بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين حمدا لا يقوى على إحصائه إلا هو، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين صلاة يرضون بها عنا منتهى الرضا، ويشفعون بها لنا، ونستعينه، ونستهديه، ونتوكل عليه، ولا حول ولا قوة إلا به، ولا خير إلا ما أعطى، ونسأله أن يوفقنا لما يرضى، وينفعنا بما وفق وهدى.
أما بعد:
فإنه لما بعد العهد عن زمان الأئمة عليهم السلام وخفي أمارات الفقه والأدلة، على ما كان المقرر عند الفقهاء، والمعهود بينهم بلا خفاء، بانقراضهم وخلو الديار عنهم، إليه أن انطمس أكثر آثارهم، كما كانت طريقة الأمم السابقة، والعادة الجارية في الشرائع الماضية أنه كلما يبعد العهد عن صاحب
Page 85
الشريعة تخفي أمارات، ويحدث خيالات جديدة، إلى أن تضمحل تلك الشريعة.
توهم متوهم: أن شيخنا المفيد رحمه الله، ومن بعده من فقهائنا إلى الان كانوا مجتمعين على الضلالة، مبدعين بدعا كثيرة غير عديدة ضالين مضلين، متابعين للعامة، مخالفين لطريقة الأئمة عليهم السلام، ومغيرين لطريقة الخاصة، مع غاية قربهم لعهد الأئمة عليهم السلام ونهاية جلالتهم وعدالتهم ومهارتهم في الفقه والحديث وتبحرهم و زهدهم وورعهم وتقواهم وتقدمهم، وكونهم المؤسسين لمذهب الشيعة، المروجين له في رأس كل مائة، المتكفلين لأيتام الأئمة عليهم السلام مع كونهم في غاية الفهم والفطانة والقوة القدسية، بل ربما كانوا في صغر سنهم كذلك، فضلا عن الكبر، وبناء شرع الشيعة من بعد غيبة إمامهم إلى الان على قولهم في أصول دينهم، وفروع مذهبهم في الاعصار والأمصار.
فمن هذا التوهم اجتراء كل من لا اطلاع له أصلا بمباني أدلة الفقه و قواعده، حتى أدخل نفسه في الفقه، وحصل لنفسه فقها جديدا من تركيبه مقدمتين:
الأولى: أن كل من ظن من جهة الأحاديث حكما، وفهم في نفسه منها أمرا يكون ذلك حجة له، ولا يجوز له تقليد غيره، لأنه فقيه.
الثانية: أن كل ما لم يظهر له وجهه، وما لم يفهمه مما ذكره الفقهاء لا أصل له. ويكتفي في ذلك بمن قال: ومن أين ثبت؟ فربما يعد نفسه أفقه من جميع فقهائنا، ويحكم بصحة فقهه الحاصل له من المقدمتين الفاسدتين، وبطلان فقه الفقهاء، وان كان ذلك أمرا متفقا عليه
Page 86
بينهم.
ولا يتأمل في أنه كيف يكون فكره - الواحد الفاتر، القاصر، البعيد العهد غاية البعد عن صاحب الشرع، الجاهل بجميع مباني أفهام الماهرين القريبي العهد، الذين هم أئمة في فن الفقه - صوابا؟ و الأفكار القوية المتراكمة الماهرة القريبة العهد - إلى غير ذلك مما أشرنا إليه - خطأ؟ ولو كان له إنصاف لحكم بكون فكره وهما من جهة مخالفته لها، كما هو الحال في سائر العلوم، والأمور التي مرجعها إلى أهل الخبرة، مع أنه وغيره من العقلا لا يختارون خلافهم، بل يتبعونهم، ويقلدونهم، ويعدون الراجح في نظرهم هو الذي اختاروه، وإن كان في ظن أنفسهم أن الامر ليس كما اختاروا، مع أنه لا يتأمل في أنه من أين ثبت أن كل من ظن حكما يكون حجة له؟
كيف؟ وهو مخالف للآيات والاخبار والاعتبار، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.
وإن توهم: أن المجتهد يعمل بظنه فهو توهم فاسد، لأنه في الحقيقة يعمل باليقين كما ستعرف.
هذا مع أنه ثبت بالأدلة أنه يجوز تقليد المجتهد، كما ستعرف إن شاء الله تعالى، ولم يثبت أن كل من ظن أمرا يكون ظنه حجة، فالتقليد على مثله واجب لازم بالنسبة إليه، صحيح البتة، لعموم الأدلة، بخلاف الاجتهاد لعدم الدليل، بل دليل العدم كما ستعرف. مع أنه لو تم لثبت حجية ظن الجهال والأطفال والنساء أيضا.
مع أنه لو ضاع من هؤلاء درهم أو فلس ليجتهدون غاية الجهد في
Page 87
تحصيله، ويشتدون في الطلب، ولا يسامحون، ولا يكتفون بقول من قال: ومن أين ثبت؟ ولا يقنعون بمجرد ذلك، بل يستفرغون الوسع في الفحص، حتى إنهم لو لم يجدوا لا يرفعون اليد عن الفحص، ويعملون على وفق مضمون:
(من طلب شيئا وجد وجد)، (وقرع بابا ولج ولج).
وأين الفقه عن الفلس؟ ولو عاملوا فيه معاملتهم في الفلس لوجدوا كما وجده المحققون الأعاظم، وصاروا بذلك فريدي دهرهم و عصرهم، مقبولين عند العالم.
نعم ربما يلاحظ بعضهم لكن بقلب آب قد اشرب في قلبه حب الشبهة الردية الماضية والآتية، فيصير في غاية الاباء، فلم يدرك شيئا.
ومعلوم أن القلب إذا كان بهذه المثابة لا يدرك البديهي، فضلا عن النظري، ولا يتفطن بالقطعي، فضلا عن الظني.
وشبهتهم الأخرى، وهي أيضا مخالفة للبديهة، وهي: أن رواة هذه الأحاديث ما كانوا يعملون بقواعد المجتهدين، مع أن الحديث كان حجة لهم، فنحن أيضا مثلهم لا نحتاج إلى شرط من شرائط الاجتهاد، و حالنا بعينه حالهم.
ولا يتفطنون أن الراوي كان يعلم أن ما سمعه كلام إمامه، وكان يفهم - من حيث إنه من أهل اصطلاح زمان المعصوم - مرامه، ولم يكن مبتلى
Page 88
بشئ من الاختلالات التي ستعرفها، ولا محتاجا إلى علاجها، وفي كل فائدة فائدة - مما سنذكره سوى الفائدة الأولى - ما ينادي بأعلى صوته: أن في الآيات والاخبار - بالنسبة إلينا - اختلالات بأنحاء شتى، فضلا عن مجموع الفوائد، وإنه لا بد من علاج تلك الاختلالات حتى يتمسك بها فلاحظ، سيما الفائدة الرابعة والسابعة وبعض آخر منها.
وعلى فرض أن الراوي كان مبتلى ببعضها كان يعرف علاجها البتة، و نحن نحتاج إلى المعرفة البتة.
وعلى فرض أن يكون الرواة ما كانوا عالمين بالعلاج، وكان عملهم بغير مستمسك شرعي لكان خطأ البتة، فكيف يصير متابعتهم حجة؟ وبالجملة نحن نجد بالعيان اختلالات لا تحصى: من جهة السند، ومن جهة المتن، ومن جهة الدلالة، ومن جهة التعارض، ومن جهة العلاج، ونشير إلى الكل مشروحا، وإلى علاجها، ووضع هذا الكتاب لأجل هذا، يسر الله تعالى لاتمامه وتشييده وتسديده على حسب ما يحب، وأن ينتفع منه المؤمنون الطالبون نفعا كاملا بالغا بمحمد و آله.
ولما كان تأليفي له حين التجائي إلى حرم سيد الشهداء وخامس آل العبأ - عليه وعلى آبائه وأبنائه والمستشهدين بين يديه، وعلى الملائكة الحافين حول حرمه الشريف ألف ألف تحية وسلام وصلاة وثناء - سميته ب (الفوائد الحائرية) على مشرفه ألف تحية.
Page 89