تمهيد
القسم الأول: فاطمة الزهراء
1 - أم الزهراء
2 - نشأتها
3 - زواجها
4 - بلاغتها
5 - في الحياة العامة
6 - وفاتها
7 - شخصية الزهراء
8 - الذرية الفاطمية
القسم الثاني: ... والفاطميون
9 - الفاطميون
10 - النسب
11 - الباطنية
12 - الباطنية الفاطمية
13 - حسن بن الصباح
14 - السرية الباطنية
15 - بناة وهدامون ومهدومون
16 - المعز لدين الله
17 - حضارة متحضرة
تمهيد
القسم الأول: فاطمة الزهراء
1 - أم الزهراء
2 - نشأتها
3 - زواجها
4 - بلاغتها
5 - في الحياة العامة
6 - وفاتها
7 - شخصية الزهراء
8 - الذرية الفاطمية
القسم الثاني: ... والفاطميون
9 - الفاطميون
10 - النسب
11 - الباطنية
12 - الباطنية الفاطمية
13 - حسن بن الصباح
14 - السرية الباطنية
15 - بناة وهدامون ومهدومون
16 - المعز لدين الله
17 - حضارة متحضرة
فاطمة الزهراء والفاطميون
فاطمة الزهراء والفاطميون
تأليف
عباس محمود العقاد
تمهيد
ترد الإشارة إلى الوراثة في مواضع شتى من هذه الصفحات التالية، ونعول عليها في مناسبات شتى لتفسير بعض الأطوار. ومنها أطوار الجماعات أو أطوار الحركات التاريخية.
وأراني أهم بأن أضرب المثل فأبدأ بنفسي وبأثر الوراثة في كتابة هذه الصفحات وكتابة كثير من الصفحات في الموضوعات الإسلامية، وما اتصل منها بالعترة
1
النبوية على التخصيص، ومن أمثالنا في الصعيد الأعلى ما معناه: أن البيت إذا احتاج إلى الخبز فهو أولى به من الجامع.
ولدت لأبوين من أهل السنة: أبي على مذهب الشافعي وأمي على مذهب أبي حنيفة، وفتحت عيني على الدنيا وأنا أراهما يصليان ويتيقظان قبل الفجر لأداء صلاة الصبح حاضرة، وربما زارنا أحد أخوالي في تلك الساعات المبكرة ذاهبا إلى المسجد القريب أو عائدا منه إلى داره.
وفتحت أذني كما فتحت عيني على عبارات الحب الشديد للنبي عليه السلام وآله، فمولد النبي حفلة سنوية في البيت نترقبها نحن الصغار ونفرح بها؛ لأننا نحن القائمون بالخدمة فيها. وأسماء النبي وآله تتردد بين جوانب البيت ليل نهار؛ لأنها أسماء إخوتي أجمعين: محمد وإبراهيم والمختار ومصطفى وأحمد والطاهر ويس، وشقيقتي الوحيدة اسمها فاطمة، واسمي أنا منسوب إلى عم النبي لا إلى الأمير الأسبق: عباس حلمي الثاني كما كان يتوهم بعض معارفي؛ لأنني ولدت قبل ولايته، وأبيت في المدرسة أن ألقب بلقب «حلمي» جريا على ما تعودته المدارس في تلك الحقبة، وبقيت منسوبا إلى اسم «محمود » وهو كذلك من أسماء النبي، ولم يكن لأبي إخوة، وإنما كانت أختاه الشقيقتان تسميان باسم نفيسة واسم زينب، وأولادهم ينادون بالأسماء التي تغلب عليها هذه النسبة الشريفة.
ورثت هذا الحب الشديد للنبي وآله عليهم سلام الله ورضوانه، وليس هذا الحب الشديد بالمستغرب من أهل السنة؛ لأنهم يدينون بدستور السنة النبوية، ولكنه كان في بيتنا أشبه بالعاطفة النفسية منه بالآداب المذهبية، فاستفدت منه كثيرا في دراسة تاريخ الإسلام.
استفدت منه أنني كنت شديد التريث في سماع كل دعوى من دعاوى السياسة القديمة التي كانت تقوم على إنكار حق، أو إنكار فضل؛ أو إنكار نسب، أو إنكار ما من ضروب الإنكار التي تمس تواريخ أهل البيت النبوي من بعيد أو قريب.
ولم أستفد منه بحمد الله كراهية أحد ذي حق أو ذي فضل؛ لأن قداسة العظمة الإنسانية تحجب عندي جميع هذه الصغائر التي تمس تواريخ العظماء أجمعين، وولعي بدراسة تواريخ العظماء من طفولتي الباكرة عصمني بحمد الله من غوائل
2
هذا الصغار.
3
ومن أثر هذه الوراثة في ذهني أنني لم أصدق ما كان في حكم الواقع المقرر عن سياسة الإمام، وأنه لم يكن له في السياسة نصيب، فبحثتها بحث الإشاعات، ولم أعطها من بادئ الرأي شأنا أكبر من الإشاعات التي تسري على الأفواه بغير دليل، أو يجيئها الدليل المختلق من صنع أصحاب المنافع والمآرب في سياسة الحاكم الغالب، فهم مدافعون عن أنفسهم باتهام الآخرين. •••
ومن أثر هذه الوراثة في ذهني أنني قارنت سير العظماء الإسلاميين و«النبويين» لأرضي ذهني، ولم يقنعني أن أرضى بها عاطفة لا أستمد من ذهني شواهدها وآياتها؛ فعظماء الإسلام عندي أعلام إنسانية باذخة تخولها مكان العظمة مناقب يكبرها المسلم وغير المسلم، وليست غاية الأمر فيهم أنهم أضرحة للتبرك وتلاوة الفاتحة والسلام.
وبهذه النزعة الموروثة أطرق باب الكلام في حياة الزهراء؛ فإنها - سلام الله عليها - قد تكتب لها ترجمة لأنها بنت محمد، أو تكتب لها ترجمة لأنها زوج علي، أو تكتب لها ترجمة لأنها أم الحسن والحسين وبنيهما الشهداء، ولكنها مع هذه الكرامة قد تكتب لها ترجمة لأنها هي فاطمة؛ ولأنها هي مصدر من مصادر القوة التاريخية التي تتابعت آثارها في دعوات الخلافة من صدر الإسلام إلى الزمن الأخير. •••
وهذا الذي قصدت إليه بكتابة هذه السيرة، وبالبحث عن مكان الصلة بينها وبين المنتسبين إلى فاطمة، وعلى قلة الأخبار التي حفظت عن شخص فاطمة - عليها السلام - أرجو أن أكون على نهج التوفيق فيما أمكنني أن أستخلصه من ملامح هذه السيرة المباركة ومعالمها.
ونعود إلى الوراثة فنقول: إن أول ما نضيفه إلى بيان قوة اليقين، أو بيان القوة الإيمانية في نفس الزهراء، أنها ورثتها من أم وأب، وقد غطى ميراثها من أبيها على كل ميراث، ولكنه إذا اقترن بالميراث من أمها فقد بلغت أصالته مدى متصل الآثار فيما ورثته هي، وفيما توارثه الأعقاب من بعدها، وما أخلده من ميراث!
القسم الأول
فاطمة الزهراء
الفصل الأول
أم الزهراء
حفظ التاريخ لنا قليلا من أخبار السيدة خديجة - أم الزهراء - رضي الله عنهما، ولكن هذا القليل كاف للتعريف بها، وبما يمكن أن تورثه بنيها من الخلائق والسجايا؛ لأنه يعطينا منها صورة كاملة لا تزيدها الإفاضة في الأخبار إلا في التفصيل.
ومن جملة الأخبار القليلة التي حفظت لنا نعلم أن الزهراء أنجبتها أم ذات فطنة ورجاحة، وأنها رضي الله عنها كانت غنية اليد غنية النفس بأكرم العواطف الأنثوية: عاطفة المحبة الزوجية، وعاطفة الأمومة، وعاطفة الإيمان.
كانت تسمى في الجاهلية بالطاهرة وسيدة نساء قريش؛ لأنها جمعت إلى مكانة النسب العريق مكانة الثروة الوافرة ومكانة الخلائق الموقرة، وأهلها جميعا لم يحفظ التاريخ سيرة أحد منهم إلا كان علما في الحكمة والدراية، أو في الشجاعة والشمم، كورقة بن نوفل وأسرة الزبير بن العوام.
ولدت لأبوين كلاهما من أعرق الأسر في الجزيرة العربية، وكلاهما ينتهي نسبه إلى لؤي بن غالب بن فهر؛ بل كانت أمها تنتسب من ناحية أمها كذلك إلى هذا النسب المعرق في النبل والسيادة، فهي فاطمة بنت هالة التي ينتهي نسبها كذلك إلى لؤي بن غالب، وهالة بنت قلابة التي ينتهي نسبها إلى ذلك الجد الأعلى، وقد اجتمع لها مع النبل مكانة الثروة الوافرة كما تقدم، فكانت قافلتها إلى الشام تعدل قوافل قريش أجمعين في كثير من الأعوام.
وأهم من هذا جميعه بالنسبة إلى زوجة نبي، وإلى جدة الأئمة من بيت النبوة، أنها كانت مفطورة على التدين وراثة وتربية.
فأبوها خويلد هو الذي نازع تبعا الآخر حين أراد أن يحتمل الركن الأسود معه إلى اليمن، فتصدى له ولم يرهب بأسه غيرة على هذا المنسك
1
من مناسك دينه. وقال السهيلي في الروض الأنف: «إن تبعا روع في منامه ترويعا شديدا حتى ترك ذلك وانصرف عنه» فلا يبعد أن روعة خويلد ومرآه وهو ينذر العاهل بالغضب الإلهي إذا أقدم على فعلته قد شغل قلب التبع فتراءى له من المخوفات في منامه ما أرهبه وثناه عن عمله.
وابن عم السيد خديجة هو ورقة بن نوفل الذي رجعت إليه حين بدا لها من اضطراب النبي عليه السلام عند مفاجأته بالوحي ما أزعجها، فركبت إلى ورقة تسأله لعلمه بالدين وعكوفه على دراسة كتب النصارى واليهود، ولم تكن الكهانة الدينية وظيفة ينتفع بها صاحبها؛ إذ لم يكن في مكة مسيحيون يرجعون بأمرهم إلى كاهن أو كنيسة، وإنما كان عكوف الرجل على دراسة الدين لطبيعة فيه توحي إليه الشك في عبادة الأصنام، وتجنح به إلى البحث والمراجعة عسى أن يهتدي إلى عقيدة أفضل من هذه العقيدة. وينسب إليه شعر كان يقوله في الجاهلية يشبه شعر أمية بن أبي الصلت، ويروي كتاب السيرة أنه استغرب علم السيدة خديجة باسم جبريل حين ذكرته له، وقال لها: «إنه السفير بين الله وبين أنبيائه، وإن الشيطان لا يجترئ أن يتمثل به ولا يتسمى باسمه.»
وقد جاء حديث ورقة مع السيدة خديجة على روايات مختلفة، لا يعنينا أن نستقصيها؛ لأن المهم في الأمر هو وجود هذا الشغف بمدارسة الأديان بين بني عم السيدة الأقربين، فهذا وانفراد أبيها بين زعماء مكة بالوقوف لعاهل اليمن والمخاطرة بنفسه غيرة منه على مناسك الكعبة كافيان للإبانة عن طبيعة التدين التي ورثتها الأسرة، من كان منهم على الجاهلية، ومن تحول عنها إلى النصرانية.
ويؤخذ من أخبار السيدة خديجة الأخرى أنها كانت على علم بكل من يطالع كتب المسيحية والإسرائيلية؛ لأنها لم تكتف بسؤال ابن عمها بل سألت غيره ممن كانت لهم شهرة بالاطلاع على التوراة وكتب الأديان.
وقد روي عنها كلام قالته للنبي عليه السلام حين فاجأه الوحي فعاد إليها، وقال لها: «لقد خشيت على نفسي!» فكان كلامها - الذي أرادت أن تسري به عنه وتثبت به جنانه - آية على العلم بلباب الدين علما يستكثر على الناشئين في أديان الجاهلية، فإن الدين لا يعدو أن يكون عندهم كهانة وسحرا، ولكنها أدركت من حقيقة الدين ما لا يدركه عامة قومها، فعلمت أنه فضيلة، وأن النبي الجدير أن يندب له هو الرجل الذي اتسم بالفضيلة، وقالت للنبي وقد آمنت أنه وحي وليس بعارض من عوارض الجنة: «كلا! والله ما يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل،
2
وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة.»
علامات للنبوة لا يدركها كل من يسمع بالدين، ولولا أنها عرفت من أبناء عمومتها من كان يفهم النبوة هذا الفهم لما كانت هذه علاماتها لتصديق الدعوة وصرف الوجل والخشية عن نفس زوجها الكريم.
وهي على هذا طبيعة مميزة، وليست طبيعة منساقة إلى السماع والتقليد، فمما نقل عنها أنها طلبت إلى النبي عليه السلام أن يخبرها إذا جاءه جبريل، فلما أخبرها قالت له: «قم فاجلس على فخذي اليسري» ففعل، فقالت: «هل تراه؟» قال: «نعم». قالت: «فتحول إلى فخذي اليمنى» وسألته: «هل تراه؟» قال: «نعم». فألقت خمارها
3
وسألته، فقال: «الآن لا أراه». قالت: «يا ابن العم اثبت وأبشر، فإنه ملك وما هو بشيطان.»
وهذا الاختبار غاية ما كان ينتظر من سيدة في عصرها أن تمتحن به حقيقة الوحي. ولا غرابة فيه عند المسلم وعند غير المسلم في العصر الحاضر، فإن البديهة لا تشتغل بالوحي الديني والنظر إلى جسد الأنثى في وقت واحد، ولا سيما بعد الحوار وإعادة السؤال مرة بعد مرة، فلا موجب إذن لشك المتشككين من المتحذلقين في صحة هذه الأحاديث.
وقد رزقت هذه السيدة البارة صباحة الوجه مع ما رزقته من الخلق الجميل والحسب الأثيل
4
والمال الجزيل، وصدق من قال: إن السعادة لا تتم، فإن هذه السيدة التي تم لها غاية ما تتمناه المرأة لم تتم لها نعمة السعادة في حياتها الزوجية، فإنها تزوجت في صباها برجل من هامات
5
مكة هو أبو هالة بن زرارة، فمات ولها منه ولد صغير سمي باسم هند (لعله دفعا لأذى الحسد)، وهو الذي تربى مع السيدة فاطمة وقتل في جيش الإمام في وقعة الجمل على أرجح الأقوال، ويؤثر عنه أوفى وصف للنبي رواه سبطه الحسن عليهما صلوات الله.
ثم بنى بها عتيق بن عائذ بن عبد الله المخزومي، واختلفوا في أي زوجيها كان الأول، ولكنه على كل حال زواج لم يكتب له الدوام، وقد أعرضت عن الزواج بعد هذين الزوجين حتى عرض لها في حياتها الرجل الذي أصبحت بفضله علما من أعلام النساء في التاريخ، ولا شيء أدل على رجاحة لبها من أناتها
6
في اختيار زوجها، مع تهافت الخطاب عليها ورجوع الأمر إليها فيما تختار.
أما كيف اتصل النبي عليه السلام بالعمل في تجارتها، فتكاد الأقوال تتفق على أنه كان بمشورة من عمه أبي طالب، وأن أبا طالب قال له في سنة من السنين: «يا ابن أخي، أنا رجل لا مال لي وقد اشتد علينا الزمان، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيرها فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك.» وقد تردد النبي في مفاتحتها بهذا الطلب فذهب إليها أبو طالب، فأجابته على رضى وكرامة، وقالت له: «لو سألت ذلك لبعيد بغيض لأجبناك، فكيف وقد سألت لقريب حبيب؟»
وقد سافر النبي إلى الشام وباع واشترى وربح لها أضعاف ما كانت تربح في كل عام، وأعجبها منه أنه حين عاد من السفر وكل إلى غلامها ميسرة - الذي كان بصحبته - أن يسبقه ليبشرها بعودة القافلة ووفرة كسبها، فأكبرت منه مروءته وأمانته وحذقه، وأحبته وودت لو يخطبها مع الخطاب، وعرضت له بذلك في حديث أقرب إلى التلميح منه إلى التصريح.
وأحجم النبي حياء، وأحجمت هي عن التصريح، ثم أوعزت إلى صديقة لها - هي نفيسة بنت منية - أن تشجعه على الخطبة، فسألته نفيسة ذات يوم: «ما يمنعك أن تتزوج؟» قال: «قلة المال». قالت: «فإن كفيت ودعيت إلى المال والجمال والكفاءة؟» قال: «ومن تكون؟» قالت: «خديجة!» قال: «فاذهبي فاخطبيها.»
وروى الزهري صاحب أقدم السير أن «رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال لشريكه الذي كان يتجر معه في مال خديجة: «هلم فلنتحدث عند خديجة»، وكانت تكرمهما وتتحفهما، فلما قاما من عندها جاءت امرأة مستنشئة
7 - هي الكاهنة - فقالت له: جئت خاطبا يا محمد؟ فقال: «كلا». فقالت: ولم؟ فوالله ما في قريش امرأة - وإن كانت خديجة - إلا تراك كفؤا لها.»
وأشبه الأشياء بأن يكون - بين الروايات المتعددة - أن النبي عليه السلام كاشف رئيس أسرته أن يتقدم لخطبتها ففعل وخطبها خطبة عزيز قوم لعزيزة قوم، وقال وهو يفاتح عمها في الأمر: «إن محمدا ممن لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به شرفا ونبلا وفضلا وعقلا، وإن كان في المال قلا فإنما المال ظل زائل وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك» فقال عمها عمرو، أو ابن عمها ورقة بن نوفل في رواية أخرى: «هو الفحل الذي لا يقدع أنفه».
8
وكانت أول امرأة تزوجها رسول الله، ولم يتزوج عليها في حياتها إلى أن قارب الخمسين.
ومن خديجة ولد للنبي جميع أبنائه ما عدا إبراهيم ابنه من مارية القبطية، وهم: القاسم، والطاهر، والطيب، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، أصغرهم باتفاق معظم الأقوال.
وكان النبي عليه السلام عند زواجه بالسيدة خديجة في نحو الخامسة والعشرين من عمره، أما السيدة خديجة فمن كتاب السيرة من يقول: إنها كانت في الأربعين أو الخامسة وأربعين، ومنهم ابن عباس يقول : «إنها كانت في الثامنة والعشرين ولم تجاوزها». وأحرى بهذه الرواية أن تكون أقرب الروايات إلى الصحة؛ لأن ابن عباس كان أولى الناس أن يعلم حقيقة عمرها، ولأن المرأة في بلاد كجزيرة العرب يبكر فيها النمو ويبكر فيها الكبر لا تتصدى للزواج بعد الأربعين، ولا يعهد في الأغلب الأعم أن تلد بعدها سبعة أولاد، عدا من جاء في بعض الروايات أنهم ولدوا مع من ذكرنا أسماءهم.
وقد يرجح تقدير ابن عباس غير هذا أن مثل خديجة تتزوج في نحو الخامسة عشرة أو قبلها لجمالها ومالها وعراقة بيتها وطمأنينة أهلها، فلا تتجاوز الخامسة والعشرين بعد زواجين لم يكتب لهما طول الأمد، وإن كنا لا نعرف على التحقيق كم من السنين دام زواجها من أبي هالة ومن عتيق بن عائذ، فمن الكلام عن ذريتها منهما يبدو أن أيامها معهما لم تزد على بضعة أعوام.
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم .
وأمامنا ألف مصداق على هذه الآية في سيرة الرسول العظيم الذي تنزلت عليه تلك الحكمة الإلهية.
لقد تأخرت به قلة المال فلم يتزوج قبل العشرين، خلافا لما جرى عليه العرف بين علية القوم، وهو من تلك العلية في الذؤابة
9
العليا.
ولقد عزت الهناءة الزوجية على السيدة الغنية الوضيئة
10
الذكية، فتأيمت
11
في نحو الثلاثين.
ولو كثر مال محمد لعله كان يبني قبل العشرين بكريمة معشر تصغره ببضع سنين، وكان هذا هو الحظ السعيد في عرف كل إنسان عاقل رشيد.
ولو تيسرت الهناءة الزوجية لخديجة لعلها كانت في غنى عمن يتجر لها ويؤتمن على قوافلها بين الحجاز والشام، ولكان لها من مالها ومال زوجها عون في الرحلة والمقام، وكان هذا هو الحظ السعيد في عرف كل إنسان عاقل رشيد.
أيهما كان خيرا؟
هذا الذي كان كما كان، أو ذاك الذي كان يحسبه كل عاقل رشيد صفوة الحظ الحسن الرشيد؟!
لم تمض سنوات على هذه الآصرة
12
القدسية التي جمعت بين الزوجين الكريمين حتى طرأ طارئ لم يدخل لهما في حساب، واستجاش الغيب نفس رسوله فتحفزت لأداء الأمانة الجلى التي جاشت بها جوانح الدنيا مئات السنين.
فلم يجد محمد إلى جانبه فتاة غريرة تفزع ولا تدري ما تصنع، بل وجد إلى جانبه قلبا كريما وروحا عظيما وسكنا تهدأ عنده جائشة ضميره وتطمئن إليه خشية فؤاده، ولم يكن قصارى الأمان عند حليلته التي سكن إليها أنها حنكة السن وحنان الأمومة، ولكنه أمان الذي يعرف من نشأته ونشأة آله ما الرسالة وما أمانة الحق والفضيلة، وما عاقبة الصبر على العرواء
13
التي تندك لها عزائم وتطيش لها أحلام، ولا يتلقاها كما يتلقى البشارة المفرحة إلا من هو كفؤ لها من بني آدم وحواء.
وكل ما علمناه من سيرة خديجة عليها الرضوان خليق على قلته أن يجعلها بحق سيدة نساء قريش، ولكن هذا القليل الذي علمناه لو ذهب كله ولم يبق منه إلا أيام حضانتها لبشائر النبوة في طلعتها لضمن لها أن تتبوأ مقام السيادة بين نساء العالمين.
وقد بقي محمد يذكر لها تلك الأيام إلى مختتم أيامه، وظل يتفقدها ويتفقد مواطن ذكراها أعواما بعد أعوام، لقد كان فيها الشغل الشاغل عن أطيب الأيام وأصعب الأيام. وإن وفاء كهذا لهو وحده كفاية المستقصي في التعريف بحقها من زوجة بارة وأم رءوم، فما من شهادة لإنسانة هي أصدق من دوام الوفاء لها في قلب إنسان عظيم.
الفصل الثاني
نشأتها
إذا وصفت نشأة الزهراء بكلمة واحدة تغني عن كلمات فالجد هو تلك الكلمة الواحدة.
درجت في دار أبويها، والدار يومئذ مقبلة على أمر جلل لم تتجمع بوادره في غير تلك الدار، وغار حراء.
أمر جلل لا تقف جلالته عند جدران الدار، ولا عند أبواب المدينة التي اشتملت عليها، ولا عند حدود الجزيرة العربية بعمارها وقفارها، بل هو الأمر الجلل الذي يطبق العالم بأسره عصورا وراء عصور؛ لأنه هو أمر الدعوة الإسلامية التي كانت يومئذ تختلج في صدر واحد، هو صدر أبي الزهراء عليه السلام.
ما هذه الصلوات والتسبيحات؟ ما هذه الهينمة
1
بين الأبوين؟ ما هذا الوجل وما هذا القنوت؟
2
أكبر الظن أن الطفلة الصغيرة لم تستغرب شيئا من هذا؛ لأن الطفل لا يستغرب الأمر إلا إذا رأى ما يخالفه، وهي لم تفتح عينيها على غير هذه البوادر والمقدمات.
أكبر الظن أن الزهراء الصغيرة لم تستغرب شيئا مما كان يحيط بها وهي تدرج في مهدها، ولكن الطفل الذي يحسب هذه المشاهد من مألوفاته ينفرد بمألوفات لا تتكرر من حوله، ويتخذ له قياسا للألفة والغرابة منفردا بين أقيسة النفوس.
وأكبر الظن أنه ينشأ منطويا على نفسه، مستخفا بما يخف له الناس من حوله، متطلبا من عادات النفوس وطبائعها غير ما يتطلبون.
وقد أوشكت الزهراء أن تنشأ نشأة الطفل الوحيد في دار أبويها؛ لأنها لم تجد معها غير أخت واحدة ليست من سنها، وغير أخيها هند، وهو أكبر منها ومن أختها، ولم يكن من عادة الطفولة العربية أن يلعب البنات لعب الصبيان.
وأوشكت عزلة الطفلة الوحيدة أن تكبر معها؛ لأنها لم تكن تسمع عن ذكريات إخوتها الكبار إلا ما يحزن ويشغل؛ ماتوا صغارا وخلفوا في نفوس الأبوين لوعة كامنة وصبرا مريرا، أو تزوج من الأخوات الأحياء من تزوج وخطب من خطب، ثم لم تلبث الخطبة أن ردت إلى أختين؛ لأنهما خطبتا إلى ولدي أبي لهب، ثم أصبح أبو لهب عدوا للأبوين يمقتهما ويمقتانه، فانتهت خطبة الأختين الشقيقتين بهذا العداء.
جد من كل جانب تركن إليه، وانطواء على النفس لا تستغربه ولا تحب أن تتبدله، ملاذها في كل هذا حنان أبوين لا كالآباء: حنان جاد رصين، ونكاد نقول: بل حنان صابر حزين، يشملها به الأب الذي مات أبناؤه ولا عزاء له من بعدهم غير عبء النبوة الذي تأهب له زمنا ونهض به زمنا، ولا يزال يعاني من حمله ما تنوء به الجبال، وتشملها به الأم التي جاوزت الأربعين وبقيت لها في خدرها هذه البنية الدارجة صغرى ذريتها، والحنان على الصغرى من الذرية بعد فراق الذرية كلها بالموت أو بالرحلة حنان لعمر الحق صابر حزين.
ولقد نعمت الزهراء بهذا الحنان من قلبين كبيرين: حنان أحرى به أن يعلم الوقار ولا يعلم الخفة والمرح والانطلاق.
وتعلمت الزهراء في دار أبويها ما لم تتعلمه طفلة غيرها في مكة: آيات من القرآن وعادات يأباها من حولهم العابدون وغير العابدين.
ولكنها قد تعلمت كذلك كل ما يتعلمه غيرها من البنات في حاضرة الجزيرة العربية، فلا عجب أن نسمع عنها بعد ذلك أنها كانت تضمد جراح أبيها في غزوة أحد، وأنها كانت تقوم وحدها بصنيع بيتها ولا يعينها أحد في أكثر أيامها.
ويبدو لنا انطواء الزهراء على نفسها من الأحاديث المروية عنها، فلم تعرض قط لشيء غير شأنها وشأن بيتها، ولم تتحدث قط في غير ما تسأل عنه أو يلجئها إليه حادث لا ملجأ منه، فلا فضول هنالك في عمل ولا في مقال.
وسواء صح ما جاء في الأنباء عن محاجتها للصديق بالقرآن الكريم أو كان فيه مجال للمراجعة، فالصحيح الذي لا مراجعة فيه أنها سمعت القرآن الكريم من النبي وسمعته من علي، وأنها صلت به ووعت أحكام فرائضه، وأنها وعت كل ما وعته فتاة عربية أصيلة العرق والنسب، وزادت عليه ما لا يعيه غيرها من الأصيلات المعرقات.
لقد نشأت نشأة جد واعتكاف:
3
نشأة وقار واكتفاء، وعلمت مع السنين أنها سليلة شرف لا منازع لها فيه من واحدة من بنات حواء فيمن تراه، فوثقت بكفاية هذا الشرف الذي لا يدانى، وشبت بين انطوائها على نفسها واكتفائها بشرفها كأنها في عزلة بين أبناء آدم وحواء.
سكنت هذه النفس القوية جثمانا يضيق بقوتها، وقلما رزق الراحة من اجتمع له النفس القوية والجثمان الضعيف، فإنهما مزيج متعب للنفس والجسم معا، لا قوام له بغير راحة واحدة: هي راحة الإيمان، وهذا هو التوفيق الأكبر في نشأة الزهراء، فإنها نشأت في مهد الإيمان؛ إذ هو ألزم ما يكون لها بين قوة نفسها ونحول جثمانها.
الفصل الثالث
زواجها
قال الزرقاني في شرح المواهب اللدنية: «إن عبد الله بن حسن دخل على هشام بن عبد الملك وعنده الكلبي، فقال هشام لعبد الله: يا أبا محمد! كم بلغت فاطمة من السن؟ قال: ثلاثين سنة. فقال الكلبي: خمسا وثلاثين. فقال هشام: اسمع ما يقول، وقد عني بهذا الشأن. فقال: يا أمير المؤمنين: سلني عن أمي وسل الكلبي عن أمه.»
وتوافق هذه الرواية روايات متعددة، اتفقت على أن الزهراء ولدت في سنة بناء الكعبة قبل البعثة المحمدية ببضع سنوات، فأصح الأقوال بين الأخبار المتضاربة أنها عليها السلام قد تزوجت وهي في نحو الثامنة عشرة.
ومن جملة الأخبار يتضح أن النبي عليه السلام كان يبقيها لعلي رضي الله عنه؛ فقد خطبها أبو بكر وعمر، فردهما وقال لكل منهما: أنتظر بها القضاء، أو قال: إنها صغيرة كما جاء في سنن النسائي.
وفي أسد الغابة أنها لما خطبها أبو بكر وعمر وأبى رسول الله قال عمر: «أنت لها يا علي!» فقال علي: «ما لي من شيء إلا درعي أرهنها»، فزوجه رسول الله فاطمة، فلما بلغ ذلك فاطمة بكت، ثم دخل عليها رسول الله فقال: «مالك تبكين يا فاطمة! فوالله لقد أنكحتك أكثرهم علما وأفضلهم حلما وأولهم سلما.»
وفي رواية أن عليا لما سأله النبي: «هل عندك من شيء؟» قال: «كلا». فقال له: «وأين درعك الحطمية؟» أي التي تحطم السيوف، وكان النبي قد أهداه إياها، فباعها وباع أشياء غيرها كانت عنده، فاجتمع له منها أربعمائة درهم.
جاء في أنساب الأشراف للبلاذري: «فباع بعيرا له ومتاعا فبلغ من ذلك أربعمائة وثمانين درهما، ويقال: أربعمائة درهم، فأمره أن يجعل ثلثها في الطيب وثلثها في المتاع ففعل.»
ثم استطرد صاحب الأنساب إلى رواية أخرى، يرتفع سندها إلى علي نفسه قال: سمعت عليا عليه السلام يقول: «أردت أن أخطب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ابنته، فقلت: والله ما لي شيء، ثم ذكرت صلته وعائدته فخطبتها إليه». فقال: «وهل عندك من شيء؟» قلت: «لا» قال: «فأين درعك يوم كذا؟ فقلت: هي عندي! قال: فأعطها إياها.»
وفي طبقات ابن سعد أن رسول الله قال لما خطب أبو بكر وعمر فاطمة: «هي لك يا علي! لست بدجال» يعني لست بكذاب. وذلك أنه كان وعد عليا بها قبل أن يخطبها.
ويروى عن النبي أنه قال لفاطمة: «ما أليت
1
أن أزوجك خير أهلي.»
وجهزت وما كان لها من جهاز غير سرير مشروط ووسادة من أدم حشوها ليف ونورة من أدم (إناء يغسل فيه) وسقاء ومنخل ومنشفة وقدح ورحاءان وجرتان.
وعن أنس بن مالك أن النبي قال له: انطلق وادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وبعدتهم من الأنصار، قال: فانطلقت فدعوتهم، فلما أخذوا مجالسهم قال
صلى الله عليه وسلم : «الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع لسلطانه، المهروب إليه من عذابه، النافذ أمره في أرضه وسمائه، الذي خلق الخلق بقدرته، وميزهم بأحكامه، وأعزهم بدينه، وأكرمهم بنبيه محمد
صلى الله عليه وسلم . إن الله عز وجل جعل المصاهرة نسبا لا حقا ولا أمرا مفترضا وحكما عادلا وخيرا جامعا، أوشج
2
بها الأرحام، وألزمها الأنام. فقال الله عز وجل:
وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا ، وأمر الله يجري إلى قضائه، وقضاؤه يجري إلى قدره، ولكل أجل كتاب، يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، ثم إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة من علي، وأشهدكم أني زوجت فاطمة من علي، على أربعمائة مثقال فضة إن رضي بذلك على السنة القائمة والفريضة الواجبة، فجمع شملهما وبارك لهما وأطاب نسلهما، وجعل نسلهما مفاتيح الرحمة ومعادن الحكمة وأمن الأمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.»
قال أنس: «وكان علي عليه السلام غائبا في حاجة لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد بعثه فيها. ثم أمر لنا بطبق فيه تمر فوضع بين أيدينا، فقال: انتبهوا. فبينما نحن كذلك إذ أقبل علي فتبسم إليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وقال: «يا علي! إن الله أمرني أن أزوجك فاطمة، وإني زوجتكها على أربعمائة مثقال فضة»، فقال علي: رضيت يا رسول الله! ثم إن عليا خر ساجدا شكرا لله، فلما رفع رأسه قال الرسول
صلى الله عليه وسلم : «بارك الله لكما وعليكما، وأسعد جدكما، وأخرج منكما الكثير الطيب».»
قال أنس: «والله لقد أخرج منهما الكثير الطيب.»
ومن المرجح جدا أن الزهراء قد استشيرت في زواجها على عادة النبي عليه السلام في تزويج كل بنت من بناته كما جاء في مسند ابن حنبل، فيقول لها: فلان يذكرك، فإن سكتت أمضى الزواج، وإن نقرت الستر علم أنها تأباه، وفي زواج الزهراء قال لها: يا فاطمة! إن عليا يذكرك. فسكتت، وفي روايات أخرى أنه وجدها باكية، فذاك حيث قال رسول الله: «ما لك تبكين تبكين يا فاطمة! فوالله لقد أنكحتك أكثرهم علما، وأفضلهم حلما، وأولهم سلما.»
ولم يجمع كتاب السيرة على الوقت الذي تم فيه الزواج، ولكنهم قالوا: إنه كان بعد الهجرة، وبعد غزوة بدر. وأرجح الأقوال كما قدمنا أنها كانت في نحو الثامنة عشرة، وزوجها أكبر منها ببضع سنوات.
توخينا في اقتباس هذه الأخبار أن نرجح منها الأوسط الأمثل بين أقوال الرواة والمحدثين، فما من خبر من هذه الأخبار وصل إلينا في كتب السيرة على رواية واحدة، وقد يبلغ الفرق في بعض المسائل التي تتعلق بالزمن خمس سنوات أو أكثر، ويبلغ الفرق في بعض المسائل التي تتعلق بالأقوال والأعمال أن تتناقض مناقضة القبول والإباء والرضى والإنكار، فلا مناص من الأخذ بالأوسط الأمثل بين جميع هذه الأقوال.
ونحن نعني بالأوسط الأمثال أن يكون الترجيح قائما على المقابلة والموازنة والرجوع إلى حوادث الزمن وعادات أهله، وإلى الأحرى أن يصدر ممن أسند إليهم القول أو نسب إليهم العمل؛ فإن الأخبار إذا تساوت رجح بينها ما هو أشبه بالزمن وأهله وأصحاب السيرة فيه.
فمن المعقول مثلا أن يؤثر النبي عليا بفاطمة وهما ربيبان في بيئة واحدة، ومن المعقول أن يؤثر زواجها من علي على مشاركتها في بيت أبي بكر وعمر لزوجات الشيخين، ومن المعقول أن يتردد علي في خطبتها لفقره. ولا يخالف المعقول ولا المألوف أن يقدم بعد تردد، لشعوره بأنه مخصوص بها وأنه ينبغي عليه أن يقطع الشك باليقين ويعمل من عنده ما لا بد له من عمله ، ولا يخالف المعقول ولا المألوف كذلك أن يتأخر الزواج إلى ما بعد الهجرة؛ لأن حياة المسلمين في مكة - قبل الهجرة إلى المدينة - لم تكن حياة أمن ولا استقرار، ولم يكن من النادر أن يهاجر المسلمون بزوجاتهم إلى بلد بعيد كالحبشة كلما ملكوا وسائل الهجرة، فمن كان متزوجا قبل اشتداد العنت على المسلمين فلا حيلة له في الزواج، ومن لم يكن فليس أخلق به من إرجاء الزواج إلى حين.
ذلك كله هو المعقول المألوف، وهو الأوسط الأمثل إذا تساوت الأخبار ووجبت الموازنة والترجيح.
إلا أن التاريخ يكتب للاعتبار، ولا يقصد من الاعتبار به شيء أهم من تصحيح النظر إلى الحوادث والناس، واستخلاص الحقيقة عما يقع ولا يقع وعما يجوز ولا يجوز.
وها هنا محل لعبرتين كأهم العبر في كتابة التاريخ: كتابته في الأزمنة الغابرة، وكتابته في الزمن الحديث.
فأهم العبر التي تستخلص من تواريخ عصر البعثة المحمدية أن يقتصد ذوو الأحكام التاريخية في المسائل الكبرى، فلا يرتبوا حكما قاطعا في مسألة كبيرة على أرقام السنين وألفاظ الروايات، فما كان من الأخبار مجمعا عليه أو مقاربا للإجماع فهو جدير باتخاذ الأحكام الجازمة فيه، وما كان ميزان الحكم فيه كلمة تقابلها كلمات، أو فرضا تقابله فروض، أو رقما ويوما تقابله أرقام وأيام بل أعوام، فليس من القصد أن يعطى فوق معياره من الجزم واليقين، وبخاصة حين ينبني عليه اتهام أو قضاء لا يقوم في مسائل كل يوم بغير بينة تنفي كل شبهة وتبطل كل محال.
أما العبرة في تاريخنا العصري فمرجعها إلى كتابة طائفة من العصريين يزعمون أنهم يطبقون روح العصر على تاريخنا القديم وأنهم يصححونه بهذا التطبيق، وليس أعجز منهم عن تحقيق هذه الدعوى؛ لأنهم أثبتوا فيما كتبوه أنهم يزنون بميزانين وينظرون بعينين، ويختلقون أسباب التشويه والتحريف.
أولئك هم طائفة المستشرقين الذين يجمعون بين الاستشراق والتبشير، فمن هؤلاء من يطالع في الكتب الدينية التي يصدقها، فيقرأ فيها من أخبار الدعاة والأدعياء أمورا لا شك في أنها من العيوب فلا يحسبها عيوبا، ولا يتأفف منها، بل يعنت فكره ويعنتها تخريجا وتعويجا حتى يقبلها، ويفرض قبولها على الناس.
فإذا طالع كتبا عن أصحاب دين غير دينه لم يأخذ نفسه بمثل هذا التحسين والتزيين، بل أخذها على النقيض من ذلك بالمسخ والتشويه وتحويل المحاسن إلى عيوب، أو بالتنقيب في كل مكان عما يعاب إن لم يجد ما يعيبه في ظاهر السطور والحروف.
وما من شيء يمسخ الدين ويمسخ العلم معا كما يمسخهما هذا الخلق الذميم، فإن الدين لا يعلم الإنسان شيئا إن لم يعلمه حب الصدق واجتناب التمحل
3
والافتراء، وإن العلم شر من الجهل إن كان يسوم الإنسان أن يغمض عينيه لكيلا يرى ويوصد أذنيه لكيلا يسمع، فليس هذا جهلا يزول بكشف الحقيقة، ولكنه مرض يتعمد حجب الحقيقة عن صاحبه وهي مكشوفة لديه، فهو شر من الجهل بلا مراء.
وفي تاريخ الزهراء مثال للعبرة التي تستخلص من كتب هؤلاء «العلماء» الذين هم شر من الجهلاء، وأحدهم قد خصص كتابا لتاريخ الزهراء يحاول فيه جهده أن «يطبق» ذلك العلم العصري المقلوب، فإذا هو منقلب عليه.
يؤلف رجل من رجال الدين المستشرقين الذين عاشوا زمنا في الشرق - كتابا عن الزهراء ليرضي فيه ذلك «العلم العصري» المقلوب، ويبحث عن العيوب حيث لا عيوب، فإذا العيب هو في الإسفاف، وكم في الإسفاف من عيوب، بل من ذنوب!
ومن تفاهاته وسفاسفه
4
أنه يحاول جهده أن يثبت أن السيدة فاطمة لم تتزوج قبل الثامنة عشرة؛ لأنها كانت محرومة من الجمال، ولم تصدق أن أحدا يخطبها بعد تلك السن، ثم يقول: إنها لما عرض عليها النبي الزواج من علي سكتت هنيهة ولكنها لم تسكت خجلا بل دهشة من أن يخطبها خاطب، ثم تكلمت فشكت؛ لأنها تزوج من رجل فقير.
لو كان السند الذي استند إليه هذا «العالم» واضحا ملزما لقلنا: إنها أمانة العلم، ولا حيلة للعالم في الأمانة العلمية.
لكن السند كله قائم على أن السيدة فاطمة تزوجت في الثامنة عشرة من عمرها، وتقابله أسناد أخرى تنقضه وتتراءى للمؤلف حيثما نظر حوله ولكنه لا يحب أن يراها؛ لأنه يحب أن يرى ما يعيب ولا يحب أن يرى ما لا عيب فيه.
فالمشهور المتواتر أن السيدة فاطمة ولدت لأبوين جميلين، وأن أخواتها تزوجن من ذوي غنى وجاه، كأبي العاص بن الربيع وعثمان بن عفان.
وليس من المألوف أن يكون الأبوان والأخوات موصوفين بالجمال وأن تحرمه إحدى البنات!
والمشهور المتواتر أن السيدة فاطمة بلغت سن الزواج والدعوة المحمدية في إبانها، والمسلمون بين مهاجر أو مقيم غير آمن، والحال قد تبدلت بعد الدعوة المحمدية فأصبحت خطبة المسلمات مقصورة على المسلمين، وهؤلاء المسلمون قلة، منهم المتزوج ومنهم من لا طاقة له بالزواج، فلا حاجة بالمؤلف إلى البحث الطويل ليهتدي إلى السبب الذي يؤخر زواج بنت النبي إلى الثامنة عشرة، ولو كانت أجمل الجميلات.
وفي وسعه كذلك أن يتصور أن النبي يخص بها ابن عمه، وينتظر بها يوم البت حين تهدأ الحال ويستعد ابن عمه للزواج ويستقر على حال بينه وبين آله الذين لا يزالون على دين الجاهلية، فلا هم في ذلك الوقت ذووه ولا هم بعداء عنه.
كل ذلك قريب كان في وسع «العالم المحقق» أن يراه تحت عينيه، قبل أن يذهب إلى العلة التي اعتلها لتأخير الزواج، فلا يرى له من علة غير فقدان الجمال. ولكن الأسباب الواضحة القريبة لا يلتفت إليها؛ لأنها لا تعيب، والسبب الخفي البعيد تشوبه غضاضة،
5
فهو الجدير إذن بالالتفات.
وكأنما كان «العالم المحقق» في حاجة إلى جهالة فوق جهالته، فهو يفهم من بكاء السيدة فاطمة أنه شكاية من فقر علي بن أبي طالب، ويسند هذا الفهم إلى رواية البلاذري في أنساب الأشراف، بعد زعمه أن فاطمة أبلغت زواجها بعلي فسكتت من الدهشة لا من الخجل، وإنما دهشت؛ لأنها لم تكد تصدق أن أحدا يخطبها بعد أن قاربت العشرين.
أفمن المألوف أو من التطبيق العلمي أن تكون الفتاة يائسة من الزواج، مدهوشة من خطبة الخطيب، ثم تتعلل العلل وتفرض الشروط وتستعظم نفسها على بني عمومتها الفقراء، وليست هي يومئذ من الأغنياء ؟
كلا! ليس ذلك بالمألوف ولا بالتطبيق العلمي، ولكنه تمحل للظن فضيلته الكبرى أنه يشتمل على مساس بفاطمة وعلي. فهو إذن أحق بالترجيح من كل تقدير مألوف.
والبلاذري - بعد - لم يذكر شيئا من هذا، وليس في كلامه عن مناقب علي أو فاطمة شيء من قبيل الجواب الذي ينسب إلى الزهراء غير روايته الحديث بسنده وهو: «حدثنا عبد الله بن صالح عن شريك عن أبي إسحاق عن حبشي بن جنادة قال: لما زوج رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أرعدت، فقال: «اسكتي! فقد زوجتك سيدا في الدنيا، وإنه في الآخرة لمن الصالحين».»
هذا ما وجدناه في النسخة المنقولة من مخطوطة الأستانة، ومن المطبوعة في أوربا، فتفسير «الرعدة» بذلك المعنى إنما هو من إبداع المؤلف الحصيف!
هذا مثال من تحقيق هؤلاء المحققين حين يكتبون عن تاريخ أعلام الشرق وحوادثه، نمر به لعبرته النافعة في وزن التواريخ العصرية المزعومة، ولا ننبه إليه لقول قائل: إن السيدة فاطمة كانت محرومة من الجمال. فإنه لو صح لما كان فيه مهانة على سيدة شرفتها أكرم الأبوات كما شرفتها أكرم البنوات، ولكننا ننبه إليه؛ لأنه عبرة المعتبرين فيما يصنعه العقل بنفسه حين يمسخه مرض الأهواء، فيفتري على العلم والدين ما تأباه أمانة العلم، ويعافه أدب الدين.
ونعود إلى قياس الأخبار بالموازنة أو بما هو مألوف ومعقول، فنقول: إننا بحثنا عن خبر من أخبار زواج البنات في آل محمد وآل علي، فلم تجد في عصر النبوة غير واحد على قبيل الخبر الذي قيل فيه: إن السيدة فاطمة أشارت إلى فقر علي حين بلغت خطبته لها، وهو تزوج السيدة أم كلثوم.
وبين الخبرين، مع هذا، بون بعيد.
جاء في أسد الغابة عن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب أنه قال: «لما تأيمت أم كلثوم من عمر بن الخطاب دخل عليها حسن وحسين أخواها فقالا: «إنك ممن قد عرفت سيدة نساء المسلمين وبنت سيدتهن، وإنك والله إن أمكنت عليا من رمتك لينكحك بعض أيتامه، وإن أردت أن تصيبي بنفسك مالا عظيما لتصيبنه»، فوالله ما قاما حتى طلع علي يتكئ على عصاه، فجلس فحمد الله وأثنى عليه وذكر منزلتهم من رسول الله وقال: قد عرفتم منزلتكم عندي يا بني فاطمة وأثرتكم على سائر ولدي لمكانكم من رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: صدقت رحمك الله، فجزاك الله عنا خيرا. فقال: أي بنية! إن الله عز وجل قد جعل أمرك بيدك، فأنا أحب أن تجعليه بيدي. فقالت: أي أبة! إني امرأة أرغب فيما يرغب فيه النساء، وأحب أن أصيب مما تصيب النساء من الدنيا، وأنا أريد أن أنظر في أمر نفسي. فقال: لا والله يا بنية! ما هذا من رأيك. ما هو إلا رأي هذين! ثم قام فقال: والله لا أكلم رجلا منهما أو تفعلين، فأخذا بثيابه فقالا: اجلس يا أبة، فوالله ما على هجرتك من صبر. اجعلي أمرك بيده. فقالت: قد فعلت! قال: فإني قد زوجتك من عون بن جعفر، وإنه لغلام، وبعث لها بأربعة آلاف درهم.»
هذه المؤامرة المحببة بين أخوين وأختهما ليسعداها بزواج أرغد من الزواج الذي يختاره أبوهم - تنتهي بطاعة الحب للأب الذي لا يصبر على غضبه، وتدل في سرها وعلانيتها على أجمل ما يكون بين الإخوة والآباء من عطف وتوقير. وليس فيها من الشبه برواية البلاذري غير إشفاق الفتاة من عيشة الضنك دون أن يكون هناك خطيب معروف تقابل خطبته بالاعتراض والمراجعة، وشتان مقال أم كلثوم وما رواه الرواة عن أمها البتول.
6
فإذا كان للخبر الذي جاء في أنساب الأشراف أصل يعول عليه فأصله فيما هو مألوف ومعقول أن يكون النبي عليه السلام قد وجد الزهراء باكية وليس في ذلك من غرابة؛ لأننا لا نتخيل فتاة في مثل موقفها لا يبكيها ما تثيره في نفسها ذكرى أمها ووداع بيت أبيها، وقد فارقتها أمها وهي صبية تدرك ما فقدته من عطفها وبرها وإلطافها لها في رخائها وعسرها، ثم يكون يوم الفصال في غربة من البيت الذي لزمتها فيه ومن البلد الذي يحتويه، فإن جهدنا أن نتخيل فتاة لا تبكي حي تحوم بنفسها تلك الذكريات، وتقترب من اليوم الفاصل بين معيشتها في كنف أبيها ومعيشتها في غير كنفه، فموضوع الغرابة أن نتخيلها بعد الجهد غير باكية وغير آسية، ولا سيما من كانت مثل الزهراء مجبولة على مزاج حزين وأسى دفين على أمها العزيزة لم يفارقها مدى السنين.
ومثل النبي الذي كانت كبرى فضائله أنه إنسان عظيم، وأنه كان أبا مكلوم الفؤاد، لن يفوته ذلك الخاطر في ذلك اليوم، ولن يسكت عنه إلا عامدا عالما بما يلعجه
7
في النفس من الحزن والشجن، فمن اللطف بالفتاة الحزينة أن يتحاشاه وأن يجعل عزاءه لها ما قاله عليه السلام: «مالك تبكين يا فاطمة! فوالله لقد أنكحتك أكثرهم علما، وأفضلهم حلما، وأولهم سلما.»
ولم يمض غير قليل حتى تبين لنا سبب من الأسباب التي أطالت بقاء فاطمة في بيت أبيها، فإنه عليه السلام كان يحنو عليها لضعفها وحزنها ولا يصبر على فراقها، فلما تحولت عن داره بعد زواجها لم تمض أيام حتى ذهب إليها فقال لها: إني أريد أن أحولك إلي. فقالت: فكلم حارثة بن النعمان أن يتحول عني. قال رسول الله: قد تحول حارثة بن النعمان عنا حتى استحيت منه. فبلغ ذلك حارثة فتحول وجاء النبي فقال: يا رسول الله! إنه بلغني أنك تحول فاطمة إليك، وهذه منازلي، وهي أسقب بيوت بني النجار بك، وإنما أنا ومالي لله ولرسوله، والله يا رسول الله للمال الذي تأخذ مني أحب إلي من الذي تدع. فقال رسول الله: صدقت. بارك الله عليك! فحولها رسول الله إلى بيت حارثة.
جاء في كتاب السمهودي عن أخبار دار المصطفى: «إن بيت فاطمة رضي الله عنها في الزور الذي في القبر بينه وبين بيت النبي
صلى الله عليه وسلم
خوخة.
8
وكانت فيه كوة إلى بيت عائشة رضي الله عنها، فكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إذا قام اطلع من الكوة إلى فاطمة فعلم خبرهم، وإن فاطمة رضي الله عنها قالت لعلي: إن ابني أمسيا عليلين، فلو نظرت لنا أدما نستصبح به؛ فخرج علي إلى السوق فاشترى لهم أدما وجاء به إلى فاطمة، فاستصبحت. فأبصرت عائشة المصباح عندهم في جوف الليل - وذكر كلاما وقع بينهما - فلما أصبحوا سألت فاطمة النبي
صلى الله عليه وسلم
أن يسد الكوة فسدها.»
إلى أن قال ما خلاصته من جملة أسانيده: «إنه
صلى الله عليه وسلم
كان يأتي باب علي وفاطمة وحسن وحسين كل يوم عند صلاة الصبح حتى يأخذ بعضادتي
9
الباب ويقول: السلام عليكم أهل البيت، ويقول: الصلاة! ثلاث مرات، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا. وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم يثني بفاطمة، ثم يأتي بيوت نسائه.»
وأسند يحيى عن محمد بن قيس قال: «كان النبي
صلى الله عليه وسلم
إذا قدم من سفر أتى فاطمة فدخل عليها وأطال عندها المكث، فخرج مرة في سفر وصنعت فاطمة مسكتين
10
من ورق
11 (بكسر الراء) وقلادة وقرطين وسترت باب البيت لقدوم أبيها وزوجها، فلما قدم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
دخل عليها وقف أصحابه على الباب لا يدرون أيبقون أم ينصرفون لطول مكثه عندها، فخرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وقد عرف الغضب في وجهه حتى جلس على المنبر، ففطنت فاطمة أنه فعل ذلك لما رأى من المسكتين والقلادة والستر. فنزعت قرطيها وقلادتها ومسكتيها ونزعت الستر وبعثت به إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وقالت للرسول: قل له: تقرأ عليك ابنتك السلام وتقول لك: اجعل هذا في سبيل الله. فلما أتاه قال: قد فعلت، فداها أبوها، ثلاث مرات، ليست الدنيا من محمد ولا من آل محمد، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء.»
وانتظمت الحياة في السكن الجديد الذي أوى إلى ظل النبي على مثال من حياة النبي في بيته: عيشة كفاف وخدمة يتعاون عليها رب البيت وربته، إذ كان رزق علي من وظيفة الجندي، ووظيفته من فيء الجهاد، وقد كان قليلا في حياة النبي، وهو مقصور على الجزيرة العربية، فكان نصيب علي منه أقل من أن يتسع لأجرة الخدم، وكلما رزق وليدا جاءته حصته على قدر شأنه كشأن كل أب من المسلمين.
وما لبث البيت الصغير أن سعد بالذرية، وقد رزق الأبوان الفقيران نصيبا صالحا من البنين والبنات: الحسن والحسين ومحسن، وزينب وأم كلثوم.
وكان أسعد ما يسعدان به عطف الأب الأكبر الذي كان يواليهم به جميعا ولا يصرفه عنه شاغل من شواغله الجسام في محتدم الدعوة والجهاد، وقد أوشكت كل كلمة قالها في تدليل كل وليد أو الترحيب به أن تصبح تاريخا محفوظا في الصدور والأوراق.
فلما ولد الحسن سماه والداه حربا، فجاء رسول الله فقال: أروني ابني، ما سميتموه؟ قالوا: حرب! قال: بل هو حسن، وهكذا عند مولد الحسين، وعند مولد المحسن، وقد مات وهو صغير.
وكان يدلل الطفل منهم ويستدرجه، فربما شوهد وهو يعلو بقدمه الصغيرة حتى يبلغ بها صدر النبي، والنبي يرقصه ويستأنسه ويداعب صغره وقصره بكلمات حفظها الأبوان، ولم يلبث أن حفظها المشرقان: «حزقة
12
حزقة. ترق، ترق عين بقة.»
وربما شوهد النبي عليه السلام ساجدا وطفل من هؤلاء الأطفال راكب على كتفيه، فيتأنى في صلاته ويطيل السجدة لكيلا يزحزحه عن مركبه، وفي إحدى هذه السجدات يقول عمر بن الخطاب للطفل السعيد: المطية مطيتك!
بل ربما كان على المنبر، فيقبل الحسن والحسين يمشيان ويتعثران، فيسبقه حنانه إليهما وينزل من المنبر ليحملهما، وهو يقول: «صدق الله العظيم! إنما أموالكم وأولادكم فتنة!»
وكان إذا سمع أحدهما يبكي نادى فاطمة وقال لها: «ما بكاء هذا الطفل؟ ألا تعلمين أن بكاءه يؤذيني؟»
وقد جعل من عادته أن يبيت عندهم حينا بعد حين، ويتولى خدمة الأطفال بنفسه وأبواهم قاعدان. ففي إحدى هذه الليالي سمع الحسن يستسقي فقام صلوات الله عليه إلى قربة فجعل يعصرها في القدح ثم جعل يعبعبه، فتناول الحسين فمنعه وبدأ بالحسن، قالت فاطمة: كأنه أحب إليك؟ قال: إنما استسقى أولا!
وقد يلفهم جميعا في برد واحد فيقول لهم: «أنا وأنتم يوم القيامة في مكان واحد.»
وكانت هذه الأبوة الكبيرة أعز عليهم جميعا من أبوة الأب الصغير، فكانت فاطمة تقول إذا رقصت طفلها:
وا بأبي شبه النبي
لست شبيها بعلي
وكانوا يتغايرون على هذا تغاير المحبين الذين يتنافسون على حب لا يمنع بعضهم بعضا أن يتنافسوا عليه. •••
حياة سعيدة مع الشظف والفاقة؛ سعيدة بالعطف في قلوب كبار، ما كان حطام الدنيا عندها ليساوي مثقال ذرة من هباء.
ولم تخل هذه الحياة، وما خلت حياة آدمي قط، من ساعات خلاف وساعات شكاية، فربما شكت فاطمة وربما شكا علي، وربما أخذت فاطمة على قرينها بعض الشدة، وما هي بشدة، فما كان رجل مثل علي ليعنف بنت رسول الله وهو يعلم مكانها من قلب رسول الله؛ إنما هو اعتزاز فاطمة بنفسها وإباؤها أن تهمل حيث كانت، وإنما هو الحنان الذي تعودته من أبيها فلا تستريح إلى ما دونه، وكل حنان بعد حنان ذلك القلب الكبير فكأنه قسوة أو قريب من القسوة عند من يتفقده فلا يجد نظيره في قلب إنسان.
وكان الأب الأكبر يتولى صلحهما في كل خلاف، وربما ترك مجلسه بين الصحابة ليدخل إلى الأخوين المتخاصمين فيرفع ما بينهما من جفاء. والصحابة الذين يتتبعون في وجه النبي كل خالجة من خوالج نفسه، ويبيحون أنفسهم أن يسألوه؛ لأنه لا يملك من ضميره ما يضن به على المتعلم والمتبصر، يجرون معه على عادتهم كلما دخل البيت مهموما وخرج منه منطلق الأسارير، فيسألونه فيجيب: «ولم لا وقد أصلحت بين أحب الناس إلي!»
ومرة من هذه المرات، بلغ العتاب غاية ما يبلغه من خصومة بين زوجين، ونمى إلى فاطمة أن عليا يهم بالزواج من بنت هشام بن المغيرة، فذهبت إلى أبيها باكية تقول: «يزعمون أنك لا تغضب لبناتك؟»
كلمة تعلم وقعها في نفس أبيها الذي ما زعمت هي قط أنه يرضى بما يغضبها، وقد عرف أبوها ما تعني؛ لأن بني هشام بن المغيرة استأذنوه في تزويج بنتهم من زوج فاطمة، فصعد المنبر والغضب باد عليه، وقال على ملأ من الحاضرين: «ألا إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم عليا، ألا وإني لا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن، إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها.»
ولا نعلم نحن من شرح هذه الخطبة غير ما جاء في رواياتها المختلفة، ولكننا نعلم أن هذه الفتاة أسلمت وبايعت النبي وحفظت عنه، فلعلها قد خيف عليها الفتنة أن تتزوج بغير كفء من المسلمين، وأهلها هم من هم في المكانة والحسب لا يرضيهم من هو دون ابن أبي طالب من ذوي قرابتها، أو لعلها غضبة من غضبات علي على أنفة من أنفات فاطمة، أو لعلها نازعة من نوازع النفس البشرية لم يكن في الدين ما يأباها، وإن أباها العرف في حالة المودة والصفاء.
ولا نحسب أن حياة الزهراء والإمام تعرضت لخلاف غير الذي أشرنا إليه، فإن كتب السيرة تستقصي كل جليل ودقيق من الحديث عن ذرية النبي. وهي وأبناؤها كل ذرية النبي الذين عاشوا بعده، ولم يطل بها العمر فلحقت بالنبي صلوات الله عليه بعد وفاته ببضعة أشهر، وكان علي قد عاهد نفسه لا يغضبنها وقد غابت عنها عين أبيها، فلم يغضبها بعد ذلك حتى في أمر الخلافة، وهو يومئذ أجل الأمور.
الفصل الرابع
بلاغتها
قال الإمام أبو الفضل أحمد بن طاهر في كتاب بلاغات النساء: «لما أجمع أبو بكر رضي الله عنه على منع فاطمة بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فدك، وبلغ ذلك فاطمة لاثت خمارها على رأسها، وأقبلت في لمة من حفدتها تطأ ذيولها، ما تخرم من مشية رسول الله
صلى الله عليه وسلم
شيئا حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار، فنيطت دونها ملاءة ثم أنت أنة أجهش القوم لها بالبكاء وارتج المجلس، فأمهلت حتى سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم، فافتتحت الكلام بحمد الله والصلاة على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عادت في كلامها فقالت: «
قد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ، فإن تعزوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم، فبلغ الرسالة صادعا بالنذارة، مائلا عن مدرجة المشركين، ضاربا لثجنهم
1
آخذا بكظمهم، يهشم الأصنام، وينكت الهام، حتى هزم الجمع وولوا الدبر، وتفرى الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقائق الشياطين، وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطريق
2
وتقتاتون القد، أذلة خاشعين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله برسوله
صلى الله عليه وسلم
بعد اللتيا والتي، وبعد ما مني ببهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب، كلما حشوا نارا للحرب أطفأها، ونجم قرن للضلال، وفغرت فاغرة من المشركين قذف بأخيه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بخمصه، ويخمد لهيبها بسيفه، مكدودا في ذات الله، قريبا من رسول الله، سيدا في أولياء الله، وأنتم في بلهنية وادعون آمنون، حتى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه، ظهرت خلة النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الآفلين، وهدر فنيق
3
المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه، صارخا بكم، فوجدكم لدعائه مستجيبين، وللغرة فيه ملاحظين، فاستنهضكم فوجدكم خفافا، وأحمشكم فألفاكم غضابا، فوسمتم غير إبلكم، وأوردتموها غير شربكم، هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل».»
إلى أن قالت: «وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا! أفحكم الجاهلية تبغون؟!
ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ؟! أيها المسلمة المهاجرة، أأبتز إرث أبي؟ أفي الكتاب أن ترث أباك ولا أرث أبي؟
لقد جئت شيئا فريا ، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، و
لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون .»
ثم انحرفت إلى قبر النبي
صلى الله عليه وسلم
وهي تقول:
قد كان بعدك أنباء وهنبثة
لو كنت شاهدهم لم تكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها
واختل قومك فاشهدهم ولا تغب
هذه رواية لخطاب الزهراء، وفي الكتاب نفسه رواية أخرى مخالفة في لفظها ومعناها للرواية السابقة، وقبل إيراد الروايتين قال أبو الفضل: ذكرت لأبي الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم كلام فاطمة عليها السلام، وقت له: إن هؤلاء - يشير إلى قوم في زمانه يغضون من قدر آل البيت - يزعمون أنه مصنوع وأنه من كلام أبي العيناء، فقال لي: رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم، ويعلمونه أبناءهم، وقد حدثنيه أبي عن جدي يبلغ به فاطمة عليها السلام على هذه الحكاية، ورواه مشايخ الشيعة وتدارسوه بينهم قبل أن يولد جد أبي العيناء، وقد حدث به الحسن بن علوان عن عطية العوفي أنه سمع عبد الله بن الحسن يذكره عن أبيه. ثم قال أبو الحسن: وكيف يذكر هذا من كلام فاطمة فينكرونه وهم يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة، يتحققونه لولا عداوتهم لنا أهل البيت؟
ونسبت إلى السيدة فاطمة أبيات من الشعر قالتها بعد موت أبيها صلوات الله عليه، وأنها بعد دفنه أقبلت على أنس بن مالك فقالت: «يا أنس! كيف طابت أنفسكم أن تحثوا
4
على رسول الله التراب؟» ثم بكت ورثته قائلة:
اغبر آفاق السماء وكورت
5
شمس النهار وأظلم العصران
فالأرض من بعد النبي كئيبة
أسفا عليه كثيرة الرجفان
فليبكه شرق البلاد وغربها
ولتبكه مضر وكل يمان
وليبكه الطود المعظم جوده
والبيت ذو الأستار والأركان
يا خاتم الرسل المبارك ضوءه
صلى عليك منزل القرآن
ووقفت على قبر النبي وأخذت قبضة من تراب القبر فوضعها على عينيها وبكت وأنشأت تقول:
ماذا على من شم تربة أحمد
أن لا يشم مدى الزمان غواليا
6
صبت علي مصائب لو أنها
صبت علي الأيام صرن لياليا
وقالت على قبره أيضا:
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها
وغاب مذ غبت عنا الوحي والكتب
فليت قبلك كان الموت صادفنا
لما نعيت وحالت دونك الكثب
7
ومضى آنفا أنها تمثلت بعد خطابها عن فدك ببيتين من البحر والقافية مع تكرار شطر منهما وهما:
قد كان بعدك أنباء وهنبثة
لو كنت شاهدهم لم تكثر الخطب
أنا فقدناك فقد الأرض وابلها
واختل قومك فاشهدهم ولا تغب
وفيهما كما يرى القارئ إقواء، لأن الباء مضمومة في روي البيت الأول مكسورة في روي البيت الثاني، ولعل شطرا منهما حل محل شطر في نقل الرواية. •••
نقول: إن الخلاف في أمر هذه الخطب وهذا الشعر كثير، ولا نحب أن نخوض فيه؛ لأنه خلاف على غير طائل، وقد يحسمه أن نذكر في هذا الباب ما يقل فيه الخلاف بين جميع النقاد، فإنه أجدى من اللهو في جدال لا سند له، يسلمه جميع المخالفين.
فيقل الخلاف ولا شك حين نذكر أن ذلك الخطاب ليس مما يبدر من اللسان عفو الخاطر، وإن قائله يعده في نفسه قبل إلقائه كما كان يصنع الخطباء قبل استخدام الكتابة في التحضير.
ويقل الخلاف ولا شك حين نذكر أن سامع هذا الخطاب لا يستظهره عند سماعه، فإن حفظه فإنما يحفظه منقولا أو مكتوبا بعد حفظه.
فإذا قل الخلاف في هذا فعلام إذن يكثر الخلاف؟
أتراه يكثر حين يقال: إن السيدة فاطمة تحسن هذه البلاغة وتستطيعها حين تحتفل لها وتعدها في خلدها؟
إن هذا النصيب من البلاغة إذا استكثر على السيدة فاطمة فما من أحد في عصرها لا يستكثر عليه.
لقد نشأت وهي تسمع كلام أبيها أبلغ البلغاء، وانتقلت إلى بيت زوجها فعاشت سنين تسمع الكلام من إمام متفق على بلاغته بين محبيه وشانئيه، وسمعت القرآن يرتل في الصلوات وفي سائر الأوقات، وتحدث الناس في زمانها بمشابهتها لأبيها في مشيتها وحديثها وكلامها، ومنهم من لا يحابيها ولا ينطق في أمرها عن الهوى.
جاء في الجزء الثالث من العقد الفريد عن «الرياشي عن عثمان بن عمرو عن إسرائيل بن ميسرة بن حبيب، عن المنهال بن عمرو، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: «ما رأيت أحدا من خلق الله أشبه حديثا وكلاما برسول الله
صلى الله عليه وسلم
من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه أخذ بيدها فقبلها ورحب بها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه ورحبت به وأخذت بيده وقبلتها، فدخلت عليه في مرضه الذي توفى فيه، فأسر إليها فبكت، ثم أسر إليها فضحكت، فقلت: كنت أحسب لهذه المرأة فضلا على النساء فإذا هي واحدة منهن، بينما هي تبكي إذا هي تضحك. فلما توفى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
سألتها فقالت: أسر إلي فأخبرني أنه ميت فبكيت، ثم أسر إلي إني أول أهل بيته لحوقا به فضحكت».»
وما قالته السيدة عائشة عن المشابهة بين الزهراء وأبيها قيل على ألسنة الثقات جميعا، ويزاد عليه في حديث السيدة عائشة أن امرأة في فضلها واعتزازها بنفسها كانت ترى للزهراء فضلا على سائر النساء في حلمها ورصانتها. ففيم يكثر الخلاف على مثل ذلك النصيب من البلاغة إذا نسب إليها؟ ولماذا تستعظم البلاغة على من نشأت سامعة لحديث محمد مطبوعة على مشابهته في حديثه؟ ولماذا تستعظم على زوجة الإمام الذي كان المتفقون على بلاغته أكثر من المتفقين على شجاعته، وهي مضرب الأمثال؟ ولماذا تستعظم على سامعة القرآن الكريم بالليل والنهار مع الذكاء واللب الراجح؟
أما نسبة الشعر إلى الزهراء فالخطب فيه أهون من ذلك، فهو لا يسلكها في الشاعرات إن ثبت، ولا يضيرها إن لم يثبت، ونحن إلى جانب الشك الكبير فيه أقرب منا إلى جانب القبول، وليس بعيدا على غير الشاعر أو الشاعرة أن يدير في فمه أبياتا يحكي بها حزنه وبثه، فإن النظم هنا أقرب إلى لغة العاطفة وعادة النحيب، ولكن السيدة فاطمة كان لها من الاعتبار بآيات من القرآن في مقام الموت غني عن نظم الأبيات أو التمثل بها في مقام العبرة والرثاء.
الفصل الخامس
في الحياة العامة
مضت السنون والسيدة فاطمة على دأبها الذي عهدناه عاكفة على بيتها، تزيدها عكوفا عليه تربية الأبناء وخدمة البيت التي تنفرد بها ولا تجد معينا عليها في كثير من الأيام غير زوجها.
ثم توفي النبي صلوات الله عليه، فأقامتها الحوادث فجأة على غير مرادها في معترك الحياة العامة أو الحياة السياسية كما نسميها في أيامنا، ولم يكن لها منصرف عن ذلك المعترك في تلك الآونة؛ لأن الخلاف فيها كان خلافا على ميراث أبيها، ميراث الخلافة، وميراث التركة القليلة التي أعقبها.
ومسألة الخلافة في يوم وفاة النبي إحدى المسائل التي طال فيها الجدل، ولا يعسر على المنصفين أن يخرجوا من ذلك الجدل الطويل على رأي متفق عليه، وذاك أن الخطر الأكبر في ذلك اليوم إنما كان من فتنة السقيفة: سقيفة بني ساعدة، حيث اجتمعت قبائل الخزرج بزعامة شيخها سعد بن عبادة، تطلب الإمارة، ثم نصح لهم عويم بن ساعدة باختيار أبي بكر للخلافة، فأعرضوا عنه ونبذوه، ثم خطر لذي رأي منهم أن يقسمها شطرين: أمير من الأنصار وأمير من المهاجرين، وما برح سعد بن عبادة على جلالة شأنه في قومه نافرا من البيعة لأبي بكر بعد انعقادها وهو يأبى إلا أن «يستبد الأنصار بهذا الأمر دون الناس؛ فإنه لهم دون الناس». ثم أصر على إبائه حين انفض جمع السقيفة وجاءه الرسل يدعونه للمبايعة فعاوده الغضب وقال لهم: «أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل وأخضب سنان رمحي»، وناشدوه أن لا يشق عصا الجماعة فعاد يقول: «إني ضاربكم بسيفي ما ملكته يدي، مقاتلكم بولدي وأهل بيتي ومن أطاعني من قومي. وايم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي.»
ثم كان ثمة خطر لا يقل عن هذا الخطر في حاضره ولا في مغبته لو لم يعجل له العاملون بما يقطع دابره،
1
وهو خطر الفتنة التي راح أبو سفيان يحضأ
2
نارها بين علي والعباس، وبين بني هاشم وسائر بطون قريش، يعد قوما بنصرة بني أمية ونصرة قريش من ورائها، ويوسوس لقوم آخرين بمثل هذا الوعد أو بمثل هذا الوعيد، وما كان من همه أن ينصف بني هاشم ولا أن يؤيد الأنصار، وإنما أراد الوقيعة التي يخذلهم بها جميعا ويخرج منها بالسيادة الأولى التي كانت له على قريش في الجاهلية.
وما من شك في خطر هذه الفتنة من أبي سفيان ولا خطر تلك الفتنة من سقيفة بني ساعدة، فانحسمت الفتنة بانعقاد البيعة لأبي بكر، ولم يطلبها، بل كان مشتغلا بدفن الرسول. ودعي إلى السقيفة مرتين وهو لا يعلم فيم يدعى ويعتذر باشتغاله ويغضب لدعوته، حتى هم عمر بمبايعة أبي عبيدة بن الجراح قبل أن ينشعب الجمع في السقيفة بين الخزرج والأوس والأنصار والمهاجرين، وقبل أن تنجح المسعاة من أبي سفيان في خفائها، وقد كاد أن يعلنها.
وكان علي في تلك الساعة العصيبة إلى جوار الجثمان الطاهر المسجى في حجرته، فدخل عليه أبو سفيان قائلا: «يا أبا الحسن! هذا محمد قد مضى إلى ربه، وهذا تراثه لم يخرج عنكم، فابسط يدك أبايعك!»
ويقول عمه العباس: «يا ابن أخي، هذا شيخ قريش قد أقبل، فامدد يدك أبايعك ويبايعك معي. فإنا إن بايعناك لم يختلف عليك أحد من بني عبد مناف، وإذا بايعك عبد مناف لم يختلف عليك قريشي، وإذا بايعتك قريش لم يختلف عليك بعدها أحد من العرب.»
فيجيبه علي: «لا والله يا عم! إني لأكره أن أبايع من وراء رتاج.»
ولقد كان أحكم في جوابه هذا من شيخ الدهاة من بني هاشم وشيخ الدهاة من بني أمية، فما للخلافة معدى عنه إن كانت ولاية عهد يعلمها جميع المسلمين، وما للبيعة هناك جدوى إن تمت وراء رتاج وانشقت بعدها عصا المبايعين والمعارضين.
ولقد تمت البيعة على الوجه الذي عرفه التاريخ، فإن يكن هناك جدال فلا جدال بين المنصفين في فضل الأئمة الذين أدركوا الفتنة قبل مسعاها من السقيفة ومسعاها من دار أبي سفيان، ولا جدال بين المنصفين فيما ابتغوه من خير وحكمة، فما ابتغى أبو بكر ولا عمر ولا أبو عبيدة نفعا لأنفسهم، وما قصروا بعد يوم البيعة في نصرة دينهم، وما كان في وسع أحد أن يبلي أجمل من بلائهم في دفع الغائلة عن الإسلام من فتنة الردة ومن غارة الفرس والروم، ولا أن يفتح للإسلام في العراق والشام وفارس ومصر فتحا أعظم وأقرب مما فتحوه.
وآمن علي بحقه في الخلافة، ولكنه أراده حقا يطلبه الناس ولا يسبقهم إلى طلبه، ولم تمنعه البيعة لغيره أن يعينه بالرأي والسيف ويصدق العون لأبي بكر وعمر كأنه في عون رسول الله وهو بقيد الحياة.
وقد اختلف الصديق والفاروق والإمام يوما أو أياما بعد وفاة النبي عليه السلام، فمن شاء فليأخذ بحجة هذا ومن شاء فليأخذ بحجة ذاك، ولكن الحجة الناهضة لهم جميعا أنهم لم يكدحوا لأنفسهم ولا لذويهم، ولم يقفوا دون الغاية في خدمة دينهم، ولم يحي أحد منهم حياة تريب في صدقه وصدق طويته وحسن بلائه، وما مات أحد منهم وله من الدنيا نصيب يأسى عليه.
وكانت السيدة فاطمة ترى حق علي في الخلافة، أو ترى أن قرابة النبي أحق المسلمين بخلافته، وأن بلاء علي في الجهاد وعلمه المشهود به يؤهلانه لمقام الخلافة. وكان هذا رأي طائفة من الصحابة الصالحين أدهشهم أن يجري الأمر على غير هذا المجرى، فاجتمعوا عندها واجتمعوا في غير بيتها يتشاورون فيما بينهم، أيبايعون أم يتخلفون، ولم نطلع على رواية واحدة ذات سند يعول عليه ترمي أحدهم بشق عصا الجماعة أو بالسعي في تأليب الناس على نقض البيعة. وبعد مساجلات بينهم وبين أبي بكر وعمر سفرت الفتنة عن مقصدها وتكشفت الدسيسة التي بيتها أبو سفيان، فقد عاد أبو سفيان يعرض مبايعته على علي ويتحفز للوقيعة. فصده علي وعرض له بذكر الغششة والمخادعين، ثم قال له: «إنك تريد أمرا لسنا من أصحابه»، فلما يئس من هذا الباب طرق بابا آخر لعله يلج منه إلى مأربه، وذهب إلى العباس يقول له: «امدد يدك يا أبا الفضل أبايعك فلا يختلف عليك القوم». ثم يقول: «إنك والله لأحق بميراث ابن أخيك»، فيرده العباس كما رده علي، ويكاد الخلاف ينتهي عند هذا وينطوي بانطواء الكلام في مسألة الخلافة، لولا مسألة «فدك» أو مسألة الميراث التي اختلف فيها سند أبي بكر وسند فاطمة مرة أخرى، وأوشك أبو بكر أن يستقيل المسلمين من بيعتهم، مخافة السخط من بنت رسول الله.
وخلاصة الحديث في أمر «فدك» أنها قرية كان النبي يقسم فيئها بين آل بيته وفقراء المسلمين، فلما قضى عليه السلام أرسلت فاطمة إلى أبي بكر تسأله ميراثها فيها وفيما بقى من خمس خيبر! فقال أبو بكر: «إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان يقول: «إننا معشر الأنبياء لا نورث. ما تركناه صدقة». وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله عن حالها التي كان عليها» ويقال: إن الزهراء احتجت عليه بقوله تعالى عن نبي من أنبيائه - زكريا - «يرثني ويرث من آل يعقوب» وقوله تعالى: «وورث سليمان داود». وإن أبا بكر قال لها: «يا بنت رسول الله! أنت عين الحجة ومنطق الرسالة، لا يد لي بجوابك، ولا أوقعك عن صوابك، ولكن هذا أبو الحسن بيني وبينك، هو الذي أخبرني بما تفقدت، وأنبأني بما أخذت وتركت.»
وجاء في شرح ابن أبي الحديد على نهج البلاغة «إن أبا بكر قال: يا ابنة رسول الله! والله ما ورث أبوك دينارا ولا درهما وإنه قال: إن الأنبياء لا يورثون. فقالت: إن فدك وهبها لي رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، قال: فمن يشهد بذلك؟ فجاء علي بن أبي طالب فشهد، وجاءت أم أيمن فشهدت أيضا، فجاء عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف فشهدا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان يقسمها. فقال أبو بكر: صدقت يا بنت رسول الله، وصدق علي، وصدقت أم أيمن، وصدق عمر، وصدق عبد الرحمن بن عوف، وذلك أن مالك لأبيك، كان رسول الله يأخذ من فدك قوتكم ويقسم الباقي ويحمل منه في سبيل الله، فما تصنعين بها؟ قالت: أصنع بها كما يصنع بها أبي! قال: فلك على الله أن أصنع كما يصنع فيها أبوك، قالت: الله لتفعلن؟ قال: الله لأفعلن. قالت: اللهم اشهد. وكان أبو بكر يأخذ غلتها فيدفع إليهم منها ما يكفيهم ويقسم الباقي، وكان عمر كذلك، ثم كان عثمان كذلك، ثم كان علي كذلك.»
وفي خلال الخلاف على هذه القضية قال عمر لأبي بكر: «انطلق بنا إلى فاطمة فإنا قد أغضبناها». فانطلقا فاستأذنا عليها فلم تأذن لهما، فأتيا عليا فكلماه، فأدخلهما. فلما قعدا عندها حولت وجهها إلى الحائط، فسلما عليها فلم ترد عليهما السلام، فتكلم أبو بكر فقال: «يا حبيبة رسول الله، والله إن قرابة رسول الله أحب إلي من قرابتي، وإنك لأحب إلي من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أني مت ولا أبقى بعده، أفتراني عرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله؟ ألا إني سمعت أباك رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «لا نورث. ما تركناه فهو صدقة.» فقالت: «أرأيتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول الله تعرفانه وتعملان به؟» قالا: «نعم». فقالت: «نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول: رضاء فاطمة من رضائي وسخطها من سخطي؟» قالا: «نعم سمعناه من رسول الله.» قالت: «فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه.» فقال أبو بكر: «أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة»، ثم انتحب يبكي حتى كادت نفسه تزهق. ثم خرج فاجتمع إليه الناس فقال لهم: «يبيت كل رجل منكم معانقا خليلته مسرورا بأهله وتركتموني وما أنا فيه؟ لا حاجة لي في بيعتكم. أقيلوني بيعتي».»
والحديث في مسألة فدك هو كذلك من الأحاديث التي لا تنتهي إلى مقطع للقول متفق عليه. غير أن الصدق فيه لا مراء أن الزهراء أجل من أن تطلب ما ليس لها بحق، وأن الصديق أجل من أن يسلبها حقها الذي تقوم البينة عليه، ومن أسخف ما قيل: إنه إنما منعها فدك مخافة أن ينفق علي من غلتها على الدعوة إليه، فقد ولى الخلافة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ولم يسمع أن أحدا بايعهم لمال أخذه منهم، ولم يرد ذكر شيء من هذا في إشاعة ولا في خبر يقين، وما نعلم من تزكية لذمة الحاكم في عهد الخليفة الأول أوضح بينة من حكمه في مسألة فدك، فقد كان يكسب برضى فاطمة ويرضي الصحابة برضاها، وما أخذ من فدك شيئا لنفسه فيما ادعاه عليه مدع، وإنما هو الحرج في ذمة الحكم بلغ أقصاه بهذه القضية بين هؤلاء الخصوم الصادقين المصدقين، رضوان الله عليهم أجمعين. •••
ولعلنا نجمل ما وقر في أذهان المسلمين الثقات من أمر فدك بكلمة قالها عدل من أعظم العدول بعد ثمانين سنة أو نحوها، بعيدا من الخصومة، بعيدا من زمانها، بعيدا من الشبهة فيها؛ لأنه قال كلمته وفدك في يديه ينزل عنها باختباره، لا يدعوه إلى ذلك داع غير وحي ضميره.
ذلك هو عمر بن عبد العزيز القائل في مستهل عهده بالخلافة: «إن فدك كانت مما أفاء الله على رسوله ولم يوجف
3
المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فسألته فاطمة إياها فقال: ما كان لك أن تسأليني وما كان لي أن أعطيك، فكان يضع ما يأتيه منها في أبناء السبيل، ثم ولي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فوضعوا ذلك بحيث وضعه رسول الله، ثم ولي معاوية فأقطعها مروان بن الحكم، فوهبها مروان لأبي ولعبد الملك، فصارت لي وللوليد وسليمان، فلما ولي الوليد سألته حصته منها فوهبها لي، وسألت سليمان حصته منها فوهبها لي، فاستجمعتها، وما كان لي من مال أحب إلي منها، فاشهدوا أنني قد رددتها إلى ما كانت عليه.»
في هاتين المسألتين نرى السيدة فاطمة على غير مألوفها من العكوف على شئون بنيها والابتعاد من الحياة العامة؛ لأن كلتا المسألتين تدور حول حقها ووشيجة
4
قرباها، وهما مسألة الخلافة بعد النبي ومسألة الميراث من فيئه، وإحداهما مما نسميه في لغة عصرنا بالسياسة العليا، والأخرى مما نسميه بسياسة الحكومة المالية أو الاقتصادية، ولكل منها جوانب متفرعة يعالجها مؤرخ الحوادث والسياسة من نحوها. أما في الدراسات النفسية فالمهم فيهما وفي غيرهما هو ما تترجمان عنه من خلائق صاحبة السيرة، وما تترجمان عنه حين نوجزه هو قوة إيمان بحقها تثبت عليها و«شخصية» مستقلة لا يهمل لها حساب.
الفصل السادس
وفاتها
قلنا في «عبقرية محمد»:
حفظ النوع سر من أسرار الحياة الكبرى التي دقت عن الفهم وحارت في تعليلها عقول الأساطين من أهل العلم والحكمة، وهو لا ريب يجري على قانون مطرد في جميع طبقات الأحياء، وإن كنا لا نعلم كنهه ولا نسبر عمقه ولا نزيد على استقصاء بعض الملاحظات التي تقارب الحقيقة، أو هي أقرب ما نستطيع الوصول إليه.
وأهم هذه الملاحظات التقريبية أنه يجري على سنة المكافأة والتعويض في معظم حالاته، فيقابل النقص في جانب بالزيادة في جانب آخر، ويقابل القصور في مزية من المزايا بالإتقان في مزية أخرى. •••
فالأحياء السفلى عرضة للعطب الكثير في طور الولادة والحضانة، فيقابل هذا أن الأحياء السفلى ترسل ذرياتها بالألوف وألوف الألوف، فيبقى منها القليل الكافي لدوام النوع بعد فناء الكثير.
والأحياء العليا يقل عدد المولود منها في البطن الواحد، فيقابل هذا أن تطول حضانتها والعناية بها، وتجد من وسائل الصيانة ما يعوض الكثرة في الأحياء السفلى.
ويغلب أن يزيد النسل حين تكون زيادة النسل هي الوسيلة الوحيدة التي يستطيعها الفرد لخدمة نوعه وضمان دوامه، فإذا تيسرت للفرد وسائل مختلفة لخدمة نوعه فقد يجود ذلك على نسله وينتقص من قسمة في أبنائه، كأنما خدمة النوع ضريبة مفروضة على كل فرد في صورة من الصور، فإذا أداها في صورة أعفى منها في الصور الأخرى، أو كأنما هي مواهب وأرزاق لا يستوفيها الفرد الواحد إلا بثمن غال يحسب عليه، ويؤدي حسابه للنوع على نحو من الأنحاء.
والإنسان أقدر المخلوقات الحية على خدمة نوعه بوسائل كثيرة لا تنحصر في تجديد النسل وزيادة عدده.
فهل يجوز لنا أن نقول: إن العظماء الذين حرموا النسل قد أدوا ضريبتهم بإصلاح شئون الناس، فلم يبق من اللازم المفروض عليهم أن يؤدوا هذه الضريبة من طريقة الذرية؟
إن قلنا ذلك فإنما نقوله على سبيل الملاحظة التقريبية التي أشرنا إليها، ولا نبلغ بتلك الملاحظة فوق مبلغها من اليقين الذي تستحقه؛ فغاية مبلغها عندنا أنها تستوقف النظر للتأمل والمراجعة ولا تفضي بنا إلى الجزم أو إلى التغليب.
فبعض العظماء من أكبر خدام النوع لم يتزوجوا، وفيهم أنبياء معظمون لا شك في سيرتهم من هذه الناحية، كعيسى عليه السلام.
وبعض العظماء الذين تزوجوا لم يرزقوا الذرية، أو رزقوا ذرية كلها إناث، أو رزقوا ذرية من الإناث والذكور ولم يعيشوا، أو عاشوا ولم يعمروا ولا كانوا على حالة مستحبة من الصحة والنجابة.
وتواريخ العظماء في جميع نواحي العظمة، وفي جميع الأمم، وفي جميع العصور، حافلة بالشواهد التي تعزز تلك الملاحظة وتجعلها خليقة بالتأمل والمراجعة، يدخل فيهم القديسون كما يدخل فهم الحكماء، ويدخل فيهم العلماء كما يدخل فيهم رجال الفنون والمخترعون، ويدخل فيهم القادة العسكريون. ولا يصعب على أحد أن يدير بصره إلى فترة من الزمن في بلد قريب يعرفه حق المعرفة ليشاهد مصداق ذلك في نفر من عظمائه ومشهوريه، وحسبنا في مصر أسماء جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وسعد زغلول وعبد الله نديم ومصطفى كامل ومصطفى فهمي ومحمود سامي البارودي وحافظ إبراهيم.
فإذا جاز لنا أن نقف عند الملاحظة وأن نتأمل مغزاها، وجاز لنا أن نفهم أن إصلاح شئون النوع الإنساني ضريبة تغني عن ضريبة الذرية في بعض الأحوال، فأين ترانا نجد تلك الضريبة في أرفع حالة وأغلى قيمة إن لم نجدها في رسالة نبوية تتناول الأجيال وتتناول الملايين في كل جيل؟ وأي أبوة روحانية تغني عن أبوة اللحم والدم كما تغني أبوة النبي الذي يتكفل بتربية الأرواح في أمته، وفي أمم لا يلقاها في زمانه، وأمم لا تزال تستجد بعد زمانه إلى أقصى الزمان؟!
نذكر هذا حين نذكر حظ محمد من الأبوة الروحية ومن الأبوة النوعية، ونرى تكافؤا في الجانبين جديرا بالملاحظة والاعتبار. •••
نعم ونذكر هذا حين نذكر وفاة الزهراء في زهرة الشباب، في الثلاثين أو ما دون الثلاثين.
مات الذكور من ذرية محمد صغارا لم يجاوزوا سن الرضاع، وعاش الإناث من ذريته ولم يرزقن طول العمر، ومنهن من لم ترزق قوة البنية في عنفوان الشباب.
وكانت الزهراء نحيلة سمراء، يمازج لونها شحوب في كثير من الأوقات، وقد رآها النبي عليه السلام في مرض وفاته فقال لها إنها أسرع أهله لحوقا به، فلم تمض ستة أشهر، وقيل أقل من ذلك، حتى لحقت به في تلك السن التي تستقبل فيها الحياة.
وكانت تشكو حينا بعد حين، ويعودها النبي يواسيها في مرضها، فإذا هو يواسيها كذلك في حاجتها، زارها يوما وهي مريضة فقال لها: «كيف تجدينك يا بنية؟» فقالت: «إني لوجعة». ثم قالت: «وإنه ليزيدني أني ما لي طعام آكله.» فاستعبر عليه السلام وقال: «يا بنية! أما ترضين أنك سيدة نساء العالمين!»
وزارها يوما وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من وبر الإبل، فبكى وقال: «تجرعي يا فاطمة مرارة الدنيا لنعيم الآخرة.»
ولم يكن صلوات الله عليه يضن على فاطمة بما يملك من الأنفال،
1
فكان يخصها بالقسم الأوفى من حصته كلما فرق رزقا بين ذويه وزوجاته، ولكنها كانت فاقة تعمهم جميعا حين لا يجد النبي ما يفرقه بينهم، وقد شكت زوجاته تلك الفاقة فخيرهن بين التسريح لينعمن بالحياة الدنيا وزينتها، أو يردن الله ورسوله فيصبرن على ما هو صابر عليه!
الله أكبر! •••
مثل محمد يعلو على إشفاق المشفقين، ومن كان في قدرته أن ينعم من الدنيا بما يقطع قلوب الحاسدين حسدا، ثم يرضى لنفسه وآله منزلة الإشفاق، فذلك هو الإعظام غاية الإعظام وذلك هو المرتقى الذي قيل فيه:
وبعيد بلوغ هاتيك جدا
تلك عليا مراتب الأنبياء
أن محمدا يبكي؛ لأنه يرى أحب الناس وأقربهم منه جائعة مرهقة، ثم لا يملك لها ما يشبعها ويعفيها من عنائها، وهو يملك كل شيء في الجزيرة العربية. ويسأل السائلون من زعانفة المعطلين والمتعصبين أعداء كل دين «وما برهان النبوة عند محمد؟!»
الله أكبر، إن لم يكن هذا برهان النبوة فبرهان أي شيء يكون؟ •••
ولم يكن بالزهراء من سقم كامن يعرف من وصفه؛ فإن العرب لوصافون، وإن من كان حولها من آل بيتها لمن أقدر العرب على وصف الصحة والسقم، فما وقفنا من كلامهم وهم يصفونها في أحوال شكواها على شيء يشبه أعراض الأمراض التي تذهب بالناس في مقتبل الشباب، وكل ما يتبين من كلامهم أنه الجهد والضعف والحزن، وربما اجتمع إليها إعياء الولادة في غير موعدها، إن صح إنها أسقطت «محسنا» بعد وفاة النبي كما جاء في بعض الأخبار.
ونعود فنقول: إنها ضريبة النبوة، وكم للهداية من ضريبة تضاعف على الهداة مرات بعد مرات! •••
وحضرها الموت، وخذلتها جوارحها، وعزيمتها في مواجهة الموت حاضرة لا تخذلها، فتولت أمر غسلها وحملها على النعش بنفسها، وقالت لصاحبتها أسماء بنت عميس بعد أن اغتسلت كأحسن ما كانت تغتسل: «يا أمه! ائتيني بثيابي الجدد»، فلبستها ثم قالت: «قد اغتسلت، فلا يكشفن لي أحد كنفا»،
2
وشكت نحول جسمها فقالت لصاحبتها: «أتستطيعين أن تواريني بشيء؟» قالت: «إني رأيت الحبشة يعملون السرير للمرأة ويشدون النعش بقوائم السرير.» فعمل لها نعشها قبل وفاتها، ونظرت إليه فقالت: «سترتموني ستركم الله.» وتبسمت، ولم تر مبتسمة بعد وفاة أبيها إلا ساعتها. •••
وكانت وفاتها، على القول الأشهر، ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة للهجرة، ودفنت ليلا حسب وصايتها كما دفن رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
في كل دين صورة للأنوثة الكاملة المقدسة يتخشع بتقديسها المؤمنون كأنما هي آية الله فيما خلف من ذكر وأنثى.
فإذا تقدست في المسيحية صورة مريم العذراء، ففي الإسلام لا جرم تتقدس صورة فاطمة البتول.
الفصل السابع
شخصية الزهراء
من الواضح البين أن الزهراء أخذت مكانها الرفيع بين أعلام النساء في التاريخ؛ لأنها بنت نبي، وزوجة إمام، وأم شهداء.
ولكن لا يتضح هذا الوضوح، ولا يبين هذا البيان، أنها تأخذ مكانها هذا «بحقها الشخصي» أو بصفتها التي كان لها أثر في حوادث التاريخ.
وهذا الذي نحب أن نقرره في الكتابة عن الزهراء، فهي أصل قوي من أصل الدعوة التي ثبتت في مجرى الزمن أجيالا طوالا ولم تزل لها آثارها في عصرنا هذا، وفيما يلي من العصور.
لم يعرف التاريخ نظيرا لثبات بني علي وفاطمة على حقهم في الإمامة، أو في الخلافة.
حوربوا فيها زمنا، وتولاها من لا شك عندهم ولا عند الناس في فضلهم عليه، كيزيد بن معاوية، فأنفوا أن يتركوها استخذاء وخضوعا، وحاربوا فيها كما حوربوا، وصمدوا للطلب الحثيث طالبين ومطلوبين مائة سنة، ثم مائتين، ثم ثلاثمائة سنة، حتى دانت لهم الخلافة باسمهم في عهد الدولة الفاطمية.
لولا خصال فيهم تعين على هذا النضال لما ثبتوا عليه هذا الثبات، ولا استطاعوا أن يصمدوا للعسف والعنت من بني أمية ثم من بني العباس، ومعهم في المشرق والمغرب أعوان وأتباع، وقد جدوا غاية الجد في نكالهم بأبناء علي وفاطمة في كل مكان، وصنعوا بهم ما كان خليقا أن يستأصلهم استئصالا أو يرغمهم على اليأس والتسليم.
ولكنهم نجوا من الاستئصال بقضاء لا حيلة فيه للحاكمين المسيطرين، وخطر لهم كل خاطر إلا أن يستكينوا ويسلموا للسيف، ويقعدوا مع الخالفين.
ولولا خصال فيهم لما كان هذا منهم.
فإذا كان مرجع هذه الخصال إلى وراثة، ولا بد لها من نصيب من الوراثة، فقد ورثوها عن فاطمة كما ورثوها عن علي، بل هي إلى ميراثهم من الزهراء أقرب منها إلى ميراثهم من الإمام.
بعض الأخبار يفيد إن صح وإن لم يصح، ومن هذه الأخبار خبر الرواة الذين قالوا: إن عليا جامل فاطمة فلم يبايع أبا بكر إلا بعد وفاتها.
إن صح هذا الخبر أو لم يصح فدلالته صحيحة، وهي اعتقاد الناس في ذلك العصر أن القضية قضية الزهراء وأن الإمام يجاملها فلا يغضبها، وأنه كان يرى أن الخلافة أحق بأن نطلبه معرفة بحقه، فإن لم تعرف له هذا الحق فما هو بالحريص على الشغل بها والتدبير لطلبها والسعي إليها. •••
وفي غير هذا الخبر ما يدل هذه الدلالة، وربما كان من تلك الأخبار ما يعبره المؤرخ ولا يلقى إليه بالا، وهو في هذا الباب أدل من كثير، كالخبر الذي روي عن الحسن عليه السلام وهو بعد طفل صغير.
رووا أن الصديق رضي الله عنه قام على المنبر يخطب الناس، فما هو إلا أن حمد الله وأخذ في خطبته حتى سمع وسمع الحاضرون معه صوتا نحيلا يهتف: «ليس هذا منبر أبيك، انزل عن منبر أبي.»
والتفتوا فإذا بالصائح هو الحسن بن علي، ولما يبلغ الثامنة، فابتسم الصديق وقال والحنو يشيع في نفسه: «ابن بنت رسول الله؟ صدقت والله. ما كان لأبي منبر، وإنه لمنبر أبيك.»
وسمع علي بالخبر فأرسل إلى أبي بكر رسولا يقول له: «اغفر ما كان من الغلام، فإنه حدث، ولم نأمره.»
قال أبو بكر: «إني أعلم، وما اتهمت أبا الحسن.»
وليست الزهراء ولا ريب هي التي أمرت الغلام الصغير أن يقول هذا المقال. ولكن الطفل يفهم عن أمه في هذه السن ما يغنيه عن الأمر والإيحاء، ولعل الحسن كان قد سمع نقاشا يتكرر بين أبويه في هذا الأمر، فوقر في نفسه أن يثور تلك الثورة الصغيرة، ثم نهي عنها فلم يعاودها. •••
في خلائق السيدة فاطمة مدد صالح للثبات على الحق الذي يعتقده صاحبه، أو يذاد عنه فلا ينكص عنه على رغم.
كانت شديدة الاعتزاز بانتسابها إلى أبيها، وكانت مفطورة على يقين التدين، وكانت ذات إرادة لا تهمل في حساب شأن من شئونها، فظهر منها في المواقف القليلة التي نقلت عنها أنها كانت ذات إرادة لا تنسى في الحساب.
كان من اعتزازها بالانتساب إلى أبيها أنها كانت تسر بمشابهة أبنائها لأبيها، وكانت تذكر ذلك حين تدللهم وتلاعبهم، فلم يكن أحب إليها من أن يقال لها: إن أسباط رسول الله يشبهون رسول الله.
وكانت فطرة التدين فيها وراثة من أبوين: كان حسبها ما ورثته من خاتم الأنبياء وما تعلمته منه بالتربية والمجاورة، ولكنها أضافت إليه ما ورثته من أمها؛ أمها بنت خويلد الذي تصدى لعاهل اليمن غيرة منه على الكعبة، وابنة عم ورقة بن نوفل الذي شغل بالدين في الجاهلية حتى فرغ له حياته، غير مدعو ولا مأمور. •••
ومن فطرة التدين في وريثة محمد وخديجة أنها شديدة التحرج
1
فيما اعتقدته من أوامر الدين، حتى وهمت أن أكل الطعام المطبوخ يوجب الوضوء، يظهر ذلك من حديث الحسن بن الحسن عن فاطمة حيث قالت: «دخل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فأكل عرقا
2
فجاء بلال بالأذان، فقام ليصلي، فأخذت بثوبه فقلت: يا أبة! ألا تتوضأ؟ قال: مم أتوضأ يا بنية؟ فقلت: مما مست النار. فقال لي: أو ليس أطيب طعامكم ما مست النار؟»
فهي فيما تجهله تتحرج ولا تترخص
3
وتؤثر الشدة مع نفسها على الهوادة معها.
وقد ذكر غير واحد من الصحابة، وذكرت السيدة عائشة، أنها كانت أشبه الناس بمحمد في مشيتها وحديثها وكلامها، وزادت عائشة فقالت: ما رأيت أفضل من فاطمة غير أبيها، واستغربت مرة أن تكون فاطمة كسائر النساء حين رأتها تبكي ثم تضحك إلى جوار رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في مرض وفاته، ثم علمت أنها ضحكت؛ لأنها سمعت من أبيها أنها لاحقة به عما قريب.
أما أنها كانت رضي الله عنها ذات إرادة لا تهمل، فقد بدا ذلك في أمر زواجها، وفي محاجتها لزوجها، ومحاجتها لأبي بكر وعمر، وفيما كان يتوخاه علي من مرضاتها بصدد المبايعة قبل وفاتها.
وقد يكون من دلائل الإرادة في المرأة خاصة أنها تلزم الصمت ولا تكثر الكلام، وقد كان من عادة الزهراء أنها لا تتكلم حتى تسأل، وأنها لا تعجل إلى الحديث فيما تعلم فضلا عما لا تعلم، ولهذا انحصرت أحاديثها عن أبيها فيما كانت تسمعه منه بين البيت والمسجد، ولم تزد عليه.
ولا ننسى أن الزهراء قد غوضرت
4
وهي في الثلاثين أو قبل الثلاثين، فإذا ظهر منها هذا الجد وهذا اليقين وهذه العزة وهذه الإرادة وهي في تلك السن الباكرة فذاك ولا شك دليل على قوة كامنة يرجع إليها حين يفسر المفسرون خلائق بنيها، وما عساهم قد استمدوه من هذا الميراث المكين.
الفصل الثامن
الذرية الفاطمية
كانت العرب أمة نسابة، يعنيها النسب؛ لأنها تعتمد عليه في مفاخرها كما تعتمد عليه في مصائرها، فهو الذي يعين لها أصول قبائلها وأصول ذوي الرئاسة فيها، وهو كذلك يعين لها من يطالبونه بثأر ويحاسبونه على جريرة،
1
ومن يلحق بهم عاره ويبرأون منه أو يخلعونه، فالخليع عندهم من لا خلاق له،
2
فلا هو يبالي بشيء ولا يبالي به أحد، ولا يوجد من يسأل عن دمه أو يحفل بحياته وموته.
إن الخليع عندهم هو القطيع عن نسبه.
ولهذا حفظوا أنسابهم في الجاهلية ما استطاعوا وجاءهم الخطأ فيها من تقادم العهد وكثرة الرحلة وجهل الكتابة والقراءة.
وبعد الإسلام وجب حفظ الأنساب، ولجأوا إليه في تدوين الدواوين كما لجأوا إليه في ميادين القتال، فكلما حمى وطيس
3
القتال نودي في القوم: انتسبوا. ليستحي المرتد من الهزيمة التي يلحق عارها به وبذريته ما بقيت لهم سيرة في ذاكرة. •••
وعظمت العناية خاصة بذرية النبي عليه السلام، صونا للنسب الشريف، ودفعا للأدعياء من طلاب الخلافة، فلم يقع لبس قط في نسب أبناء فاطمة مدى الصدر الأول من الإسلام. ولم ينهض منهم قط إمام مشكوك في نسبه على عهد الدولة الأموية، ولم يكن الشك في النسب مطعنا في دعوى أحد منهم بعد قيام الدولة العباسية، ولم يزل أمرهم كذلك إلى أن قامت لهم دولة بالمغرب وسميت بالدولة الفاطمية. أما قبل ذلك فقد كان دعاة الدولة العباسية يناقشونهم الحجة في حق الخلافة مع اعترافهم بانتسابهم إلى السيدة فاطمة، ولا ينكرون عليهم صحة الانتساب إليها رضي الله عنها.
من ذاك ما روي عن المأمون أنه قال يوما لعلي بن موسى الرضا: «بم تدعون هذا الأمر؟ قال: بقرابة علي من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وبقرابة فاطمة رضي الله عنها، فقال له المأمون: إن لم يكن ها هنا إلا القرابة فقد خلف رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من كان أقرب إليه من علي أو من في مثل قدره، وإن كان بقرابة فاطمة من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فإن الحق بعد فاطمة للحسن والحسين، وليس لعلي في هذا الأمر حق وهما حيان، فإن كان الأمر كذلك فإن عليا قد ابتزهما حقهما وهما صحيحان واستولى على ما لا يجب له.»
قال رواة هذا الحديث: «فما أجابه علي بن موسى بشيء.»
وظاهر أن علي بن موسى قد لزم الصمت هنا على حد قول أبي العلاء:
تلوا باطلا وجلوا صارما
وقالوا: صدقنا؟ فقلنا: نعم!
وإلا فما كان لحجة من أبناء علي وفاطمة - وقد رزقوا اللسن والفصاحة - أن يعجز في هذا المقام عن الكلام الذي يقال في الرد على كلام المأمون، وأقربه على اللسان أن عليا إن كان قد استولى على حقه فهم ورثته، وإن كان قد استولى على غير حقه فهم أصحاب الحق، وقد سمع خلفاء بني العباس كلاما كهذا وأشد من هذا من الخارجين عليهم باسم العلويين والفاطميين، وأيسره أن أحدا من جدود بني العباس في حياة الحسن والحسين لم يطلب الخلافة حين طلباها.
إلا أن دعاة الدولة العباسية إنما كانوا يدعون دعوى العلويين بمثل حجة المأمون ولا يتعرضون لصحة النسبة ولا يجسرون على محاربة الولاء للمنتسبين إلى الزهراء، إلا أن يدعوا عليه أنه حمل السيف وخرج للقتال أو أعلن العصيان.
قال العتبي: «كان بين شريك القاضي والربيع حاجب المهدي معارضة، فكان الربيع يحمل عليه المهدي فلا يلتفت إليه، حتى رأى المهدي في منامه شريكا القاضي مصروفا وجهه عنه، فلما استيقظ من نومه دعا الربيع وقص عليه رؤياه فقال: يا أمير المؤمنين؟ إن شريكا مخالف لك، وإنه فاطمي محض. قال المهدي: علي به! فلما دخل عليه قال له: يا شريك بلغني أنك فاطمي؟ قال شريك: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تكون غير فاطمي. إلا أن تعني فاطمة بنت كسرى! قال: ولكني أعني فاطمة بنت محمد
صلى الله عليه وسلم . قال شريك: أفتلعنها يا أمير المؤمنين؟ قال المهدي: معاذ الله! قال: فماذا تقول فيمن يلعنها؟ قال: عليه لعنة الله؟ قال فالعن هذا - وأشار إلى الربيع - فإنه يلعنها. قال الربيع: والله يا أمير المؤمنين ما ألعنها. فقال شريك: يا ماجن! فما ذكرك لسيدة نساء العالمين وابنة سيد المرسلين في مجلس الرجال؟ قال المهدي: دعني من هذا. فإني رأيتك في منامي كأنك مصروف عني وقفاك إلي، وما ذلك إلا بخلاف علي، ورأيت في منامي كأني أقتل زنديقا؟ قال شريك: إن رؤياك يا أمير المؤمنين ليست برؤيا يوسف الصديق صلوات الله على محمد وعليه، وإن الدماء لا تستحل بالأحلام، وإن علامة الزندقة بينة. قال: وما هي: شرب الخمر والرشى في الحكم ومهر البغي. قال: صدقت، والله يا أبا عبد الله، أنت والله خير من الذي حملني عليك.» •••
وحدث مثل هذا في معارض كثيرة، فوشي بأناس أنهم يوالون أبناء فاطمة فلم يجسر الخلفاء على المساس بهم، واضطروا إلى التعلل لهم بغير تلك العلة.
ثم هجمت الدعوة الفاطمية على الدولة العباسية بما لا طاقة لها بدفعه مع الاعتراف بنسب أصحاب الدعوة، فانتقلوا من المناقشة بالحجة في حق العم وابن العم، والموازنة بين حق العباس عم النبي وحق علي ابن عمه، إلى إنكار النسب بتة، وساعدهم على ذلك تفرقة الأئمة الفاطميين في الأرجاء، واستتارهم بالدعوة، ووقوع اللبس في الكنى والألقاب، فطعنوا في انتساب الفاطميين إلى السيدة فاطمة، وأذاعوا عنهم ذلك المنشور الذي سيأتي ذكره في القسم الثاني من الكتاب، واشترك في هذه المنابذات
4
أناس من علماء النسابين شملتهم غواية السياسة كما شملت غيرهم، وكان من عبرتهم أن هوى السياسة لا يؤمن على عقل الحكيم ولا على علم العليم.
مثال هذا أن صاحب كتاب جمهرة الأنساب، وهو الفيلسوف الحكيم ابن حزم، لم يسلم من فتنة هذه الغواية، فقال وهو يتكلم عن ذرية إسماعيل بن جعفر الذي ينتسب إليه الفاطميون ويسمون من أجل ذلك بالإسماعيلية: «وادعى عبيد الله القائم بالمغرب أنه أخو الحسن البغيض هذا، وشهد له بذلك رجل من بني البغيض، وشهد له بذلك جعفر بن محمد بن الحسين بن أبي الحر علي بن محمد الشاعر ابن علي بن إسماعيل بن جعفر، ومرة ادعى أنه ولد الحسين بن محمد بن إسماعيل بن جعفر، وكل هذه دعوى مفتضحة؛ لأن محمد بن إسماعيل بن جعفر لم يكن له قط ولد اسمه الحسين، وهذا كذب فاحش؛ ولأن هذا النسب لا يخفى على من له أقل علم بالنسب ولا يجهل أهله إلا جاهل.» •••
ونحن نخص ابن حزم بالذكر في هذا المعرض؛ لأنه مثل للنقيضين المتقابلين فيما يوجب الثقة وما يوجب الشك غاية الشك في مؤلف واحد ونسابة واحد.
فعلم ابن حزم بالأسانيد والأنساب معروف، ولكنه في هذا المعرض خاصة عرضة للهوى كأشد ما يكون الهوى، حتى ليكون تكذيبه لرواية داعية من دواعي احتمالها وقبولها.
كان ابن حزم أمويا غاليا في التشيع للأموية، وكانت دولتهم في الأندلس على خطر من الدعوة الإسماعيلية، وبلغ من كراهته للإسماعيليين أنه تحول من المذهب الشافعي إلى المذهب الظاهري؛ أي المذهب الذي يأخذ بظاهر النص ويرفض التأويل؛ لأن مذهب الإسماعيليين يقول بالتأويل وبأنه من حق الإمام.
بل قد بلغ من كراهته القوم أنه لا يطيق أن يذكر الرجل منهم بلقبه المتعارف عليه، فيلقبه بالبغيض بدلا من الحبيب، ولعله لم يضع كتابه في جمهرة أنساب العرب إلا ليثبت حق بني أمية في الخلافة؛ لأنهم من قريش، فصعد بحق الخلافة إلى جد الأمويين والهاشميين، وقال في مقدمة كتابه: «ومن الغرض في علم النسب أن يعلم المرء أن الخلافة لا تجوز إلا في ولد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، ولو وسع جهل هذا لأمكن ادعاء الخلافة لمن لا تحل له، وهذا لا يجوز أصلا.» وقد ترقى ابن حزم من الحديث عن الفاطميين إلى المناقشة في معنى الحديث القائل أن فاطمة سيدة النساء، وأنه لا يعني أنها أفضل نساء العالمين! •••
ونحن ننزه ابن حزم عن تعمد الافتراء، ولكننا نقول: إن هواه قد جنح به إلى قبول ما ليس بحجة في إثبات نسب أو دفع نسب، ولولا ذلك لوقف على الأقل موقف التردد بين النفي والإثبات.
وفيما يلي كلام يتناول هذا الموضوع ببعض التفاصيل، ونسلف القول في تلخيصه فنقول: إننا لا نزعم أننا وقفنا على الدليل القاطع الذي يثبت نسب عبيد الله رأس الدولة الفاطمية، ولكننا لم نقف على دليل قاطع ينفي ذلك النسب، ووقفنا على شبهات كثيرة توجب الشك في مطاعن الطاعنين، وهذه الشبهات في روايات نسابة كابن حزم نموذج لما وقفنا عليه.
القسم الثاني
... والفاطميون
الفصل التاسع
الفاطميون
كل أبناء السيدة فاطمة الزهراء فاطميون، ولكن اسم الفاطميين يطلق في تاريخ الدول على أبناء إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق، ويسمون من أجل هذا بالإسماعيليين.
وقد كان أبناء الزهراء يعرفون أحيانا باسم آل البيت، فلما استأثر العباسيون بالخلافة غلب عليه اسم العلويين.
وجاء الفاطميون ففضلوا الانتماء إلى الزهراء؛ لأنهم يقيمون حقهم في الخلافة على أنهم أسباط النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأنهم أبناء الوصي علي بن أبي طالب، ولكن العباسيين ينازعونهم دعوى الوصاية وينكرونها، ويقولون: إن الانتساب إلى النبي من جانب عمه العباس أقرب من جانب علي ابن عمه أبي طالب، ومن أجل هذا يتسمى الفاطميون بهذا الاسم؛ لأن بنوة الزهراء نسب لا يدعيه العباسيون.
أما تغليب اسم الإسماعيليين عليهم فمرجعه انتماؤهم إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، وقولهم: إنه هو الإمام بعد أبيه، وبهذا الاسم يتميزون من أبناء السيدة فاطمة الآخرين، وهم ذرية موسى الكاظم، وهو الأحق بالإمامة في مذهب الإماميين الاثني عشريين.
وقد كان الإمام جعفر الصادق وصى بالإمامة بعده لابنه الأكبر إسماعيل، ثم نحاه عنها ووصى بها لابنه موسى الكاظم، وقيل في أسباب ذلك: إنه علم أن إسماعيل يشرب الخمر، وقيل: إن إسماعيل مات في حياة أبيه فانتقلت ولاية العهد إلى أخيه.
أما الإسماعيليون فمذهبهم أن تحويل الولاية لا يجوز؛ لأن الولاية أمر من الله يتلقاه الإمام المعصوم، والبداء لا يجوز على الله، ويعنون بالبداء أن يبدو لله أمر فيعدل عما أمر به قبل ذلك.
ومن الإسماعيليين من ينفي موت إسماعيل في حياة أبيه، ويقولون: إنه شوهد بعد تاريخ الإشهاد على وفاته، وإنما أشهده أبوه على وفاته خوفا عليه من الغيلة ومن تربص الخلفاء العباسيين به، كما كانوا يصنعون بالعلويين المرشحين للدعوة، واستدلوا على هذا بالإشهاد على وفاته وتوقيع الشهود عليه؛ إذ لم تجر العادة بمثل هذا الإشهاد لولا الحيطة والتقية.
والخلاف بين الإسماعيليين وبين سائر الفاطميين قائم على إمامة إسماعيل، والإماميون الذين لا يسلمون الإمامة لإسماعيل وذريته طوائف متعددة، أهمها وأكبرها طائفة الإماميين المعروفين بالاثنى عشريين؛ لأنهم ينتهون بالإمامة إلى محمد المنتظر ابن الإمام حسن العسكري، وعندهم أنه سيظهر في زمانه الموعود؛ ولهذا يدعون بتعجيل فرجه كلما ذكروه.
ويتفق الإماميون على اعتقادهم عصمة الإمام في تبليغ شئون الإمامة؛ لأنه موئل السؤال والفتوى في أحكام الدين والدنيا؛ فلا يجوز الخطأ عليه في هذه الأحكام.
ويضيف الإسماعيليون إلى أسباب العصمة عقيدة التأويل، فإن أحكام الدين عندهم لها ظاهر وباطن، ولا يعلم تأويلها غير الله والراسخين في العلم، والأئمة هم الراسخون في العلم، وهم أولى الناس أن يعلموا ما ليس يعلمه المؤتمون.
ولهذا يسمى الإسماعيليون بالباطنيين، ومنهم من لا يقصر أمور الباطن على أحكام الدين وآيات الكتاب، بل يقولون: إن كل موجود على الأرض له نظير في الفلك الأعلى، وإن مقادير هذه الموجودات تابعة للمقادير التي تجري على نظرائها في السماء.
ولما استتر الأئمة شاع بينهم علم النجوم والرياضة والفلسفة على العموم، وكان الإماميون من عهد علي رضي الله عنه يؤمنون بإلهامه واطلاعه على أسرار كتاب الجفر وما إليه من كتب النجوم، ولكن الأئمة الإسماعيليين أمعنوا في دراسة هذه العلوم؛ لأنهم لاذوا بالخفاء في عهد انتشارها وازدهارها، وأصبح علمهم بالأسرار خاصة مطلوبا منهم فوق علمهم الراسخ بشئون الإمامة في الدنيا والدين، فإذا سأل السائلون عن أمر مستور فأولى الناس بعلمه الإمام المستور الذي يعلم مواطن السر والجهر ويتحين أوقات الفلك لإظهار ما خفي من أمور الدعوة وأمور الإمامة، وكل أمر ترتبط به مصالح العباد.
ودخل عدد الأئمة نفسه في خصائص الأعداد، فمن قديم الزمن يعتقد أصحاب النجوم سرا خاصا في عدد السبعة وعدد الاثني عشر، ويستشهدون على ذلك بعدد الأفلاك السبعة وعدد أيام الأسبوع وعدد فتحات الوجه، كما يستشهدون عليه بعدد الشهور وعدد البروج السماوية وعدد أسباط بني إسرائيل، وعلى هذا يدور الخلاف بين المهتمين بالتنجيم على عدد الأئمة؛ أهو سبعة أم اثنا عشر. ولكل منهم فيه كلام طويل.
وللإماميين فروق يبسطونها بين النبي والإمام والحجة والنقيب؛ فالنبي يبعث في زمان بعد زمان، والإمام قائم في كل زمان، وقد يكون الإمام إماما مستقرا فهو صاحب الحق في التوصية لخليفته من بعده، أو إماما مستودعا فهو يحمل أمانة لضرورة موقوتة، ثم يردها إلى صاحبها ولا حق له في التوصية لغيره. أما الحجة فهو لازم في الخفاء إذا كان الإمام ظاهرا في العلانية؛ لأن الإمام الظاهر عرضة للضرورات فلا بد معه من حجة يرجع إليها لاستبانة الحقائق بمعزل عن ضرورات السياسة، أما إذا استتر الإمام فلا بد له من حجة ظاهرة، وقد يسمون الإمام بالناطق أو بالصامت تبعا للظهور والخفاء والمجاهرة بالحكم والتأويل فيه.
أما النقباء فالغالب أنهم دعاة أو وكلاء، ولا بد لهم من أئمة يرجعون إليهم في كل زمان.
أعلنت وفاة إسماعيل في حياة أبيه كما تقدم، فانعقدت الإمامة بعده لابنه محمد، وارتحل محمد من الحجار إلى الري؛ إما لأنه لم يطق منافسة عمه موسى الكاظم على زعامة العلويين؛ وإما لأنه آثر الانزواء والتستر ودفع الأذى من جانب العباسيين، وقد لقب بالإمام المكتوم؛ لأنه لم يعلن دعوته وأخذ في بثها خفية وهو يتنقل من بلد إلى بلد ومن قطر إلى قطر كلما تنبهت إليه العيون ولاحقته الظنون، ثم ضاق المشرق كله بخلفائه فهجره عبيد الله إلى المغرب، وكان أول من نودي له بالخلافة الفاطمية.
ونسبه كما يقره المعترفون بهذا النسب هو عبيد الله بن أحمد بن إسماعيل الثاني بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق. أما القائلون بانتسابه إلى ميمون القداح - كما سيلي - فهو في زعمهم محمد بن عبد الله بن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق.
ويوفق المؤرخ الهندي «مأمور»
1
بين الروايتين توفيقا محتملا حد الاحتمال فيقول: إن محمدا المكتوم كان يخفي نفسه ويتعاطى طب العيون مداراة لحقيقته، وإن اسم «ميمون» كان من الأسماء التي انتحلها في حال استتاره، والقداح هو لقب الطبيب الذي يعالج العيون.
ولا نهاية للروايات والتخريجات التي تعلل سفره من المشرق إلى المغرب، فمن الرواة من يزعم أنه علم بتآمر القرامطة عليه فخرج من سلمية حيث كان مقيما بجوار حمص ورحل إلى مصر وهو يوري بالرحلة إلى اليمن، ومن قائل: إن بعض جلساء الخليفة العباسي ممن يدينون بالمذهب الإسماعيلي سرا قد علم بعزم الخليفة على اعتقاله وقتله فبادر إلى تحذيره، ومن قائل: إنه تلقى البشارة من كبير دعاته في المغرب بانتشار البيعة له بين القبائل المغربية، فرحل إلى المغرب ليتولى الأمر بنفسه في هذه الفترة الحاسمة. وتتفق الروايات على أنه حينما سافر إلى مصر وانتقل منها إلى المغرب كان مطاردا وكان على رأسه جعل
2
لمن يأتي به حيا أو ميتا حيث كان.
والروايات تتفق كذلك على أن الدعوة كانت موكولة في المغرب إلى أبي عبيد الله الصنعاني من صنعاء اليمن، واسمه الكامل هو الحسن بن أحمد بن زكريا، وكان من ولاة الحسبة
3
في بغداد.
جاء في وصفه من كتاب «البيان المغرب في أخبار المغرب» لابن عذارى المراكشي، وهو من أعداء الإسماعيليين: «فاختاروا منهم رجلا ذا فهم وفصاحة وجدال ومعرفة يسمى أبا عبد الله الصنعاني. فسار أبو عبد الله هذا إلى موسم الحج ليجتمع به مع من يحج تلك السنة من أهل المغرب ويذوق أخلاقهم ويطلع على مذاهبهم ويتحيل على نيل الملك بضعيف الحيل. ورأى في الموسم قوما من أهل المغرب فلصق بهم وخالطهم وكانوا عشرة رجال من قبيلة كتامة ملتفين على شيخ منهم، فسألهم عن بلادهم فأخبروه بصفتها، وسألهم عن مذهبهم فصدقوه عنه. ولم يزل يستدرجهم ويخلبهم بما أوتي من فضل اللسان والعلم بالجدل إلى أن سلبهم عقولهم بسحر بيانه، فلما حان رجوعهم إلى بلادهم سألوه عن أمره وشأنه فقال لهم: أنا رجل من أهل العراق، وكنت أخدم السلطان، ثم رأيت أن خدمته ليست من أفعال البر فتركتها وصرت أطلب المعيشة من المال الحلال، فلم أر لذلك وجها إلا تعليم القرآن للصبيان، فسألت: أين يتأتى ذلك تأتيا حسنا؟ فذكر لي بلاد مصر. فقالوا له: ونحن سائرون إلى مصر وهي طريقنا، فكن في صحبتنا إليها، ورغبوا منه في ذلك، فصحبهم في الطريق، فكان يحدثهم ويميل بهم إلى مذهبه ويلقى إليهم الشيء بعد الشيء إلى أن أشربت قلوبهم محبته، فرغبوا منه أن يسير إلى بلادهم ليعلم صبيانهم، فاعتذر لهم ببعد الشقة، وقال لهم: إن وجدت بمصر حاجتي أقمت بها، وإلا فربما أصحبكم إلى القيروان، فلما وصلوا إلى مصر غاب عنهم فيها كأنه يطلب بغيته، ثم اجتمعوا به وسألوه فقال لهم: لم أجد في هذه البلاد ما أريد، فرغبوه أن يصحبهم فأنعم لهم بذلك.»
ولا يتسع الكلام في هذا المجال لسرد أعمال أبي عبيد الله في المغرب، فالذي عنيناه هنا هو الإشارة إلى أساليب هؤلاء الدعاة في دخول البلاد التي يقصدونها بالدعوة، وأول هذه الأساليب أن يكون الداعية مطلوبا لا طالبا، وأن يكون له حماة وأتباع من أبناء البلد قبل دخوله إذا استطاع، وقد سار أبو عبيد الله الشيعي على هذا الأسلوب حتى تمكن من القبائل واستمال إليه قبيلة كتامة القوية بعددها وشجاعة رجالها، فاتخذ الحول بعد الحيلة وجرد السيف وهزم دولة الأغالبة أعوان العباسيين، وضمن لمولاه النجاح فاستقدمه فوصل إلى جبال الأطلس قبيل انتهاء القرن الثالث للهجرة (سنة 296).
كذلك يطول الكلام لو تتبعنا أعمال المهدي وخططه التي رسمها لإقامة عرشه في إفريقية وبسط كلمته من ورائها إلى الأقطار الإسلامية، فإن ملك المهدي في المغرب قد دام أربعا وعشرين سنة إلى أن توفي (سنة 322 للهجرة)، فخلفه ابنه القائم، وخلف القائم ابنه المنصور، وخلف المنصور ابنه المعز (سنة 341 للهجرة)، وهو الذي فتحت مصر في عهده وانتقلت من خلافة العباسيين إلا خلافته (سنة 356 للهجرة)، فجاءوها كعادتهم مطلوبين ممهدا لهم الطريق في الداخل والخارج بالدعوة والسلاح. •••
إن تاريخ الدولة الفاطمية جدير أن تفرد له المجلدات الضخام؛ لأنه تاريخ يغني عن التواريخ؛ إذ كانت هذه الدولة نموذجا يقاس عليه ويعرض فيه ما لا يعرض في قيام الدول الأخرى من العبر والأطوار وصنوف التدبير والمصادفة. فهي الدولة التي قامت بين ست دول أو أكثر من ست دول إسلامية وأجنبية تحاربها وتخشى عاقبة قيامها، وأسست حقها على دعوة يتألب الخصوم من حولها على إنكارها، واعتمدت في الدعوة على وسائل لم يسبقها إليها سابق ولم يلحقها نظير لها في تلك الوسائل إلى هذا القرن العشرين. فمن تلك الوسائل فن التخذيل أو «الطابور الخامس» كما يسمى في العصر الحديث، ومنها تسخير العلم والفن والفلسفة والقصص في نشر الدعوة الظاهرة والخفية، ومنها الاستعانة بالجماعات السرية وترتيب الأدوار المنظمة لإنفاذ سياسة بعد أخرى، ومنها المواكب والمواسم والمحافل والأعياد والعادات الاجتماعية، وكانت تثابر على الدعوة ولا تهمل معها أركان الملك من تشييد المدن وتنظيم الدواوين وترتيب الرتب وتدريب الجيوش وبناء الأساطيل وفتح المدارس والجامعات وتزويدها بالمكتبات، وتشويق الناس إليها بمجالس المحاضرة والمناظرة في أيام محدودة يشهدها الرجال والنساء. •••
فقيام الدولة الفاطمية في الواقع نموذج لقيام الدول بالحول والحيلة، ولو استغنى التاريخ بدولة واحدة عن دول كثيرة لكانت هذه الدولة حسبه من عبره وأطواره وتدبيراته ومصادفاته. ولسنا في صدد الإفاضة في هذه الدراسة بتفصيلاتها وفروعها، ولكننا نطرق منها في هذه العجالة ما له علاقة بالانتساب إلى الزهراء، وما له علاقة بآثارها الباقية في هذا البلد؛ لأنه البلد الذي شهد من الدولة الفاطمية أهم أدوارها وأفخم عهودها، وكانت مخلفاتها فيه أبقى المخلفات في تاريخها الحديث.
الفصل العاشر
النسب
الدعوى المنتظرة هي أقوى الدعاوي، وهي كذلك - ومن أجل ذلك - أضعفها وأولاها بالتشكك والمراجعة.
والمقصود بالدعوى المنتظرة كل دعوى تمليها البواعث النفسية أو البواعث السياسية والاجتماعية، وهي قوية لأنها لا تأتي عفوا، ولا يكتفي المدعون فيها بإبدائها وترك السامعين وشأنهم في قبولها أو الإعراض عنها، بل هم يدعونها ويحتالون على إيرادها مورد الصدق وتمثيلها في صورة الكلام السائغ المحقق، ثم يكررونها ويلحون في تكريرها، ويتحينون الفرص لنشرها في مظان الإصغاء إليها والرغبة في إثباتها.
وإذا كانت البواعث التي تمليها متعددة متجددة كان ذلك خليقا أن يزيدها قوة على قوة وإلحاحا على إلحاح، فهي تتوارد من جهات كثيرة وترجع إلى الظهور كرة بعد أخرى، كلما حيف عليها أن تضعف، وكلما تعاظم الرجاء في التحدث بها والالتفات إليها.
إن الدعوى المنتظرة قوية من أجل هذا.
وهي من أجل هذا بعينه ضعيفة متهمة.
لأن البواعث التي تمليها تريب السامع حين تنكشف له، وقد يكون الإلحاح فيها مشككا لمن يسمعها وكاشفا للغرض والهوى من ورائها.
وإذا تعددت البواعث كان ذلك أحرى أن يسوق التناقض والاختلاط إلى الروايات والأقاويل، فلا يتفق مروجوها على اختراعها ولا على نقلها، ومن لم يكن منهم مخترعا لروايته لم يجهد ذهنه في التوفيق بين النقائض والتقريب بين الأسانيد، فتصاب الدعوى بالضعف من جراء تعدد البواعث كما تأتيها القوة والمثابرة لهذا السبب، وتخسر من هنا كما تكسب من هناك. •••
وقد كان اتهام الفاطميين في نسبهم دعوى منتظرة، وكانت البواعث إليها متعددة متجمدة، فلا جرم تكون في وقت واحد أقوى الدعوات، ثم لا تلبث أن تعود أضعف الدعوات.
كان الفاطميون يطلبون الخلافة ويعتمدون في طلبها على النسب.
وكانوا يهددون بمساعيهم في طلب الخلافة خصوما كثيرين يملكون الدول في المشرق والمغرب ولا يريدون النزول عما ملكوه، أو لا يريدون بعبارة أخرى أن يسلموا للفاطميين صحة النسب الذي يعتمدون عليه.
فلم يكن أقرب إلى الذهن من مهاجمتهم في نسبهم وتجريدهم من الحجة التي يؤيدون بها مسعاهم، فهذه هي الدعوى المنتظرة التي تعددت بواعثها في المشرق والمغرب، وتوافقت الأغراض على ترويجها وتثبيتها بين الخائفين على عروشهم من نسب الفاطميين، وكلهم ذوو سلطان وذوو براعة وافتنان، ومن ورائهم من يرغبون في بقائهم أو يتلقون دعواهم بالتصديق والإيمان.
كان الفاطميون يطلبون الخلافة ويعتمدون في طلبها على انتسابهم إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان هذا النسب حجة معتمدة لا يماري فيها الأكثرون من أتباع الدول الإسلامية الذين تسري بينهم دعوى آل البيت، غير مستثنى منهم أتباع الدولة العباسية في ذلك العهد على الخصوص، وهو عهد النقص والأدبار الذي يكثر فيه طلاب الزوال أو طلاب العلل بالحق وبالباطل، وعلى الإنصاف الواضح أو على الجور الصراح.
كان مصير الخلافة إلى الفاطميين نذيرا بزوال عروش كثيرة، منها عروش العباسيين في بغداد والإخشيديين في مصر والأغالبة في إفريقية الشمالية والأمويين في الأندلس، والأمراء الصغار المنبثين في هذه الرقعة هنا وهناك ممن يطيب لهم القرار على ما هم فيه ولا يطيب لهم التبديل والانتقال.
وكان هؤلاء المالكون غرباء عن أهل البيت ما عدا العباسيين، ولكن العباسيين في ذلك العهد خاصة كانوا أخوف الخائفين من نسب الفاطميين، بعد أن كانت دعوة أهل البيت تشملهم أجمعين منذ ثلاثة قرون.
عندما ضعفت دولة بني أمية قويت دعوة آل البيت التي كان يقوم بها العلويون والعباسيون.
ولكن العباسيين أخذوا بزمام الدولة الجديدة على اعتقاد الأكثرين أنهم كانوا يدعون إلى خلافة العلويين أبناء فاطمة وعلي أحق الناس باسم آل البيت في رأي أتباع الدولة الجديدة. وبلغ من إيمان أتباع الدولة الجديدة بهذا الرأي أن خلفاء بني العباس أظهروا العزم على الوصاية بعدهم لولاة عهد العلويين، كما فعل الرشيد والأمين. ثم استحكم العداء بين بني العباس وبني علي حتى لجأ الأئمة العلويون إلى الاختفاء، وشاعت يومئذ العقيدة في الإمام المستور، ثم شاعت الدعوة إلى العلويين باسم الفاطميين؛ لأنها أقرب الدعوات إلى بنوة محمد عليه السلام. فقد يقال: إن العباسيين أبناء العباس عم النبي، وإن العلويين أبناء علي ابن عمه أبي طالب! أما الانتماء إلى فاطمة الزهراء، فهو انتماء إلى بيت النبي نفسه، وليس إلى الأعمام ولا أبناء الأعمام.
في أوائل الدولة العباسية، كانت دعوة آل البيت تشمل العلويين والعباسيين، وكان الخلاف يسيرا بين الفريقين على أمل التوفيق بينهما بعد حين، وكانت قوة الدولة في نشأتها تصمد لهذا الخلاف الذي هان أمره ولم يبلغ أشده في أول عهده، وكان يكفي أن يقال عند اشتداده: إن وراثة الأعمام أقرب من وراثة أبناء الأعمام.
ولكن الدولة العباسية بقيت حتى تضعضعت وكثر الساخطون عليها والمتبرمون بها والراغبون في زوالها، وكثر كذلك شهداؤها من آل البيت أبناء علي وفاطمة، وزال عنها عطف العاطفين عليها لقرابتها من بيت النبوة، فتحول عطفهم إلى الشهداء المظلومين المشردين في أرجاء البلاد، وأصبح تشردهم الذي يظن به أنه يضعفهم مددا لهم من أمداد العطف والولاء، وأصبحت دعوة «الفاطميين» وقفا على هؤلاء المشردين المظلومين لا يشركهم فيها العباسيون؛ لأن العباسيين هنا هم الخصوم المحاسبون على الظلم والنكال واختلال حبل الأمور.
ومن الفاطميين هؤلاء يأتي الخطر الأكبر على بني العباس، ومن نسبتهم إلى فاطمة الزهراء يأتي امتيازهم بحق الخلافة، وبهذا الحق يطلبون النصفة للشهداء والمضطهدين، فأي شيء أقرب إلى مألوف السياسة من دفع الخطر بإنكار هذا النسب، ومن حصر الولاء لأهل البيت في القائمين بالأمر من بني العباس؟
وقد أنكر العباسيون نسب الفاطميين وزعموا أنهم ينتسبون إلى ميمون القداح ابن ديصان الثنوي القائل بالإلهين، وتلقف التهمة كل ناقم على الفاطميين، وهم صنوف ينتمون إلى كل مذهب ونحلة،
1
منهم كما أسلفنا الإخشيديون والأغالبة والأمويون والأندلسيون، وزاد عليهم من كان تابعا للفاطميين ثم تمحل
2
المعاذير للخروج عليهم كوالي مكة وبعض رؤساء العشائر في الجزيرة العربية، بل قيل: إن أناسا من العلويين شهدوا عليهم بادعائهم النسب في علي وفاطمة عليهما السلام، ونسب إلى الشريف أبي الحسين محمد بن علي المشهور بأخي محسن الدمشقي أنه كتب رسالة في تنفيذ دعواهم ينكرها المقريزي وينسبها إلى عبد الله بن رزام.
ويروى عن سبب نشاط القادر بالله إلى كتابة الإشهاد ببطلان نسب الفاطميين أنه سمع أبياتا نظمها الشريف الرضي يقول فيها:
ما مقامي على الهوان وعندي
مقول صارم وأنف حمي
أليس الذل في بلاد الأعادي
وبمصر الخليفة العلوي
من أبوه أبي ومولاه مولا
ي إذا ضامني البعيد القصي
لف عرقي بعرقه سيد النا
س جميعا محمد وعلي
إن ذلي بذلك الجد عز
وأوامى
3
بذلك الربع ري
فأرسل إلى أبيه الشريف أبي أحمد الموسوي يقول: إنك قد عرفت منزلتك منا وما تقدم لك في الدولة من مواقف محدودة، ولا يجوز أن تكون أنت على خليفة ترضاه ويكون ولدك على ما يضاد ما لا نزال عليه من الاعتداد بك لصدق الموالاة منك. وقد بلغنا أنه قال شعرا - هو هذه الأبيات - فيا ليت شعري على أي مقام ذل أقام وهو ناظر في النقابة - نقابة الأشراف - والحج، وهما من أشرف الأعمال ولو كان بمصر لكان كبعض الرعايا.
فأحضر أبو أحمد ولده الرضي فأنكر الشعر، فأمره أن يكتب بخطه إلى القادر بالاعتذار وإنكار نسب الحاكم بأمر الله ، فأبى، فقال له أبوه: «أتكذبني في قولي؟» فقال: «كلا ما أكذبك، ولكني أخاف من الديلم ومن الدعاة في البلاد» فقال له أبوه: «أتخاف من هو بعيد عنك وتسخط من هو قريب منك، وهو قادر عليك وعلى أهل بيتك؟!» وغضب أبوه وحلف لا يقيم معه في بلد، فلما بلغ الأمر بينهما هذا المبلغ حلف الرضي أنه لم يقل تلك الأبيات، وكتب بخطه في محضر الأفكار، وشاع الزعم بعد كتابة ذلك المحضر أن المهدي الفاطمي لم يكن يسمى عبيد الله، وأن اسمه الصحيح «سعيد بن أحمد بن عبد الله القداح بن ميمون بن ديصان».
وقد اختلفوا في نسبته تارة إلى المجوس وتارة إلى اليهود. واختلفوا في الجد الذي كان مجوسيا أو يهوديا؛ فقيل: إن عبيد الله كان ابن حداد يهودي مات عن زوجة فبنى بها الحسين بن أحمد بن عبد الله بن ميمون وتبنى عبيد الله، وقيل: إن عبيد الله قتل في سجن سجلماسة بالمغرب فأشفق داعيه «أبو عبد الله الشيعي» فسماه عبيد الله وبايعه بالخلافة، وقيل: إن أمة للإمام جعفر الصادق علق بها يهودي فولدت منه عبيد الله ونشأ في بيت الإمام منتميا إلى أهل البيت.
وقد كانت لهجة البيان العباسي غاية في العنف تنم على الغيظ وتخلو من الدليل، ومنه: «إن هذا الناجم بمصر هو منصور بن نزار المتلقب بالحاكم - حكم الله عليه بالبوار والدمار - ابن معد بن إسماعيل بن محمد ابن سعيد - لا أسعده الله - وإن من تقدمه من سلفه الأرجاس الأنجاس عليهم لعنة الله ولعنة اللاعنين خوارج لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإن ما ادعوه من الانتساب إليه زور وباطل، وإن هذا الناجم في مصر وهو وسلفه كفار فساق ملحدون معطلون، وللإسلام جاحدون، أباحوا الفروج وأحلوا الخمور وسبوا الأنبياء وادعوا الربوبية.»
ولم يقصر المؤرخون المنكرون عن القوم في العنف والسباب؛ فقال صاحب كتاب الروضتين في أخبار الدولتين عن الفاطميين: «إن المعروف عنهم أنهم بنو عبيد، وكان والد عبيد هذا من نسل القداح الملحد المجوسي، وقيل: كان والد عبيد هذا يهوديا من أهل سلمية من بلاد الشام، وكان حدادا، وعبيد هذا كان اسمه سعيدا، فلما دخل المغرب تسمى بعبيد الله وزعم أنه علوي فاطمي، ثم ترقت به الحال إلى أن ملك وتسمى بالمهدي، وكان زنديقا خبيثا عدوا للإسلام متظاهرا بالتشيع متسترا به حريصا على إزالة الملة الإسلامية، قتل من الفقهاء والصالحين جماعة كثيرة، وكان قصده إعدامهم من الوجود ليبقى العالم كالبهائم فيتمكن من إفساد عقائدهم، ونشأت ذريته على ذلك منطوين يجهرون به إذا أمكنتهم الفرصة وإلا أسروه، والدعاة منبثون لهم في البلاد، وبقى هذا البلاء على الإسلام من أول دولتهم إلى آخرها، وفي أيامهم كثرت الرافضة وأفسدت عقائد طوائف من أهل الجبال الساكنين بثغور الشام، وأخذت الإفرنج أكثر البلاد بالشام والجزيرة إلى أن من الله على المسلمين بظهور البيت الأتابكي وتقدمه مثل صلاح الدين فاستردوا البلاد وأزالوا هذه الدولة.»
ومن اعتدل من المؤرخين في الإنكار والسباب، كابن خلكان، أيد التهمة بالقصص التي تؤكدها لو أنها ثبتت؛ كالقصة التي اشتهرت عن سيف المعز وذهبه، وأن ابن طباطبا سأل المعز عند وصوله عن نسبه فسل سيفه، فقال: «هذا نسبي» ثم نثر عليهم الذهب وقال: «وهذا حسبي» وقنع منه الحاضرون بما سمعوه وشهدوه.
وظاهر بغير عناء أن الوثيقة العباسية لا قيمة لها من الوجهة التاريخية؛ لأن الذين وقعوها من الأشراف العارفين بالأنساب قد أكرهوا على توقيعها، ومن وقعها غيرهم من فقهاء القصر والحاشية لم يكن أحد منهم حجة في مسائل النسب والتاريخ، وقد أضعفوا دعواهم غاية الضعف بنسبة جد الفاطميين إلى ديصان الثنوي، وهو من أبناء القرن الثالث للميلاد، ذهب إلى التوفيق بين المسيحية والزرادشتية قبل البعثة الإسلامية بنحو أربعة قرون، ولم يظهر أحد بهذا الاسم على عهد العباسيين غير من يسميه المؤرخون حينا بديدان وحينا بزندان أو دندان ولا شأن له بنشأة الثنوية ولا بالدعوة إليها في قول أحد من أولئك المؤرخين، وإنما قيل عنه: إنه كان على ثروة كبيرة وعاون إسحاق بن إبراهيم بن مصعب على الثورة في عهد الخليفة المأمون.
وادعاء الموقعين للوثيقة أن خلفاء الفاطميين أباحوا المحرمات واستحلوا الموبقات لم يقم عليه دليل قط من وقائع التاريخ، بل ثبت من هذه الوقائع أن بعض هؤلاء الخلفاء اكتفى بزوجة واحدة ولم يبح لنفسه ما كان يباح في قصور الخلفاء من التسري واقتناء الإماء، وقد خولط الحاكم بأمر الله في عقله فجنح إلى التنطس
4
في الطعام، وحرم المباح منه بدلا من إباحة الحرام!
ولعله لا يخفى على أحد من النظرة الأولى قصة التبشيع والتشنيع في نسبة الفاطميين تارة إلى المجوس وتارة إلى اليهود، فكأنه لا يكفي أن تسقط دعواهم في الخلافة حتى تسقط دعواهم في الإسلام وترجع نسبتهم إلى أبعد الملل عن الديانة الإسلامية في عرف ذلك العصر على الخصوص، ثم يقال عنهم ما لا يقال في جميع المجوس واليهود من استباحة المحرمات والتهافت على الشهوات.
والقصة التي رويت عن سيف المعز وذهبه غنية عن التكذيب؛ لأن ابن طباطبا الذي قيل: إنه سأل المعز عن نسبه عند وصوله إلى مصر قد توفى قبل قدوم المعز إليها بأربع عشرة سنة، وابن خلكان صاحب القصة هو الذي ذكر تاريخ وفاته فلم يكذب القصة بل قال: لعله أمير آخر. مع أن اسم «المعز» هو الذي دار عليه مثل السيف والذهب المشهور، وليس من المعقول بأية حال أن يقيم الفاطميون دعواهم على النسب ثم يعجزون عن ذكر هذا النسب حين يسألون عنه، فكل جواب أيسر وأنفع من الجواب الذي وضعوه على لسان المعز لدين الله، ولا معنى له إلا الاعتراف الصريح بأنه مدخول النسب دعي في الخلافة.
وقد روى ابن خلكان أيضا أن العزيز بالله صعد المنبر فوجد فيه ورقة كتبت عليها هذه الأبيات:
إنا سمعنا نسبا منكرا
يتلى على المنبر في الجامع
إن كنت فيما تدعي صادقا
فاذكر أبا بعد الأب الرابع
وإن ترد تحقيق ما قلته
فانسب لنا نفسك كالطائع
أو فدع الأنساب مستورة
وادخل بنا في النسب الواسع
فإن أنساب بني هاشم
يقصر عنها طمع الطامع
فإن صحت هذه الرواية فالتحدي فيها بإظهار النسب قبل الأب الرابع صادر من خبير بموضع الخلاف؛ لأن تاريخ النسب قبل الأب الرابع يوافق التاريخ الذي عمد فيه الأئمة العلويون إلى الاختفاء والتنكر بأسماء غير أسمائهم، وائتمان الدعاة دون غيرهم من أسرار ذريتهم وأولياء عهودهم، وإنما العجيب في الأمر أن يكون العزيز بالله هو الذي يتحداه المتحدي بإظهار نسب كنسب «الطائع» العباسي، مع أن الطائع نفسه قد علم بكتابة وزيره عضد الدولة إلى العزيز وحمله الهدايا إليه واعترافه بنسبه، وإنه تلقى منه الشكر «لإخلاصه في ولاء أمير المؤمنين ومودته ومعرفته نحو إمامته ومحبته لآبائه الطاهرين.»
وقد تواتر أن عضد الدولة هم بالخطبة في بغداد للخلفاء الفاطميين فرده أحد الدهاة من أصحابه عن هذا العزم، وقال له: «إنك مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مستحلين دمه، ولكنك إذا أقمت علويا في الخلافة كان معك من تعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لاستحلوا دمك وقتلوك.»
وقد أشار صاحب «الروضتين في أخبار الدولتين» إلى قيام الدولة الأيوبية بعد الدولة الفاطمية، ولكنه يعلم أن صلاح الدين الأيوبي أذن بالخطبة في يوم الجمعة للخليفة الفاطمي، وأنه إنما حول الخطبة إلى الخليفة العباسي بعد وفاة العاضد آخر خلفاء الفاطميين، وأنه أطاع في ذلك أمر رئيسه نور الدين بن زنكي، ولم يكن لصحة النسب أو بطلانه شأن في هذا التغيير، ومرجعه الأهم إلى الخلاف بين مذهب الشيعة ومذهب أهل السنة؛ إذ كان الأيوبيون سنيين يشتدون في اتباع مذهب أهل السنة، وزادهم فيه شدة ما كان بين الكرد والديلم من النفور والنزاع، وكان الديلم شيعيين والكرد سنيين، وقد تفاقم النزاع بين رؤسائهم حتى سرى إلى الألقاب، فكان بنو بويه من الديلم يتلقبون بألقاب معز الدولة وركن الدولة وعضد الدولة، وكان الأيوبيون من الكرد يتلقبون بألقاب نجم الدين وعماد الدين وصلاح الدين.
ومما يلاحظ أن بعض المؤرخين يحيلون على البعد في كتابتهم عن الدعوة الفاطمية ودعاتها كلما خلطوا بين هذه الدعوة والدعوة الباطنية؛ فأبو المعالي الفارسي يقول في كتابه «بيان الأديان»: إن ميمونا القداح من مصر. وجملة المؤرخين يقولون عنه: إنه من فارس. وكل منهم يحيل إلى المكان البعيد حيث يتعذر عليه تحقيق الرواية بالسند الصادق في مكان قريب.
وصح من أجل هذا قول ابن خلدون: إن شهادة الشاهدين بالطعن في نسب القوم كانت على السماع، وأصاب المقريزي حين قال عن العلويين: «إنهم على غاية من وفور العدد وجلال القدر عند الشيعة، فما الحامل لشيعتهم على الإعراض عنهم والدعاء لابن مجوسي أو لابن يهودي؟ هذا ما لا يفعله مخلوق ولو بلغ الغاية في الجهل والسخف.»
والمقريزي وابن خلدون قد أرخا للمهدي الفاطمي بعد عهده بزمن طويل - وهما سنيان غير متشيعين - ولكنهما نظرا في مطاعن أعدائه نظرة المؤرخ المحقق فلم يجدا فيها حجة مقبولة، وقامت عندهما حجة النسب الصحيح مقام التغليب والترجيح، وقد عاصر المهدي مؤرخ أندلسي - هو عريب بن سعد - وكان ممن يوالون الأمويين، فلم يقدح في نسب الرجل ولم يسمع من أمراء أمية في الأندلس قدحا فيه.
وغاية ما ننتهي إليه في هذه المسألة - مسألة النسب الفاطمي - أن المطاعن لم تمسسه بدليل واحد يعول عليه، وأن مطاردة عبيد الله عند اتجاهه إلى المغرب دليل على أن العباسيين أنفسهم كانوا يخشون دعوته، وأن مبايعة الشيعة لأبنائه - سواء شيعة الديلم في بغداد أو شيعة الزيديين خاصة في اليمن - ترجح صدق انتسابهم إلى السيدة فاطمة الزهراء إن لم تؤكد كل التوكيد، وقد كانت دعوى المنكرين عليهم كما قدمنا في صدر هذا الفصل أضعف الدعوات؛ لأنها الدعوى المنتظرة التي تمليها البواعث المتعددة، فلا يتخيل أحد أن يتصدى الفاطميون لطلب الخلافة بحق ذلك النسب ثم لا يتعرضوا لإنكاره عليهم ما وسع المنكرين أن ينكروه.
الفصل الحادي عشر
الباطنية
كان المنتفعون بالطعن في نسب الفاطميين كثيرين متعددين، كلهم كما تقدم من ذوي السلطان أو أتباع ذوي السلطان، وقد استعانوا بالحول والحيلة في ترويج مطاعنهم واختراع أقاويلهم فاستمالوا إليهم في البلاد الإسلامية من لا مصلحة له في مطاعنهم، ولكننا نحسب - بعد مراجعة أخبار العصر وحوادثه - أن المطاعن في النسب لم تكسب على المصدقين إلا القليل الذين ينظرون إلى الأمر كله بغير اكتراث، أو يكترثون له ولكنهم عيال على الحوادث لا يقدمون ولا يؤخرون. أما الأثر البالغ في تنفير الناس من الفاطميين فإنما جاء من ربط الحركة الفاطمية بالحركة الباطنية، وادعاء الخصوم أن الباطنيين جميعا إسماعيليون ممن ينتمون إلى إسماعيل بن جعفر الصادق جد القائمين بالدعوة الفاطمية.
فمن زمن والناس في المشرق يفهمون أن الإسماعيلية هي كلمة مرادفة للباطنية، ويلصقون بالإسماعيلية كل ما لصق بالباطنية من المساوئ والمنكرات، ومن الفضائح والقبائح، وهي في الواقع كثيرة منفرة لا تحتاج إلى جهد كبير في التنفير والتشهير.
وساعد على لصوق التهمة بالفاطميين أن بعض المجاهرين بالإباحة والاجتراء على مناسك الدين الإسلامي كالقرامطة في البحرين كانوا يعلنون التشيع للإسماعيليين، أو بعبارة أخرى للفاطميين، فوقر في الأذهان أن دعاة الإسماعيلية جميعا إباحيون، وأن الباطنية هي إخفاء المنكرات وإعلان التشيع للتغرير والتضليل.
وقد قيل: إن رجلا من دعاة الباطنية يدعى «علي بن فضل» ادعى النبوة وأباح جميع المحرمات، وقال شاعره في روايات مختلفة:
خذي الدف يا هذه والعبي
وغني هزازيك ثم اطربي
تولى نبي بني هاشم
وهذا نبي بني يعرب
أحل البنات مع الأمها
ت، ومن فضله زاد حل الصبي
وقد حط عنا فروض الصلا
ة وحط الصيام فلم يتعب
إذا الناس صلوا فلا تنهضي
وإن صوموا فكلي واشربي
ولا تطلبي السعي عند الصفا
ولا زورة القبر في يثرب
ولا تمنعي نفسك المعرس
ين من الأقربين أو الأجنبي
فكيف حللت لهذا الغر
يب وصرت محرمة للأب
أليس الغراس لمن ربه
ورواه في الزمن المجدب
وقيل على الجملة: إن الباطنيين يظهرون الإسلام ليكيدوا له ويدسوا عقائد الشرك والضلال بين أهله، وإنهم في الأصل مجوس منطوون على بغض شديد للعرب ودينهم، لم يقدروا على هذا الدين وتقويض دولة العرب بالقوة، فاحتالوا على مأربهم بالدسيسة والمكيدة، وأنشأوا نحلتهم لاستدراج المسلمين وتحويلهم شيئا فشيئا من عقائدهم إلى التعطيل والإباحة والكفر بالبعث والمعاد وإنكار الفرائض والعقائد والأديان.
قالوا: وإن الإسماعيلية خاصة يبثون دعوتهم على درجات، ويأخذون المواثيق والأيمان على مريديهم ألا يفشوا لهم سرا ولا يظاهروا عليهم أحدا، ثم يتدرجون بهم من التشكيك وطلب المزيد من العلم على أيدي الأئمة المعصومين، ثم تلقين بعض الرموز التي تروق المريد وتشوقه إلى المزيد من الأسرار، ثم تعريفه بنظام الدعوة ومن يتولاها، ثم تأويل النصوص وتحريف الألفاظ على ظواهر معانيها، ثم الخوض في المذاهب الفلسفية التي تنتهي في الدرجة التاسعة من درجات الكشف والزلفى إلى تأليه الإمام على مذهب الحلول، وأنه هو روح الله حلت في جسد إنسان، ولعمري ماذا في وسع عشرة أو عشرين من «الواصلين» إلى هذه الدرجة في أرذل العمر أن يصنعوه حين يعلمون سرا بإباحة الشهوات ورفض الأديان؟!
وآفة الباحثين في هذه الألغاز والإشاعات أنهم جعلوها كلها مسألة أخبار وروايات، وراحوا يعنتون أنفسهم في جمع هذه الأخبار، فإذا هي تتناقض ولا تستقر على قرار.
هؤلاء المؤرخون الورقيون أو الحرفيون لا يصلحون لبحث هذه المسائل التي يبدأ البحث الصحيح فيها وينتهي في السريرة الإنسانية وما يجوز فيها وما لا يجوز، وما يجب أن يرفض بداهة، فلا يطول البحث فيه بعد ذلك إلا لتطبيق أصول النقد واتخاذ الأمثلة على حقائق التاريخ وأباطيله كما تعرضها عليها الأخبار والروايات.
فمن الطريف حقا أن يقيد المريدون بالأيمان والأقسام ليكتموا السر، ثم يأتي السر المكتوم فإذا هو سر يحلهم من جميع تلك الأيمان والأقسام على سبيل اليقين ولا يضمن نقلهم إلى يقين جديد!
وأطرف منه أن يقال عن رجل: إنه معطل منكر للمعاد منكر للأديان، منكر للوعود الإلهية ثم يقال عنه: إن كراهة دين من الأديان تبعثه إلى الجهاد سرا وعلانية والاستماتة في الجهاد حتى يتعرض للقتل والتشريد؛ أملا في يوم من الأيام يزول فيه هذا الدين ويشهد هو زواله أو لا يشهده بعد سنوات أو بعد أحقاب وقرون.
إنما يعمل هذا العمل لهدم دين من الأديان من يؤمن بدين غيره ، ويعمل لقيام دولة من أبناء دينه، فأما المنكر المعطل لكل عقيدة فلن يبقى في نفسه من الحماسة الروحية ما يهون عليه المشقة والخطر ويقيمه ويقعده كراهة؛ لأن دين قومه وغيره من الأديان عنده سواء.
كان تصديق هذا مفهوما في القرون الوسطى؛ لأنهم كانوا يومئذ يعتقدون أن الكافر يكفر في سبيل الشيطان، وأنه يرى الشيطان بعينه ويسمع وسواسه بأذنه ويساومه ويشارطه ويبيعه روحه ويأخذ منه السطوة والمتعة بديلا من نعيم السماء، وكانوا يومئذ يقولون عن أناس بأعيانهم: إنهم على صلة بالشيطان وإنهم تعلموا على يديه السحر الأسود، واطلعوا منه على أسرار النجوم والوجود واستهواهم مكره فعقدوا معه صفقة المغبون في حساب المؤمنين.
أما في عصرنا هذا فمن العسير أن يتخيل الإنسان ملحدا ينكر كل شيء، ويتجرد لأهوال الدعوة الباطنية لأجل شيء من الأشياء كائنا ما كان، إلا أن يكون ذلك الشيء سطوة يطلبها لنفسه في حياته أو في بيته، ولا يعقل حينئذ أنه يتدرج بالأتباع والمريدين من الجهل بحقيقة إلى العلم بتلك الحقيقة والاطلاع على دسائسه وغوايته التي يلبسها على الناس بتلبيس من ألغاز العقائد وأسرار الديانات.
وقد شغلت طائفة المؤرخين الأقدمين والمحدثين بدعوة القرامطة وأشباههم في اليمن وفارس وادعائهم النسبة إلى الإسماعيلية في المغرب مع مجاهرتهم بالمعاصي واجترائهم على مناسك الحج وتمثيلهم بالحجاج من الرجال والنساء، فخطر لهذه الطائفة من المؤرخين أن علاقة النسب بين القرامطة والإسماعيليين جد تحتمل البحث، ويؤدي البحث فيها إلى ثبوت العلاقة بين هؤلاء وهؤلاء.
وأغرب الغرائب أن أحدا من أولئك المؤرخين لم يخطر له أن يسأل: لماذا لم يظهر في المغرب - حيث تقوم الدولة الفاطمية كلها - أناس من دعاة الإباحية والعصيان، كالذين ظهروا في البحرين واليمن وفارس وبعض بقاع الشام؟
فمن نظرة سريعة يمكن أن يتبين الناظر في التاريخ أن الانتماء إلى الإسماعيليين مفهوم من أناس يقيمون في بلاد الدولة العباسية ويعلنون الخروج عليها، فهم في حاجة إلى سلطان مشروع يقاومون به سلطانها المخلوع، وانتماؤهم إلى الفاطميين أو الإسماعيليين هو السند الذي يركنون إليه في محاربة الدولة العباسية وإنكار حقها في الطاعة والولاء، ولو كان نشر الدعوة الفاطمية يتولاه دعاة العصيان والمعاصي لكان أولى البلاد أن تظهر فيه طوائف الإباحة هي بلاد المغرب حيث دان القوم لخلافة الفاطميين.
ولقد حدث فعلا أن القرامطة خلعوا البيعة الفاطمية ورجعوا إلى الدعاء على المنابر باسم الخليفة العباسي حين وقعت النبوة
1
بينهم وبين الخليفة الفاطمي في القاهرة، وسول لهم الطمع أنهم قادرون على فتح مصر بعد أن جربوا قوتهم وحيلتهم في فتح أطراف من بلاد الشام.
وقد يكون أغرب من هذا أن يقال من جهة: إن الإباحة هي الدرجة السابعة أو الثامنة التي يصل إليها المريد المترقي في كشف الحجب وعلم الأسرار، ثم يقال من جهة أخرى: إن هذه الإباحة سر مباح في الطريق يعكف عليها المؤمن جهرة ويردده الشعراء ويتغنى به القيان.
لم ينفصل علم النفس وعلم التاريخ في بحث من البحوث كما انفصلا في بحث قضية الإسماعيلية والباطنية، ولهذا كثر فيه التخبط وقل فيه الثبوت والوضوح، ونحسب أن محنة التاريخ هنا أصعب من كل محنة؛ لأن المؤرخ هنا يعمل عملين ولا يستقل بعمل واحد: يعمل لمعرفة الحقيقة ويعمل لاستخلاصها من الأباطيل التي تحجبها عن عمد وتدبير، وواحد من هذين العملين كثير على مؤرخي الورق والحروف.
إننا عرفنا ألوانا من النظم السرية التي اصطلحت عليها الجماعات المتسترة في العصور القديمة، وبعضها ديني يتخذ له أغراضا سياسية كالجماعات الأورفية والجماعات الفيثاغورية، ولا ندري الآن كيف تكشفت هذه النظم المزعومة، بل لا ندري هل هي في الحق كانت موجودة متبعة أو هي أوهام وتخمينات من وحي الاستطلاع والاستنباط.
ولكننا إذا سمعنا عن نظم سرية في عصور التاريخ القريب فلا معنى في هذه الحالة للإحالة على القدم أو للخبط في الظنون؛ إذ يحق لنا في هذه الحالة أن نسأل عن المريد الذي تدرج في مراتب الباطنية حتى وصل إلى قيادة الدعوة ثم خانها وأفشى أسرارها، أو يحق لنا أن نسأل عن الحاكم الذي تعقب الجماعة بعيونه وجواسيسه حتى كشف عن بواطنها ، أو يحق لنا أن نسأل عن الأوراق المطوية التي نشرت بعد العثور عليها في إبانها أو بعد انقضاء زمانها. ولسنا نذكر فيما اطلعنا عليه من أخبار الباطنية أن أحدا تحدث عن مريد واحد صعد على مراتبها من درجة التلميذ المبتدئ إلى درجة الحجة المطلع على جميع خفاياها، ولا أن أوراقا لها فصلت فيها نظمها وأسرارها وأذيعت في أوانها أو بعد أوانها، بل زعم الرواة أن الذي فضح الجماعة وأنكر على جعفر الصادق نفسه دعواه، قبل دعوى إسماعيل ابنه وخلفائه، هو عبد الله بن ميمون القداح. ومن هو عبد الله بن ميمون القداح؟ هو واضع النظام كله ومرتب الدرجات كلها ومصطنع التخفي والتنكر لبلوغ مقصده من الدعوة باسم إسماعيل بن جعفر الصادق جد الإماميين أجمعين.
فعبد الله هذا هو الذي قال فيما زعم الرواة:
هات اسقني الخمرة يا سنبر
فليس عندي أنني أنشر
أما ترى الشيعة في فتنة
يغرها عن دينها جعفر
قد كنت مغرورا به برهة
ثم بدا لي خبر يستر
ولم تكفه قطعة واحدة ينظمها حتى نقل عنه الرواة قطعة أخرى يقول فيها:
مشيت إلى جعفر حقبة
فألقيته خادعا يخلب
يجر العلاء إلى نفسه
وكل إلى حبله يجذب
فلو كان أمركم صادقا
لما ظل مقتولكم يسحب
ولا غض منكم «عتيق» ولا
سما «عمر» فوقكم يخطب
وما كانت خلافة عمر ولا أنباء القتلى من آل فاطمة وعلي سرا مجهولا يوجب الشك إن لم تجزم باليقين من بطلان الخبر وتلفيقه. وخير من هذه الأسرار وغيرها أنه عدل عن الدعوة الإسماعيلية فيما تواترت به أخباره في المشرق والمغرب، فما زالت دعوة القداح إلى ختام حياته قائمة على المبايعة بالخلافة لإسماعيل وأبناء إسماعيل.
وعلى هذا النحو يتتبع المؤرخ ما شاء من أخبار الباطنية، فلا يمضي مع خبر منها خطوة أو خطوتين حتى يصطدم بالعقل أو الواقع صدمة توجب الشك إن لم تجزم باليقين من بطلان الخبر وتلفيقه. وخير من هذه «الورقيات والنصيات» أن نطمئن إلى مقياس واحد لا شبهة عليه من أهواء السياسة ، ثم نعرض عليه الأخبار مما يوافقه أو لا يوافقه عسى أن نخلص منها إلى قول صحيح أو نقد صحيح.
ذلك المقياس هو الحالة النفسية الاجتماعية التي كانت شائعة في العالم الإسلامي من القرن الثالث إلى القرن الخامس للهجرة، ونخص منها بالنظر ما يرجع إلى مطالب الحكم من جهة ومساعي التكتم والمداراة من جهة أخرى.
فالدولة العباسية دخلت في دور الضعف والتفكك منذ أواخر القرن الثالث للهجرة، فاختلت قواعد الحكم وضاعت الثقة في الحكومة القائمة وكثر المنفصلون عن الدولة والمنتقضون عليها، وكان الدين هو حجة المطالبين بالحكم وحجة الخارجين عليه. فمن خرج على بني العباس أنكر عليهم حق الخلافة باسم النبي مع وجود عترة النبي من أبناء علي وفاطمة، ومن اعترف لبني العباس بالحق الشرعي في الخلافة زعم أن الحكم في دولتهم لغيرهم من وزراء الترك أو الديلم أو كتاب الدواوين الذين يتواطأون مع الولاة على انتهاب الأموال وبذلها للصنائع والأعوان، وأصبح دهماء الشعب على استعداد لإنكار الخلافة على القائمين بها والاستسلام للأدعياء الواثبين عليها، وتتابع المنتحلون للمعاذير الدينية في طلب الحكم أو عصيان الحاكمين من المغتصبين أو المستضعفين.
وفي تاريخ شاعر مشهور بالطموح مثلا لادعاء الحكم باسم الدين مرة وباسم الكتابة والأدب مرة أخرى أو مرات، ذلك الشاعر هو أبو الطيب المتنبي الذي نسب في بعض الروايات باسم أحمد بن الحسين بن الحسن ونشأ بين العلويين في الكوفة؛ فإنه ادعى النبوة أو المهدية في بادية السماوة، وبلغ من تفاقم دعوته أن خافه والي حمص من قبل الإخشيد فاعتقله ولم يطلقه إلا وقد عدل عن دعواه، ومن أحاديث المعجزات التي طولب بها كما جاء في «رسالة الغفران» أنهم قالوا له في بني عدي: «ها هنا ناقة صعبة، فإن قدرت على ركوبها أقررنا أنك مرسل. فمضى إلى تلك الناقة وهي رائحة في الإبل وتحيل حتى وثب على ظهرها، فنفرت ساعة وتنكرت برهة ثم سكن نفارها ومشت مشي المسمحة
2
وورد بها الحلة وهو راكب عليها فعجبوا له كل العجب وصار ذلك من دلائله عندهم.»
قال أبو العلاء بعد ذلك: «وحدثت أيضا أنه كان في ديوان اللاذقية، وأن بعض الكتاب انقلبت على يده سكين الأقلام فجرحته جرحا مفرطا، وأن أبا الطيب تفل عليها من ريقه وشد عليها غير منتظر لوقته، وقال للمجروح: لا تحلها في يومك، وعد له أياما وليالي، فبرئ الجرح، فصاروا يعتقدون في أبي الطيب أعظم اعتقاد، ويقولون: إنه كمحيي الأموات. وحدث رجل كان أبو الطيب قد استخفى عنده في اللاذقية، أو في غيرها من السواحل، إنه أراد الانتقال من موضع إلى موضع فخرج بالليل ومعه ذلك الرجل، ولقيهما كلب ألح عليهما في النباح، ثم انصرف، فقال أبو الطيب لذلك الرجل وهو عائد: إنك ستجد ذلك الكلب قد مات، فلما عاد الرجل ألفى الأمر كما ذكر.»
وقد كانت دعوى النبوة أو المهدية في عنفوان شباب أبي الطيب، فلما أوفى على الشيخوخة كان قد عدل زمنا عن دعواه، ولم يعدل عن طلب الولاية من كافور الذي كان خصيا مملوكا فاستبد بالعرش وأصبح فيما زعم: «دون الله يعبد في مصر!»
قال داعي الدعاة يصف حال الناس في تلك الأزمنة من كتاب أرسله إلى أبي العلاء المعري: «إنني شققت بطن الأرض من أقصى دياري إلى مصر وشاهدت الناس بين رجلين: إما منتحلا لشريعة صبأ إليها ولهج بها إلى الحد الذي إن قيل له من أخبار شرعه: إن فيلا طار أو جملا باض لما قابله إلا بالقبول والتصديق، ولكان يكفر من يرى غير رأيه فيه ويسفهه ويلعنه، فالعقل عند من هذه سبيله في مهواة ومضيعة. أو منتحلا للعقل يقول: إنه حجة الله تعالى على عباده، مبطلا لجميع ما للناس فيه، مستخفا بأوضاع الشرائع، معترفا مع ذلك بوجوب المساعدة عليها وعظم المنفعة بمكانها، لكونها مقمعة للجاهلين، ولجاما على رءوس المجرمين المجازفين، لا على أنها ذخيرة للعقبى أو منجاة في الدار الأخرى. فلما رمت بي المرامي إلى ديار الشام ومصر سمعت عن الشيخ، وفقه الله، بفضل في الأدب والعلم قد اتفقت عليه الأقاويل ووضح به البرهان والدليل، ورأيت الناس فيما يتعلق بدينه مختلفين، وفي أمره متبلبلين، فكل يذهب فيه مذهبا ويتبعه من تقاسيم الظنون سببا، وحضرت مجلسا جليلا أجري فيه ذكره، فقال الحاضرون فيه غثا وسمينا، فحفظته بالغيب، وقلت: إن المعلوم من صلابته في زهده يحميه من الظنة والريب، وقام في نفسي أن عنده من حقائق دين الله سرا قد أسبل عليه من التقية سترا، وأمرا تميز به عن قوم يكفر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، ولما سمعت البيت:
غدوت مريض الدين والعقل فالقني
لتسمع أنباء الأمور الصحائح
وثقت من خلدي فيما حدست عقوده، وتأكدت عهوده، وقلت: إن لسانا يستطيع بمثل هذه الدعوى نطقا، ويفتق من هذا العظيم رتقا، للسان صامت عنده كل ناطق، وناطق من ذروة جبل من العلم شاهق، فقصدته قصد موسى عليه السلام للطور، أقتبس منه نارا، وأحاول أن أرفع بالفخر منارا، بمعرفة ما تخلف عن معرفته المتخلفون واختلف في حقيقته المختلفون.»
وداعي الدعاة صاحب هذا الخطاب هو «أبو نصر هبة الله بن موسى بن أبي عمران» صاحب أكبر منصب من مناصب الدعوة في الدولة الفاطمية، كتب رسائله إلى حكيم المعرة يناقشه في تحريمه اللحوم على نفسه ويسائله عن البعث والقيامة، مستعظما على المتقولين أن يتهموا بإنكارهما حكيما كأبي العلاء، وقد استعار من اسمه «موسى بن أبي عمران» تفسيرا لوقوفه من رهين المحبسين موقف المقتبس من نار الطور.
وعلى ذكر أبي العلاء واعتقاد الناس في أسرار الحكمة وقوتها الخفية ننقل ما رواه ابن الوردي حيث ذكر في تاريخه: «إن حساده أغروا به وزير حلب فجهز لإحضاره خمسين فارسا ليقتله، فأنزلهم أبو العلاء في مجلس له بالمعرة، واجتمع بنو عمه وتألموا لذلك، فقال: إن لي ربا يمنعني، ثم قال كلاما منه ما لا يفهم، وقال: الضيوف الضيوف. الوزير الوزير. فوقع المجلس على الخمسين فارسا فماتوا، ووقع الحمام على الوزير بحلب فمات، فمن الناس من زعم أنه قتلهم بدعائه وتهجده، ومنهم من زعم أنه قتلهم بسحره ورصده.»
وروى صاحب الكوكب الثاقب هذه القصة بزيادة تفصيل فذكر عن الغزالي أنه قال: «حدثني يوسف بن علي بأرض الهركار قال: دخلت معرة النعمان وقد وشى وزير محمود بن صالح صاحب حلب إليه بأن المعري زنديق لا يرى إفساد الصور، ويزعم أن الرسالة تحصل بصفاء العقل، فأمر محمود بحمله إليه من المعرة، وبعث خمسين فارسا ليحملوه، فأنزلهم أبو العلاء دار الضيافة، فدخل عليه عمه مسلم بن سليمان وقال له: يا ابن أخي! قد نزلت بنا هذه الحادثة، والملك محمود يطلبك، فإن منعناك عجزنا وإن أسلمناك كان عارا علينا عند ذوي الذمام ويركب تنوخ الذل والعار، فقال: هون عليك يا عم ولا بأس عليك، فلي سلطان يذب عني. ثم قام فاغتسل وصلى إلى نصف الليل، ثم قال لغلامه: انظر إلى المريخ أين هو؟» فقال: في منزلة كذا وكذا، فقال: زنه واضرب تحته وتدا، وشد في رجلي خيطا واربطه إلى الوتد، ففعل غلامه ذلك، فسمعناه وهو يقول: يا قديم الأزل! يا علة العلل! يا صانع المخلوقات! وموجد الموجودات! أنا في عزك الذي لا يرام وكنفك الذي لا يضام، الضيوف الضيوف. الوزير الوزير. ثم ذكر كلمات لا تفهم، وإذا بهدة عظيمة، فسأل عنها فقيل: وقعت الدار على الضيوف الذين كانوا بها فقتلت الخمسين، وعند طلوع الشمس وقعت بطاقة من حلب على جناح طائر ألا تزعجوا الشيخ فقد وقع الحمام على الوزير. قال يوسف بن علي: فلما شاهدت ذلك دخلت على المعري فقال: من أين أنت؟ فقلت: من أرض الهركار. فقال: زعموا أنني زنديق، ثم قال: اكتب. وأملي علي أبياتا من قصيدة أولها:
أستغفر الله في أمني وأوجالي
من غفلتي وتوالي سوء أعمالي
3
هذه الحالة النفسية التي عمت أرجاء العالم الإسلامي في القرن الرابع خاصة خليقة أن ينجم فيها عشرات ممن يستهوون الناس بالأسرار الباطنة؛ لأن عالم الباطن مستودع كل أمنية وبغية كل طالب: طالب الدين وطالب الدنيا، طالب المعرفة وطالب السحر والعيافة،
4
أو طالب العلم الأبيض وطالب العلم الأسود، وخليق أن يقف النظر طويلا عند قول داعي الدعاة أنه يطلب سرا من أبي العلاء ، وأنه قام في نفسه أن عند أبي العلاء «من حقائق دين الله سرا قد أسبل عليه من التقية سترا». فإنه قد يكون في هذا القول مادحا أو مازحا ولكنه أبان عن سمة العصر كله من «الباطنية» التي يفرضها على نفسه العارف بأسرار الدين.
وأخلق من هذا أن يستوقف النظر أن هذا الكلام صادر من داعي الدعاة في الدولة الفاطمية، وهو الرجل الذي ينتهي إليه كل سر، ويصل إليه التلميذ بعد درجات ليسمع منه - فيما زعم الزاعمون - أن الدين لغو، وأن القيامة وهم، وأن المحرمات مستباحة للعارفين، فلو كانت هذه رسالته التي ينتهي إليها كل متقدم في درجات الأسرار فما حاجته إلى محاسبة أبي العلاء على الظنون التي تذاع عنه في أمر الحلال والحرام وأمر البعث والحساب؟ لقد كان الرضى عن مذاهب الزندقة جميعا أولى به من التعرض لذويها ومحاسبتهم عليها، فإنهم يتبرعون بما يجتهد له ويرتب المراتب ويحتال الحيل للوصول إليه بعد طول العناء.
إلا أن الخلاصة الثابتة في ذلك العصر أن «الباطنية» الواقعية حالة من الحالات التي لا تستغرب من دعاته المخلصين وأدعيائه المغرضين، فهناك «باطنية» يفرضها الناس على أنفسهم قبل أن يفرضها عليهم نظام مقرر أو مذهب منظم، وادعاء الأسرار في تلك البيئة أمر منتظر مترقب لا غرابة فيه، وأقرب ما يكون هذا الادعاء إلى من يطلب المنفعة لنفسه أو يطلب المكانة بما يعمله ويتعلمه منه غيره، وفاقا لشرطه وتدبيره.
وقد صار المجتمع الإسلامي إلى تلك الحالة في القرن الرابع وما تلاه بعد تمهيدات متلاحقة بعضها من فعل السياسة وبعضها من فعل الثقافة والعادة المستحدثة.
فأما التمهيدات التي هي من فعل السياسة فهي ما اسلفناه من تزعزع الثقة بحق السلطان القائم على اختلاف الحاكمين والحكومات، وأما التمهيدات التي هي من فعل الثقافة والعادة المستحدثة فهي انتشار الفلسفة ونشأة البحوث العقلية في علوم الدين ومنها علم الكلام والتوحيد، ومنها اقتباس الحضارات الغربية وانقسام الأمر فيها بين المحافظة والتجديد والاسترسال مع العرف الطارئ في غير بحث ولا مبالاة.
وقد كان أنصار السلطان القائم محافظين؛ لأنهم يبغضون التغيير ويحافظون على كل قديم.
وقد كان أنصار البحث والاستطلاع أقرب إلى التجديد والتغيير، وكانوا مظنة للتهم من أنصار القديم، فكان من الطبيعي الذي لا غرابة فيه أن يصطنعوا التقية ويظهروا للناس غير ما يبطنون، سواء كانوا من المتصوفة الذين يلتمسون النجاة عند «الواصلين» المتمكنين من بواطن الأسرار، أو كانوا من الفلاسفة الذين يشفقون من رجمات الظنون ولا يأمنون العامة ولا ذوي السلطان المتوجسين من كل جديد، أو كانوا من غير المتصوفة والفلاسفة أقواما يعالجون من المعارف ما يشبه السحر والكهانة، وهي علوم التنجيم والتماس الأسرار عند النجوم.
ولم يكن الفارق بين علم النجوم الصحيح وعمل النجوم الزائف قد حسم في ذلك العصر على وجه يمنع اللبس والاختلاط بين المطلبين، فإن الفلاسفة الذين كانوا يتحدثون عن العقول العشرة كانوا يربطون بين هذه العقول العشرة وبين الأفلاك، ويقولون بغلبة الأرواح النورانية التي لا تقبل الفساد على كواكب السماء، وأن الصلة بينها وبين الإنسان تتوقف على الرياضة والصفاء، وقد كان المتصوفة يؤمنون بالتجلي ولا يمنعون أن ينكشف الغطاء عن البصر والبصيرة، فتلمح في العالم العلوي ما أودعه الله فيه من الدلائل والإشارات.
وإذا كانت «الباطنية الواقعية» قد سولت لشاعر أن يطلب السلطان بدعوى النبوة أو المهدية، وقد أوقعت في النفوس أن ناسكا ضريرا يسيطر على الوزراء والجنود بقوة الغيب أو بقوة النجوم، فمن الخلط أن يقال: إن الباطنية كلها وليدة الدعوة الفاطمية، وإن هذه الدعوة مسئولة عن كل ما كان يستباح في الخفاء، وكل ما تذرع به الطامعون في الحكم من ذرائع الدنيا والدين.
الفصل الثاني عشر
الباطنية الفاطمية
وكانت للفاطميين على هذا باطنية فاطمية أو إسماعيلية، إلى جانب هذه الباطنية الواقعية.
لم يقم الدليل على انتماء الباطنية الفاطمية أو الإسماعيلية إلى داعية من المجوس أو اليهود دبرها تدبيرا ولفقها تلفيقا لهدم الإسلام خاصة وهدم الديانات عامة، وتلقين «الواصلين» دروس الكفر والتعطيل وإنكار البعث والحساب واستباحة المحرمات والمنكرات، كراهة للعرب ودولتهم، وانتقاما منهم بالدسيسة وقد عجزوا عن الانتقام منهم بالقهر والعدوان.
فالتهمة ضعيفة؛ لأنها جاءت من مغرضين غرضهم معروف، وهي ضعيفة بعد هذا؛ لأنها مضطربة متناقضة لا تثبت على زعم واحد ولا تستقيم على وجهة واحدة، فأصل الدعوة تارة من المجوس وتارة من اليهود، ومرة يرجع أصلها إلى ديصان الذي ظهر قبل الإسلام، ومرة أخرى يرجع إلى ابن القداح الذي يتبين من شعره أنه مسلم وأنه شك في الإمام جعفر بعد أن لاذ به وتتلمذ عليه؛ لأن أئمة الشيعة يقتلون وينهزمون.
وفي التهمة من الضعف فوق هذا وذاك أنها تجري جري المألوف من طبائع النفوس، فإن الرجل الذي يكفر بالدين عامة لا تملكه الحماسة لهدم دين، ولا تبلغ منه هذه الحماسة أن يصبر للجهاد الطويل ويستهين بالخطر على الروح والراحة وهو يحارب السلطان ويحارب إجماع الناس من حوله على اختلاف النحل والأديان.
ومن المشكوك فيه بعد هذا جميعه أن ينهدم الدين إذا كفر به في كل عصر طائفة من «الواصلين» معدودين على الأصابع يستبيحون المحرمات في الخفاء على انفراد أو بين زمرة من الأصحاب والنظراء، فما خلا عصر قط من أمثال هؤلاء بغير دعوة من داع وبغير سعي أو سعاية من ساع، ولم يزل الشك يتسرب إلى آحاد من الحائرين والمترددين يحفظون شكهم لأنفسهم أو يطلعون عليه أمثالهم وذوي خاصتهم؛ ثم يذهبون والدين باق لم ينهدم بين العلية ولا بين السواد.
وربما تشيع للفاطميين أناس خبطوا في العقائد خبط عشواء وجهروا بمذهب من مذاهب الفلسفة أو التصوف ينكره الإسلام الصحيح، ولكن التشيع من هذا القبيل قديم لم ينقطع قط من عهد الإمام عليه السلام إلى عهدنا الذي نحن فيه، ولم يكن هذا التشيع الممقوت حجة على الإمام علي ولا على أحد من بنيه الأبرار الذين سمعوا به فأنكروه أو سكتوا عنه ولم يرتضوه.
ففي حياة الإمام علي كان عبد الله بن سبأ وأصحابه يؤلهون عليا ويؤمنون بحياته بعد مقتله، ويقولون برجعة النبي وينشرون مذهب الحلول وتناسخ الأرواح. وبعد مقتل الإمام نشط أصحاب النحلة الكيسانية وأعادوا مثل هذا القول في حياة «محمد ابن الحنفية». وقيل عن المختار الثقفي داعية القوم: أنه ادعى النبوة ونظم له قرآنا يعارض به القرآن الكريم ويفرضه على صحبه في الصلوات. ومكان الإمام وابنه محمد في الإسلام أرفع من أن يتطاول إليه من أجل هذا عدو يلج في عدوانه فضلا عن الولي والصديق. وقد بقى المرجئون والقائلون بالرجعة والحلول يتمادون في ضلالتهم بعد أن برئ منهم الإمام علي وعاقبهم بالحريق، وبعد أن كذبهم ابنه وأعرض عنهم وأقام في الحجاز وتركهم بالعراق يلجون في الادعاء له والادعاء عليه.
ولم يخل عصر الإمام جعفر الصادق - أبي إسماعيل رأس الإسماعيلين - من داعية يفتري على الأئمة العلويين، وهم أحياء، كما فعل أبو الخطاب الأسدي الذي كان يقول بتشخيص الجنة والنار، وزعم في مبدأ أمره أن أولاد الحسن والحسين أنبياء الله، ثم زعم أنهم أرباب وأن الإمام جعفرا إله يعبد فلعنه جعفر الصادق وبرئ منه ونفاه. قال أبو منصور البغدادي صاحب كتاب الفرق بين الفرق «فادعى بعد ذلك في نفسه أنه الإله، قال أتباعه: إن جعفرا الإله. غير أن أبا الخطاب أفضل منه وأفضل من علي وجوزوا شهادة الزور على مخالفيهم».
وكان غيرهم كذلك يجوزون شهادة الزور على المخالفين، ومن شهادة الزور ما نحلوه لأصحاب المذاهب من الشيعيين والسنيين.
وقد دعا القرامطة للفاطميين كما دعا عبد الله بن سبأ للإمام علي وكما دعا المختار لابنه محمد ابن الحنفية، فأنكرهم الخليفة الفاطمي حين خرجوا على الدين وأغاروا على الحجاز واعتدوا على الحجاج، وكتب الخليفة القائم وهو بالمغرب إلى داعية القرامطة يقول له: «العجب من كتبك إلينا ممتنا علينا بما ارتكبته واجترمته باسمنا من حرم الله وجيرانه بالأماكن التي لم تزل الجاهلية تحرم إراقة الدماء فيها وإهانة أهلها، ثم تعديت ذلك وقلعت الحجر الذي هو يمين الله في الأرض يصافح بها عباده، وحملته إلى أرضك ورجوت أن نشكرك، فلعنك الله ثم لعنك، والسلام على من سلم المسلمون من لسانه ويده!»
وعلى خلاف ما قيل عن إباحة المحرمات في المذهب الفاطمي ، ثبت من نصائح أئمة فيهم أنهم كانوا يقصدون في الحلال المباح ويأمرون أتباعهم ومريديهم بالقصد فيه. وقد أوصى المعز أتباعه من زعماء كتامة بالمغرب فقال عن الزوجات: «الزموا الواحدة التي تكون لكم، ولا تشرهوا إلى التكثر منهن والرغبة فيهن فيتنغص عيشكم وتعود المضرة عليكم وتنهكوا أبدانكم وتذهب قوتكم وتضعف نحائزكم،
1
فحسب الرجل الواحد الواحدة.»
وعلى خلاف دعوى الربوبية كان المعز هذا - وهو أعلمهم بالتنجيم - يقول كما روى عنه القاضي النعمان في كتاب «المجالس والمسايرات»: «من نظر في النجامة ليعلم عدل السنين والحساب ومواقيت الليل والنهار وليعتبر بذلك عظيم قدرة الله جل ذكره، وما في ذلك من الدلائل على توحيده لا شريك له فقد أحسن وأصاب، ومن تعاطى بذلك علم غيب الله والقضاء بما يكون فقد أساء وأخطأ.»
وكان العزيز كالمعز في هذا المعتقد كما قال أخوه تميم في إحدى قصائده:
ولما اختلفنا في النجوم وعلمها
وفي أنها بالنفع والضر قد تجري
فمن مؤمن منا بها ومكذب
ومن مكثر فيها الجدال وما يدري
ومن قائل تجري بسعد وأنحس
وتعلم ما يأتي من الخير والشر
فعلمتنا تأويل ذلك كله
بما فيه من سر وما فيه من جهر
عن الطاهر المنصور جدك ناقلا
وكان بها دون البرية ذا خبر
فأخبرتنا أن المنجم كاهن
بما قال والكهان من شيعة الكفر
وأن جميع الكافرين مصيرهم
إلى النار في يوم القيامة والحشر
فجمعتنا بعد اختلاف ومرية
2
وألفتنا بعد التنافر والزجر
وأوضحت فيها قول حق مبرهن
يجلي ظلام الشك عن كل ذي فكر
فعدنا إلى أن الكوكب زينة
وفيها رجوم للشياطين إذ تسرى
مسخرة مضطرة في بروجها
تسير بتدبير الإله على قدر
وأن جميع الغيب لله وحده
تبارك من رب ومن صمد وتر
وما علمت منه الأئمة إنما
رووه عن المختار جدهم الطهر
وقد خولط خليفة من خلفاء الفاطميين في عقله - وهو الحاكم بأمر الله - فلم يثبت من تصرفه أنه تلقن من آبائه وأسلافه مذهب الإباحة وادعاء الربوبية، وأنه وريث قوم من اليهود أو المجوس مندسين على الإسلام ليفسدوه وينقضوه، بل ظهر أنه يحرم المباح ويطارد اليهود تارة ويغضي عنهم تارة أخرى على كراهية ونفور، وأنه كان يمنع تقبيل الأرض بين يديه ولا يرضى أن تلثم يداه وركابه، وأمر ألا يزيد الناس في السلام حين يدخلون إليه على قولهم: «السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.»
ويجوز أن يقال عن هذا الخليفة: إنه كان في تخليطه وتجديفه
3
فريسة المضللين من وزرائه ولا يجوز أن يقال: إنه تولى العرش وهو يعلم أنه يهودي أو مجوسي يستدرج المسلمين إلى الكفر والإباحة، وأنه يهدم دولته ودولة الإسلام كله وفاقا لما تآمر عليه آباؤه وأضمروه.
ولم يثبت مع هذا كل ما قيل عن أوامر الحاكم وزواجره وكل ما شاع عن نقائضه وبداوته، فإن التشنيع بالمضحكات والمبالغات مألوف في القاهرة لذلك العهد وما تلاه.
وقد وضع كتاب عن «قره قوش» صوره للناس في صورة الطاغية الذي لا يبالي ما يأمر به من المستحيلات والغرائب، وغفل الكثيرون عن موضع الفكاهة من تلفيقات الرواة، فحسبوها كلها جدا لا مرية فيه، وتناقلوها وأضافوا إليها، ولم يزالوا يرددونها على هذا الفهم الخاطئ إلى زمن قريب، وقد كان «قره قوش» على خلاف ما صورته الروايات عنه مثلا في الحزم وأصالة الرأي وحسن التدبير.
وعند ابن خلدون أن الاختلاق ظاهر فيما ادعوه على الحاكم من الدعاوى الدينية، وأنه كان مضطربا في الجور والعدل والإخافة والأمن والنسك والبدعة، وأما ما يروى عنه من الكفر فغير صحيح ولا يقوله ذو عقل، ولو صدر من الحاكم بعض ذلك لقتل لوقته، وأما مذهبه في الرافضة فمعروف، ولقد كان مضطربا فيه، ومع ذلك فكان يأذن لأهل السنة من المصريين في صلاة التراويح ثم ينهي عنها.
على أن الأقاويل عن الحاكم - صحت أو لم تصح - إنما تروى عنه ويعلم رواتها أنهم يتكلمون عن رجل مخالط في علقه لا يعول له على سر أو علانية.
ونحب هنا أن نوضح ما نستبعد نسبته إلى الدعوة الفاطمية في صميمها على حسب ما انتهينا إليه من الشواهد النفسية والتاريخية.
فنحن لا نستبعد أن يكون من الدعاة الفاطميين أناس قد استخرجوا لأنفسهم من دراساتهم في التصوف أو الفلسفة أو التنجيم مذهبا ينكره علماء الدين من السنيين والشيعيين.
ولا نستبعد أن يكون منهم أناس خدموا القضية الفاطمية كلها خدمة لأنفسهم، ولصقوا بها كما يلصق طلاب المنافع والنهازون للفرص بكل دعوة كبيرة تتسع لخدمة المنافع الخاصة مع خدمة المنافع العامة.
ولا نستبعد أن يعاب على الدولة الفاطمية ما يعاب على الدول في دور التأسيس أو في دور الانحلال.
ليس شيء من ذلك بعيدا ولا موجبا لاستبعاده نظرا إلى أحكام العقل أو شواهد التاريخ.
ولكن الذي نستبعده ونرى أنه مناقض للواقع وللمألوف من الدواعي النفسية أن يكون هناك تواطؤ مبيت بين الناس من المعطلين على إنشاء دولة لهدم الدين الإسلامي والدولة الإسلامية معه، وأن يشمل هذا التواطؤ أقواما في المغرب والمشرق ويدوم من قرن إلى قرن قبل نجاح الدعوة وبعد نجاحها بزمن طويل.
هذا هو البعيد عقلا والبعيد في دعوى المدعين الذين لم يسندوه قط بدليل يقرب إلى العقل ذلك الزعيم البعيد.
أما ما عدا ذلك من شؤون الدعوة الفاطمية، أو شؤون الدعوة العلوية في جملتها فقد سار في التاريخ مطردا على النهج الذي ينبغي أن يسير عليه.
إن الإيمان بالإمامة واطلاع الإمام على الأسرار التي تخفى على غيره أمر لازم من لوازم الدعوة العلوية في نشأتها التاريخية.
فإن المؤمن بحق علي وأبنائه في الإمامة يسأل نفسه: لم لا ينصره الله على أدعياء الإمامة والخلافة؟
إنه يؤمن بالله وقدرته وقدره، فلا جواب لذلك السؤال عنده إلا أنها حكمة يعلمها الله، وأن الإمامة العلوية منذورة لزمان غير هذا الزمان، وأن الإمام الحق يعلم زمانه أو ينبغي أن يعلمه بإلهام من الله.
وقد آمن شيعة علي بهذا وآمنوا معه بعرفانه لعلوم الجفر وتأويل الكتاب، وكلما تباعدت المسافة بين إمامة الواقع وإمامة الحق تباعدت معها المسافة بين إمامة الظاهر وإمامة الباطن. ثم جاء الزمان الذي أصبحت فيه إمامة الباطن مستورة حتما، فأصبح فيه علم الدين والدنيا مرهونا بما يتعلمه الطالب من الإمام المستور ومن دعاته الذين يخلصون إليه ويعلمون مكانه ويفسرون أقواله وإشاراته، ولا بد من هؤلاء الدعاة ولا مناص من هذا التعليم.
وإذا كان السلطان صاحب الجند والصولة يعتمد في قيام دولته على الشريعة والقضاء وعلى السيف والشرطة، فعلام يعتمد الإمام المستور الذي لا سلطان له من شرطة ولا جند ولا قضاء؟
إنه لن يعتمد على شيء غير الطاعة والثقة التي لا تتزعزع، فلا جرم يطيعه المطيع وهو يؤمن بعصمته على الأقل في شئون إمامته، ويؤمن بهلاك روحه إن خرج على حكم الطاعة وخان أمانة الدنيا والآخرة، ونقض العهود وحنث باليمين.
كل هذا بديه ولا حاجة به إلى رصف أوراق أو رص أسانيد؛ لأنه لن يكون إلا هكذا حيثما كان، وقد كان.
ولا ننسى أن الأئمة أنفسهم يؤمنون بما يؤمن به أتباعهم ومريدوهم: يؤمنون بحقهم ويؤمنون بيومهم الموعود ويؤمنون بالسر الذي يروضون أنفسهم بالعبادة والعلم على أن يستلهموه من هداية الله.
ومن التوفيقات التي نسميها بتوفيقات «الموقف» أن الباطنية الواقعية والباطنية الفاطمية أو الإمامية على الجملة تتلاقى هنا - بحكم الموقف الواحد - في كثير من الأمور.
فالدراسات المستورة أو المكتومة تتلاقى في جانب واحد. وإن كانت متعددة المطالب والموضوعات.
وقد كان المحافظون على الواقع الراهن ينكرون هذه الدراسات ويمنعونها على درجات من المنع تتفاوت في العنف والصرامة.
فكان «الموقف الواحد يجمع بين أصحاب الدراسات المستورة أو الممنوعة التي لا يرتاح إليها أنصار الواقع والمحافظة على القديم».
وليس من مجرد المصادفة أن فلاسفة المشرق كانوا من الشيعة بتفكيرهم كما كان منهم أناس متشيعون بنشأتهم وميراثهم من بيوتهم. فكان الكندي والفارابي وابن سينا من الشيعة، وكان إخوان الصفاء كذلك من الشيعة. ومن كان من الفلاسفة سنيا كالفخر الرازي فمذهبه الفلسفي في صفات الله يوافق مذهب الإسماعيليين وأئمة الفاطميين؛ إذ كان يرى أن الإيمان بتعدد الصفات واستقلال كل صفة منها عن الأخرى تعديد لا يوافق التوحيد.
والذي نستخلصه من المذهب الفاطمي أن فلاسفتهم أخذوا بمذهب الفيض الإلهي الذي تعلمه المشرقيون باسم الحكيم أفلاطون، وهو ينتمي في حقيقته إلى الحكيم أفلوطين.
نستخلص هذا من قول ابن سينا أن أباه كان يذهب في الكلام عن العقل والنفس مذهب الإسماعيلية.
ونستخلصه من رسائل إخوان الصفا وهم من القائلين بمذهب الفيض الذي كان يقول به أفلوطين.
بل نستخلصه من خلط الخالطين في هذا المذهب؛ لأنه هو المذهب الذي يتعرض لهذا الخلط في كل مكان، وقد تعرض له في الشرق كما تعرض له بين الأوربيين في القرون الوسطى، ولا يزال يتعرض له في العصر الحديث.
وعلى نقيض ما قيل عن الإباحة في مذهب الإسماعيليين، يمتاز مذهب الفيض الإلهي بالمبالغة في التطهر والإعراض عن الشهوات والترفع عن غواية الدنيا التي يتهالك عليها الجهلاء، والجاهل عندهم هو من يتعلق بشيء من الأشياء غير معرفة الحقيقة الإلهية والبحث عنها في كل ظاهرة من ظواهر هذا الوجود.
وقد نبه إخوان الصفاء في غير موضع من رسائلهم إلى وجوب التطهر على الحكيم الخالص للحكمة في حياته الخاصة والعامة، وقالوا غير مرة: إن الاستسلام لشهوات البدن يقطع الإنسان عن آخرته ومعاده، ومن ذلك قولهم في رسالة الجسمانيات والطبيعيات: «اعلم أن الاستغراق في الشهوات في هذه الدنيا ينسي الإنسان أمر الآخرة ويشككه وييئسه منها، كما قال قائلهم في هذا المعنى:
هي الدنيا وقد وعدوا بأخرى
وتسويف الظنون من السوام
وقيل أيضا في هذا المعنى شعرا:
خذوا بنصيب من نعيم ولذة
وكل وإن طال المدى يتصرم
وقال آخر وقد كان ساهيا عن أمر الآخرة:
ما جاءنا أحد يخبر أنه
في جنة مذ مات أو في نار
وأشعارهم كثيرة في مثل هذه الظنون والشكوك والحيرة التي وقعوا فيها عقوبة لهم عندما تركوا وصية ربهم ونصيحة أنبيائهم واتباع علمائهم والحكماء فيما يدعونهم إليه ويرغبون فيه من نعيم الآخرة، ويأمرونهم به من الزهد في الدنيا وينهونهم عنه من الغرور بشهواتهم وعاجل حلاوتها.»
ومنذ القدم عرف عن هذا المذهب الفلسفي أنه مذهب نسك وعفة وعزوف عن الماديات وترفع إلى عالم الروح، وكان أفلوطين صاحبه قدوة لأبناء عصره في العفة والزهد والانقطاع عن شواغل الثروة والجاه، وكان من تلاميذه من يبيع قصوره ونفائسه ليلازمه في معهده ويعيش على مثاله.
ولا غنى عن خلاصة لهذا المذهب ننقلها هنا كما أوردناها في رسالتنا عن الشيخ الرئيس ابن سينا وهي كما يلي:
إنه يتجاوز - أرسطو - أشواطا بعيدة في التنزيه والتجريد، فيرى أن الله - أو الأحد - من وراء الوجود ومن وراء الصفات، لا يعرف ولا يوصف، ولا يوجد في مكان ولا يخلو منه مكان، وكماله هو الكمال الذي نفهمه بعض الفهم بنفي النقص عنه، وهيهات أن نفهمه بإثبات صفة من الصفات؛ لأننا نستطيع أن نقول: إنه لا يكون هكذا ولا نستطيع أن نقول: إنه هكذا يكون.
وقد يتصل به الإنسان في حالة الكشف والتجلي حين تتجاوز الروح جسدها كما يقول، ولكنها حالة لا تقبل التأمل والتفكير، فإذا انقضت فقد يثوب الإنسان بعدها إلى عقله فيتأمل ويفكر وينحدر بذلك من مقام الأحد إلى مقام العقل الذي هو دونه، لأن الأحد فوق العقل وفوق المعقول. ويقول أفلوطين كما يقول أرسطو: إن الله أو «الأحد» لا يشغل بغير ذاته؛ لأنه مستغن بذاته كل الاستغناء. أما العالم فقد نشأ من صدور العقل عن الأحد وصدور النفس عن العقل من هذا التأمل، وإن العقل يعقل الأحد فهو أحد مثله، وإن كان دونه في مرتبة الوجدانية، ثم يعقل ذاته فينشأ من عقله لذاته عقل دونه وهو النفس أو هو القوة الخالقة التي أبدعت هذه المحسوسات.
ومن البديه أن صدور الجسم من الجسم ينقصه ويخرج شيئا منه ينتقل من المعطي إلى الآخذ فينقص بانتقاله، أما صدور الفكرة من العقل فلا تنقصه ولا تجرده من شيء فيه، ومن هذا المثال نفهم صدور العقل عن الأحد الذي لا يعتريه نقص بحال من الأحوال.
والنفس - وهي المرتبة الثالثة في الوجود عند أفلوطين - تتجه إلى العقل فتنجسم معه في مقام التجريد والتنزيه، وتتجه إلى الهيولي فتبتعد عن التجريد والتنزيه، ولهذا تخلق الأجسام وتضفى عليها الصور على سبيل التذكر لما كانت تتأمله وهي في عالم القدرة الكاملة أو عالم الصور المجردة، فهذه المحسوسات هي كالظلال للمعقولات قبل أن تبرزها النفس في عالم المحسوسات، أو هي كأطياف الحالم وهو يستعيد بالرؤيا ما كان يبصره بالعيان.
فالمحسوسات كلها أوهام وأحلام، وكلها غشاء باطل يزداد بعدا من الحقيقة كلما ابتعد من العقل وانحدر في اتصاله بالهيولي طبقة دون طبقة، فإن العقل دون الأحد، والنفس دون العقل، والمحسوسات دون النفس، وهكذا تهبط الموجودات طبقة بعد طبقة حتى تنحدر إلى الهيولي التي لا نفس معها، وهي معدن الشر في العالم؛ لأنها سلب محض يحتاج أبدا إلى الخلق، وهو الإيجاد أو الإيجاب.
وقد صدرت النفس الفردية من النفس الكلية، ولها كالنفس الكلية التي صدرت منها اتجاهات. فهي باتجاهها إلى النفس الكلية إلهية صافية، وباتجاهها إلى المحسوسات والأجساد حيوانية شهوية. وليست النفس عند أفلوطين ملازمة للجسد كما يقول أرسطو، بل هي جوهر منفصل عنه سابق له كالمثل الأفلاطونية، فلا تقبل الفناء ولا يحصرها الزمان والمكان. وهي تصدر من النفس الكلية اضطرارا كما صدرت النفس الكلية من العقل الأول، مستجيبة لطبيعة الإصدار في ذلك العقل، وللشوق الهيولاني الذي يترفع بالهيولي إلى منزلة المحسوسات فالمعقولات.
والشر في العالم هو الهيولي؛ لأنها سالبة تنزل بالمعقولات والروحيات التي لا تلابسها، ولا محيد عن الشر مع وجود الهيولي وقدمها وضرورة الملابسة بينها وبين العقل والنفس في دور من أدوارها. وعلى النفس أن تجاهدها وتنتصر عليها وعلى شهواتها، فإن أفلحت عادت إلى النفس الكلية خالصة مخلصة، وإن لم تفلح عادت إلى الجسد مرة أخرى ولقيت في كل مرة جزاءها على الذنوب التي اقترفتها في حياتها الجسدية الماضية.
ولا حرية للإنسان كما رأيت؛ لأن وجوده ضرورة يستلزمها الصدور وملابسة الهيولي، ولكنه يقاوم تلك الضرورة بجهاد الشهوات، فيترقى من مرتبة الحس إلى مرتبة التأمل إلى مرتبة الكشف، وينتقل من شتات الحس إلى استجماع العقل إلى وحدة الأحد ورضوان الكمال، فتجزيه ضرورة الارتقاء عن ضرورة الانحدار، ولا محل بينها لشيء من الاختيار، وإن قال به أفلوطين في بعض الأحيان.
هذه خلاصة وجيزة جدا لأصول مذهب الفيض كما شرحه تلاميذ أفلوطين، نعتمد فيها على المراجع الأوروبية الحديثة التي نقلت مباشرة من اليونانية. وقد نقل هذا المذهب مجملا في بعض الأوقات ومفصلا في أوقات أخرى إلى اللغة العربية، ووقع في نقله خطأ إسناد وخطأ تفسير. فنسب الناقلون فصولا منه إلى أفلاطون ونسبوا مبادئ منه إلى أرسطو، ولكن المتصوفة الإسلاميين وفلاسفة الإسلام في المشرق قبلوا منه ما يوافق الدين الإسلامي، وهو تنزيه الأحد وعقيدة التجلي على الخلصاء من العباد والمتأملين، ورفضوا منه على التخصيص قوله بتناسخ الأرواح وعقوبة الأنفس في هذه الدنيا بردها إلى الأجساد التي تشقى فيها، أو مكافأتها بردها إلى الأجساد التى تترقى فيها إلى مرتبة فوق مرتبتها.
ووجد الفلاسفة والمتصوفة معا ما يوافقهم في أقوال أفلوطين، فقال بالكشف وقدرة النفس على الخوارق طائفة من المفكرين لا يحسبون بين أهل الطريق ولا يدعون لأنفسهم صفة الإمامة الدينية، وإنما قالوا بالكشف والقدرة على الخوارق أخذا بالأقيسة الفكرية، واستدل ابن سينا على إمكان الكشف بأن النفس الصالحة تتلقى في الرؤيا الأنباء بالمغيبات عنها وعن غيرها، فلا مانع من تلقيها العلم يقظة متى تهيأت له بالرياضة وصفاء السريرة، وإن نفس الإنسان تتصرف في مادة الجسد فلا مانع أن تتصرف في مادة الكون بقدرة تستمدها من علة العلل التي تتصرف في جميع الأشياء.
وطائفة من أصحاب المآرب وجدوا في تناسخ الأرواح ما يعينهم على دعواهم، ومنهم من كان يدعي انه ابن الإمام علي بالتسلسل الروحاني مع اعترافه بأنه من غير نسله في السلالة الجسدية، زاعما أن النبوة تحصل بالانتماء إلى الروح كما تحصل بالانتماء إلى الجسد، ولم يكن في هؤلاء أحد من الفاطميين ولا كانت بهم حاجة إلى هذه الدعوى؛ لأنهم يصححون نسبهم جميعا إلى الإمام علي بغير وسيلة هذا التناسخ المزعوم.
ولا شك أن العلامة الشهرستاني كان يلخص طرفا من مذهب أفلوطين كما وصل إلى المشرق حين قال في تلخيصه لكلام الباطنية عن الصفات: «إن الله لما وهب العلم للعالمين قيل: هو عالم، ولما وهب القدرة للقادرين قيل: هو قادر، فهو عالم قادر بمعنى أنه وهب العلم والقدرة لا بمعنى أنه قام به العلم والقدرة أو وصف بالعلم والقدرة. وأنه أبدع بالأمر العقل الأول الذي هو تام بالفعل، ثم بتوسطه أبدع النفس الذي هو غير تام. ولما اشتاقت النفس إلى كمال العقل احتاجت إلى حركة من النفس إلى الكمال واحتاجت الحركة إلى آلة الحركة إلخ إلخ.»
فهذا المذهب في الصفات الإلهية يوافق مذهب أفلوطين في جملته، وفحواه بلا إغراب ولا إبهام. إننا حين نصف الله بالعلم لا ندرك من كنه العلم إلا ما يعطينا إياه، وإننا حين نصف الله بالقدرة لا ندرك من كنه القدرة إلا ما نقدر عليه بأمر الله، وهكذا في سائر الصفات مما لا يجوز أن يفهم منه أنه إنكار لعلم الله وقدرته؛ إذ كان أصحاب الفيض الإلهي ينكرون نقائض الكمال ويرتفعون بالكمال الإلهي مرتفعا تعجز عن إدراكه العقول.
لكن هذا المذهب كما أسلفنا عرضة للخلط في فهمه ممن يهرفون بما لا يعرفون، فإن هؤلاء يخلطون بينه وبين مذهب الحلول وهو يناقض مذهب الحلول أشد المناقضة وينكره غاية الإنكار، فإن الخلاص من أوهاق
4
المادة الجسدية عند أفلوطين هو غاية التنزيه والتطهير، ولا يتفق هذا مع القول بحلول الله سبحانه وتعالى في الأجسام.
كذلك يخلطون بينه وبين وحدة الوجود وهما مذهبان متناقضان. فإن القائلين بوحدة الوجود يسبغون الصفة الإلهية على الموجودات جميعا، وهو قول ينفيه أفلوطين جد النفي؛ تنزيها لله «الأحد» عن جميع المحسوسات والمتعددات.
ويسمع السامع أن حكمة الخلق تتجلى في أناس بعد أناس فيخيل إليه أن اللاحق أفضل من السابق أو أن قيام مشيئة الله في كل عصر رسالة كرسالة الأنبياء.
هذا الخلط في فهم المذهب قد جنى على الحقيقة في غير طائل، وجر إلى الخبط في الظنون لغير علة لولا الحماقة وخفة العقل وحب الحذلقة والادعاء.
وقد كان ابن هانئ الأندلسي من هؤلاء الذين يتعاطون الفلسفة ويهرفون
5
فيها بما لا يعرفون، ولم تكن حذلقته مقصورة على مذهب الإسماعيلية بل هي طبيعة نشأت معه في موطنه، ولغط بالفلسفة وهو يتصل بصاحب إشبيلية فأقصاه خوفا من اتهامه بمشاركته في أضاليله وخزعبلاته، ولما مدح المعز الفاطمي بقصيدته الرائية التي قال في مطلعها:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
لم يكن يريد أن يقول: إن المعز أقدر من الله وإلا لما قال بعد ذلك:
وكأنما أنت النبي محمد
وكأنما أنصارك الأنصار
وإنما أراد أن يتحذلق بما سمع عن صفات القدرة والعلم، وأن الله يوصف بالقدرة؛ لأنه يعطيها، وأن مشيئته سبحانه وتعالى تقوم بمن يندبه لإمضاء تلك المشيئة، فخلط وخبط، واتهمه الناس ولهم العذر فيما اتهموه به، ولم تكن به ولا بممدوحه حاجة إليه.
إلا أننا إذا صرفنا النظر عن هذا وأشباهه من ضروب الحذلقة والمبالغة في الشعر خاصة لم نجد في كلام القوم ما لم يألفه المتصوفة وأبناء الطريق من عبارات المجاز والكناية، وليس فيما روي عن ثقات الفاطميين شيء لم يسمع مثله من إمام كبير كمحيي الدين بن عربي في كتب التأويل أو كتب الترسل الصريح، وقد كتب محيي الدين إلى فخر الدين الرازي رسالة يقول فيها: «للربوبية سر لو ظهر لبطلت النبوة، وللنبوة سر لو كشف لبطل العلم، وللعلماء بالله سر لو ظهر لبطلت الأحكام، فقوام الإيمان واستقامة الشرع يكتم السرية. إلى آخر ما قال عن التوحيد والاتحاد والوحدانية والأحدية. وفوق كل ذي علم عليم.»
وهذا كلام لولا ولع المتصوفة بالإغراب لقال قائله: إن النبوة لازمة؛ لأن الناس لا يكشفون سر الغيب بغيرها، وإن العلم لازم؛ لأن النبوة لا تصل إلى الناس أجمعين، وإن الأحكام لازمة؛ لأن العالم يزجره العلم والجاهل تزجره الأحكام. ولكن الإغراب في أساليب المتصوفة والحذلقة في أساليب من يسمعون ولا يفقهون أو من يفقهون القليل ويحبون أن يظهروا الفقه الكثير - كل أولئك يقود إلى الظنون حيث لا موجب للظنون.
وجملة القول: إن الباطنية الفاطمية لو لم تقترن بالدعوة إلى قيام دولة تحارب الدول القائمة لما استغربها الناس ذلك الاستغراب، ولا اضطربت حولها التهم والأقاويل ذلك المضطرب، فقد كان كل مذهب في ذلك العصر «باطنيا» على نحو من الأنحاء، وأوشك أن يتساوى في هذا أهل السنة وأصحاب التصوف وطلاب الفلسفة وإخوان الصفاء ممن يتذاكرون العلم بينهم، ويظهرون منه حينا بعد حين ما طاب لهم أن يظهروه.
فالإمام الغزالي - وهو من أقطاب أهل السنة ومبغضي الفلسفة - كان يؤلف للعامة غير ما يؤلفه للخاصة. وكان من كتبه ما يضن به على غير أهله، والإمام ابن عربي المتصوف كان يدين بالسرية ويرى أنها تمام العلم والمعرفة، وأبو العلاء المعري الشاعر الحكيم كان في رأي داعي الدعاة يخفي ما يعلم عن أناس يلعن بعضهم بعضا بالكفر والمروق من الدين، وشعارهم جميعا:
خل جنبيك لرام
وامض عنه بسلام
مت بداء الصمت خير
لك من داء الكلام
إلا أن يكون مندوبا لعمل لا حيلة له فيه، أو متجردا لرسالة يهون فيها عنده أن يقول وأن يقال فيه.
ومن المحقق أن الباطنية الفاطمية إليها أضيف الكثير بعد دخول الحسن بن الصباح الذي سيأتي ذكره في زمرتها، ومن هذا الكثير أنظمة لم تعهدها من قبل، وعقائد لم تكن لازمة لها ولا معقولة منها، وأهم هذه الأنظمة نظام الفدائيين الذين كانوا عدة الرؤساء في حوادث الغيلة والهجوم على المخاطر، فهؤلاء لم يظهر لهم عمل في خدمة الباطنية إلا بعد نشوء الدولة الفاطمية بأكثر من مائة سنة، ولو كان للخلفاء الفاطميين جند من هذا النظام لما استبد بهم الوزراء أحيانا من غير مذهبهم، ولا من المجاملين لطوائف الإسماعيلية المخلصة لأولئك الخلفاء. •••
فقد استبد الأمير بدر الجمالي بالأمر دون الخليفة - وهو أمير الجيوش الذي ينسب إليه حي مرجوش والجمالية - وجاء ابنه الأفضل من بعده وسار مع الخليفة الآمر على خطة أبيه، وكان بدر وابنه الأفضل على مذهب من مذاهب الشيعة غير مذهب الإسماعيلية، فصادروا الإسماعيليين ونفوا أناسا من قادتهم وغلاتهم من الديار المصرية، وضاق الخليفة الآمر بوزيره ذرعا فتحدث إلى ابن عمه في قتله عند دخوله إليه بقصر الخلافة، ووافقه ابن عمه على وجوب الخلاص من الوزير المستبد، ولكنه أشفق على سمعة القصر من جرائر اغتيال الوزراء والكبراء في رحابه، وأشار عليه بتحريض رجل من صنائع الوزير نفسه على قتله، وإغرائه بمنصب سيده مكافأة له على طاعته، واتفقا على اختيار المأمون ابن البطائحي لهذه المهمة، فقبل هذا ما أمروه به طمعا في الوزارة، ولم يجد البطائحي من يعينه على مهمته غير أعداء الوزير الذين نفاهم من مصر ثم تسللوا إليها خفية. وشجعهم على الانتقام منه إغراء البطائحي لهم ووعدهم بالعفو عنهم وإسناد الوظائف إليهم متى آلت إليه وزارة الدولة، ولو كان نظام الفدائيين معروفا يومئذ في الدولة الفاطمية لما استطاع الوزير الأرمني المخالف لمذهب الإسماعيلية أن يستبد بالإمام المطاع، ولا احتاج الإمام المطاع إلى التفكير في اغتيال الوزير بين يديه بقصر الخلافة، ولا إلى تدبير تلك المؤامرة التي اعتمد فيها على الوعد والإغراء والاستعانة بذوي المطامع والترات.
6
ولا شك أن الحسن بن الصباح لم يعمد إلى نظام الفدائيين إلا بعد استيلائه - كما سيلي - على قلعة «آلموت» واضطراره إلى حماية نفسه من دول حوله تجرد الجيوش لقتاله، وهو في قلعته بغير جيش يقاوم تلك الجيوش الزاحفة عليه بمثل عدتها وعددها في ميادين القتال.
وقد تغيرت الدعوة كلها حين تغير موضوعها وتغيرت وسائلها، وأمعنت في التخفي أو في «الباطنية» الواقعية، حين أمعنت في الهجوم على خصومها وأمعن خصومها في الهجوم عليها. •••
أما قبل دخول ابن الصباح في زمرة الباطنية فقد كان استخفاء الدعاة وأتباع الدعاة ضرورة لا محيد عنها لانتشار أصحاب الدعوة في بلاد واسعة تدين بالطاعة لحكومات متوجسة، تسرع إلى التنكيل بكل ما يخالفها ويناصر أعداءها. ولم يكن هذا الاستخفاء لترويج الدسيسة التي تمالأ عليها «مجوس أو يهود» بيتوا النية على هدم الدين وتضليل المسلمين، بل كان لزاما لأصحاب تلك الحكومات ولا شك أن يشركوا رعاياهم معهم في الخوف من الإسماعيلية، فلو أنهم قالوا لأولئك الرعايا: إن الإسماعيليين طلاب ملك ينتزعونه من ملوك ذلك الزمن، لما تحركت لأولئك الرعايا ساكنة في حربهم والدلالة على مكانهم؛ إذ كان أكثر الرعايا يعلمون أن الحكم في أيدي أناس لا يستحقونه بعلمهم وعملهم وإن استحقوه بنسبتهم، وأن أصحاب السلطان الفعال من أجناد الديلم والترك دخلاء على العباسيين كما كانوا دخلاء على الفاطميين، فإن لم يكن خطر الإسماعيلية خطرا على الدين وعلى المسلمين جميعا فهو خطر لا يهم الناس في كثير ولا قليل، ما دام مقصورا على أصحاب العروش والدسوت.
7
ولهذا راجت خرافة النسب إلى المجوس واليهود، وهي خرافة تنكرها الحقائق النفسية ولا تؤيدها الشواهد التاريخية، وكل ما ثبتت نسبته إلى أصحاب الباطنية الفاطمية فهو من المسائل التي يختلف عليها طوائف المسلمين من سنين وشيعيين، بل يختلف عليها الشيعيون الإماميون أنفسهم بين القائلين بإمامة موسى والقائلين بإمامة إسماعيل من أبناء جعفر الصادق، وليس وراء ذلك كله دسيسة لهدم الإسلام كله وتضليل المسلمين أجمعين. •••
ومحصل القول في المذهب الإسماعيلي من الوجهة الفلسفية أنه هو مذهب الفيض الإلهي كما اعتقده المتصوفة المسلمون من أصحاب الدعوات السياسية وغير أصحاب الدعوات السياسية، يضاف إليه القول بعصمة الإمام وأنه وحده القادر على التأويل الصحيح والإحاطة ببواطن التنزيل، وينبغي أن نذكر هنا أن القول بالعصمة الواجبة لكل إمام كان مذهبا من مذاهب الفلسفة في حكومة المدينة الفاضلة، فإن الفيلسوف الفارابي الذي كان يلقب بالمعلم الثاني قد طلب لإمام المدينة الفاضلة كمال العقل والعلم والخيال والذوق والخلق والخلقة، ولعله لهذا كان قريبا من الشيعة محبا للمتشيعين.
وقد كان القول بعصمة الأئمة لا يوجب على المؤمنين به سب كل خليفة غير الإمام علي وأبنائه الأكرمين، ولكن سب الخلفاء جرى على ألسنة طائفة من غلاة الفاطميين وغير الفاطميين، فاستنكره عقلاؤهم وحكماؤهم، واستنكره أدبا من لا ينكره اعتقادا ولا يرى الخلافة لأحد غير الإمام علي وبنيه، ولا عذر من المسبة الباطلة على كل حال، ولكن الخلاف القبيح الذي أطلق الألسنة بلعن علي على المنابر ستين أو سبعين سنة، هو الخلاف القبيح الذي أطلق الألسنة بعد ذلك بالجرأة على أقدار الأئمة الآخرين رضوان الله عليهم أجمعين.
الفصل الثالث عشر
حسن بن الصباح
أشرنا في الفصل السابق إلى التغير الذي طرأ على نظام الدعوة الإسماعيلية بعد دخول الحسن بن الصباح في زمرتها، وسنرى من جملة الأخبار والأعمال التي رويت عن ابن الصباح أن الرجل من أصحاب تلك الشخصيات التي لا تتصدى لدعوة من الدعوات إلا أضافت إليها شيئا من عندها وطبعتها بطابعها، وأنه لم يكن من أولئك الذين يتعلقون بدولاب كبير يديرهم إلى وجهته، بل كان من الذين يديرون الدولاب إلى وجهتهم حين يتعلقون به، ولا يدفعهم إلى التعلق به إلا أنهم لا يستطيعون أن يخلقوا لأنفسهم دولابا مستقلا يتعلق به الآخرون.
واتفقت الأخبار الصادقة والكاذبة التي رويت عن الرجل على صفة واحدة فيه يثبتها الخبر الصحيح والخبر الكاذب على السواء، وهي الجنون بالسيطرة والغلبة، ونتعمد أن نسميها الجنون بالسيطرة ولا نسميها حبا للسيطرة ولا رغبة فيها؛ لأنه كان مغلوبا لدفعه نفسه أو كان أول من غلبته تلك النزعة فمضى معها مسوقا لها غير قادر على الوقوف بها ولا الراحة معها.
والسيطرة محبوبة لكل إنسان، ولكن الفرق عظيم بين من يهيم بالسيطرة؛ لأنه لا يطيق العيش بغيرها، وبين من يطلبها؛ لأنه يفضلها على عيشة بغير سيطرة أو يفضلها على عيشة الطاعة والإذعان للمسيطرين.
ذلك مضطر إلى طلب السيطرة، وهذا مختار في المفاضلة بين الحصول عليها والاستغناء عنها، وقد يفضل الاستغناء عنها إذا جشمه الطلب فوق ما يطيق.
وكان الرجل داهيا ولكنه لم يكن من الدهاء بحيث يستر مطامعه ولا يثير المخاوف فيمن حوله.
أو لعله كان داهيا عظيم الدهاء، ولكن هيامه بالسيطرة واندفاعه إليها كانا أعظم من دهائه. فانكشفت غايته على كره منه وحيل بينه وبين بلوغ تلك الغاية من كل طريق ينافسه فيه المنافسون.
ومما لا ريب فيه أن الرجل لم يكن من الغفلة بحيث يصدق كل خرافة من الخرافات التي كان يذيعها ويتولى نشرها والدعوة إليها، ولكن التواريخ والشواهد لم تحفظ لنا خبرا واحدا يدل على أنه كان من السمو الفكري بحيث يسلم من جميع الخرافات ويتبطن ما وراءها من الحقائق، ولا سيما إذا كان التصديق هو طريقه إلى السلطان والغلبة وقهر الخصوم والانتصار على النظراء. فمن مألوف النفوس - أو من مألوف هذه النفوس خاصة - أن تعتقد ما يواتيها على هواها ويعزز إيمانها بمطمعها، كما يفعل المحب الذي يؤذيه الشك ويؤذيه العلم بعيوب محبوبه فيروض طبعه على اليقين وتجميل العيوب؛ لأنها أريح له وأعون له على هواه من عذاب الشكوك وانكشاف العيوب.
وهذه الطبيعة المعهودة في أمثاله دون غيرها هي التي تفسر لنا أعمالا شتى يبدو فيها خادعا مخدوعا في وقت واحد، فهو حصيف لا شك في حصافته، ولكن كيف يقع الحصيف في مثل ذلك السخف الذي لج به حتى يسول له البطش بأقرب الناس إليه ومنهم ولده أو ولداه؟
يقع الحصيف في مثل ذلك السخف، وفيما هو أسخف منه، إذا كان مغلوبا على أمره مضطرا إلى تسويغ دفعته بعقيدة تجملها في نظره وتلبسها ثوب الواجب الذي لا محيد عنه ولا هوادة فيه. •••
أما أن حسن بن الصباح كان مغلوبا على أمره في طلب السلطان فحياته كلها سلسلة من الشواهد على طبيعة لا تطيق العيش بغير سلطان أو بغير السعي إلى السلطان، فإنه ما اتصل بأحد قط إلا خافه على مكانته وتوجس منه على الرغم من دهائه وفطنته، ولو لم يكن طمعه أقوى من دهائه وفطنته لما تكشف منه دفعه الطمع في كل علاقة وفي كل مكان.
سمع في شبابه عن الشيخ موفق النيسابوري أن تلاميذه جميعا يرتفعون ببركة تعليمه في مراتب الدولة، وكان ابن الصباح شيعيا ومدرسة الشيخ الموفق معهد السنة في نيسابور، فلم يمنعه ذلك أن يختارها للتعليم فيها على أمل في الجاه والسلطان.
ومن الذين ذكروه من محبيه رشيد الدين بن فضل الله صاحب «جامع التواريخ». وفي روايته عن صباه يقول: إن سبب العداء بينه وبين الوزير نظام الملك أنه كان يتتلمذ معه في مدرسة نيسابور فتعاهدا على المعونة إذا وصل أحدهما إلى منصب من مناصب الرئاسة، وأن ابن الصباح قد استنجز الوزير وعده فخيره بين ولاية الري وولاية أصفهان، وكان ابن الصباح عالي الهمة فلم يقنع بإحدى هاتين الولايتين، فاستبقاه نظام الملك في الديوان عسى أن يترقى فيه إلى مكانة أكبر من مكانة الولاة.
والرواية على هذه الصورة عرضة للنقد والمناقشة، ولكنها على كل حال يصح منها شيء واحد: وهو علم المؤرخين للرجل - من محبيه فضلا عن مبغضيه - أنه كان بعيد المطامع منذ صباه.
وحدث، وهو في الديوان أنه تصدى لعمل من أعمال نظام الملك فوعد الملك بإنجازه قبل أن ينجزه الوزير، فاحتال هذا على إحباط سعيه وأوصد عليه الباب الذي أراد أن يندفع منه إلى منصبه فوق كتفيه.
وقيل في تعليل سفره إلى مصر للقاء الخليفة الفاطمي: إنه استوعب كل ما تعلمه من الدعاة فاستصغره إلى جانب علمه بأسرار الدعوة، فأراد المزيد من العلم بالشخوص إلى دار الحكمة في القاهرة، لعله يستوفي هناك علوم الإسماعيليين التي غابت عن دعاة العراق.
ومن الواضح أن الشخوص إلى عاصمة الخلافة الفاطمية هو المسعى الذي لا تنصرف عنه همة طامع في مناصب الدولة، فليس له مطمع في بغداد وليس له بين السلجوقيين مقام محمود، ولم يبق له إلا أمل واحد لا منصرف عنه، وهو بلوغ المنصب المرموق في عاصمة الخلافة ومرجع الدعوة والدعاة.
ولكنه لسوء حظه بلغ القاهرة وقد تحكم فيها رجل قوي الشكيمة
1
كبير المطامع يتولى القيادة والوزارة ولا يقنع بهما دون الإمارة والملك لو تمهد إليهما السبيل، ومن ثم زوج بنته للأمير المستعلي، ابن الخليفة، وأكره الخليفة أو زين له أن يختار المستعلي لولاية عهده، أملا في الملك إن استطاعه لنفسه أو في توطيد الملك لذريته من بعده.
ذلك هو أمير الجيوش بدر الجمالي الذي سبقت الإشارة إليه، وذلك هو الند الذي تحفز ابن الصباح لمصاولته ومداورته بعد وصوله إلى القاهرة، فاختار نزارا لولاية العهد واحتال جهده أن يحول بين المستعلي وعرش الخلافة، واستمد من أساس المذهب الإسماعيلي كل حجة يدعم بها ترشيح نزار للخلافة بعد أبيه، فزعم أنه مثل بين يدي الخليفة المستنصر، فوكل إليه الخليفة أن يدعو إليه وإلى ولي عهده بين الأمم الإسلامية. قال: فسألته ومن ولي العهد؟ فأشار إلى نزار.
تلك قصة تشبه قصة الولاية التي صارت إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، وثبتت له بعد عدول أبيه عن ولايته وإسنادها لأخيه موسى، فإن الإسماعيليين يرفضون تبديل ولاية العهد؛ لأن الولاية بأمر الله، والله يتنزه عن البداء.
فلما أراد الحسن بن الصباح أن يثبت الولاية لنزار أقام لها أساسا كالأساس الذي قامت عليه الدعوة الإسماعيلية من مبدئها، وروى تلك القصة عن الخليفة المستنصر (والأرجح عند أناس من ثقات المؤرخين أن الخليفة لم يدعه إلى لقائه، بل أنزله منزل الكرامة في دار الضيافة، ثم أبقاه على أمل يتردد بين التقريب والإقصاء)، ولكن ابن الصباح قد طال عليه الانتظار وأحس الخطر من أمير الجيوش فنجا بحياته من مصر، ولما يصدق بالنجاة، وراح بعد الإفلات من الخطر ينشئ له دعوة جديدة في المذهب الإسماعيلي، وهي الدعوة إلى إمامة نزار.
وراح الحسن يطوف في بلاد الشام والعراق وفارس لينشر دعوته الجديدة حيث يأمن الرصد والمطاردة، ويبدو أن حوافز النفس الغلابة كانت في تلك الفترة على أشد ما تكون غلبة عليه، حرجا بما لقيه وضيقا بالمطمع الذي ينازعه ولا يعلم المخرج إليه، فقال يوما لأحد أصدقائه في أصفهان: لو أن معي صديقين أركن إليهما لانتزعت من هؤلاء السلاجقة عرشهم. فظن به صديقه الجنون وأوصى طباخه أن يتخير لضيفه ما لطف من الطعام وطاب غذاؤه، وأدرك الحسن أن صديقه قد خامره الشك في عقله فتركه ومضى لسبيله.
والظاهر من مساعيه وحركته في هذا التطواف أنه كان يبحث عن أستاذه القديم في الدعوة الإسماعيلية عبد الملك بن عطاش، وكان ابن عطاش قد ولاه الوكالة عنه ثم زين له السفر إلى القاهرة، وأطلعه قبل سفره إليها على أسماء بعض الدعاة المستترين الذين يلقاهم في طريقه، ولكنه لم يعرف من أستاذه مكامن الأموال المدخرة لبث الدعوة ولا عرف بطبيعة الحال كلمة السر التي تمكنه من أخذها وتكون علامة له عند المؤتمنين عليها ، فما زال الحسن يتعقب ابن عطاش حتى ظفر بلقائه ووثق من اطمئنانه إليه، ولعله استطلعه أسرار الودائع المخبوءة فأطلعه عليها.
وواضح أن تجارب الحسن في رحلاته بين بلاد السلاجقة وخلفاء بني العباس وخلفاء الدولة الفاطمية قد أيأسته من الوثبة إلى السلطان من طريق الولاية، ولكنها لم تيئسه من الوثبة إلى السلطان حيث كان لاستقرار هواه في طبعه، فطمحت به همته إلى معقل من المعاقل في أطراف الدولة ينفرد بحكمه ولا تمتد إليه فيه يد ملك أو خليفة. وتخير الأطراف فلم يجد منها ما هو أصلح لمطلبه من بلاد الديلم، فخرج إليها مع رهط من صحبه وأتباعه، وقيل: إنه تلقى من مصر في هذه الأثناء ولدا لنزار بايعه بالإمامة وعمل باسمه ودعا إليه، حتى انتهى به المطاف إلى قلعة يقيم فيها زعيم من العلويين، فاستضافه، فأنزله على الرحب والسعة وتغاضى عنه وهو ينشر الدعوة لمذهبه ويجمع الأنصار حوله، ثم أحكم أمره كما يقول ابن الأثير فطرد صاحب القلعة واستولى عليها وعلى القلاع التي تجاورها. وساعده على انتزاعها أنه خيل إلى أهل الإقليم أن مجموعة حروفها بحسب الجمل توافق تلك السنة الهجرية: سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة (483) وهي مجموعة حروف الألف واللام والهاء والألف والميم والواو والتاء التي تتألف منها كلمة الهاموت، وأتم الحيلة في أذهان القوم أنه فسرها لهم بمعنى النسر المعلم من «إله» بضم اللام بمعنى النسر في الفارسية و«اموهث»
2
بمعنى المعلوم أو المعلم، إيماء من الغيب بتعليم الدين من قمة النسر الشاهقة، والدين في مذهب الباطنية تعليم لا يستغني عن الإمام في كل زمان! •••
وقد تحدث المؤرخون والسياح عن أسرار تلك القلعة العجيبة التي تزجى
3
الأحاديث عنها بين الناس فيصدقونها؛ لأنهم يحبون الاستماع إلى العجب والتحدث بالعجب، ويصعب عليهم بعد العثور على حديث عجيب أن يفرطوا فيه كما يصعب عليهم التفريط في كل قنية عجيبة أو كل تحفة نادرة.
من هذه الأعاجيب أن الحسن بن الصباح عرف سر الحشيش من أستاذه الطبيب ابن عطاش فسخره في نشر دعوته، وأنه توسل به لإقناع أتباعه برؤية الجنة عيانا؛ لأنه كان يدير عليهم دواخين الحشيش ثم يدخلهم إلى حديقة عمرت بمجالس الطرب التي يتغنى فيها القيان، وتتلاعب فيها الراقصات، ثم يخرجهم منها وهم في غيبوبة الخدر ويوقع في وهمهم ساعة يستيقظون أنه قد نقلهم إلى جنة الفردوس وأنه قادر على مرجعهم إليها حين يشاء، وأنهم إذا ماتوا في طاعته ذاهبون بشهادة أعينهم إلى السماء.
قالوا: وإن هذا الإقناع أو هذا «الإيمان العياني» يفسر طاعة أتباعه الذين كان يأمرهم بالهجوم على أعوانه من الوزراء والأمراء بين حاشيتهم وأجنادهم، فيهجمون عليهم ويغتالونهم غير وجلين ولا نادمين، وإن كلمة «أساسين»
Assasin
التي أطلقت في الغرب على قتلة الملوك والعظماء ترجع إلى كلمة الحشاشين أو الحسنيين نسبة إلى الحسن بن الصباح، وقالوا: إن الفتى من أتباع شيخ الجبل كان يبلغ من طاعته لمولاه أن يشير إليه الشيخ بإلقاء نفسه من حالق فيلقي بنفسه ولا يتردد، وإن أحدهم كان يقيم بين جند الأمير المقصود بالنقمة ويتكلم لغتهم حتى لا يميزوه منهم، وأنه يفعل فعلته ويتعمد أن يفعلها جهرة ولا يجتهد في الهرب من مكانها، وإن أمهات هؤلاء الفدائيين كن يزغردن إذا سمعن خبر الفداء ويبكين إذا عاد الأبناء إليهن ولم يفلحوا في اغتيال أولئك الأعداء.
وظل الحديث بهذا وأشباهه يتعاقب ويتناثر بين الأمم، ويروى عن الحسن كما يروى عن خلفائه إلى عهد الرحالة البرتغالي، «ماركوبولو» الذي ساح في المشرق في أوائل القرن الثالث عشر للميلاد، ولا يزال هذا التفسير الخرافي مقبولا في القرن العشرين بين الأكثرين من المؤرخين والقراء.
ونحن نستبعد جدا أن يكون للجنة المزعومة أصل في قلعة حسن بن الصباح، فإن التكذيب أرجح من التصديق في كل خيط من الخيوط التي نسجت منها القصة ذلك النسيج الواهي المريب.
إن الحسن بن الصباح كان معروفا بالصرامة والشدة على نفسه وعلى أتباعه، وكان يتنسك ويتقشف رياضة أو رياء أمام أتباعه وتلاميذه، ولم يكن من اليسير في تلك القلاع المنفردة أن يخفى أمر القيان ومجالس الراقصات والغناء زمنا طويلا دون أن يطلع عليه المقربون إن لم يطلع عليه جيرة القلعة أجمعون، وليس من المعروف عن مدخني الحشيش أن يحفظوا وعيهم ويفقدوه في وقت واحد، وأن يتلبس عليهم كلهم أمر العيان والسمع هذا الالتباس، وليس من المعروف عن الحشيش أنه يهيئ صاحبه لموقف الإقدام على المخاطر والإصرار عليها شهورا أو سنوات.
ومن المحقق أن شيخ الجبل لم يطلع أحدا على سره، وأن أحدا من المؤرخين لم يشهد تلك الجنة بنفسه ولم يسمع روايتها من شاهد بعينه، فهل من العسير أن يتتبع مصدر هذا الخيال من روايات الزمن الذي نشأت فيه وسرت منه إلى ما بعده من أزمنة القرون الوسطى؟ •••
إن روايات هذا الخيال قد نشأت بين الصليبيين ولم تنشأ بين المشارقة، وقد كان الصليبيون في حاجة إلى تأويل شجاعة المسلمين، وهم في عرفهم قوم هالكون لا يؤمنون بالدين الصحيح، فخطر لهم وقالوا وكرروا: إنهم يستميتون في الجهاد؛ لأنهم موعودون بالجنة التي تجري تحتها الأنهار وترقص فيها الحور الحسان، إذا استحبوا الشهادة في سبيل الله.
واستغراب الشجاعة من الفدائيين هو الذي أحوجهم إلى سبب كذلك السبب أو أغرب من ذلك السبب، وقد كان ماركوبولو في روايته يقول: إن الفدائيين صدقوا شيخ الجبل كما كان المجاهدون من العرب يصدقون النبي عليه السلام، وكأنه يقول: إنهم لهذا يقبلون الموت وهم قوم هالكون، فهم في شجاعتهم مخدوعون.
إن القوم قد عجبوا كيف يطيع الفدائيون شيخهم هذه الطاعة وكيف يقدمون بأمره على الموت المحتوم. فلم يتخيلوا لذلك سببا غير الجنة الموعودة، وعرفوا الحشيش، فالتمسوا فيه سر الجنة التي ترى في هذه الدنيا رأي العيان. وقد جاء ذكر الحشيش في كلام مؤرخي الشرق، وذكر بعضهم أن أناسا من شيوخ الطرق كانوا يستبيحونه ولا يحسبونه من المسكرات المحرمة، وذكر البندري مؤرخ آل سلجوق جماعة الحشاشين وعنى بهم طائفة الإسماعيليين، أما جنة «آلموت» المزعومة فهي من مخترعات الغرب لا نعلم أنها وردت في كلام مؤرخ إسلامي قديم، ولا أن أحدا من مؤرخي الغرب أسندها إلى مصدر من المصادر الإسلامية. ولو كان لها مصدر من المشرق الإسلامي لكانت كتب الشرق أولى بابتداعها من كتب الأوروبيين.
وأول دلائل البطلان في هذه الخرافة أن وجه الغرابة الذي دعاهم إلى اختراعها غير غريب، فإن النخوة الدينية كانت أقرب شيء إلى أتباع الأئمة في ذلك الزمن، ولا تصلح رؤية الجنة عيانا لتفسير تلك النخوة في عجائز الفناء فضلا عن الفتيان المجردين للفداء. فإذا كان أولئك الفتيان يستهينون بالموت؛ لأنهم شهدوا الجنة عيانا، فالعجب لأمهاتهم اللائي كن يفرحن بفقدهم وينتحبن لنجاتهم كيف ملكن جأشهن بغير تلك الآية التي رآها أبناؤهن رأى العيان؟! •••
لقد كان الأمل في ظهور المهدي المنتظر رجاء كل نفس وحديث كل لسان في ذلك العصر من المؤمنين بالمهدية، وكانت فتن العصر أشبه شيء بفتن آخر الزمان أو بأشراط الزمن الذي يظهر فيه المهدي المنتظر؛ ليملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وينجو بأتباعه ومصدقيه إلى حظيرة الخلد والسلام، وكان شيخ الجبل يتخير لتربية الفدائيين فتيانا أشداء يتفرس فيهم العزيمة والمضاء ولما يبلغوا الحلم، ثم يأخذ في تدريبهم على المشقة والطاعة وهم دون الثانية عشرة، وأكثرهم من أبناء الجبال في تلك الأطراف التي نشأ أبناؤها على الفطرة وعلى استعداد للتصديق والإيمان.
وكان الإيمان بالدعوة العلوية قد شاع في تلك الأطراف فخرج منها الأمراء والوزراء الديلميون الذين بايعوا خلفاء القاهرة وهم في بغداد؛ وكانت لشيخ الجبل إرادة من حديد تتسلط على أجناده تسلط «المنوم المغناطيسي» على المدربين عنده على التنويم، فلم يكن في طاعة هؤلاء وإقدامهم على الاستشهاد من غرابة ولا من حاجة إلى رؤية الجنة بالعين، وتأتي الحروب الصليبية فتلهب ما فتر من النخوة التي أذكاها الصراع بين الدول والفرق والطوائف والخلفاء والسلاطين. فلا يحتاج الفتى المدخر للاستشهاد إلى دافع أو حافز، بل لعله يحتاج إلى الوازع والرقيب.
والمؤرخون الأوروبيون الذين كتبوا عن خداع القادة لأتباعهم في الجماعات السرية كثيرون، منهم من يحسن التفسير ومنهم من يسيئه، ومنهم من يسرع إلى الاتهام ومنهم من يتريث فيه، فمن الذين أحسنوا التفسير إيفانون الروسي صاحب كتاب «مؤسس الإسماعيلية المزعوم»
The Alleged Founder of Ismailism ، وهو ممن يصححون نسب الفاطميين ويرجحون الاختلاف من قبل «الأساتذة المربين» الذين يختارون لتعليم الأمراء وتثقيفهم في العلوم وفقه الدين، وقد عم الدعاة بالخداع من عهد عبد الله بن ميمون وخص بالذكر أئمة «آلموت» من «المهدي حسن بن الصباح ورشيد الدين سنان»، وسائر هؤلاء الدعاة.
فأما أن حسن بن الصباح كان يسوق أتباعه بالخداع فذلك ما لا ريب فيه عند الخصوم ولا عند الأنصار، فهل يصدق القول عليه أنه هو يخدع ولا ينخدع وأنه هو يسوق ولا يساق؟ •••
الراجح عندنا أن هذا «المهدي» لم يكن خلوا من الإيمان بدعوته على وجه من الوجوه، وأن عمله في الدعوة عمل جاد غير هازل وصامد غير متردد، ولا داعي للشك في إيمانه بعمله وإن كان هناك شك كبير في إيمانه بكل ما يقول لسامعيه ومتبعيه.
وما بالنا نتخيله خلوا من الإيمان منصرفا كل الانصراف إلى التضليل والخداع؟ أليس من دواعي الإيمان أن يكون الإنسان مدفوعا إلى عمله غير قادر على تركه؟ أليس من دواعي الإيمان أن يكون اعتقاد الإنسان في عمله خيرا من اعتقاده في أعمال الآخرين؟ أليس من دواعي الإيمان أن يقنع نفسه برسالة صالحة وأن يستمد من عمله حجة لتلك الرسالة؟
إن «التنويم الذاتي» معروف متواتر، وإنه لأقوى ما يكون حين تندفع إليه النفس ضرورة لا حيلة لها فيها، وذريعة لها عذر من أحوال الزمن ودواعيه.
وربما بدأت عقيدة ابن الصباح في رسالته سلبية قبل أن ترسخ في طويته بالإقناع الموجب واضحا أو وسطا بين الوضوح والغموض.
ونعني بالرسالة السلبية أنه آمن إيمانا لا مثنوية فيه بفساد العصر وضلال ذوي السلطان فيه، وأنه مهما يفعل في حربهم واستئصال فسادهم فهو على صواب.
وتقترن بهذه الرسالة السلبية دفعة فطرية إلى السيادة والسلطان، فماذا يصنع بهذه الدفعة إن لم يعمل بها عملا قويا متصل العزيمة والثبات؟
إما أن يستكين إلى سيادة غيره والموت أحب إلى أصحاب هذه النفوس الغالبة المغلوبة من استكانة الخضوع، وإما أن يمضي قدما ولا بد له من مسوغ وبرهان وليس أسرع إلى السريرة من المسوغ والبرهان حين ينجوان من الغرق في لجج اليأس والانكسار وظلمات الفشل والهوان.
وقد قال داعي الدعاة في ذلك العصر: إن الناس كانوا بين رجلين، رجل لو قيل له: إن فيلا طار أو جملا باض لما قابله إلا بالقبول والتصديق «أو منتحل للعقل يقول: إنه حجة الله تعالى على عباده، مبطل لجميع ما الناس فيه، مستخف بأوضاع الشرائع معترف مع ذلك بوجوب المساعدة عليها وعظم المنفعة بمكانها، لكونها مقمعة للجاهلين ولجاما على رءوس المجرمين المجازفين.» •••
وهذه عقيدة قوم لا دفعة في طبائعهم إلى طلب السيادة والسلطان، وليس في طويتهم ما يثيرهم إلى الحركة إذا آثروا السكون، فإذا كانت هذه العقيدة في طوية رجل لا يهدأ ولا يستكين ولا يرى في نفسه إلا أنه أهل للقيادة والإمامة، وأن الذين حوله أهل للقمع والنكال، فمن اليسير عليه أن يسوغ لنفسه خداع العامة والخاصة لتحقيق غاية على يديه، هي أصلح مما هم فيه، وأصلح مما يحققونه على أيدي سواه.
وقد سوغ أفلاطون في جمهوريته خداع الدهماء وخداع المتعلمين الناشئين، وسوغ فيثاغوراس من قبله حجب الحقيقة عن بعض العيون وتقريب الأمر إلى المريدين بالرموز والإشارات، وأباحا ذلك وليس واحد منهما مأخوذا بدفعة السيادة، وليس في زمانها دعوة سرية عامة كالدعوة التي لفت حسن بن الصباح من رأسه إلى قدميه. فلم لا يسوغ هذا المذهب في قيادة الدهماء لحسن بن الصباح؟ وهل من البعيد أنه اطلع على أفلاطون وفيثاغوراس كما اطلع على أفلوطين؟ إن القول باقتباس الباطنية من هذين الحكيمين راجح متواتر، فليس مما يخل بحكمة الحكيم أن ينصب نفسه للهداية ويسلم نفسه ورسالته إلى عناية الله يتوجه به حيث أراد. •••
إن المؤمنين الخالصين للإيمان بغير مواربة ولا مراجعة أندر من الندرة بين بني آدم وحواء، وما من أحد آمن بعقيدة إلا عرف في بعض حالاته كيف يوفق بين الشك والاعتقاد وكيف يسلم الأمر لله ويستلهمه اليقين.
وتسعون في كل مائة، إن لم نقل أكثر من ذلك، يؤمنون بالعقيدة إيمان الوقاية أو إيمان الرغبة فيما يعدون به أنفسهم أو يعدهم به الهداة، وإذا استطاعت قوة الاعتقاد أن تقنع الملايين بالتسليم لقائد منجد أو دليل مرشد، فأحرى بهذه القوة أن تقنع وتبسط يده على خصومه مستحقين لعقابه، وعلى أصحابه مستحقا منهم الطاعة والتسليم.
لم يكن حسن بن الصباح خلوا من الإيمان بعمله فيما نرى، ولم يكن عسيرا عليه أن يركن إلى دعوة تغريه بها ضرورة الفطرة، ويحضه عليها فساد الزمن وسهولة المسوغ للخروج على المفسدين فيه، ولا يعز عليه أن يعززها بعلامة من علمه الواضح أو من علمه الغامض، وما يلتمع فيه من بريق يثبت عليه بالإلهام حينا بعد حين، فما عاش الرجل بقية حياته غائبا عن صوابه ولا مالكا لكل وعيه، وبين هذا وذاك منزلة الغالب والمغلوب والخادع والمخدوع.
استولى الحسن على قلعة «آلموت» في سنة 483 هجرية ومات في سنة 518 هجرية، فظل مالكا لتلك القلعة باسطا نفوذه على ما حولها خمسا وثلاثين سنة، لعله كان خلالها أقوى رجل في الديار الإسلامية من مراكش إلى تخوم الصين.
وولى عهده، وتسمى بالمهدي وانتحل البنوة الروحية للانتساب إلى الإمام، واستعان بتعدد المراجع في المذهب، فانفتحت أمام الحسن أبواب الدعوة لنفسه باسم «نزار».
ومات «المستنصر» الخليفة الفاطمي سنة 487 للهجرة، فساعد ذلك الإسماعيلي على انتحال المرجع الذي يروقه أن يدعيه، فهو حجة ومهدي وإمام كما يشاء. •••
وقد اعتمد في توطيد سلطانه على ثلاث: الحيلة، والغيلة، والفتنة الدخيلة. فمن الحيلة أن السلطان السلجوقي ملكشاه سير إليه فرقة لمحاصرته بعد استيلائه على قلعة آلموت بسنتين، ولم يستكثر من الجند كما أوصاه وزير نظام الملك استخفافا بشأن القلعة وحاميتها، فلما أحاطت الفرقة بالقلعة بين الجبال الجرداء والقفار الموحشة وطال على جنودها العهد بلهو العواصم والحواضر أمر الحسن بقافلة تحمل الخمور فيما تحمل من المتاع فسيرت على مرأى من الجيش المحاصر، فما وقعت أيديهم على زقاق
4
الخمر حتى أفرغوها في أجوافهم وانطلقوا يقصفون
5
ويهزجون، فانقضت عليهم حامية القلعة وأمعنت فيهم قتلا ونهبا وتشريدا من دون أن تصاب الحامية بخسارة ذات بال.
وأعاد ملكشاه الكرة وقد أصاخ إلى نصيحة وزيره في هذه المرة، فضيق المحاصرون مسالك القلعة وساكنيها وبطلت الحيلة فاعتمد الرجل على الغيلة، وأرسل إلى الوزير فتى من فتيانه الفدائيين فقتله، فعاد الجيش الذي سيره الوزير إلى حيث استدعاه ملكشاه، لحاجته إليه في اتقاء الفتنة واتقاء الغارة من المغول.
وتساعد الرجل مصادفات الحوادث. فيموت ملكشاه ويزعم الأتباع والأشياع أنها كرامة المهدي تنجيه من أعدائه واحدا بعد واحد، ويتنبه الرجل إلى مواقع الفرص فلا تفوته منها فائتة. فلما نشبت الفتنة بين ولدي ملكشاه جعل همه أن ينصر أحدهما على الآخر حتى يوشك أن يظفر بأخيه، فيسلط على الجيش المنتصر سلاح الغيلة أو سلاح الفتنة الدخيلة. ومن أساليبه في هذه الفتنة أن يترك المحاربين في شك ممن هو معهم ومن هو عليهم، وقد يشيع عن أحد أعدائه في دولة الأمير أنه من الإسماعيليين «الصباحيين» المستترين، وقد يوهم الأمير غير ذلك فيقرب إليه ويظهر العداء لابن الصباح ومتبعيه.
فلما آل العرش إلى السلطان سنجر بن ملكشاه، وكان من أقوى الملوك وأغناهم في عصره، لم يجد بدا من مصالحة ابن الصباح. وقيل في أسباب المصالحة: إنه كان من أهمها شك السلطان في حاشيته وقواده وأجناده، وتخوفه من أن تكون الدعوة السرية قد قلبت عليه أقرب الناس إليه وهو لا يعلم، فتعاقد مع ابن الصباح على المسألة وترك له جباية الضرائب والإتاوات
6
في إقليمه. ويروى أنه وجد في طريقه إلى حصار «آلموت» خنجرا مغروسا في فراشه مكتوبا عليه: إن الذي غرسه هنا قادر على أن يغمده في صدرك، وأنه سمع عن أمراء الحصون أنهم يضمرون العقيدة الباطنية ويعلنون الطاعة للسلاجقة في انتظار الأمر من شيخ الجبل، فآثر المسألة على القتال. •••
ولم يبال شيخ الجبل بالانقطاع عن الدعوة الفاطمية، بل لم يبال بسقوط الخلاف الفاطمية ولم يحجم عن تهديد خلفائها علانية وخفية، وهمه قبل كل شيء أن يكون أتباعه خالصين لطاعته والثقة به في غير مشاركة ولا هوادة، فانقسمت الدعوة الإسماعيلية على نفسها وأصبح لها في البلاد الفارسية والعراقية معسكران متنازعان: أحدهما معسكر ابن الصباح يدعو إلى نزار، ويدعي المهدية لشيخ الجبل ويحارب المعسكر الآخر من الإسماعيليين، والثاني يدعو إلى المستعلي وأبنائه. وبقيت منها اليوم طائفة الإسماعيليين المعروفين باسم البهرة، يقولون: إن المهدي المنتظر سيظهر عما قريب من سلالة الخليفة «الآمر» الفاطمي، وإنه يحضر موسم الحج في كل عام، فمن رأى الحجاج جميعا في موسم من مواسم الحج فقد رآه.
وحيرة المؤرخين والباحثين النفسانيين هي حياة الرجل في السنوات الأخيرة من مقامه بقلعة آلموت. إنه لم يكد يفارقها بعد دخولها، ولم تكن له أسرة فيها غير امرأته وولديه. وهذا الزعيم «الباطني» الذي قيل عن مذهبه: إنه ذريعة إلى استباحة المحرمات والتهالك على اللذات قد اتفق الكاتبون عنه على زهده واعتكافه وعزوفه عن المباح من الأطايب، فضلا عن الحرام، وزعم بعض المؤرخين حين قتل ابنه أنه قتله لمخالفته إياه في شرب الخمر على الخصوص، ولم يقتل ولدا واحدا بل قتل ولديه الاثنين وهو في شيخوخة لا مطمع له بعدها في الذرية، وهذه هي حيرة أخرى من حيرات لا تحصى في مسلك هذا الإنسان العجيب كله، وفي مسلكه قبيل وفاته على الخصوص. •••
هل هو مجنون مطبق الجنون؟ إن المجنون المطبق الجنون لا يستغرب منه قتل أبنائه في شباب ولا شيخوخة، وتزول بهذا غرابة القتل، ولكنها تزول لتخلفها غرابة أعضل وأدهى، وتلك هي قدرة المجنون المطبق الجنون على التدبير المحكم عاما بعد عام، وقدرته على حفظ مكانه ومكانته بين وزرائه وأعوانه ومنهم الأذكياء والدهاة وفيهم الشجاعة والهمة والإقدام!
هل له عقيدة يصبر في سبيلها على الشظف والضنك ويستبيح من أجلها إراقة الدماء، دماء الأبناء كدماء الأعداء؟
إنه خلق العقيدة النزارية خلقا فمن البعيد أن يخلق العقيدة وينخدع بها ويصبر في سبيلها على ما صبر عليه ويستبيح في سبيلها ما استباح.
والذي يبطل الحيرة في اعتقادنا هو التفسير المقبول لطبيعة هذا الإنسان العجيب.
ونبدأ فنقول: إننا ينبغي أن نستغرب من حسن بن الصباح ما هو غريب منه لا ما هو غريب من غيره، ولو كانوا معظم الناس.
فالغريب في طباع الناس تجردهم من الحنان الأبوي أو فتور هذا الحنان فيهم، ولكن هل خلا الجنس البشري من آحاد يهون عندهم الحنان في جانب النوازع القوية التي لها السلطان عليهم وليس لهم عليها سلطان؟ هل خلا الجنس البشري من آحاد نراهم بيننا تستهويهم الشهوات الصغار فضلا عن الشهوات الكبار، فلا يبالون ما يصيب أبناءهم من جراء تلك الشهوات؟
وهل من البعيد أن يكون ابن الصباح هذا من أولئك الذين تملكهم نازعة تطغى على حنان الأبوة؟
كلا! ليس هذا بالبعيد على الإطلاق، بل هو دأب الطامحين من أمثاله إلى السيطرة، ودأب الذين يهون عليهم شظف العيش ولا يهون عليهم الخضوع والبقاء في زوايا الإهمال. وقد يكون الولدان اللذان أمر بقتلهما قد تآمرا عليه مع بعض أعوانه المتطلعين إلى مكانه كما جاء في بعض الروايات، وقد يكون أحدهما هو الذي تآمر عليه كما هو الأرجح، ويكون ظنه بالآخر أنه لا يفلح ولا يؤمن على مصير الدولة بعده. وقد يكون بطشه بابنه في سبيل رسالته هو المسوغ المقبول أمام ضميره لإقدامه على البطش بالغرباء في هذا السبيل. •••
فإذا كان الظن بجنونه المطبق حيرة، وكان الظن بغفلته حيرة مثلها، فأنفى الظنون للحيرة أنه أطاع طبعه في طلب الغلبة على الرغم منه، وأنه اتخذ من فساد زمانه حجة على وجوب رسالته وقداستها، وأنه راض نفسه على شدائد تلك الرسالة لتكون الشدائد التي يضطلع بها حجة له على صدقه ومطاوعة طبعه، وأنه كان عرضة لسورة الغضب ونوبة الفتك في أزمات طبعه ولكنها سورات
7
نوبات دون الجنون المطبق في جميع الأحوال، وهذا كله جائز غير مستغرب. أما المستحيل فهو أنه مصاب بالجنون المطبق أو خادع لا عمل له ولا غواية من وراء عمله غير الخداع والتضليل، أو أنه مغفل لا يدري موضع الغفلة من سريرته، وهو يتسلل بالإقناع إلى سرائر المئات والألوف، ومنهم الأذكياء والألباء والحصفاء.
الفصل الرابع عشر
السرية الباطنية
ولعل سيرة شيخ الجبل في نقائضها المعلومة هي ألزم السير للتعريف بمعنى السرية الباطنية أو السرية الإسماعيلية على التخصيص، فهذه السرية كانت تشتد وتتراخى تبعا للعمل الذي ينوطه الإمام بدعاته، لا تبعا للفكرة أو للعقيدة التي يخالفون بها أصحاب الفكر والمعتقدات الأخرى.
كانت السرية تشتد كلما خشى دعاة الإمام في بلاد اعدائهم على أنفسهم وعلى رؤسائهم وأئمتهم، وكانت تشتد كلما كان الكتمان أنجح لمهمتهم وأعون على تشتيت أعدائهم وتبلبل الأفكار فيما حولهم. وكانت تتراخى حتى لا سرية على الإطلاق حيث تكون الدولة دولتهم والأمور مؤاتية لهم ولسياستهم. وقد يعقدون المجالس ويحاضرون في الأندية العامة لإعلان آرائهم وإقناع معارضيهم كلما اطمأن بهم المقام في ديارهم. •••
ومن الجائز أن تكون تلك الأعمال مرتبطة بالعقيدة الخاصة في الإمام حين يكون تعظيم الإمام وتقديسه لازمين لإقناع الداعية أو الفدائي بالهجوم على الخطر ومواجهة المصاعب والأهوال في غير إشفاق على حياته أو حذر من عاقبة أمر، ففي هذه الحالة يتصف الإمام بالقداسة التي توجب على المريد طاعته وتضمن له النجاة في هذه الدنيا أو في الدار الآخرة. وكثيرا ما يستغني الإمام عن المغالاة بقداسته في الأزمنة العصبية التي تلتهب فيها الحماسة الدينية، ويشيع فيها الأمل باقتراب الأوان الموعود وتوالي العلامات والأشراط التي تؤذن بظهور المهدي، وانتصار زمرته على أعدائهم وأعدائه. فإذا شاع في النفوس هذا الأمل فلا حاجة بالإمام إلى عقائد المبالغة والمغالاة في أمره، وحسبه أنه قائد مصدق مطاع يأتمر بدعوته جند مصدقون مطيعون.
وإذا أردنا التوسع الذي يشمل جميع المذاهب وينتظم مذاهب السنة والشيعة جميعا ولا يخص الإسماعيلية أو النزارية وحدها فالخلاف على الإمامة هو محور كل خلاف بين جميع المذاهب من جانب السنة أو من جانب الشيعة. فكل ما عزز ضرورة الإمام الحي فهو من عقائد الشيعة. وكل اختلاف أردنا أن نعرف عقيدة الشيعة فيه فلنرجع بجانبي الرأي إلى محور الخلاف كله، فأيهما كان أقرب إلى ضرورة الإمام الحي فهو من مذهب الشيعة، بغير حاجة إلى البحث الطويل والاستقصاء البعيد. •••
وقد لخص الغزالي هذا الفارق في كتاب المنقذ من الضلال فقال: «الصواب أنه لا بد من الاعتراف بالحاجة إلى معلم، وأنه لا بد أن يكون المعلم معصوما، ولكن معلمنا المعصوم هو محمد
صلى الله عليه وسلم : فإذا قالوا هو ميت فنقول: ومعلمكم غائب، فإذا قالوا: معلمنا قد علم الدعاة وبثهم في البلاد وهو ينتظر مراجعتهم إن اختلفوا أو أشكل عليهم مشكل، فنقول: ومعلمنا قد علم الدعاة وبثهم وأكمل التعلم؛ إذ قال الله تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم
وبعد كمال التعليم لا يضر موت المعلم كما لا تضر غيبته. يبقى قولهم: كيف يحكمون فيما لم يسمعوه؟ أفبالنص ولم يسمعوه، أم بالاجتهاد بالرأي وهو مظنة الخلاف؟ فنقول: نفعل ما فعله معاذ - رضي الله عنه - لما بعثه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى اليمن؛ إذ كان يحكم بالنص عند وجوده وبالاجتهاد عند عدمه، بل كما يفعله دعاتهم إذا بعدوا عن الإمام إلى أقاصي الشرق؛ إذ لا يمكنهم أن يحكموا بالنص فإن النصوص المتناهية لا تستوعب الوقائع غير المتناهية، ولا يمكنهم الرجوع في كل واقعة إلى بلدة الإمام، وإلى أن يقطع المسافات ويرجع يكون المستفتي قد مات أو فات الانتفاع بالرجوع، فمن أشكلت عليه القبلة ليس له طريق إلا أن يصلي باجتهاده؛ إذ لو سافر إلى بلدة الإمام ليعرفه القبلة لفات وقت الصلاة. فإذا أجيزت الصلاة على غير القبلة بناء على الظن - ويقال: إن المخطئ في الاجتهاد له أجر واحد وللمصيب أجران - فكذلك في جميع المجتهدات.»
ومهما يكن من قول في تفصيلات الشعائر أو الفرائض فما كان منه أقرب إلى تعليم الإمام المعصوم فهو قول الشيعة وما عداه فهو قول السنيين، وجميع المقربين للإمامة على مذهبهم كالزيديين. وهذا هو الذي يؤيد أن مرجع السرية كله هو الرأي في الإمامة لا عقائد مستورة أو خلائق مخالفة لأدب الدين أو العرف بين المسلمين وغير المسلمين. •••
خذ لذلك مثلا إعلان بدء الصيام، فإن رؤية الهلال فيه كافية على مذهب السنيين، ولكن هذا الرأي يغني عن إعلان الإمام للصيام فلا يأخذ به الإماميون، بل يقولون: إن المسلمين كانوا في حياة النبي - عليه السلام - يصومون حين يصوم، فلما أزمع السفر سألوه عن موعد الصيام فقال لهم: «صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته»، ولم يكلهم إلى الرؤية قبل ذلك وهو مقيم معهم يصوم فيصومون.
ووجود علم مستور يتعلمه الناس من الإمام دون غيره هو العقيدة التي لا محيد عنها لمن يقولون بالإمامية، وإنما يختلف العلم المستور باختلاف الأئمة والأوقات والسائلين، فقد يكون العلم المستور هو تأويل القرآن، وإجابة كل سائل عنه بما يقدر عليه، وقد يكون العلم المستور سياسة محكمة لا تكشف لكل طالب ولا يجوز التردد في طاعتها توقفا على فهمها، فإنها لو كشفت في بعض الأزمنة لحاق الضرر بمن تشملهم تلك السياسة أجمعين.
وقد فسر ابن الصباح اسم قلعته بمعنى النسر المعلم، فهي مرجع المؤمنين من أتباعه لا يستغنون بالابتعاد عنها، وقد ترخص بعض الإماميين في أمر العصمة الواجبة للإمام، فأباح بعضهم نقد الإمام كما فعل حسن بن الصباح في نقد الخليفة المستنصر، بل كما فعل داعي دعاة الخليفة نفسه هبة الله الشيرازي الذي سبقت الإشارة إليه، ولكنهم يقولون: إن الإمام يصيب وهو مختار، ويجري مع الخطأ وهو مكره، ولا سيما في اختياره لولي عهده وصاحب الإمامة من بعده، فإن من اختاره طائعا فهو الصواب المطاع. •••
لقد صحبنا منشئ «الإسماعيلية الجديدة» من عهد بروزه في ميدان الدعوة الفاطمية، ولم نبدأ بسيرته من نشأته الأولى؛ لأن حياته العامة لا تتوقف على أخباره في أوائل نشأته. فما مر خبر منها متفق عليه حتى اسمه وموطنه ونحلته، فهو ينتسب إلى اليمن، ويذكر من نسبته أنه الحسن بن علي بن محمد بن جعفر بن حسن بن محمد الصباح الحميري، ومنكرو دعواه يقولون: إنه قروي من خراسان، ومنهم من يقول: إن أباه كان يعمل في الصياغة، صناعة الصابئة على شواطئ بحر العجم. •••
والثابت أنه مات ولم يظهر له في حياته ولا بعد مماته أحد من ذوي قرابته، وأن دعوته لم تفلح في بلاد اليمن، بل أفلحت فيها دعوة الطيب ابن الآمر التي كانت تناقض الدعوة إلى نزار أمام الحسن المختار، وقد أوصى الحسن بعده لرجل فارسي غريب عنه لا تربطه به نسبة، ولعله من أقربائه المستورين إن صح أنه من الفرس وليس من أهل اليمن.
ورويت عن صباه تلك القصة التي جمعت بينه وبين الخيام ونظام الملك بمدرسة نيسابور، ولكنها قصة يرتاب فيها طائفة من ثقات المؤرخين؛ لأن نظام الملك ولد سنة (408 للهجرة)، فإذا كان ابن الصباح والخيام من لداته فقد بلغا إذن أكثر من مائة سنة، ولو قدرنا أنهما أصغر من نظام الملك ببضع سنوات، وفي ذلك موضع للشك غير ضعيف.
وأيا كان الخبر الذي يثبت من أخبار صباه فهو لا يغير شيئا من ملامح «الشخصية» التي برز بها في التاريخ، وهي شخصية المغامر صاحب الدعوة التي انقطعت عن جذورها واتصلت به وبغاياته ومراميه.
وهذه بعد شخصية أثبت في ملامحها من شخصية ميمون القداح وأحدث في الدعوة الفاطمية، وعلى دعوتها تقاس الدعوات التي اقترنت بالفاطمية في تاريخها المعلوم أو تاريخها المجهول.
الفصل الخامس عشر
بناة وهدامون ومهدومون
ينسب قيام الدولة الفاطمية إلى جهود الدعاة الذين انبثوا في المشرق والمغرب، وافتنوا في تبليغ الدعوة سرا وجهرا إلى كل طائفة بالوسيلة التي تلائمها، ويغلو بعض المؤرخين في شأن هذه الجهود حتى يخيلوا لمن يقرؤهم أن غير هذه الجهود لم يكن له في إقامة الدولة الفاطمية شأن ذو بال.
ولا شك في براعة الدعوة الفاطمية وقوة أثرها في التمهيد لقيام الدولة، ولكننا لا ننسى أن بعض هذه الدعوة كان يسيء إلى القضية ولا يحسن. وأن فريقا من الدعاة كانوا يخدمون أنفسهم ويضرون قضيتهم. وأن الدعوة لو انصرفت كلها إلى الخدمة والتمهيد لم ينصرف شيء منها للإساءة والتنفير - لما بلغت غايتها إن لم يكن جو العالم الإسلامي متهيئا لقبول نظام جديد والإعراض عن نظام قديم.
والواقع أن جو العالم الإسلامي قد تهيأ في القرن الثالث لقبول هذا التبديل في نظامه، وكان هذا التهيؤ من شقين: شق ينكر النظام القائم، وشق يرحب بالنظام المنتظر ويعطف عليه.
وكانوا يسمون ذلك دلالات النجوم، فيربطون بين مشيئة الإنسان ومشيئة الكون كله، ويلوح لهم حين يريدون التغيير أن التغيير كائن ولو لم يريدوه، ولو لم يعملوا لتحقيق ما أرادوه.
وتوجد الكلمة التي تحفظ حين تلفظ، ويسمع الناس: «إن الشمس ستشرق من مغربها» فيهمس بها بعضهم إلى بعض، ويعجب السامع مما سمع فلا ينساه.
وقد كان علم النجوم قد استفاض في كل مكان، وليس أكثر من مقارنات الفلك التي يحسب المنجمون أنها علامة الغيب على الغير والأحداث، وطلاب التغيير هم المستبشرون دائما بتلك العلامات وهم الذين يركنون إليها ويترقبونها، ولا سيما حين يكون علم النجوم علما يحبه المجددون ويمارسونه، ويبغضه المحافظون ويتشاءمون به ولا يترقبون الخير من ورائه.
وما كان أبو تمام ينظم قصيدة من قصائد المدح وحسب، حين قال عن النجم ذي الذنب في زمانه:
أين الرواية بل أين النجوم وما
صاغوه من زخرف فيها ومن كذب
قد صيروا الأبرج العليا مرتبة
ما كان منقلبا أو غير منقلب
وخوفوا الأرض من دهياء داهية
إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
ولكنه في الواقع كان ينظر في أوائل القرن الثالث إلى الوجهتين المتقابلتين: وجهة الراضين عن نبوءات النجوم ووجهة المتبرمين بها، وما زالت الوجهتان تنفرجان حتى شهدت نهاية القرن غاية التفاؤل وغاية التشاؤم بعلامات النجوم.
قال صاحب زهر المعاني: «وكان أهل النجوم والحساب يذكرون ظهور المهدي بالله ويبشرون بدولته، ثم إن الملوك والأضداد أيقنوا بذلك، وإن صاحب الزمان تقدم للهجرة إلى المغرب والمهدي في كنفه؛ حتى يكون أوان ظهوره وطلوع نوره. وأن يكنوه بالشمس الطالعة.»
وكان المهدي نفسه على علم بمراصد النجوم، فكان يتفاءل بمقارناتها ويبشر بها أتباعه، وهم بغير هذه البشارة مصدقوه، فإذا علموا أن الكون كله يتأهب «لطلوع الشمس من المغرب» فقد بلغ التصديق غاية اليقين.
وقد أثر عن حفيد موسى الكاظم - كما جاء في المقريزي - أنه قال في سنة اثنتين وخمسين ومائتين: إن الإمام المنتظر سيظهر بعد اثنتين وأربعين سنة، ونظم الفهري هذه النبؤة فقال:
ألا يا شيعة الحق
ذوي الإيمان والبر
ومن هم نصرة الله
على التخويف والزجر
فعند الست والتس
عين قطع القول في العذر
وظل المتربصون بالدولة العباسية يقرأون في أرصاد النجوم علامات زوالها إلى ما بعد نهاية القرن الثالث وبعد بداية القرن الرابع، فقال أبو طاهر القرمطي:
أغركم مني رجوعي إلى هجر
فعما قريب سوف يأتيكم الخبر
إذا طلع المريخ في أرض بابل
وقارنه النجان، فالحذر الحذر
فمن مبلغ أهل العراق رسالة
بأني أنا المرهوب في البدو والحضر
أنا الداع للمهدي لا شك أنني
أنا الضيغم الضرغام والحية الذكر
وقد تقدم أن الناس ظنوا بأبي العلاء المعري أنه من رصدة النجوم، فإذا بلغ بزمان أن يترقب فيه الضرير أرصاد السماء فهو زمان تفعل فيه العلامات الفلكية فعلها، سواء أكان حب التغيير هو الذي علق الأبصار والبصائر بمسالك الكواكب، أم كانت مسالك الكواكب هي التي شحذت في نفوسهم حبهم للتغيير وتطلعهم إلى الغيب من بصير وضرير.
وفحوى ذلك كله أن السماء والأرض في عرف أبناء القرن الثالث للهجرة كانتا تتطلعان إلى شيء، وأن الناس كانوا يتفاءلون بذلك ويتشاءمون، وأحرى الناس أن يتفاءلوا بعلامات التغيير هم طلاب التغيير.
وجاءت الدعوة الفاطمية إلى قوم متبرمين أو قوم غير مكترثين للدفاع عن النظام القائم أو دفع النظام الجديد.
كان بين خدام الدولة العباسية نفسها من يبغضونها أو ينكرون حقها، ومن كان منهم لا ينكر حق الخلفاء العباسيين فهو منكر لسلطان الترك والديلم، معتقد أن أهل البيت المقبلين خير من أهل البيت المولين، أو أهل البيت الذين تولت عنهم الولاية عجزا وسفها فليس لهم منها غير الأسماء. •••
وكان بطش العباسيين بأبناء علي من أسباب الكراهة لأصحاب الحكم وأسباب العطف على طلابه. فكان مع العباسيين من خدامهم وأعوانهم من يقدسون صاحب الدعوة العلوية ويمقتون أصحاب العروش في بغداد. ولولا عامل من عمال بني العباس في الرملة لاعتقل المهدي وقتل قبل أن يصل إلى المغرب حيث أقام الدولة. يقول جعفر الحاجب في سيرته: «وصلنا إلى الرملة فنزلنا بها عند عاملها، وكان مأخوذا عليه فلم يدر من السرور برؤية مولانا المهدي كيف يخدمه، ورفع المهدي فوق رأسه وقبل يديه ورجليه.»
ثم قال: إن النجاب وصل من دمشق إلى الرملة يصف له المهدي ويأمره بالبحث عنه والمهدي في داره، فانكب الرجل على رجلي المهدي يقبلهما ويبكي، فطمأنه المهدي قائلا: «طب نفسا وقر عينا، فوالذي نفسي بيده لا وصلوا إلي أبدا، ولنملكن أنا وولدي نواصي
1
بني العباس.»
وتبين غير مرة أن النجابين الإسماعيليين كانوا أسرع إلى تبليغ المهدي وأعوانه من النجابين الذين تعقبوه، وهم موعودون بالجزاء الجزيل على اعتقاله وتسليمه. واستخدم الحمام الزاجل في تبليغ الرسائل إلى المهدي وهو في طريقه كما جاء في روايات مختلفة، فإن صح هذا فهو دليل على ولاء عجيب وإيمان برسالة المهدي على طول طريقه من الشام إلى المغرب، وإن لم يصح فقد صح ما هو أغرب منه وهو نجاة المهدي من عشرات الولاة والعمال في الشام ومصر والمغرب، بل نجاته بعد دخوله الحبس حيث اعتقل قبل مصيره إلى المغرب الأقصى.
وربما كان ولاء عامل تابع للأمراء أقل في باب العجب من ولاء أمير قائم على عرش دولة كالدولة المصرية، لا تعترف لخلفاء بغداد من بني العباس بغير الدعاء على المنبر في يوم الجمعة، فقد روي عن كافور الإخشيدي أن الشريف أبا جعفر مسلم بن عبيد الله ناوله سوطه - وقد سقط منه - فاستعظم كافور هذا التواضع منه ومال على يده يقبلها وهو يقول: «نعيت إلى نفسي، بعد أن ناولني ولد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
سوطي غاية يتشرف لها.»
هذه هي أشراط الساعة وعلامات الزمان التي وافتها دعوة الدعاة الفاطميين على قدر، ولو لم تقترن دعوة الدعاة بهذه الأشراط التي تجمعت من فعل الحوادث التاريخية والبواعث النفسية لما تمكن الدعاة وحدهم من إقامة الدولة ولا تمكنوا من الإقناع وهو أهم أعمال الدعاة. •••
ونتابع الأمر إلى غاياته فنقول: إن الدعوة والحوادث التاريخية والبواعث النفسية كلها كانت خليقة أن تذهب سدى بغير نتيجة لو لم يقيض للدولة بناة وموطدون من أصحاب السلطان فيها، يأخذون بزمام الأمور ويحسنون قيادتها على نهجها القويم إلى أن تثبت دعائم الملك وتصمد البنية الجديدة لغواشي الزمن، وهي بعد التأسيس عرضة لطوارئ الهدم والتوهين.
وقد جرت العادة في كل دولة جديدة أن يكون لها مؤسس وموطد: مؤسس هو رأس الأسرة، وموطد هو خلف له يتناول منه الملك، لما يستقر قراره فيمنعه أن ينهار قبل أن يبلغ التمام، ثم يتمه ويتركه لمن يأتون بعده بناة أو مسترسلين أو هدامين ينقضون ما بناه الأولون.
ولم تكن دولة الفاطميين شذوذا من هذه القاعدة، فأسسها المهدي عبيد الله ووطدها المعز لدين الله، وكان كلاهما على نصيب وافر من الخلائق التي تنبغي لبناة الدول وموطدي العهود، فلو تتابعت أعمال الدعاة ودواعي الزمن دون أن يتاح للدولة هذان البانيان لما برز لها من الأرض ركن ولا أساس.
اتصف عبيد الله بقوة البنية وجمال السمت والهيبة، كما اتصف باليقظة مع سعة الحيلة ورباطة الجأش، وعرف بالحزم وأصالة الرأي وشدة المراس واستعصاء المقاد على المكابرة والعناد، واجتمع له حسن التصريف، فلم يفته قط أن يختار الوقت الملائم والرجل الملائم للعمل المطلوب كما ينبغي أن يكون، وأعان ذلك كله بحب العمارة والتنظيم، فوجدت الدولة الجديدة منه مؤسسا قليل النظراء.
قيل في قوة بنيته: أنه كان بقوة عشرة رجال.
وليست هذه القوة نادرة في أبناء علي من السيدة الزهراء ومن غيرها، فقد روي عن محمد ابن الحنفية أنه جلد الأرض بمصارع الروم الذي جاء إلى دمشق يتحدى الأقوياء في بلاد المسلمين كما تحداهم في بلاده. ولم تزل هذه القوة معهودة فيهم بعد الجيل الخامس، فقيل عن يحيى بن عمر الملقب بالشهيد: أنه «كان له عمود حديد ثقيل يكون معه في منزله، وربما سخط على العبد أو الأمة من حشمه، فيلوي العمود في عنقه فلا يقدر أحد أن يحله عنه حتى يحله بيده.»
وليست قوة البنية شرطا في أصحاب العروش، ولكن مؤسس الدولة يحتاج إليها إذا وجبت عليه الرحلة أحيانا من مكان إلى مكان فجأة وعلى غير استعداد، ووجب عليه أن يصبر على متاعب الاستخفاء ومتاعب الحاجة، وأن يصرع المطارد ويسبق المتعقب ويبرز للقتال، ولا يزال على أهبته لمقاومة أعدائه ومقاومة أنصاره المنشقين عنه، فإذا تصدى لهذا ولم يرزق ضلاعة الأركان أوشك أن ينقطع بالمسعى دون غاية الطريق.
أسعفته هذه البنية الوثيقة في مآزقه وفي أيام سلطانه، وأسعفته معها مهابة يعنو لها المؤمن به ومن يحاربه ولا يضمر مودته، فلما كان أسيرا في المغرب الأقصى كان صاحب «سجلماسة» ينكل بأعوانه ولا يجسر على مجابهته بما يسوءه، وكان يعمل في مغيبه ما لم يكن يجترئ على عمله وهو ناظر إليه.
وقد تمت له المسعفات في مآزق الحرج باليقظة الجريئة والحلة التي لا تفارقها رباطة الجأش وعزة الكرامة. فلما خرج من الشام إلى مصر هربا من خلفاء بغداد سيروا الأدلاء إلى كل بلد في الطريق ينادون على الناس بأوصافه ويبرئون الذمة ممن يراه ولا يدل عليه، ويجعلون لمن يسلمه عشرة آلاف دينار وزلفى تنفعه عند الخلفاء والأمراء. واتفق أنه صلى الصبح يوما في جامع عمرو فعرفه بعض المصلين بوصفه وهو يهم بالخروج من المسجد وضرب بيده على كم الإمام وقال له: «لقد حصلت لي عشرة آلاف دينار.» •••
ولو رجل غيره في مثل ذلك الموقف العصيب لساخت به الأرض من الفزع، ولكنه التفت إلى الرجل غير مكترث وسأله كأنه خلو الذهن من كل خبر: وكيف ذلك؟ قال: لأنك أنت الرجل المطلوب. فضحك المهدي وعاد مع الرجل إلى المسجد وهو يقول له: «عليك عهد الله وغليظ ميثاقه أنني إذا جمعت بينك وبين الرجل الذي تطلبه كان لي عليك ولصديقي هذا خمسة آلاف دينار!» ولعله تفرس في الرجل الغفلة فأخذه إلى حلقة قد اجتمع الناس فيها، وأدخله من جانبها وراغ منه. وأجمع النية في تلك اللحظة على فراق مصر والمبادرة بالمسير إلى المغرب.
وفي مسيره إلى المغرب تعقبه والي مصر وأدركه وتردد في وصفه فأطلقه، ولاح عليه أنه يحدث نفسه بلحاقه إذا تثبت من حقيقته، فما عتم المهدي أن عاد بعد انطلاقه يبحث عن كلب من كلاب الصيد يتعلق به ابنه - وكانت تربيته لابنه كما تقول في مصطلح هذه الأيام تربية رياضية - فوقع في نفس الوالي أن رجلا يعود بعد النجاة في طلب كلب لا يظن به أنه خائف على حياته وأنه خارج في طلب الخلافة، وقال لأصحابه: «قبحكم الله. أردتم أن تحملوني على قتل هذا حتى آخذه. فلو كان يطلب ما يقال، أو كان مريبا، لكان يطوي المراحل ويخفي نفسه، ولا كان رجع في طلب كلب.»
وقد يكون الوالي أطلقه لمال أخذه منه كما يقول عريب بن سعد في تاريخه، وأنه خشي من أصحابه أن يرتابوا فيه ويرفعوا أمره إلى رؤسائه وأن يلحقوا من ورائه بالمهدي وركبه، فكانت حكاية الكلب هذه حيلة لتضليل أولئك الأصحاب وصرفهم عن المطاردة وعن الوشاية بالوالي إلى بغداد.
ومن حزمه بعد مبايعته بالخلافة أنه بادر على الأثر إلى تجديد نظام الدعوة في المغرب وفي مصر واليمن والعراق وخراسان، وحمله على هذا التجديد أن أمر الدعوة لم يكن مجتمعا في يديه أيام استتاره، فتولى الدعاة ندب أعوانهم بغير مراجعة المهدي في اختيارهم، وتعود هؤلاء الأعوان أن يتلقوا أوامرهم من الدعاة الذين ندبوهم واختاروهم، ولم تكن عاقبة هذا النظام مأمونة على الخليفة الجديد ولا على الخلافة الناشئة، فإنه خليق أن يجعله عالة على أتباعه، وأن يطمع هؤلاء في الاستبداد به وعصيان حكمه. فنقض نظام الدعوة وعزل رؤساء الدعاة ولم يستثن أكبرهم - داعي اليمن ابن حوشب - فعزله وهو الذي كان أستاذ دعاته في الأقاليم، وكان منهم عبد الله الشيعي الذي سبق المهدي إلى المغرب واستقدمه إليها بعد التمهيد له وجمع القبائل على عهده، وقد رابه من الشيعي هذا وأخيه العباس أنهما على اتصال خفي بزعماء القبائل، وأنهما يستكثران على الخليفة أن يحصر السلطان في يديه، ونمى إليه أنهما يأتمران به ويبيتان النية مع زعماء القبائل على قتله، فأمر بقتلهما وأظهر الرضى عن غيرهما ممن ظن فيهم الظنون، فجعل يفرقهم في المناصب النائية كأنه يكافئهم ويعتمد عليهم، وهو في الواقع يقصيهم عن مواطن الخطر ويوقع بينهم الحذر والمنافسة. •••
وأطلق دعاته الجدد ومن أبقى عليه من الأقدمين يجوسون خلال الديار الإسلامية؛ ليبشروا به ويخذلوا الأنصار حول أعدائه، فانطلق رسله إلى بلاد الأمويين بالأندلس وبلاد الأدارسة بالمغرب، ونشط رسله في مصر واليمن والعراق وخراسان، وأخذ بيديه أزمة الثورات في كل إقليم من تلك الأقاليم، فاستمهل أعوانه كلما تعجلوا الثورة وظنوا أنهم قادرون عليها وأن الأوان قد آن للجهر بها، ورأى هو بثقاب نظره أن ثورة الأطراف قبل فتح مصر، أو قبل المسير إليها، تغرير بالثوار، وأن الثورة بعد فتح مصر تتمة منتظرة قد تأتي عفوا وقد تنشب دفعة واحدة مع سقوط هيبة الدولة العباسية، فلا يعيي الثوار بالخروج عليها في غير حذر ولا ندم. وقد صح تقديره بعد تسيير الحملة على مصر وتجربة الموقف مرتين.
والراجح من المقابلة بين برامج المهدي أنه كان مقسور اليد في حملاته على مصر؛ كان يوصي بالأناة والتريث حيث يفرغ العمل في التخذيل وكسب الأنصار، ثم يضرب القدر ضربة من ضرباته التي تأتي على غير انتظار فيموت خليفة بغداد ويستحكم الشقاق بين قواده ووزرائه ويغتنم الثائرون الفرصة قبل تمام الأهبة، وتتوارد الكتب إلى المهدي بالحض على الهجوم فلا يملك القعود والاكتفاء بالنظر إلى هذه الأحداث من بعيد، ولا يبلغ من ثقته بجدوى الهجوم أن يجمع له قوته ويترك المغرب خلوا من الجند مطمعة للمغيرين عليه والمنتقضين ممن بايعوه على دخل في أول عهده، فينفذ إلى المشرق حملة اضطرار لا حملة اختيار، كالحملة التي عقد لواءها للزعيم البربري حباسة، ثم حمله تبعة الإخفاق فيها والهرب منها بعد أن وصل إلى الإسكندرية. •••
أما الخطة التي يبدو أنه كان يؤثرها ويختارها فهي إرجاء الحملة على مصر إلى أن يفرغ من شأن المغرب ويقضي على فتنه ومشاغباته، ويبتني فيه المدينة التي أزمع أن يتخذها حصنا له ويحتمي به من المغيرين والمنتقضين، وقد شغلته فتن المغرب زمنا وأحرجته أيما إحراج بعد مؤامرة عبد الله الشيعي وأخيه، فقمع الفتنة قمعا عنيفا لا رحمة فيه، ولم يسكن إلى مقره بالمغرب إلا بعد الفراغ من بناء المهدية حوالي سنة خمس بعد الثلاثمائة، فقال يومئذ: «لقد أمنت الآن على الفاطميات.»
ولم تفارقه طبيعة الحيطة والدهاء في بنائه للمهدية، فانتقى لها موقعا يحيط به البحر من جهات ثلاث، وأقام عليها سورا من الغرب له بابان من الحديد زنة الواحد منهما ألف قنطار، وبنى فيها الصهاريج وأجرى فيها القنوات، وجعل للمؤن أقبية تسع ميرة الحامية عدة شهور، وانتحى جانبا ثم بنى على مقربة من المهدية مدينة أخرى سماها باسم زويلة إحدى قبائل البربر التي تواليه، وخصص زويلة لدكاكين التجار ومخازنهم تخفيفا عن المهدية وعزلا بين السكان ومرافقهم، وأفضى إلى خاصته بأنه إنما فعل ذلك ليأمن غائلتهم. قال: «إن أموالهم عندي وأهاليهم هناك. فإن أرادوني بكيد وهم بزويلة كانت أموالهم عندي فلا يمكنهم ذلك، وإن أرادوني بكيد وهم بالمهدية خافوا على حرمهم هناك، وبنيت بيني وبينهم سورا وأبوابا فأنا آمن منهم ليلا ونهارا؛ لأني أفرق بينهم وبين أموالهم ليلا وبين حرمهم نهارا.»
بعد هذا استعد للحملة الكبرى على مصر وعقد لواءها لولي عهده القائم فدخل الإسكندرية سنة (307 للهجرة)، وتقدم إلى الجيزة واحتل الفيوم، ثم دهم الوباء جيشه وفتك بالألوف من جنده وحيل بينه وبين المدد من المغرب بعد انهزام أسطوله؛ لأنه كان أضعف من أسطول العباسيين.
ثم كانت الحملة الثالثة (سنة 321) وهو في وهن الشيخوخة، وقيل: إنه مات قبل أن يحكم تدبيرها، وبلغ من هيبته بين أهل المغرب أن خليفته القائم كتم خبر وفاته سنة كاملة، مخافة الانتقاض ممن أدنوا للحكم الجديد مهابة للمهدي ورهبة من نقمته. •••
مات المهدي في سنة (322 للهجرة) وولد في تاريخ مختلف عليه بين (سنة 255 وسنة 260 للهجرة) وبويع له بالخلافة وهو في نحو الأربعين، فكانت مدة حكمه أربعا وعشرين سنة، ترك الدولة بعدها وقد استقر بنيانها ورسخت أركانها ودانت لها الدول التي كانت تنازعه في المغرب وصقلية من الأغالبة والأدارسة ومن يؤازرهم من الأمويين بالأندلس والعباسيين ببغداد، ولم يعرف عنه طوال أيامه بالمغرب حاكما أو غير حاكم أنه فرغ لمناعم نفسه أو غفل يوما عن سياسة ملكه، وكانت له زوجة واحدة، وانقضت حياته وفي سيرته رد بلسان الحال لا بلسان المقال على الذين رموه بالانتماء إلى أعداء الدين، بل أعداء الأديان وأنه تواطأ سرا مع رسل الفساد والغواية لاستباحة المحرمات والإغراء بالفجور. ولو لم يكن كذلك لما أبقى بعده ملكا مؤسسا يغالب عوادي الدهر من أول القرن الرابع إلى نهاية القرن السادس، أو يغالبها بآثاره الباقية إلى اليوم.
الفصل السادس عشر
المعز لدين الله
واحتاجت الدولة إلى التوطيد بعد التأسيس فقام بالقسط الأوفى من هذه المهمة ابن حفيده الملقب بالمعز لدين الله، وهو الخليفة الذي فتحت مصر وبنيت القاهرة في عهده، ونقل مقر الملك إليها بعد انقضاء أربعين سنة على وفاة جده الكبير، وقيل: إنها كانت نبوءة ممن يحسبون الأوقات في مراحل التاريخ بالأربعينات.
تولى الملك بعد المهدي ابنه «القائم بأمر الله» ثم المنصور بأمر الله، وكلاهما جدير بأمانة ميراثه وإن لم يبلغ من العظمة مبلغ المؤسس من قبله أو مبلغ الموطد من بعده، فعزز القائم الأسطول واحتل الشواطئ الإيطالية حتى ثغر جنوة؛ حماية لبلده من غارة القراصنة، ومات قبل التمكن من صد الخوارج الذين أطمعهم فيه موت أبيه، ولولا اعتصامه بالمهدية لدالت الدولة كلها في عشرة أعوام. وارتقى ابنه المنصور إلى العرش فاجتاح الخوارج أمامه وأسر زعيمهم القوي ابن كنداد وشتت جموعه، ثم تردد بين صد الأمويين الذي أغاروا على مراكش في هذه الأثناء وبين صد الإفرنج الذين خيف منهم على شواطئه، فوزع قواه بين هؤلاء وهؤلاء ليقف زحفهم ولا يخلي الطريق أمام أحدهم. ومات مجهدا في سنة (341 للهجرة)، فارتقى العرش ابنه «معد أبو تميم» المعز لدين الله الذي كان بحق صاحب دور التوطيد بعد انتهاء دور التأسيس. •••
قلنا في كتاب «عبقرية خالد»: «إن ولاية أبي عبيدة على الشام كانت لازمة بعد ولاية خالد؛ لأن الدول تحتاج بعد دور الفتح إلى غصن الزيتون مع السيف.»
وقد كان هذا شأن المعز في المغرب بعد جده. فإنه كان يحسن المجاملة إلى جانب البأس والصرامة، وكانت نشأته نشأة علم وفروسية أو نشأة غلبة بالبرهان وغلبة بالسيف والصولجان.
كان المعز يحضر دروسه على أساتذته والحرب قائمة والمهدية محصورة، فكان يتلقى دروس الفروسية علما وعملا ولما يفرغ من مراجعة الطروس والأسفار، وتعلم لغات الأمم التي تتصل بالخلافة الفاطمية جميعا، فكان يحسن البربرية والرومية والإيطالية والنوبية، ويتوسع في علوم العربية، وكان له شعر ونثر يميل فيهما إلى المحسنات؛ لانتشارها على الألسنة والأقلام في تلك الأيام.
ويروى عن أنفته من الجهل أنه سمع من بعض خدمه كلمة صقلية لا يعرفها واعتقد أنها كلمة شتم ومهانة فحفظها، وأنف أن يسأل عن معناها ولم يبرح حتى أتقن علم تلك اللهجة فإذا بالكلمة من أرذل شتائمها، وقد أنف من جهلها فأصبح يأنف من أن يواجهه أحد بمثلها.
وبويع له بالخلافة وهو في الرابعة والعشرين، فهمه أول الأمر أن يستوثق من أمنع المعاقل التي يعتصم بها الخارجون على الدولة، فصعد إلى جبل أوراس وفيه من القبائل من لم يكن قد دخل في طاعة آبائه فبايعوه، وأسرع إليه المخالفون يتقربون إليه لما أنسوه من مودته وكرمه.
وأظهر ما ظهر من خصال المعز التي يتصف بها بناة الدول أنه كان حريصا على الانتفاع بالتجارب والعبر، وأنه كان يحسن اصطناع الرجال، وأنه كان يجيد الفراسة في أحوال الأمم واغتنام الفرصة من بينها لما يترقبه ويعقد العزيمة عليه.
فلم ينس هزيمة الأسطول في الحملة على مصر، ولم يزل حتى أمن على شواطئه واستطاع بقوته البحرية أن يرد أساطيل الروم عن بلاده وعن جزر البحر الخاضعة لحكمه. ثم جدد حفر الآبار في الطريق إلى مصر؛ ليأمن قطع الزاد والماء عن جيشه.
ومن اصطناعه للرجال أنه كان يستخلص الخدام والأعوان ولا يغار من تعظيمهم بين يديه، بل يأمر الشعراء أن ينظموا القصائد في مدحهم ويأذن لهم أن يخاطبوهم بها في حضرته. وكذلك أمر شعراءه أن يمدحوا قائده جوهر الصقلي، وأمر العظماء والكبراء أن يترجلوا عند توديعه، ولما تم لجوهر فتح مصر وأرسل وكيله الكتامي جعفر بن فلاح لفتح الشام تخطى الوكيل جوهرا عند تبليغ بشارة الفتح إلى المعز، فلم يبدأ بإبلاغه إلى رئيسه «المباشر» ليبلغها من جانبه إلى الخليفة، فغضب المعز على جعفر بن فلاح ورد إليه كتبه ليعيدها من طريق جوهر إليه.
ومن اصطناعه للرجال أنه كان يعفو عن الشجعان من أعدائه ويوقع في نفوسهم الأمن والطمأنينة بالتجربة بعد التجربة؛ حتى يمحضوه الطاعة خالصة بغير ريبة. ومن المشهور عنه أنه كان إذا لقى أحدا من مخالفيه تركه ينصرف وهو يحسبه من حزبه ورأيه، ولعل هذا كان سبب الإشاعة التي تواترت بين الرهبان والقسوس بتنصره وبقائه على النصرانية، فإن الخبر الذي جاء في كتاب «الخريدة
1
النفيسة في تاريخ الكنيسة»، لأحد الرهبان يقول: إنه اعتزل الملك وترهب ومات فدفن في مقبرة أبي سيفين، ويقال في سر ذلك: إنه تحدى البطرق إيرام أن يزحزح الجبل فجاءه بمن زحزحه على ملأ من الأمراء والكبراء وقادة الجند ورؤساء الدواوين.
والثابت من الأخبار يغني عن هذه الإشاعات، فإن الخليفة المعز أمر قائده جوهرا ألا يتعرض لمخالف في الدين ولا في المذهب بما يعطل شعائر دينه أو مذهبه، وأطاع جوهر مولاه، فبنى الدير الذي عرف بدير الخندق بديلا من الدير الذي أصابه الهدم عند تمهيد الأرض لبناء القاهرة، وجاء المعز فجدد كل ما تهدم من الصوامع والبيع
2
وجدد كنيسة «مركوريوس» التي تسمى بكنيسة أبي سيفين؛ (لأن القديس كان يرسم على صهوة جواد وفي يديه سيفان). وقيل: إنه أمر بإقامة البناء على المجذوب الذي أثار الدهماء استنكارا لبنائها وآلى ليبقين في حفرة الأساس حتى يقام عليه، فلم ينقذه من مصيره إلا شفاعة البطرق له عند الخليفة.
فهذا وما جبل عليه المعز من المجاملة وما تعوده من الترحيب في مجلسه بالمتناظرين في الأديان والمذاهب هو على التحقيق أصل تلك الإشاعة عن مدفنه في مقبرة الكنيسة، ولعلها إشاعة نبتت بعد عصر المعز بعدة سنين، يوم كانت هذه الإشاعة وما إليها موئل العزاء في أيام الخليفة الحاكم المخبول، لمن كان يضطدهم من المخالفين وبينهم مسيحيون ومسلمون من الشيعة والسنيين. •••
ومن تفرسه في استطلاع أحوال الأمم واغتنام الفرص أنه عول من اللحظة الأولى على فتح مصر ونشر فيها العيون والدعاة. وجاءه من مصر وزراء يستعجلونه ويستحثونه، وتلاحقت الأنباء بسوء الحال واشتداد الغلاء وفتك الوباء، فلم يعجله ذلك كله كما أعجله ما سمعه عن تدهور الأخلاق بين ولاة الأمر. ومنه في رواية المقريزي أن صبية عرضت في مصر للبيع وطلب فيها البائع ألف دينار، «فحضر إليه في بعض الأيام امرأة شابة على حمار لتطلب الصبية فساومته فيها وابتاعتها منه بستمائة دينار، فإذا هي ابنة الإخشيد محمد بن طغج وقد بلغها خبر هذه الصبية، فلما رأتها شغفتها حبا فاشترتها لتستمتع بها.»
قال المقريزي: «فعاد الوكيل إلى المغرب وحدث المعز بذلك فأحضر الشيوخ وأمر الوكيل فقص عليهم خبر ابنة الإخشيد مع الصبية إلى آخره، فقال المعز: يا إخواننا! انهضوا لمصر فلن يحول بينكم وبينها شيء، فإن القوم قد بلغ بهم الترف إلى ان صارت امرأة من بنات الملوك فيهم تخرج بنفسها وتشتري جارية لتتمتع بها، وما هذا إلا من ضعف نفوس رجالهم وذهاب غيرتهم، فانهضوا لمسيرنا إليهم.»
وقد كان الفاطميون يحبون المواسم والمواكب ويبتدعونها ويشجعون الرعية عليها، ولكن المعز - على خلاف المعهود من سياسة أسرته - حظر الاحتفال بالنوروز بعد وصوله إلى مصر منعا للتبذل الذي شاع فيه على آخر أيام الإخشيديين؛ وتطهيرا للأخلاق مما أصابها في تلك الأيام وأدرك منه المعز أنه نذير بزوال ملك بني الإخشيد.
وقدم جوهر إلى مصر في سنة (358 للهجرة)، فاشترط عليه وجوه الأمة ورؤساؤها قبل التسليم أن يؤمنهم على عقائدهم ومألوفاتهم، فكتب لهم عهد أمانه الذي قال فيه: «ذكرتم وجوها التمستم ذكرها في كتاب أمانكم، فذكرتها إجابة لكم وتطمينا لأنفسكم، فلم يكن في ذكرها معنى ولا في نشرها فائدة؛ إذ كان الإسلام سنة واحدة وشريعة متبعة، وهي إقامتكم على مذهبكم وأن تتركوا على ما كنتم عليه من أداء المفروض في العلم والاجتماع عليه في جوامعكم ومساجدكم وثباتكم على ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين بعدهم. ولكم علي أمان الله التام العام الدائم المتصل الشامل الكامل المتجدد المتأكد على الأيام وكرور الأعوام.»
ووضع جوهر أساس القاهرة، ولم يشأ المؤرخون أن ينسوا شهرة الفاطميين برصد النجوم - وهي شهرة صحيحة - فقالوا: إنها سميت بالقاهرة؛ لأن المهندسين أقاموا على أسسها حبالا وعلقوا في الحبال أجراسا ليسمعها العمال عند حلول الرصد المطلوب، وإن غرابا وقع على الحبال والمريخ في الفلك فاهتزت الحبال وأخذ العمال في وضع الحجارة، فسميت المدينة باسم القاهر الذي يطلقه المنجمون على المريخ؛ لأنه كان في معتقد الأولين إله الحروب! •••
هذه القصة «أولا» تروى عن بناء الإسكندرية.
وهي «ثانيا» لا تعقل؛ لأن النجوم ترصد ليلا والغربان لا تطير بالليل، ولو طارت ليلا أو نهارا لما كانت وقعة غراب على حبل كافية لدق الأجراس على جميع الأسوار، ولو كانت الأجراس تدق بهذه السهولة لدقت قبل وقوع الغراب على الحبل لأسباب كثيرة تحرك الحبال كما تحركها هزة الغراب، ولو كان تحقيق الرصد مبنيا على العلم لا على الرؤية لأمكن أن يبدأ التأسيس في ساعة معلومة بغير حاجة إلى الأجراس.
ثم من قال: إنه غراب وهو مجهول؟ وكيف عرفوه، والمظنون أن المهندسين هم الذين حركوا الحبال؟ ولم لا يكون طيرا آخر أو جملة من الطير؟
وقد رويت القصة وتناقلها المؤرخون وتقبلها الكثيرون، وفي التنبيه إلى ما فيها من الإحالة
3
عبرة لمن يصدق السمعة التي تخلقها الأقاويل من هذا القبيل.
واتبع جوهر سنة دولته في تخطيط المدن وتشييد العمائر، فإنهم تعودوا أن يبدأوا بتجديد المعالم والشارات؛ ليستشعر الناس ألفة العهد الجديد بالنظر والسمع شيئا فشيئا قبل مطالبتهم بتغيير ما توارثوه وثبتوا عليه، فشرع جوهر في بناء مسجد العاصمة الجديدة (359 للهجرة)، وسماه الجامع الأزهر على اسم الزهراء في أرجح الأقوال، وكأنه أراد أن يستغني بالعاصمة الجديدة ومسجدها عن القطائع عاصمة الطولونيين ومسجدها المشهور بمسجد ابن طولون، وعن الفسطاط ومسجدها المشهور بالمسجد العتيق، وكلتاهما - أي القطائع والفسطاط - كانت عاصمة للقطر في أوانها، واستحدث الأمراء بعد خراب القطائع عاصمة خارج الفسطاط سموها العسكر، ثم أنشأ الفاطميون القاهرة معقلا ومقاما كدأبهم في تجديد المعالم والشارات على ما ألمعنا إليه. •••
وبعد فراغ جوهر من بناء القصور التي أعدت لإقامة الخلفاء أبلغ المعز فقدم إلى الإسكندرية (شعبان 362 للهجرة)، وجلس لاستقبال رؤساء المدينة والوافدين إليها للتسليم عليه، ثم خطبهم قائلا: إنه لم يقصد إلى مصر طمعا في زيادة ملك أو مال؛ وإنما قصد إليها لتأمين الأنفس وحماية طريق الحج ودرء الغارة عن ديار الإسلام، وهو كلام يقول مثله كل فاتح، ولكنه كان في برنامج المعز خطة تمليها الضرورة عليه؛ لأن تأمين الطريق إلى الحجاز كان ضمانا لاستقرار الدولة الفاطمية ودفع الشبهات عنها؛ إذ كان القرامطة يعملون باسمها وكان أعداء الدعوة الفاطمية يشيعون عن القوم أنهم يقطعون طريق الحج عملا بمذهب الإسماعيليين ويزعمون أن الإسماعيليين يسقطون الحج من الفرائض، فكان تأمين طريق الحجاز من قبل مصر والشام خطة تقضي بها مصلحة الحاكم والمحكوم، ولم يلبث المعز في القاهرة سنة واحدة حتى تفاقم خطب النزاع بينه وبين القرامطة، وأعلن البراءة منهم وأعلنوا الخروج عليه، وزحفت جموعهم إلى مصر ومعها قبائل البادية التي تطلب الغنيمة وتخشى من عواقب تأمين الطريق، فاستعد لهم المعز بعدة الحيلة حقنا للدماء، وأرسل إلى زعيم القبائل البدوية حسان بن الدراج الطائي من يطمعه بالمال إذا تراجع وتنحى عن أصحابه، ووعده بمائة ألف دينار، فقبل الصفقة، وخرج المعز للقتال على اتفاق بينه وبين ابن الجراح أن ينهزم هذا بجموعه عند التقاء الصفوف، وقد فعل وحمل معه أكياس الدنانير، ولكنها لم تحو من الدنانير الصحاح غير مئات تبدو على وجه الأكياس ومن تحتها قطع النحاس المذهبة يخفيها الزعيم المخدوع جميعا عن شركائه، ودارت الدائرة على القرامطة في ذلك اليوم فقنعوا من الغنيمة بالإياب، ودبت المخاوف والشكوك بينهم وبين أصحابهم فلم يرجعوا بعدها إلى غاراتهم على مصر.
ولم ينته عهد التوطيد بانتهاء عهد المعز (في سنة 365 للهجرة)، فإن ابنه العزيز الذي تولى الملك بعده كان من كفاة الملوك، وكانت طاعته غالبة على المغرب ومصر وجزيرة العرب، لا تخرج عليه خارجة فيها إلا عجل بقمعها وأعاد الأمور في أرجاء الدولة إلى نصابها، ولكنه مات (سنة 386). وقد بدأت في أيامه دسائس القصور وسياسة الحريم، وتناثرت هنا وهناك بذور الانحلال التي اختفت إلى حين في إبان نضرة الدولة وزهوها، ثم برزت وتفرعت مع إدبار الأمور وتعاقب الضعفاء من الأمراء.
الحاكم بأمر الله
قام بعد العزيز على سرير مصر أسطورة في شخص إنسان، لو لم يكن تاريخه خبرا يقينا لشك فيه المؤرخون أو جزموا بإنكاره؛ إذ كان مجموعة من النقائض والغرائب يكذب بعضها بعضا ولا يتصور العقل لأول وهلة أنها تصدر من إنسان واحد.
ذلك هو الحاكم بأمر الله.
كان يعمر ويخرب، وكان يلين ويقسو، وكان ينهي عن المراسم ثم يفرض منها ما يشبه العبادة، وكان يجيز شعائر أهل السنة وأهل الذمة ثم يمنعها ويبطش بمن يعلنها. وكان يحرم المباح ويبيح الكفر البواح، وكان يبدل الليل بالنهار والنهار بالليل، فمن فتح دكانا بالنهار جلده ومن أغلق دكانا بالليل رماه بالعصيان، وكان يعتق العبيد والإماء ويفرق عليهم الهبات والأرزاق ثم يستعبد الأحرار ويدينهم بما يأنف منه الأرقاء، كان يخرج إلى غيران الجبل في الظلام ويختبئ في حجرات قصره منذ مشرق الشمس إلى المغيب، وكان يدعي علم الغيب ويعاقب من يحرس ماله ومتاعه كأنه يشك فيه، ثم يحاسب على الصغائر التي يغفرها المتنطسون.
قال ابن خلدون: «إن حاله كان مضطربا في الجور والعدل، والإخافة والأمن، والنسك والبدعة». وقال ابن خلكان: «إنه كان جوادا سمحا، خبيثا ماكرا، رديء الاعتقاد، سفاكا للدماء، قتل عددا من كبراء دولته صبرا، وكان عجيب السيرة يخترع كل وقت أمورا وأحكاما يحمل الرعية عليها.»
ولم يذكر عن ملك في أحوال العقيدة ما ذكر عن هذا الحاكم بأمر الله، وبأمره، وبأمر المأمورين والأمراء.
فمن مؤرخي القبط من يقول: إنه مات على النصرانية، ومنهم من يقول: إنه كان يعبد المريخ ويتوهم أنه يراه ويتحدث إليه، ومن مؤرخي السنة من يقول: إنه ادعى الربوبية، ومن أتباعه اليوم من ينفي الموت عنه ويزعم أنه صعد إلى السماء ليعود إلى الأرض في آخر الزمان، وأطبقت النقائض على تاريخ حياته بتاريخ وفاته، فلم يعلم أحد متى مات وكيف مات.
وفي رأينا بعد هذا أن سيرة الحاكم هي أعجب السير وأوضح السير في وقت واحد.
هي أعجبها في موازين النصوص والأوراق، وهي أقلها عجبا في ميزان علم النفس الذي لم ينفصل عن التاريخ قط في الكلام عن دولة كما انفصل عنه في الكلام على ملوك هذه الدولة.
واضح من تطبيق علم النفس على أعراض هذا الرجل أنها حالة من حالات الهوس بالأسرار أو الحالات التي تعرف بهوس الغموض
Mystic Hallucinosis .
وأصحاب هذه الحالة مستغمضون مولعون بالأسرار، يفرطون في التفاؤل والتشاؤم لإيمانهم بالرموز، واعتقادهم أن الغيب يتحدث إليهم عن مكنوناته بتلميحات من الحوادث والمعاني المزدوجة التي تحمل في أطوائها ما ينم عليه ظاهرها للعارفين، وإذا غلا الظن بأصحاب هذه الحالة كانت من الحالات التي تختلط بمرض الاضطهاد، فيقع في روع المريض أن الناس يضمرون له الشر، ويتعقبهم بالتجسس والاستطلاع، وينتقم منهم للوهم العارض والشبهة الكاذبة؛ لأنه يصدق كل خبر عنهم غير الخبر الصراح.
ويسكن المتهوسون بالأسرار إلى مناظر الظلام، ويستهويهم الليل بخفاياه، وتروقهم الوحدة في الخلوات.
وليس المصاب بهذه الحالة مجنونا ذاهل الحس عما حوله في جميع الأوقات؛ بل هي نوبات تعتريه ولا تمنعه أن يبدع إبداع العباقرة والموهوبين في بعض الفنون.
أما علة هذا المرض فأنصار فرويد يرجعون بها كعادتهم إلى صدمات الطفولة وأزماتها التي ترتبط بالجنس على الخصوص، فتكمن في الوعي الباطن وتتمكن منه على غير علم من ضحيتها، حتى تنفجر دفعة واحدة أو رويدا رويدا في مقتبل الشباب.
وغير «الفرويديين» يعللونها باضطراب الحواس ولا سيما حاسة السمع وحاسة البصر، فيتوهم المريض أنه يرى ويسمع ما ليس يراه الأصحاء ولا يسمعونه، ويحدث أحيانا أن ينظر إلى الشيء الماثل فلا يراه، ويصغي إلى الصوت البين فلا يسمعه، وقد يتفقون مع جماعة فرويد في الرجوع بالعلة إلى صدمات الطفولة وأزماتها دون أن يربطوها بالمسائل الجنسية.
هذه الأعراض كلها ظاهرة فيما روي عن الحاكم من شتى المصادر، ولم يكن الحاكم بمعزل عن البيئة التي تندس فيها الآفات إلى نفس الطفل الناشئ؛ فقد نشأ الحاكم كما أسلفنا في عهد دسائس القصور وسياسة الحريم، وتركه أبوه وهو في الحادية عشرة من عمره، وأقام على وصايته ثلاثة متنافسين هم المملوك برجوان والقاضي محمد بن النعمان والحسن بن عمار زعيم قبائل البربر من كتامة، وأول هؤلاء برجوان كان غارقا في دسائس القصور وسياسة الحريم.
وقد أحاطت هذه الدسائس بالحاكم وهو في سن الخطر؛ لأنه لم يكن من الطفولة بحيث يجهل ما حوله، ولم يكن من الفتوة بحيث يدرك ما يحاط به ويملك الوسائل إلى استطلاعه. كان في الحادية عشرة، وكانت كل خفية من خفايا الدسائس تغريه بالتطلع وتوسوس له بالريبة والتساؤل. فإذا كان مع هذا قد نشأ في بيئة التنجيم وكبر وهو يصغي إلى أحاديث الباطن والظاهر وأسرار الغيوب التي تنكشف للواصلين من الأئمة، فلا عجب في ابتلائه بتلك الآفة، آفة الهوس بالأسرار أو الولع بوساوس الغموض، ثم يجهز على البقية الباقية من عقله أولئك الوزراء والعشراء الذين يتلمسون مواطن الضعف في نفوس الأمراء الناشئين فيمعنون في استغلالها ويبالغون في تحسينها وتزيينها، كما فعل الدرزي والأخرم من حاشية الحاكم المقربين؛ إذ قيل: إنهم وسوسوا له بمذهب الحلول وخاطبوه مخاطبة الأرباب، وأطبقت آفة الاطلاع المضلل على آفة الاستطلاع المكبوت.
ولم يكن الحاكم من المسرفين في الشهوات فتختل أعصابه من قبل الإسراف، ولم يكن يعاقر الخمر أو يستطيبها بل كان يحرمها وينهى عنها، ولم يشرب النبيذ إلا بإلحاح طبيبه الذي خطر له أن يعالجه بإدخال السرور إلى نفسه في مجالس الغناء مع يسير من الشراب، وإنما «عرض له - كما قال الطبيب يحيى الأنطاكي في تاريخه - تشنج من سوء مزاج يابس في دماغه، وهو مزاج المرضى الذي يحدث في المالنخوليات، واحتاج في مداواته منه إلى جلوسه في دهن البنفسج وترطيبه به، وإن كثرة سهره أيضا وشغفه بمواصلة الركوب والهيمان الدائم مما يقتضيه هذا السوء المتقدم ذكره، وإن أبا يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن أنسطاس لما خدمه استماله إلى أن تسامح في شرب النبيذ وسماع الأغاني بعد هجره لها ومنع الكافة منها، فانصلحت أخلاقه وترطب مزاج دماغه واستقام أمر جسمه، ولما مات أبو يعقوب وعاد إلى الامتناع عن شرب النبيذ ومن سماع الغناء رجع إلى ما كان عليه.»
تلك هي خلائق الحاكم كما يصورها علم النفس، ولا يصور لنا فيها شيئا من تلك الأعاجيب التي يستغربها مؤرخو النصوص والأوراق؛ فإن طفلا يصاب بالتشنج وتحيط به في سن المراهقة دسائس القصور التي تحيط بالملوك الصغار، وينشأ وهو يسمع الأحاديث عن التنجيم وأسرار البواطن والغيوب، ثم يبتلى من حوله بالمتزلفين والمنقبين عن مواطن الضعف في نفسه الحائرة - غير بدع أن يصاب بهوس الأسرار، وأن تصدر منه تلك النقائص التي ينساق فيها على الرغم منه، أو التي ينساق فيها مختارا؛ لأنه يتوهم أنه يروض نفسه بالتقشف والتهجد،
4
وحمل الناس عليها، والتقرب إلى الله بعقاب من ينحرف عنها، فتنكشف له الحجب التي لا تزال مسدلة دونه، ويتهم نفسه كلما خفيت عليه مساتيرها بنقص في الرياضة وقصور في العبادة، فلا يزال دهره بين خشوع العابد ومحاولة اليائس، وقلق الحائر وإيمان المستريح إلى الظنون، ودعوى المصدق لما يلقى عليه مما يستريح إليه.
وسواء صح أن نكبة الحاكم كانت إحدى جرائر «الحريم» ودسائس القصور، أو كانت نكبته جريرة المرض وحده؛ فقد صدقت فراسة المعز في عاقبة التكثر من الزوجات والجواري، وأخذت سياسة القصور تتشعب وتستشري
5
حتى تناولت كل شيء في الدولة والمجتمع، وكانت جرائرها آخر الأمر شرا قائما بذاته وشرا محسوبا عليه سائر الشرور؛ لأنه كان حائلا دون اتقائها ومنعها، كما كان حائلا دون معالجتها بعد وقوعها.
فمن جراء دسائس القصور تعددت قوى الجيش وشجرت
6
بينها نوازع الشقاق تبعا لاختلاف الأحزاب في كل حريم، فكان للدولة قوة من الترك وقوة من السودان إلى جانب القوة التي كانت لها من البربر والعرب، وأصبح حراس الأمن أول المزعجين للآمنين ولأنفسهم وللقادة والحكام.
ولم يمض غير جيل واحد على قيام الدولة في مصر حتى ابتليت بسياسة «البيروقراطية» أو تحكم الدواوين، فوق ما ابتليت به من سياسة الحريم.
وسبب هذه الآفة ولاية بعض الخلفاء في سن الطفولة وولاية خلفاء آخرين كالأطفال وإن بلغوا مبلغ الرجال؛ فقد ركنوا إلى ترف القصور وقنعوا من الوزراء بجلب المال إليهم كلما طلبوه، فقبض الجباة ورؤساء الدواوين والوزراء على أزمة الثروة وعلى أزمة السياسة، وطمعوا لأنفسهم ولسادتهم فاستباحوا المصادرة وجمع الإتاوات من الرشوة والإرهاب؛ عدا ما يجمعون من الضرائب في غير موعد.
والمصائب لا تأتي فرادى كما يقال؛ فإن المجاعة من الداخل وهجوم الصليبيين وغير الصليبيين من الخارج قد أصاب الدولة بعجز فوق عجز حتى تعذر عليها التماسك والدفاع، فحق عليها القول.
وقد سمي عصر الخليفة «المستنصر» بالعصر الذهبي في الدولة الفاطمية مع ما كان يتخلله من القحط والمجاعة والوباء، وما سمي عصره بهذا الاسم لأنه صنع فيه شيئا خلال ستين سنة قضاها على العرش منذ جلس عليه وهو في السابعة (سنة 427 هجرية) إلى أن مات وهو يدلف
7
إلى السبعين، ولكنه كان عصرا كموسم الحصاد الذي تبرز فيه الثمرات والأشواك، وتنضج فيه السنابل وما يحملها من الهشيم الذي ستذروه الرياح عما قريب أو تطعمه النار ذات الوقود.
فلما مات تعاقب بعده على الخلافة من لا يحسب من البناة ولا من الهادمين، وإنما هو مهدوم تتداعى تحته قواعد الملك، وقد يفارقها وهو قتيل.
وكان بنو أيوب قد أخذوا بزمام السلطان في مصر قبيل انتهاء الدولة الفاطمية، فلما استقر الرأي في أيام صلاح الدين على الدعاء للخليفة العباسي بدلا من الخليفة الفاطمي الملقب بالعاضد، تجاوبت المنابر بالدعاء الجديد، ولم يعلم به الخليفة الذي تحول عنه الدعاء؛ لأنه كان يجود بنفسه في مرض الوفاة، فكانت سنة سبع وستين وخمسمائة للهجرة هي خاتمة الأجلين: أجل الخليفة الذي عمر إحدى وعشرين سنة، وأجل الدولة التي عمرت بين المغرب ومصر مائتي سنة وسبعين.
وقد عزل أمراء الدولة بعد موت عميدها منفردين لينقرضوا بغير عقب، وقال المقريزي عن صلاح الدين والخليفة الأخير: «وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من الأموال، فلم يزل أمره في ازدياد وأمر العاضد في نقصان. ومنع العاضد من التصرف حتى تبين للناس ما يريده من إزالة الدولة. فلم يبق للعاضد سوى إقامة ذكره في الخطبة. هذا وصلاح الدين يوالي الطلب منه كل يوم ليضعفه، فأتى على المال والخيل والرقيق وغير ذلك حتى لم يبق عند العاضد غير فرس واحد فطلبه منه وألجأه إلى إرساله، وأبطل ركوبه من ذلك الوقت وصار لا يخرج من القصر.»
هذه قسوة لم يحسبها التاريخ على صلاح الدين؛ لأنها من قسوة الزمن وجناية الأسلاف على الأخلاف، أو هو قد حسبها في حساب الموازنة بين المناقب والمعائب، وبين حكم المروءة وحكم السياسة المشنوءة
8
وبين القضاء الذي يجريه صاحبه، والقضاء الذي يجري على قاضيه فيجزيه وكأنه يعاقبه، فرجحت كفة الإقبال وهو دائم الرجحان، ودالت دولة الزوال فشالت
9
كفتها في ميزان الزمان.
الفصل السابع عشر
حضارة متحضرة
إذا استثنينا الحضارات المصرية الأولى في أيام الفراعنة جاز أن يقال: إن حضارة مصر في عهد الفاطميين لم يعرف لها نظير بعد الميلاد، ولا استثناء لعهد البطالسة؛ لأنه عهد غلبت فيه الصبغة الأجنبية على الصبغة الوطنية، خلافا للحضارة في أيام الفاطميين، فإن صبغتها المصرية كانت غالبة على كل صبغة، ومن ثم لم تتكرر في وطن آخر على هذه الصورة، وبقيت مصر على مذهبها الديني الذي كانت عليه قبل قيام الدولة بين ربوعها.
وتصدق كلمة الحضارة هنا على كل حضارة تقاس بمقياس الثقافة أو مقياس الصناعة أو مقياس الثروة أو مقياس الشئون الاجتماعية.
فلم توجد في مكتبة بعد مكتبة الإسكندرية خزائن للكتب كالخزائن التي وجدت في القصر الشرقي، وتفاوت تقديرها بين ستمائة ألف مجلد ومليونين، حسب اختلاف التقدير على ما يظهر بين عدد الكتب وعدد النسخ، وقد كان فيها لبعض الكتب عشرات من النسخ للإعارة أو الاطلاع.
وتنافست القصور في اقتناء الكتب النادرة، فكان في كل قصر مكتبة تحتوي عشرات الألوف من كتب الفقه والأدب والرياضة والطب وسائر العلوم.
وكان الخليفة يزور المكتبة العامة من حين إلى حين فيترجل ويخلع نعله، وتعرض عليه الكتب الواردة ليأذن بوضعها في الرفوف.
وأنشئت دار الحكمة ودار العلم، هذه للمعلمين وتلك للمتعلمين، وفتحت فيهما مجالس المناظرة والمحاضرة، يخصص منها قسم للرجال وقسم للنساء، وتنقل المناظرة أحيانا إلى قصر الخليفة فيشترك فيها أو يشرف عليها، ويأذن لكل ذي رأي أن يدلي برأيه فيها، وإن خالف به إجماع الآراء.
وشاعت بين العامة ثقافتهم التي ترضيهم من ملاحم التاريخ المنثور أو المنظوم؛ فلم يكن مجلس من مجالس السمر العامة يخلو من القصاصين أو الشعراء المنشدين، يسمعون جمهرة الناس طرفا من التاريخ الشعبي والقصص الشعبية، عدا مجالس الوعظ والتفقيه التي تفتح للقصاد في المعاهد أو المساجد من صلاة الفجر إلى صلاة العشاء.
وفي عهدهم أصلحت الدواوين، ونظمت وسائل الري، وأعيدت مساحة الأرض، وفكروا في بناء الخزان عند أسوان.
وتقدمت الفنون والصناعات، وتنافس الفنانون والصناع في هندسة البناء، وفي النقش على الجدران والحفر على الحجارة الكريمة، وشوهدت رسوم على النسيج تحاكي اللوحات الفنية في دقة التصوير وجمال التلوين، وبلغ فن التصوير البارز والتصوير الغائر غاية ما يبلغه في عصر من العصور، وصيغت التماثيل من المعادن والجواهر فأوشكت قيمة المعدن المرتخص أن تناظر قيمة المعدن النفيس بفضل الصناعة والإتقان.
وقد ألف الوصافون إذا بالغوا في وصف العجائب أن يشبهوها بعجائب ألف ليلة وليلة، ولكن عجائب ألف ليلة وليلة كانت كالنسخة المنقولة من ذخائر القصور في تلك الحضارة، لولا أن نسخة الحقيقة كانت هي الأعجب والأبدع من نسخة الخيال.
وكانت التجارة مددا للصناعة لا ينقطع ولا يزال يعطيها كلما أخذ منها، ويحثها على التوسع والمزيد: تأتي السفن من بحار المغرب وبحار الهند والصين بالخامات وتعود ببدائع المصنوعات، أو تأتي ببدائع المصنوعات وتعود بما هو أبدع وأغلى، دواليك في مواسم العام كله لا تني ذاهبة آتية على مدى الصيف والشتاء.
وتعددت المواسم والمحافل الاجتماعية، وحافظت الدولة الجديدة على مواسم الأزمنة الغابرة وأضافت إليها، فبعد إلغاء النوروز عند مقدم الخليفة المعز إلى القاهرة عادوا إلى الاحتفال به وأضافوا إليه الاحتفال بالغطاس وخميس العهد وأعياد الربيع، وأحصي من مواسم العام غير رأس السنة ويوم عاشوراء ومولد النبي ومولد الإمام ومولد آل البيت، وليالي الوقود وهي ليال من رجب وشعبان يحتفل بها قبل نوافل
1
الصيام.
وتناظرت محافل الليل ومحافل النهار، ولا سيما في شهر رمضان وليالي الأعياد، وعود الخلفاء الشعب أن يستضيفوه ويمدوا له الأسمطة
2
ويخرجوا إليه يحيونه ويتلقون منه التحية، وأصبح الوافدون إلى مصر يحسبونها أمة فرغت للمواكب والمحافل والأسمار.
ولم يكن قصارى ما في تلك المواكب أنها مظاهر لهو وفراغ تعطل فيها الأعمال وتنسى فيها تكاليف المعيشة، بل هي كانت في حقيقتها معارض للفنون والصناعات، يسير فيها أصحاب كل فن وصناعة على نظام معلوم، ويتقدم كل طائفة نقيبها وأساتذتها يترنمون بمفاخر فنونهم وصناعاتهم ويعلنون عنها ويدلون عليها، ومن هذه المواكب ما بقى إلى اليوم في زفة رمضان وزفة جبر البحر، ومن تلك المحافل ما بقى في طلعة رجب ونصف شعبان وغيرها من ليالي الذكرى للأموات والزيارة للأحياء.
لا جرم كانت مصر إبان هذه الحضارة ملتقى الرواد والقصاد، ولا جرم تحفل قصور الخلفاء والكبراء بمن يقصدون رحاب ذوي السلطان في كل زمان ومكان، وأولهم السياح والشعراء.
فما من رحالة أنجبه العالم الإسلامي لم يتخذ من مصر مقاما أو مزارا في تلك الأيام، وما من قصر من قصور الملك في المشرق والمغرب عمر في ذلك العصر بمثل ما عمرت به القصور الفاطمية من الشعراء والأدباء.
وأوصى الخلفاء والأمراء شعراءهم بالإيجاز لازدحام القالة وكثرة المقال، وزادوهم في الجزاء لكيلا يقال: إنه قصد في العطاء لا قصد في الثناء، فقال أحدهم ابن مفرج، يخاطب الخليفة الحافظ:
أمرتنا أن نصوغ المدح مختصرا
لم لا أمرت ندى كفيك يختصر
ومن شعراء العصر من كان على خلاف مذهب الشيعة وكان يجهر بهذه المخالفة، كعمارة اليمني الذي قال:
مذاهبهم في الجود مذهب سنة
وإن خالفوني في اعتقاد التشيع
وهو الذي بخع
3
نفسه على آثارهم وأوردها مورد الهلاك أملا في نصرتهم واستعادة مجدهم؛ فهو أحق الناس برثائهم، وقصيدته التي قيل فيها: إنها أبلغ ما نظم في رثاء دولة هي أحق ما نودع به عمرانهم المهجور:
لهفي ولهف بني الآمال قاطبة
على فجيعتها في أكرم الدول
قدمت مصر فأولتني خلائفها
من المكارم ما أربى على الأمل
مررت بالقصر والأركان خالية
من الوفود وكانت قبلة القبل
فملت عنها بوجهي خوف منتقد
من الأعادي ووجه الود لم يمل
أسلت من أسفي دمعي غداة خلت
رحابكم وغدت مهجورة السبل
أبكي على ما تراءت من مكارمكم
حال الزمن عليها وهي لم تحل
دار الضيافة كانت أنس وافدكم
واليوم أوحش من رسم ومن طلل
وكسوة الناس في الفصلين قد درست
ورث منها جديد عندهم وبلي
وموسم كان في يوم الخليج لكم
يأتي تجملكم فيه على الجمل
وأول العام والعيدين كان لكم
فيهن من وبل جود ليس بالوشل
4
والأرض تهتز في يوم الغدير كما
يهتز ما بين قصريكم من الأسل
والخيل تعرض في وشي وفي شية
مثل العرائس في حلى وفي حلل
وما حملتم قرى الأضياف من سعة الأ
طباق إلا على الأكتاف والعجل
وما خصصتم ببر أهل ملتكم
حتى عممتم به الأقصى من الملل
كانت رواتبكم للذمتين وللض
يف المقيم وللطاري من الرسل
ثم الطراز بتنيس الذي عظمت
منه الصلات لأهل الأرض والدول
باب النجاة هم دنيا وآخرة
وحبهم فهو أصل الدين والعمل
والله ما زلت عن حبي لهم أبدا
ما أخر الله لي في مدة الأجل
ولم يؤخر له في الأجل، فانقضى أجل الدولة في سنة سبع وستين وخمسمائة، وانقضى أجل شاعرها في سنة تسع وستين وخمسمائة.
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير .
Unknown page