهم، وإلا لزم الاغراء بالجهل، وتكليف ما لا يطاق، وهما قبيحان قطعا.
وأيضا عمدة فائدة الرسول والإمام عليه السلام إبلاغ الاحكام، و تحصيل الانتظام للدنيا والآخرة، ولا يتأتى إلا بالمخاطبة والأفهام بها. ولا يحصل إلا بأن يريدوا منهم، ما هو مصطلحهم، وما يفهمون و ما هو طريقتهم.
وأيضا تتبع تضاعيف أحاديثهم يكشف عن ذلك مع أنه مجمع عليه بين المسلمين، بل وجميع المليين.
إذا عرفت هذا فاعلم أن الذي اقتضته الأدلة: هو حجية عرف الشارع و اصطلاحه مع الراوي المخاطب خاصة، وأنه هو الحجة في الأحاديث لا غير، لا اصطلاح أهل اللغة، ولا اصطلاح عرف زماننا، و لا العرف العام، ولا الخاص، ولا اصطلاح أحد آخر.
فإن ثبت اصطلاح الشارع فهو المطلوب، وإلا فيرجع إلى عرفنا، و نضم إليه أصالة عدم النقل، وعدم التغيير والتعدد وبقاء ما كان على ما كان، فنقول: معنى اللفظ على ما هو في عرفنا هذا كان كذلك في عرف زمان الشارع، وفي اصطلاحه أيضا، بل وفي اللغة أيضا كذلك، إلا أن المقصود هو اصطلاح الشارع.
أو نرجع إلى كلام اللغوي، ونقول: المظنون أنه صادق لكونه من أهل الخبرة ونضم إلى كلامه أصالة عدم معنى آخر غير ما ذكر أو أن المظنون عدمه، فيحصل في ظننا أنه هو المعنى الذي أراده الشارع هذا إذا كان معنى عرفنا، أو معنى عرف أهل اللغة واحدا.
وأما إذا كان معنى عرفنا أو معنى عرف أهل اللغة متعددا فنبذل الجهد
Page 106