/ بسم الله الرحمن الرحيم 2أ
قال سيدنا ومولانا قاضي القضاة شيخ مشايخ الإسلام ، ملك العلماء الأعلام ، أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعي ، تغمده برحمته ، وأعاد علينا وعلى المسلمين من بركته .
بسم الله الرحمن الرحيم
... الحمد لله مفرج الكرب ، المنجي لمن أصفاه من العطب ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد ...
... فقد شرحت فيما مضى القصيدة المسماة بالمنفرجة ، وهي في أكثر النسخ أربعون بيتا ، يحصل به المقصود ببركة ربنا المعبود ، ثم رأيت اختصاره لمن قصرت همته عن كتابة المطولات ، ومطالعة الكثير من المتوسطات ، مع أني قد أذكر فيها ما ليس في الأصل ، والله أسأل أن يجعله خالصا لوجهه الكريم ، ووسيلة للفوز بجنات النعيم ، وسميته فتح مفرج الكرب ، والظاهر أن ناظمها ابتدأها لفظا أو خطا ببسم الله الرحمن الرحيم ، أو بالحمد لله لخبر : كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم ، وفي رواية بالحمد لله ، فهو أجذم ، أي مقطوع البركة ، ثم قال مخاطبا لما لا يعقل بعد تنزيله منزلة من يعقل .
اشتدي : علينا ، أزمة : أي شدة ، تنفرجي : أي تذهبي عنا ، قد آذن : بالمد : اعلم ، ليلك بالبلج : أي بضياء الصبح ، شبه الشدة بالليل في الكرب والفلق ، وأثبت لها شيئا من لوازم المشبه به ، وهو البلج ، والمراد طلب الفرج ؛ لتزول الشدة ، لا طلبها هي ، لكن لما ثبت بالأدلة أن اشتدادها سبب الفرج أمرها ، وأقامها إقامة للسبب مقام المسبب ، وفيه تسلية / وتأنيس بأن الشدة نوع 2ب من النعمة ، لما يترتب عليها ، وقد للتحقيق ، والتقريب ، وكأنه قال : إنما طلبت اشتدادك لتحقق حصول الانفراج ، وقربه عنده .
Page 1
وظلام الليل له سرج : وهو الكواكب غير الشمس عند نورها ، حتى يغشاه أبو السرج : وهو الشمس ، وجعلت أباها لأنها الأصل ؛ إذ بنورها يذهب نور تلك ، والمراد أن الكروب الشديدة لابد في أثنائها من ألطاف (¬1) يحق معها الألم ، حتى يتفضل الله تعالى بالفرج التام ، كالليل المظلم ، جعل الله فيه الكواكب يقل بها ظلامه ، ويخف بها قبضه ، حتى يدخل النهار ، فيذهب ظلامه كله ، وتنبسط النفس بضوئه .
وسحاب الخير : وهي غير الرزق ، لها مطر فإذا جاء الإبان تجي : أشار به إلى الحث على التزام الصبر في أزمنة الشدائد ؛ لأنها لا تنقضي إلا بانقضاء زمانها ، ولا يأتي الفرج إلا في زمانه المقدر له ، كالسحابة التي يكون معها الخصب بنزول المطر ، اها وقت مقدر ، ولا تتقدم عليه ولا تتأخر عنه ، فالعاقل لا يسعه إلا الصبر ، والتسليم لله تعالى ، وحن الظن به .
وفوائد مولانا : أي ناصرنا تعالى ، جمل : كثيرة لا تحصى ، [ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ] ، لسروح الأنفس والمهج : بالسين والحاء المهملتين ، والإضافة فيه من إضافة الصفة إلى موصوفها ، أي إلى الأنفس والأرواح السارحة ؛ لتحصيل منفعة معاش أو معاد ، وعطف على جمل .
ولها : أي الفوائد ، أرج : من أرج الطيب أرجا ، وأريجا إذا فاح ، وانتشر ، محيي : بضم الميم من إلإحياء ، أي محيي النفوس الزكية ، بأن يحييها الله به أبدا ، فقصد محيا : بفتح الميم من الحياة ، أي زمان أو مكان ، ذاك الأرج : الشريف .
Page 2
فلربتما : / أي وقت ، فاض : أي كثر فيه ، المحيا : بفتح الميم ، أي مكان 3أ الحياة ، ببحور (¬1) الموج : وهو المرتفع من الماء ، من أجل ، اللجج : جمع لجة ، وهي معظم الماشية المحيا بواد امتلأ بالماء ، بجامع المحلية ، وهي كون الوادي محلا للماء والحيا محلا للأنوار والمعارف ، والمعنى أنك إذا امتثلت الأمر المذكور فقد غمرك فضل الله في الدارين ، فيفيض عليك كثيرا كالبحور المتلاطمة أمواجا من كثرتها ، وتار ربتما للتأنيث ، وترد رب للتكثير كثيرا ، وللتقليل قليلا ، والظاهر أنها هنا للتقليل ، ثم استأنف فقال :
والخلق : بمعنى المخلوق ، حالة كونه جميعا : أي مجموعا ، في يده : أي قوته أو نعمته ، فذوو سعة : بفتح السين ، أي يسار ، وذوو حرج : أي ضيق ، نبه بذلك على كمال إحاطة الله تعالى بعالم الغيب والشهادة ، وتفصيله لا يعلم كنهه إلا هو ، قال تعالى : [ وما يعلم جنود ربك إلا هو ] .
ونزولهم نزولهم : أي الخلق من علو إلى سفل ، أي مرتبة ، وطلوعهم من سفل إلى علو كذلك ، فعلى درك : في الأول بفتح الواو وكسرها ، أي قعر ، وعلى درج : في الثاني ، أي مرتبة مرتفعة ، يقال : النار دركات ، والجنة درجات ، نبه بذلك ، وبما يأتي عقبه على طلب الخوف والرجاء والتوكل والتسليم لأمر الله تعالى ؛ تأكيدا لأمر الصبر الذي هو أساس التقوى ، وقد شبه ما حصل للعبد من الصفات السفلية والعلوية بالدرك والدرج ، بجامع المحلية ؛ لأن الدرك والدرج محلان لمن حل فيهما ، كما أن الانتقالات ، واكتساب المعاني السفلية والعلوية ، محل الكسب مقدرة بمقادير وصفات مخصوصة على الشبه ، كما أطلق اسم النزول والطلوع على اكتسابهما مبالغة في التشبيه .
Page 3
/ ومعايشهم : في الدنيا من مطعم وملبس ونحوها ، وعواقبهم : في الآخرة من 3 ب سعادة وشقاوة ، ليست في المشي : إليهم ، على عوج : بل مستقيمة يتوجه إليهم في أوقاتها ، نزولهم وطلوعهم ، شبه المعايش والعواقب لحصولها شيئا فشيئا بالماشي ، وأثبت لها المشي ، وفيه إشارة إلى الإجمال في الطلب ، فإن الحرص لا يحصل شيئا لم يقدر ، وضده لا يمنع شيئا قدر ، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما ، فقال : يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف . رواه الترمذي وصححه ، والفرج بالكسر ما كان في غير منتصب كالمباني والأرض ، وبالفتح ما كان في المنتصب كالحائط والرمح ، وتلك المذكورات من السعة والحرج ، والنزول والطلوع والمعايش والعواقب .
حكم من الله تعالى ، حكمت : أي قضت في كل الأمور ، لا راد لما قضى ، ثم انتسجت : أي التحمت ، بالمنتسج : أي المؤتلف ، والمراد به العبد المقضي عليه بالمقادير ، شبهها الناظم في تعلقها بالعبيد وتناسبها ، فهم مع تأثرهم بها ارتفاعا وانخفاضا بخيوط تنسج، وفي ذلك إشارة إلى تلقي المقادير بالقبول والتسليم لأمر الله تعالى ، والمراد بالحكم المقادير المصورة / بصورة الخيوط المنسوجة ، وثم للتعقيب ، بمعنى الفاء ، 4 أكما في قول الشاعر (¬1) :
كهز الرديني تحت العجاج جرى في الأنابيب ثم اضطرب
أو للتراخي في الرتبة ؛ لأن الانتساج متأخر عن النسج رتبة ، كما في قوله تعالى : [ ثم كان من الذين آمنوا ] ، إذ رتبة الإيمان أعلى في الفضل من رتبة العتق والصدقة ، وإذا كانت المذكورات حكما .
Page 4
فإذا اقتصدت : أي توسطت في نظر العقل ، ثم انعرجت : أي مالت فيه ، فبمقتصد : أي باقتصادها وانفراجها كائنان بمقتصد ، وبمنعرج : بكسر الصاد ، والراء ، وهو العبد المقضي عليه بها فيصير باقتصادها في نظره مقتصدا ، وبانعراجها فيه منعرجا ، كما يصير باكتمالها فيه مكتملا ، فيتعرف إليه الحق في الأحوال الثلاثة فيتعرف إليه في حال اكتمالها باسمه الجواد المنعم الكريم الغني ، وفي حال اقتصادها باسمه الحليم اللطيف ، وفي حال انفراجها باسمه القاهر العدل الحكم ، وتبدل هذه الأحوال من آثار القدر الذي استأثر الله بعلمه ، وأخفاه عن خلقه ، والواجب تسليم الأمر لمن له الخلق والأمر ، وقد حكي أن إبليس جرت بينه وبين الملائكة مناظرة بعد أمره بالسجود لآدم ، فقال أسلم أن الله خالقي وخالق الخلق ، لكن لي على حكمته أسئلة ، الأول :ما الحكمة في الخلق ، وكان عالما أن الكافر لا يستوجب إلا الألم ، الثاني : ما فائدة التكليف مع أنه لا يعود إليه نفع ولا ضر ، الثالث : هب أنه كلفني بمعرفته وطاعته ، فلم كلفني بالسجود لآدم ، الرابع : لم لعنني ، وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له/ ولا لغيره في السجود ، والعقوبة أعظم الضرر ، الخامس : 4 ب لم مكنني من دخول الجنة ووسوسة آدم ، السادس : لم سلطني على أولاده ، السابع : لم أمهلني لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك ، فأوحى الله تعالى إليه من سرادقات الكبرياء : يا إبليس إنك ما عرفتني ، ولو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض علي في شيء من أفعالي ، فإنني الله لا إله إلا أنا ، لا أسأل عما أفعل ، وربك يخلق ما يشاء ويختار ، ونبه الناظم بثم على أن الانفراج متراخ عما قبله ، تفضلا منه تعالى ؛ لأن معاملته لخلقه بمقتضى رحمانيته أكثر ، ولهذا قال تعالى : [ عذابي أصيب به من أشاء ، ورحمتي وسعت كل شيء ] والإنسان يعد أيام المحنة ، ولا يعد أيام النعمة .
Page 5