Fatawa Nur Cala Darb
فتاوى نور على الدرب
Genres
Fatwas
_________
العقيدة
_________
التوحيد
التوحيد
Unknown page
السائلة أماني عبد الحليم تقول: قرأت في كتاب بأن أهل التوحيد لايخلدون في النار، فمن هم أهل التوحيد؟
فأجاب رحمه الله تعالى: أهل التوحيد الذين عبدوا الله تعالى وحده، الذين عبدوا الله تعالى وحده أي: قاموا بالعبادة مخلصين بها لله، متبعين فيها لرسول الله ﷺ، هؤلاء هم أهل التوحيد، ولا يختصون بطائفةٍ دون أخرى، في أي بلادٍ كان الإنسان، ومن أي قبيلةٍ كان، ومن أي جنسٍ كان، إذا قام بعبادة الله ﷿ وحده، متبعًا في ذلك رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو من أهل الجنة.
***
1 / 1
ما هي أنواع التوحيد وشروط كلمة التوحيد؟
فأجاب رحمه الله تعالى: أما بالنسبة لسؤال السائل عن كلمة التوحيد: فكلمة التوحيد هي لا إله إلا الله، أي: لا معبود حق إلا الله، وهذه تتضمن شيئين مهمين: الشيء الأول: نفي الألوهية الحقة عما سوى الله ﷿، فإنه لا إله إلا الله ﷿. والثاني: إثبات الألوهية الحق لله ﷿، وبهذا تم الإخلاص في هذه الكلمة العظيمة التي هي باب الدخول في الإسلام، ولهذا من قال: لا إله إلا الله، فقد عصم دمه وماله. وفي الصحيح أن أسامة بن زيد ﵁ لحق رجلًا مشركًا هرب منه، فلما أحاط به قال الرجل المشرك: لا إله إلا الله. فقتله أسامة بعد أن قال لا إله إلا الله. فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال له: (أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله إنما قالها تعوذًا. يعني: ليعتصم بها من القتل وليست عن إخلاص، فجعل النبي ﷺ يكررها، حتى قال أسامة: (حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت بعد) .فهذا أهم شيء في كلمة الإخلاص. ومنها- يعني: من شروط قبولها- أن يكون الإنسان قد قالها عن يقين، أي: قالها متيقنًا لا مترددًا ولا مقلدًا، بل متيقنًا أنه لا إله حق إلا الله ﵎، ولها مكملات بعضها على سبيل الوجوب وبعضها على سبيل الاستحباب، معلومة في كتب أهل العلم.
***
يسري حامد يقول: ما أقسام التوحيد مفصلة؟ لأننا في زمن كثرت فيه الشركيات، فنشاهد أناسًا يذبحون عند الأضرحة ويطوفون بها ويتقربون إليها؟ فأجاب رحمه الله تعالى: سؤال الأخ عن التوحيد وأقسامه سؤال مهم؛ لأن التوحيد هو الذي بعثت به الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم قال الله ﵎: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) . والرسل حكى الله عنهم على وجه التفصيل أنهم كانوا يقولون لأقوامهم: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) . والنبي ﵊ جاء بتحقيق هذا التوحيد تحقيقًا تامًّا يمنع العبد من الإشراك بالله الشرك الصغير والكبير، وقد ذكر أهل العلم ﵏ أن أقسام التوحيد ثلاثة، وذلك بالتتبع والاستقراء، أولها: توحيد الربوبية، والثاني: توحيد الألوهية، والثالث: توحيد الأسماء والصفات، وقد اجتمعت الثلاثة في آية واحدة من كتاب الله في قوله تعالى: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) فقوله تعالى (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) هذا توحيد الربوبية، وقوله: (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) هذا توحيد الألوهية، وقوله تعالى: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) هذا توحيد الأسماء والصفات، أي لا تعلم له سميًّا أي: مساميا يضاهيه ويماثله ﷿. أقسام التوحيد ثلاثة: القسم الأول: توحيد الربوبية، وهو إفراد الله ﷿ في الخلق والملك والتدبير، فلا خالق إلا الله، ولا مالك إلا الله، ولا مدبر إلا الله، لا أحد يقوم بهذا على وجه الإطلاق والعموم والشمول إلا الله رب العالمين، فهو المتفرد بالخلق، المتفرد بالملك، المتفرد بالتدبير، قال الله ﷿: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) . فالآية هذه فيها حصر الخلق والأمر في الله وحده، وذلك بتقديم الخبر (له) على المبتدأ (الخلق)، وتقديم ماحقه التأخير يفيد الحصر، كما قرر ذلك علماء البلاغة، فالخلق كله له، والأمر كله له ﷿، لا يشركه أحد، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) . وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ. وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) . فبين الله ﷿ أن هؤلا السفهاء الذين يشركون، الذين اتخذهم عبادهم شفعاء عند الله، شركاء مع الله، لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض على وجه الاستقلال بها دون الله، ما لهم فيهما من شرك، أي: لا يملكون شركة مع الله ﷿، فليسوا مستقلين في شيء، وليسوا شركاء مع الله في شيء، (وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) يعني: ما لله أحد من هؤلاء يساعده ويعينه ﷿، بل هو مستغنٍ عن جميع خلقه، (وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) وذلك لكمال سلطانه وعظيم ملكه ﷿، لا أحد يشفع عنده يتوسط بشيء لأحد من خير أو دفع ضرر إلا بإذنه ﷿، وفي هذا قطع لجميع ما يتعلق به المشركون الذين يدعون أنهم يعبدون هذه الأصنام، يتخذونها شفعاء عند الله، قال: (وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) ومن المعلوم أن الله لن يأذن لهذه الأصنام أن تشفع، ولا يأذن لأحد أن يشفع لعابد هذه الأصنام، قال الله ﵎: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) . وقال تعالى: (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) . وحينئذٍ تنقطع كل الآمال التي يتعلق بها هؤلاء المشركون الذين يعبدون مع الله غيره، يرجونه نفعًا أو دفع ضرر، فإن ذلك لا ينفعه، قال الله تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) . إذًا توحيد الربوبية إفراد الله ﷿ بأمور ثلاثة: بالخلق والملك والتدبير، فلا خالق إلا الله، ولا مالك إلا الله، ولا مدبر إلا الله. وما يوجد من المخلوق من صنع الأشياء، وما يوجد من المخلوق من الملك، وما يوجد للمخلوق من التدبير، فكله تدبير ناقص، وهم أيضًا غير مستقلين به، بل ذلك من خلق الله ﷿، أما المنفرد بذلك على وجه الاستقلال فهو الله ﷾، فللمخلوق خلق وإيجاد، لكنه ليس كخلق الله، فالله تعالى موجد الأشياء من العدم، والمخلوق لا يستطيع أن يوجد الشيء من العدم، وإنما يستطيع أن يركب شيئًا مع شيء،أو يغير صورة شيء إلى شيء، كما لو غير النجار الخشبة إلى باب، والحداد الصفائح الحديد إلى أبواب وما أشبه ذلك، لكنه لن يخلق هذه المادة، قال الله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) . كذلك الإنسان له ملك، قال الله تعالى: (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) . وقال الله تعالى: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَه) . ولكن هذا الملك ملك مقيد محدود ليس بشامل، وليس للإنسان فيه مطلق التصرف، بل هو محدود، فما بيدي من الملك ليس لك، وما بيدك من الملك ليس لي، ثم إنه ملك محدود لا تستطيع أن تتصرف فيه إلا على حسب ما جاءت به الشريعة. وكذلك للإنسان تدبير: يدبر مملوكه، ويدبر زوجته، يدبر أهله، لكنه تدبير ناقص ليس بشامل، ولا للإنسان فيه مطلق الحرية، وبهذا عرفنا أن المنفرد بالخلق والمنفرد بالملك والمنفرد بالتدبير هو الله ﷿ وحده. هذا قسم من أقسام التوحيد، وهذا التوحيد لم ينكره المشركون الذين بعث فيهم رسول الله ﵌، بل كانوا يقرون به غاية الإقرار، قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) . وقال: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَات وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) . وهكذا الآيات الكثيرة كلها تدل على أن المشركين الذين قاتلهم النبي ﵌ واستباح دماءهم وأموالهم ونساءهم وذريتهم كانوا يقرون بهذا التوحيد، لكن ذلك لم ينفعهم؛ لأنهم مشركون في توحيد الألوهية، توحيد العبادة الذي هو حق الله الخاص له، وهو: القسم الثاني: توحيد الألوهية، المستفاد من قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) والألوهية مبنية على شيئين، بل العبادة مبنية على شيئين: المحبة والتعظيم، فبالمحبة يكون الرجاء وفعل الأوامر، طلبًا للوصول إلى محبة الله ﷿ وثوابه، والتعظيم- وهو الأساس الثاني للعبادة- به يترك الإنسان المناهي التي نهى الله عنها؛ لأنه بتعظيمه لله يترك مناهيه ويخاف من عقابه. ثم إن العبادة لها شرطان: الشرط الأول: الإخلاص لله، والثاني: المتابعة لرسول الله ﵌. فللعبادة إذًا ركنان ولها شرطان، أما ركناها فالمحبة والتعظيم وهما الأساس، وأما شرطاها فهما الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله ﵌، ودليل ذلك قوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) . وقوله تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) . ودليل المتابعة قوله ﵎: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) . وقال النبي ﵌: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد) . وقال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) . أي: مردود على صاحبه؛ لأنه لم تتحقق فيه المتابعة. وإذا نظرنا إلى حال كثير من المسلمين اليوم وجدنا أنهم ليسوا على توحيد خالص في باب الألوهية والعبودية: فمنهم من يعبد القبور، ومنهم من يعبد الأولياء، ومنهم من يطوف بالقبور رجاءً لنفعها ودفعها للضرر، ومنهم من يُؤلِّه الحكام ويجعلهم في منزلة الألوهية، يطيعهم فيما حرم الله فيستحله وفيما أحل الله فيحرمه، وهذا هو اتخاذهم أربابًا، قال الله ﵎: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) . ويروى عن عدي بن حاتم ﵁ أنه قال للنبي ﵌: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم. قال: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: بلى. قال النبي ﵌ فتلك عبادتهم) . وهذا القسم من التوحيد هو الذي خالف فيه المشركون رسول الله ﵌ وأنكروا عليه، وقالوا فيه: (أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) . وسبحان الله أن يكون التوحيد عجابًا، وأن يكون شركه صوابًا. فالعجب العجاب الذي لا ينقضي هو أن يشرك هؤلاء بالله ما لا ينفعهم ولا يضرهم ولا يستجيب لهم إلى يوم القيامة، وقد استباح النبي ﵌ دماء هؤلاء المشركين ونساءهم وذرياتهم وأموالهم وقاتلهم على ذلك أشد المقاتلة، حتى يعبدوا الله ﷿ أو يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون. أما القسم الثالث فهو توحيد الأسماء والصفات، وهو إفراد الله ﷿ بأسمائه وصفاته، وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي ما نفى الله عن نفسه، والسكوت عما سكت الله عنه ورسوله، إثباتًا بلا تمثيل، ونفيًا بلا تعطيل. وهذا هو الذي انقسمت فيه الأمة الإسلامية إلى أقسام متعددة: فمنهم السلف، وهم فقط أهل السنة والجماعة الذين أثبتوا لله ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات في كتابه أو على لسان رسوله ﵌، إثباتًا بلا تمثيل، ونفوا ما نفى الله عن نفسه نفيًا بلا تعطيل، وسكتوا عما سكت الله عنه ورسوله. فمن ذلك أنهم أثبتوا لله كل ما وصف به نفسه، كل صفة أثبتها لنفسه: من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة والكلام والعزة والحكمة والرحمة والعجب والضحك، وأثبتوا لله الوجه واليدين والعينين، وأثبتوا لله القدم والساق، وكذلك كل ما وصف الله به نفسه أثبتوه لله ﷿ لكن بلا تمثيل، يثبتون هذا ويقولون: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصيرِ) . فيقولون: لله يد ولكن ليستا كأيدينا، وجه لكن ليس كوجوهنا، عينان لكن ليست كأعيننا، وهكذا بقية الصفات. ويقولون أيضًا: إن الله استوى على العرش، علا عليه علوًّا يليق بجلاله ﷿، لكن ليس كاستوائنا نحن على السرير أو على الدابة أو على الفلك؛ لا؛ لأن الله تعالى يقول: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصيرِ) . هذا هو مذهب السلف: إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، ونفي ما نفى الله عن نفسه من الأسماء والصفات، والسكوت عما سكت عنه. وبعد ذلك تنازع الناس تنازعًا طويلًا عريضًا لا ينبني على أصل، لا من المعقول ولا من المنقول: فأثبت قوم الأسماء، وأثبتوا من الصفات صفات قليلة، وليس على الوجه الذي يثبته عليه أهل السنة والجماعة، بل يخالفونه في كيفية هذا الإثبات. وأثبت قوم الأسماء، ونفوا الصفات كلها، أو إلا الحياة والعلم والقدرة. ونفى قوم الأسماء والصفات، ونفى قوم الإثبات والنفي، واضطربوا في ذلك اضطرابًا كثيرًا. لكن من هؤلاء من تصل بدعته إلى حد الكفر المخرج من الملة، ومنهم من دون ذلك، ولكن الحق فيما ذهب إليه السلف، وهم أهل السنة والجماعة: إثبات كل صفة أثبتها الله لنفسه بدون تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ونفي كل صفة نفاها الله عن نفسه، والسكوت عما سكت الله عنه، وهذه الطريقة السليمة الثابتة سمعًا وعقلًا وفطرةً. وللناس في هذا كتب ورسائل معلومة، ومن أحسن ما رأيته تقريبًا لهذا الأصل العظيم ما كتبه شيخ الإسلام، ابن تيمية ﵀، وكتبه تليمذه ابن القيم، فإنهما كتبا في هذا الباب كتابات عظيمة مفيدة، ما رأيت أحدًا كتب مثل كتابتهما، وغالب من يكتب في هذا الباب تجدهم يقلد بعضهم بعضًا، ولهم مقلدون لا يخرجون عن كلامهم ولو تبين الحق، والحقيقة أن الواجب على المرء أن يتبع ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله سلم، وأنه ليس بمعذور إذا خالف ذلك من أجل قول فلان وفلان، قد يخطئ فلان وفلان من المتبوعين خطأً يعذر فيه، لكن التابع الذي تبين له الحق لا يعذر في اتباعه لهؤلاء الذين أخطؤوا. وإنني من هذا المنبر منبر نور على الدرب في إذاعة المملكة العربية السعودية أدعو جميع إخواني الذين درسوا في هذا العلم علم التوحيد علم العقائد، أدعوهم إلى تقوى الله ﷿، وأن يسلكوا ما سلكه النبي ﵌ وأصحابه من الخلفاء الراشدين وغيرهم في هذا الباب العظيم الخطير؛ لأن هذا الباب مبناه على الخبر المحض، ليس للعقول فيه مجال إلا على سبيل الإجمال، فإن العقول تهتدي إجمالًا إلى أن الله موصوف بصفات الكمال، منزه عن كل نقص وعيب، ولكن لا تدرك هذا على وجه التفصيل، وإنما يؤخذ ذلك من الكتاب والسنة، وإذا كان هذا هو الواقع، وأن ما يتعلق بصفات الله وأسمائه خبر محض، فإنه يجب علينا أن لا نحيد عن ما جاء به الكتاب والسنة قيد أنملة، ولا سمك شعرة، بل يجب علينا قبول ما جاء به الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل. ولقد رأينا أن الذين يحيدون عن هذه السبيل ويتخبطون خبط عشواء في بعض أسماء الله وصفاته، رأينا أنهم يضلون كثيرًا، ويؤدي بهم الحال إلى الشرك وإلى الحيرة، كما نقل ذلك عن كثيرٍ من زعمائهم، حتى إن الفخر الرازي وهو من رؤسائهم قال فيما نقل عنه، إما منشدًا وإما ناظمًا: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وقال: (لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تروي غليلًا ولا تشفي عليلًا، وجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) . وأقرأ في النفي: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) . ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي) . ويقول الآخر: لقد طفت في تلك المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعًا كف حائر على ذقن أو قارعًا سن نادم وهذا يدل على أن هؤلاء المتكلمين الذين ذهبوا يحكمون على الله تعالى بعقولهم فيما يصفونه به كانوا في حيرة شديدة، وأن من بلغ منهم الغاية في علم الكلام رجع إلى الحق، وهو ما كان عليه سلف هذه الأمة: من إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله ﵌، ونفي ما نفى الله عنه أو ما نفاه عنه رسوله ﵌، والسكوت عن ما لم يرد به إثبات ولا نفي، وهذا هو الأدب مع الله ورسوله، فعلينا جميعًا أن نتوب إلى الله ﷿، وأن نرجع إلى منهج سلفنا الصالح في هذا الباب العظيم الخطير. ونسأل الله لنا ولإخواننا السلامة والتوفيق لمنهج السلف الصالح، وأن يتوفانا على ما يحبه ويرضاه، إنه جواد كريم. ***
هل الإيمان هو التوحيد؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإيمان والتوحيد شيئان متغايران وشيئان متفقان، فالتوحيد هو إفراد الله ﷿ بما يستحقه ويختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، ولهذا قال العلماء ﵏: إن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. وإن هذه الأقسام جاءت في قوله تعالى: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) . فقوله: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) يعني توحيد الربوبية، وقوله: (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) يعني توحيد الألوهية، وقوله: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) يعني توحيد الأسماء والصفات. وهذا التقسيم للإيمان في الواقع؛ لأن الإيمان بالله ﷿ يتضمن الإيمان بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وعلى هذا فالموحد لله مؤمن به، والمؤمن بالله موحد له، لكن قد يحصل خلل في التوحيد أو في الإيمان فينقصان، ولهذا كان القول الراجح أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد وينقص في حقيقته وفي آثاره ومقتضياته: فالإنسان يجد من قلبه أحيانًا طمأنينة بالغة، كأنما يشاهد الغائب الذي كان يؤمن به، وأحيانًا يحصل له شيء من قلة هذا اليقين الكامل، وإذا شيءت أن تعرف أن اليقين يتفاوت فاقرأ قول الله تعالى عن إبراهيم خليله ﵊: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) . كما أنه أيضًا يزيد بآثاره ومقتضياته: فإن الإنسان كلما ازداد عملًا صالحًا ازداد إيمانه، حتى يكون من المؤمنين الخلص. ***
كيف يحقق المسلم التوحيد؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يحقق التوحيد بإخلاص شهادة أن لا إله إلا الله، أي لا معبود حق إلا الله ﷿، فكل ما عبد من دون الله فهو باطل، قال الله ﵎: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ) . ويحقق التوحيد- وهو توحيد الاتباع- بالتزام سنة النبي ﷺ، ألا يحيد عنها يمينًا ولا شمالًا، وألا يتقدمها إقبالًا، ولا يتأخر عنها إدبارًا. ***
كيف يحقق المسلم التوحيد؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يحقق التوحيد بالإخلاص لله ﷿، وأن تكون عبادته لله تعالى وحده لا يرائي فيها ولا يحابي فيها، وإنما يعبد الله مخلصًا له الدين، هذا بالنسبة للعبادة. كذلك أيضًا بالنسبة للربوبية: لا يعتمد إلا على الله، ولا يستعين إلا بالله، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لابن عمه وهو عبد الله بن عباس ﵄: (يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) . وعليه أن يسأل الله دائمًا الثبات على الحق وعلى التوحيد، فإن كثيرًا من الناس وإن كان معه أصل التوحيد لكن يكون هناك أشياء منقصة، وأضرب لك مثلًا شائعًا عند الناس يتهاونون به، وهو الاعتماد على الأسباب، فإن من المعلوم أن الله ﷾ قدر للأشياء أسبابًا: فالمرض قدر الله للشفاء منه أسبابًا، والجهل قدر الله تعالى للتخلص منه أسبابًا، الأولاد قدر الله لهم أسبابًا، وهلم جرًّا. فبعض الناس يعتمد على السبب: فتجده إذا مرض يتعلق قلبه تعلقًا كليًا بالمستشفى وأطبائه، ويذهب وكأن الشفاء بأيديهم، وينسى أن الله ﷾ جعل هؤلاء أسبابًا قد تنفع وقد لا تنفع، فإن نفعت فبفضل الله وتقديره، وإن لم تنفع فبعدل الله وتقديره، فلا ينبغي بل لا يجوز أن ينسى الإنسان المتسبب ويتفكر للسبب، نعم نحن لا ننكر أن السبب له تأثير في المسبب، لكن هذا التأثير إنما كان بإذن الله ﷿، كما قال الله ﵎ في السحرة: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) قال (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) . فالمهم أن تحقيق التوحيد هو تعلق القلب بالله ﵎ خوفًا وطمعًا، وتخصيص العبادة له وحده. ***
يسري حامد يقول: ما أقسام التوحيد مفصلة؟ لأننا في زمن كثرت فيه الشركيات، فنشاهد أناسًا يذبحون عند الأضرحة ويطوفون بها ويتقربون إليها؟ فأجاب رحمه الله تعالى: سؤال الأخ عن التوحيد وأقسامه سؤال مهم؛ لأن التوحيد هو الذي بعثت به الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم قال الله ﵎: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) . والرسل حكى الله عنهم على وجه التفصيل أنهم كانوا يقولون لأقوامهم: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) . والنبي ﵊ جاء بتحقيق هذا التوحيد تحقيقًا تامًّا يمنع العبد من الإشراك بالله الشرك الصغير والكبير، وقد ذكر أهل العلم ﵏ أن أقسام التوحيد ثلاثة، وذلك بالتتبع والاستقراء، أولها: توحيد الربوبية، والثاني: توحيد الألوهية، والثالث: توحيد الأسماء والصفات، وقد اجتمعت الثلاثة في آية واحدة من كتاب الله في قوله تعالى: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) فقوله تعالى (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) هذا توحيد الربوبية، وقوله: (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) هذا توحيد الألوهية، وقوله تعالى: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) هذا توحيد الأسماء والصفات، أي لا تعلم له سميًّا أي: مساميا يضاهيه ويماثله ﷿. أقسام التوحيد ثلاثة: القسم الأول: توحيد الربوبية، وهو إفراد الله ﷿ في الخلق والملك والتدبير، فلا خالق إلا الله، ولا مالك إلا الله، ولا مدبر إلا الله، لا أحد يقوم بهذا على وجه الإطلاق والعموم والشمول إلا الله رب العالمين، فهو المتفرد بالخلق، المتفرد بالملك، المتفرد بالتدبير، قال الله ﷿: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) . فالآية هذه فيها حصر الخلق والأمر في الله وحده، وذلك بتقديم الخبر (له) على المبتدأ (الخلق)، وتقديم ماحقه التأخير يفيد الحصر، كما قرر ذلك علماء البلاغة، فالخلق كله له، والأمر كله له ﷿، لا يشركه أحد، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) . وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ. وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) . فبين الله ﷿ أن هؤلا السفهاء الذين يشركون، الذين اتخذهم عبادهم شفعاء عند الله، شركاء مع الله، لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض على وجه الاستقلال بها دون الله، ما لهم فيهما من شرك، أي: لا يملكون شركة مع الله ﷿، فليسوا مستقلين في شيء، وليسوا شركاء مع الله في شيء، (وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) يعني: ما لله أحد من هؤلاء يساعده ويعينه ﷿، بل هو مستغنٍ عن جميع خلقه، (وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) وذلك لكمال سلطانه وعظيم ملكه ﷿، لا أحد يشفع عنده يتوسط بشيء لأحد من خير أو دفع ضرر إلا بإذنه ﷿، وفي هذا قطع لجميع ما يتعلق به المشركون الذين يدعون أنهم يعبدون هذه الأصنام، يتخذونها شفعاء عند الله، قال: (وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) ومن المعلوم أن الله لن يأذن لهذه الأصنام أن تشفع، ولا يأذن لأحد أن يشفع لعابد هذه الأصنام، قال الله ﵎: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) . وقال تعالى: (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) . وحينئذٍ تنقطع كل الآمال التي يتعلق بها هؤلاء المشركون الذين يعبدون مع الله غيره، يرجونه نفعًا أو دفع ضرر، فإن ذلك لا ينفعه، قال الله تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) . إذًا توحيد الربوبية إفراد الله ﷿ بأمور ثلاثة: بالخلق والملك والتدبير، فلا خالق إلا الله، ولا مالك إلا الله، ولا مدبر إلا الله. وما يوجد من المخلوق من صنع الأشياء، وما يوجد من المخلوق من الملك، وما يوجد للمخلوق من التدبير، فكله تدبير ناقص، وهم أيضًا غير مستقلين به، بل ذلك من خلق الله ﷿، أما المنفرد بذلك على وجه الاستقلال فهو الله ﷾، فللمخلوق خلق وإيجاد، لكنه ليس كخلق الله، فالله تعالى موجد الأشياء من العدم، والمخلوق لا يستطيع أن يوجد الشيء من العدم، وإنما يستطيع أن يركب شيئًا مع شيء،أو يغير صورة شيء إلى شيء، كما لو غير النجار الخشبة إلى باب، والحداد الصفائح الحديد إلى أبواب وما أشبه ذلك، لكنه لن يخلق هذه المادة، قال الله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) . كذلك الإنسان له ملك، قال الله تعالى: (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) . وقال الله تعالى: (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَه) . ولكن هذا الملك ملك مقيد محدود ليس بشامل، وليس للإنسان فيه مطلق التصرف، بل هو محدود، فما بيدي من الملك ليس لك، وما بيدك من الملك ليس لي، ثم إنه ملك محدود لا تستطيع أن تتصرف فيه إلا على حسب ما جاءت به الشريعة. وكذلك للإنسان تدبير: يدبر مملوكه، ويدبر زوجته، يدبر أهله، لكنه تدبير ناقص ليس بشامل، ولا للإنسان فيه مطلق الحرية، وبهذا عرفنا أن المنفرد بالخلق والمنفرد بالملك والمنفرد بالتدبير هو الله ﷿ وحده. هذا قسم من أقسام التوحيد، وهذا التوحيد لم ينكره المشركون الذين بعث فيهم رسول الله ﵌، بل كانوا يقرون به غاية الإقرار، قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) . وقال: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَات وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) . وهكذا الآيات الكثيرة كلها تدل على أن المشركين الذين قاتلهم النبي ﵌ واستباح دماءهم وأموالهم ونساءهم وذريتهم كانوا يقرون بهذا التوحيد، لكن ذلك لم ينفعهم؛ لأنهم مشركون في توحيد الألوهية، توحيد العبادة الذي هو حق الله الخاص له، وهو: القسم الثاني: توحيد الألوهية، المستفاد من قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) والألوهية مبنية على شيئين، بل العبادة مبنية على شيئين: المحبة والتعظيم، فبالمحبة يكون الرجاء وفعل الأوامر، طلبًا للوصول إلى محبة الله ﷿ وثوابه، والتعظيم- وهو الأساس الثاني للعبادة- به يترك الإنسان المناهي التي نهى الله عنها؛ لأنه بتعظيمه لله يترك مناهيه ويخاف من عقابه. ثم إن العبادة لها شرطان: الشرط الأول: الإخلاص لله، والثاني: المتابعة لرسول الله ﵌. فللعبادة إذًا ركنان ولها شرطان، أما ركناها فالمحبة والتعظيم وهما الأساس، وأما شرطاها فهما الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله ﵌، ودليل ذلك قوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) . وقوله تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) . ودليل المتابعة قوله ﵎: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) . وقال النبي ﵌: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد) . وقال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) . أي: مردود على صاحبه؛ لأنه لم تتحقق فيه المتابعة. وإذا نظرنا إلى حال كثير من المسلمين اليوم وجدنا أنهم ليسوا على توحيد خالص في باب الألوهية والعبودية: فمنهم من يعبد القبور، ومنهم من يعبد الأولياء، ومنهم من يطوف بالقبور رجاءً لنفعها ودفعها للضرر، ومنهم من يُؤلِّه الحكام ويجعلهم في منزلة الألوهية، يطيعهم فيما حرم الله فيستحله وفيما أحل الله فيحرمه، وهذا هو اتخاذهم أربابًا، قال الله ﵎: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) . ويروى عن عدي بن حاتم ﵁ أنه قال للنبي ﵌: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم. قال: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: بلى. قال النبي ﵌ فتلك عبادتهم) . وهذا القسم من التوحيد هو الذي خالف فيه المشركون رسول الله ﵌ وأنكروا عليه، وقالوا فيه: (أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) . وسبحان الله أن يكون التوحيد عجابًا، وأن يكون شركه صوابًا. فالعجب العجاب الذي لا ينقضي هو أن يشرك هؤلاء بالله ما لا ينفعهم ولا يضرهم ولا يستجيب لهم إلى يوم القيامة، وقد استباح النبي ﵌ دماء هؤلاء المشركين ونساءهم وذرياتهم وأموالهم وقاتلهم على ذلك أشد المقاتلة، حتى يعبدوا الله ﷿ أو يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون. أما القسم الثالث فهو توحيد الأسماء والصفات، وهو إفراد الله ﷿ بأسمائه وصفاته، وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي ما نفى الله عن نفسه، والسكوت عما سكت الله عنه ورسوله، إثباتًا بلا تمثيل، ونفيًا بلا تعطيل. وهذا هو الذي انقسمت فيه الأمة الإسلامية إلى أقسام متعددة: فمنهم السلف، وهم فقط أهل السنة والجماعة الذين أثبتوا لله ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات في كتابه أو على لسان رسوله ﵌، إثباتًا بلا تمثيل، ونفوا ما نفى الله عن نفسه نفيًا بلا تعطيل، وسكتوا عما سكت الله عنه ورسوله. فمن ذلك أنهم أثبتوا لله كل ما وصف به نفسه، كل صفة أثبتها لنفسه: من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة والكلام والعزة والحكمة والرحمة والعجب والضحك، وأثبتوا لله الوجه واليدين والعينين، وأثبتوا لله القدم والساق، وكذلك كل ما وصف الله به نفسه أثبتوه لله ﷿ لكن بلا تمثيل، يثبتون هذا ويقولون: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصيرِ) . فيقولون: لله يد ولكن ليستا كأيدينا، وجه لكن ليس كوجوهنا، عينان لكن ليست كأعيننا، وهكذا بقية الصفات. ويقولون أيضًا: إن الله استوى على العرش، علا عليه علوًّا يليق بجلاله ﷿، لكن ليس كاستوائنا نحن على السرير أو على الدابة أو على الفلك؛ لا؛ لأن الله تعالى يقول: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصيرِ) . هذا هو مذهب السلف: إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، ونفي ما نفى الله عن نفسه من الأسماء والصفات، والسكوت عما سكت عنه. وبعد ذلك تنازع الناس تنازعًا طويلًا عريضًا لا ينبني على أصل، لا من المعقول ولا من المنقول: فأثبت قوم الأسماء، وأثبتوا من الصفات صفات قليلة، وليس على الوجه الذي يثبته عليه أهل السنة والجماعة، بل يخالفونه في كيفية هذا الإثبات. وأثبت قوم الأسماء، ونفوا الصفات كلها، أو إلا الحياة والعلم والقدرة. ونفى قوم الأسماء والصفات، ونفى قوم الإثبات والنفي، واضطربوا في ذلك اضطرابًا كثيرًا. لكن من هؤلاء من تصل بدعته إلى حد الكفر المخرج من الملة، ومنهم من دون ذلك، ولكن الحق فيما ذهب إليه السلف، وهم أهل السنة والجماعة: إثبات كل صفة أثبتها الله لنفسه بدون تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ونفي كل صفة نفاها الله عن نفسه، والسكوت عما سكت الله عنه، وهذه الطريقة السليمة الثابتة سمعًا وعقلًا وفطرةً. وللناس في هذا كتب ورسائل معلومة، ومن أحسن ما رأيته تقريبًا لهذا الأصل العظيم ما كتبه شيخ الإسلام، ابن تيمية ﵀، وكتبه تليمذه ابن القيم، فإنهما كتبا في هذا الباب كتابات عظيمة مفيدة، ما رأيت أحدًا كتب مثل كتابتهما، وغالب من يكتب في هذا الباب تجدهم يقلد بعضهم بعضًا، ولهم مقلدون لا يخرجون عن كلامهم ولو تبين الحق، والحقيقة أن الواجب على المرء أن يتبع ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله سلم، وأنه ليس بمعذور إذا خالف ذلك من أجل قول فلان وفلان، قد يخطئ فلان وفلان من المتبوعين خطأً يعذر فيه، لكن التابع الذي تبين له الحق لا يعذر في اتباعه لهؤلاء الذين أخطؤوا. وإنني من هذا المنبر منبر نور على الدرب في إذاعة المملكة العربية السعودية أدعو جميع إخواني الذين درسوا في هذا العلم علم التوحيد علم العقائد، أدعوهم إلى تقوى الله ﷿، وأن يسلكوا ما سلكه النبي ﵌ وأصحابه من الخلفاء الراشدين وغيرهم في هذا الباب العظيم الخطير؛ لأن هذا الباب مبناه على الخبر المحض، ليس للعقول فيه مجال إلا على سبيل الإجمال، فإن العقول تهتدي إجمالًا إلى أن الله موصوف بصفات الكمال، منزه عن كل نقص وعيب، ولكن لا تدرك هذا على وجه التفصيل، وإنما يؤخذ ذلك من الكتاب والسنة، وإذا كان هذا هو الواقع، وأن ما يتعلق بصفات الله وأسمائه خبر محض، فإنه يجب علينا أن لا نحيد عن ما جاء به الكتاب والسنة قيد أنملة، ولا سمك شعرة، بل يجب علينا قبول ما جاء به الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل. ولقد رأينا أن الذين يحيدون عن هذه السبيل ويتخبطون خبط عشواء في بعض أسماء الله وصفاته، رأينا أنهم يضلون كثيرًا، ويؤدي بهم الحال إلى الشرك وإلى الحيرة، كما نقل ذلك عن كثيرٍ من زعمائهم، حتى إن الفخر الرازي وهو من رؤسائهم قال فيما نقل عنه، إما منشدًا وإما ناظمًا: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وقال: (لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تروي غليلًا ولا تشفي عليلًا، وجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) . وأقرأ في النفي: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) . ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي) . ويقول الآخر: لقد طفت في تلك المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعًا كف حائر على ذقن أو قارعًا سن نادم وهذا يدل على أن هؤلاء المتكلمين الذين ذهبوا يحكمون على الله تعالى بعقولهم فيما يصفونه به كانوا في حيرة شديدة، وأن من بلغ منهم الغاية في علم الكلام رجع إلى الحق، وهو ما كان عليه سلف هذه الأمة: من إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله ﵌، ونفي ما نفى الله عنه أو ما نفاه عنه رسوله ﵌، والسكوت عن ما لم يرد به إثبات ولا نفي، وهذا هو الأدب مع الله ورسوله، فعلينا جميعًا أن نتوب إلى الله ﷿، وأن نرجع إلى منهج سلفنا الصالح في هذا الباب العظيم الخطير. ونسأل الله لنا ولإخواننا السلامة والتوفيق لمنهج السلف الصالح، وأن يتوفانا على ما يحبه ويرضاه، إنه جواد كريم. ***
هل الإيمان هو التوحيد؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإيمان والتوحيد شيئان متغايران وشيئان متفقان، فالتوحيد هو إفراد الله ﷿ بما يستحقه ويختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، ولهذا قال العلماء ﵏: إن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. وإن هذه الأقسام جاءت في قوله تعالى: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) . فقوله: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) يعني توحيد الربوبية، وقوله: (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) يعني توحيد الألوهية، وقوله: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) يعني توحيد الأسماء والصفات. وهذا التقسيم للإيمان في الواقع؛ لأن الإيمان بالله ﷿ يتضمن الإيمان بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وعلى هذا فالموحد لله مؤمن به، والمؤمن بالله موحد له، لكن قد يحصل خلل في التوحيد أو في الإيمان فينقصان، ولهذا كان القول الراجح أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد وينقص في حقيقته وفي آثاره ومقتضياته: فالإنسان يجد من قلبه أحيانًا طمأنينة بالغة، كأنما يشاهد الغائب الذي كان يؤمن به، وأحيانًا يحصل له شيء من قلة هذا اليقين الكامل، وإذا شيءت أن تعرف أن اليقين يتفاوت فاقرأ قول الله تعالى عن إبراهيم خليله ﵊: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) . كما أنه أيضًا يزيد بآثاره ومقتضياته: فإن الإنسان كلما ازداد عملًا صالحًا ازداد إيمانه، حتى يكون من المؤمنين الخلص. ***
كيف يحقق المسلم التوحيد؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يحقق التوحيد بإخلاص شهادة أن لا إله إلا الله، أي لا معبود حق إلا الله ﷿، فكل ما عبد من دون الله فهو باطل، قال الله ﵎: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ) . ويحقق التوحيد- وهو توحيد الاتباع- بالتزام سنة النبي ﷺ، ألا يحيد عنها يمينًا ولا شمالًا، وألا يتقدمها إقبالًا، ولا يتأخر عنها إدبارًا. ***
كيف يحقق المسلم التوحيد؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يحقق التوحيد بالإخلاص لله ﷿، وأن تكون عبادته لله تعالى وحده لا يرائي فيها ولا يحابي فيها، وإنما يعبد الله مخلصًا له الدين، هذا بالنسبة للعبادة. كذلك أيضًا بالنسبة للربوبية: لا يعتمد إلا على الله، ولا يستعين إلا بالله، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لابن عمه وهو عبد الله بن عباس ﵄: (يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) . وعليه أن يسأل الله دائمًا الثبات على الحق وعلى التوحيد، فإن كثيرًا من الناس وإن كان معه أصل التوحيد لكن يكون هناك أشياء منقصة، وأضرب لك مثلًا شائعًا عند الناس يتهاونون به، وهو الاعتماد على الأسباب، فإن من المعلوم أن الله ﷾ قدر للأشياء أسبابًا: فالمرض قدر الله للشفاء منه أسبابًا، والجهل قدر الله تعالى للتخلص منه أسبابًا، الأولاد قدر الله لهم أسبابًا، وهلم جرًّا. فبعض الناس يعتمد على السبب: فتجده إذا مرض يتعلق قلبه تعلقًا كليًا بالمستشفى وأطبائه، ويذهب وكأن الشفاء بأيديهم، وينسى أن الله ﷾ جعل هؤلاء أسبابًا قد تنفع وقد لا تنفع، فإن نفعت فبفضل الله وتقديره، وإن لم تنفع فبعدل الله وتقديره، فلا ينبغي بل لا يجوز أن ينسى الإنسان المتسبب ويتفكر للسبب، نعم نحن لا ننكر أن السبب له تأثير في المسبب، لكن هذا التأثير إنما كان بإذن الله ﷿، كما قال الله ﵎ في السحرة: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) قال (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) . فالمهم أن تحقيق التوحيد هو تعلق القلب بالله ﵎ خوفًا وطمعًا، وتخصيص العبادة له وحده. ***
1 / 2
أهل السنة والجماعة
Unknown page
من هي الطائفة المنصورة؟ وكيف تُعرف؟
فأجاب رحمه الله تعالى: الطائفة المنصورة هم أهل السنة والجماعة، وهم الفرقة الناجية، وهم الذين كانوا على مثل ما عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه عقيدةً وقولًا وفعلًا. ففي العقيدة: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، يؤمنون بأن الله تعالى رب كل شيء ومليكه، يؤمنون بأن الله تعالى هو الحق وأن ما يدعى من دونه هو الباطل، يؤمنون بكل ما سمى الله به نفسه أو ما سماه به رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يؤمنون بكل ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، يؤمنون كذلك بملائكة الله تعالى على ما جاء في الكتاب والسنة، وبكتبه وبرسله وباليوم الآخر والقدر خيره وشره، يتعبدون لله تعالى بما شرع، لا يبتدعون في دين الله تعالى ما لم يشرع، يعتقدون أن كل بدعة في دين الله تعالى ضلالة، مخلصون لله تعالى في عباداتهم؛ لأنهم أمروا بذلك: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) . لا يبتدعون في دين الله ما ليس منه، لا في العقيدة ولا في الأعمال القولية أو الفعلية، بل هم مخلصون لله، متبعون لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، هؤلاء هم الفرقة الناجية، وهم الطائفة المنصورة، وهم أهل السنة والجماعة.
***
2 / 1
ما أهمية الجماعة في الإسلام؟ وهل يشترط على المسلم أن ينتمي إلى جماعةٍ معينة؟
فأجاب رحمه الله تعالى: نعم الجماعة في الإسلام هي الاجتماع على شريعة الله ﷿ التي قال فيها الرسول ﵊: (لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) . هذه هي الجماعة التي يجب على الإنسان أن ينتمي إليها، أما الجماعة الحزبية التي لا تريد إلا انتصار رأيها، سواء كان بحق أم بباطل، فإنه لا يجوز الانتماء إليها؛ لأن ذلك متضمنٌ البراءة من الجماعة الإسلامية، والولاية للجماعة الحزبية التي فيها التفرق والاختلاف، وقد قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله) . وقال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) . وقال تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) . وقال تعالى لنبيه ﷺ (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) . وهذه الجماعات الإسلامية التي تنتمي إلى الإسلام وهدفها انتصار الإسلام يجب عليها أن لا تتفرق، يجب عليها أن تنحصر في طائفةٍ واحدة، طائفة الجماعة التي كان عليها رسول الله ﷺ وأصحابه، كما أخبر بذلك النبي ﷺ حين قال: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) . وهذه الجماعات فرقت الأمة وشتتهم، وألقت بينهم العداوة، حتى صار الواحد منهم ينظر إلى الثاني نظر العدو البعيد، مع أن الكل منهم مسلم ينتمي إلى الإسلام ويريد أن ينتصر الإسلام به، ولكن أنى وقد تفرقوا هذا التفرق، وتمزقوا هذا التمزق؟ فالذي ينبغي أن أوجه إخواني إليه من هذا المنبر منبر نور على الدرب من إذاعة المملكة العربية السعودية أن يجتمعوا على الحق؟ وأن يجتنبوا أوجه الاختلاف بينهم، فيزيلوها بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ. والحقيقة أن هذا التفرق أصبح فريسته هذا الوعي الذي نشاهده في الشباب الإسلامي، فإن هذا الشباب بتفرق هذه الجماعات صار كل طائفةٍ منهم تنتمي إلى جماعة، صار كل واحدٍ منهم ينتمي إلى جماعة من هذه الجماعات، وتفرقوا وصار بعضهم يسب بعضًا ويطعن في بعض، وهذه ضربةٌ قاسية قاصمةٌ للظهر إلى هذه الصحوة التي بدأت ولله الحمد تظهر آثارها في شباب المسلمين. المهم أنني أنا أنصح بعدم التفرق ولو في ضمن هذه الجماعات، وأرى أن تكون الأمة الإسلامية أمةً واحدة،لا تختلف ولا تتسمى كل واحدةٍ منهم باسم ترى أنها ندٌ للجماعات الأخرى.
***
وجدت في تفسير ابن كثير حديثًا يقول فيه الرسول ﷺ ما معناه: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة) . فهل هذا الحديث صحيح؟ وما هي الفرق الضالة من هذه الفرقة الناجية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الحديث صحيح، بكثرة طرقه، وتلقي الأمة له بالقبول، فإن العلماء قبلوه وأثبتوه حتى في بعض كتب العقائد، وقد بين النبي ﵊ أن الفرقة الناجية هي الجماعة الذين اجتمعوا على ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه من عقيدة وقول وعمل، فمن التزم ما كان عليه رسول الله ﷺ من العقائد الصحيحة السليمة والأقوال والأفعال المشروعة فإن ذلك هو الفرقة الناجية، ولا يختص ذلك بزمان ولا بمكان، بل كل من التزم هدي الرسول ﵊ ظاهرًا وباطنًا فهو من هذه الجماعة الناجية، وهي ناجية في الدنيا من البدع والمخالفات، وناجية في الآخرة من النار. ***
ماالمقصود بالسلف؟ فأجاب رحمه الله تعالى: السلف معناه المتقدمون، فكل متقدم على غيره فهو سلف له، ولكن إذا أطلق لفظ السلف فالمراد به القرون الثلاثة المفضلة: الصحابة، والتابعون، وتابعوهم، هؤلاء هم السلف الصالح، ومن كان بعدهم وسار على منهاجهم فإنه مثلهم على طريقة السلف، وإن كان متأخرًا عنهم في الزمن؛ لأن السلفية تطلق على المنهاج الذي سلكه السلف الصالح ﵃، كما قال النبي ﵊: (إن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة،كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة) . وفي لفظ: (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) . وبناء على ذلك تكون السلفية هنا مقيدة بالمعنى، فكل من كان على منهاج الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان فهو سلفي وإن كان في عصرنا، هذا وهو القرن الرابع عشر بعد الهجرة. ***
ما المراد بالتوسط في الدين أو الوسطية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: التوسط في الدين أو الوسطية أن يكون الإنسان بين الغالي والجافي، وهذا يدخل في الأمور العلمية العقدية، وفي الأمور العملية التعبدية. فمثلًا في الأمور العقدية انقسم الناس فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته إلى ثلاثة أقسام: طرفان ووسط طرفٌ، غلا في التنزيه فنفى عن الله ما سمى ووصف به نفسه، وقسمٌ غلا في الإثبات فأثبت لله ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، لكن باعتقاد المماثلة، وقسمٌ وسط أثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، لكن بدون اعتقاد المماثلة، بل باعتقاد المخالفة، وأن الله تعالى لا يماثله شيئٌ من مخلوقاته. مثال الأول الذين غلوا في التنزيه الذين يقولون: إن الله تعالى لا يوصف إلا بصفاتٍ معينة حددوها، وادعوا أن العقل دل عليها، وأن ما سواها لا يثبت؛ لأن العقل بزعمهم لم يدل عليها، فمثلًا أثبتوا صفة الإرادة لله وقالوا: إن الله تعالى مريد، لكنهم نفوا صفة الرحمة عنه وقالوا: معنى الرحمة الإحسان أو إرادة الإحسان، وليست وصفًا في الله ﷿، فتجد هؤلاء أخطؤوا حيث نفوا ما وصف الله به نفسه، بل نفوا ما كانت دلالة العقل فيه أظهر من دلالة العقل على ما أثبتوه، فإن إثباتهم للإرادة بالطريق العقلي أنهم قالوا: إن تخصيص المخلوقات بما تختص به مثل: هذه سماء وهذا أرض وهذه بعير وهذه فرس وهذا ذكر وهذه أنثى، هذا التخصيص يدل على إرادة الخالق أنه أراد أن يكون الشيء على هذا فكان. فنقول لهم: إن دلالة نعم الله ﷿ ودفع نقمه تدل على الرحمة أكثر مما يدل التخصيص على الإرادة، ولكن مع ذلك نفوا الرحمة وأثبتوا الإرادة، بناءً على شبهةٍ عرضت لهم. القسم الثاني الذين غلوا في الإثبات وهم أهل التمثيل، قالوا: نثبت لله ﷿ الصفات، لكن على وجهٍ مماثل للمخلوق، وهؤلاء ضلوا وغفلوا عن قول الله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) . والقسم الثالث الوسط قالوا: نثبت لله كل ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو فيما صح عن رسوله ﷺ من الأسماء والصفات، مع اعتقاد عدم المماثلة، وأن ما يثبت للخالق من ذلك مخالفٌ لما يثبت للمخلوق، فإن ما يثبت للخالق أكمل وأعلى، كما قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) . هذا في العقيدة، كذلك أيضًا في الأعمال البدنية: من الناس من يغلو فيزيد ويشدد على نفسه، ومن الناس من يتهاون ويفرط فيضيع شيئًا كثيرا، ً وخير الأمور الوسط. والوسط الضابط فيه: ما جاءت به الشريعة فهو وسط، وما خالف الشريعة فليس بوسط، بل هو مائل إما للإفراط وإما إلى التفريط. وقد ذكر شيخ الإسلام ﵀ في العقيدة الواسطية خمسة أصول، بين فيها ﵀ أن أهل السنة فيها وسطٌ بين طوائف المبتدعة، فيا حبذا لو أن السائل رجع إليها؛ لما فيها من الفائدة. ***
عبد الله بن عبد الرزاق يقول: ما حكم من قال بأن الخوض في مسائل العقيدة والتوحيد والمناقشات العلمية يسبب الفرقة وضياع الجهد والفكر والدعوة؟ وجهونا في ضوء هذا السؤال؟ فأجاب رحمه الله تعالى: التعمق في السؤال فيما يتعلق بالعقيدة ليس هو من طريق السلف، بل كانوا يحذرون منه غاية التحذير؛ لأن أمور العقيدة أمورٌ غيبية يجب أن يتلقاها الإنسان بالتسليم، دون الخوض في كيفياتها وحقيقتها، ولهذا لما سأل رجلٌ الإمام مالكًا ﵀ عن قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى): كيف استوى؟ فأطرق مالكٌ ﵀ برأسه حتى علاه الرحض- أي: حتى علاه العرق- ثم رفع رأسه فقال: (يا هذا! الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعًا)، ثم أمر به فأخرج من المسجد مسجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وأما البحث عن معاني أسماء الله تعالى وصفاته وإثباتها على الوجه اللائق به جل وعلا من غير تكييفٍ ولا تمثيل فهذا حق، وهذا منهج السلف الصالح ﵃، هذه هي القاعدة والجادة فيما يتعلق بالعقيدة، ولكن إذا ابتليت بشخص أرغمك على أن تبحث معه وله اصطلاحات خاصة، فعليك أن تبين الحق، وأن لا تسكت أو تسكته إلا إذا علمنا أنه معاند، فلنا أن نسكته حتى يعرف قدر نفسه. ***
أم عبد الله تقول: ما حكم التنطع في الإسلام؟ وضحوا لنا ذلك من الكتاب والسنة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: التنطع في الإسلام معناه التشدد في الإسلام والتعمق والتقعر، وحكمه أنه هلاك للمرء؛لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) . ودين الله ﷾ الحق بين الغالي فيه والجافي عنه، فالتعمق والتنطع وإلزام النفس بما لا يلزمها هذا كله هلاك، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ***
ما السبب في وجود عقيدة صحيحة وعقيدة خاطئة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا سؤالٌ عجيب! يعني إذًا قل: ما السبب في وجود مؤمنين وكافرين؟ ما السبب في وجود فاسقين ومعتدلين؟ ونقول: السبب في ذلك أن هذه حكمة الله ﷿، كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) . وقال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) . أي: على دينٍ واحد وعقيدة واحدة،ولكن: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) . ولولا هذا الاختلاف لكان خلق الجنة والنار عبثًا؛ لأن النار تحتاج إلى أهل والجنة تحتاج إلى أهل، فلا بد من الاختلاف. لكن ينبغي أن يقول: ما هو الضابط في العقيدة الصحيحة وفي العقيدة الفاسدة؟ وجوابنا على هذا أن نقول: ما كان موافقًا لما كان عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه فهو عقيدةٌ صحيحة، وما كان مخالفًا لهم فهو عقيدةٌ فاسدة، وكذلك يقال في الأعمال البدنية: ما كان موافقًا لما كان عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه فهو عملٌ صالح، وما لم يكن كذلك فهو عملٌ فاسد، وهذا هو الذي ينبغي أن نسأل عنه، وينبغي أن نبحث: هل نحن في عقيدتنا، هل نحن في أعمالنا موافقون لما كان عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه أم مخالفون؟!! ***
في بعض البلاد الإسلامية يدرس تاريخ الإسلام بطريقة غير صحيحة، مما يؤدي إلى بغض بعض الصحابة رضوان الله عليهم، نرجو التوضيح خاصة عن موقف بعض المعارك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: ما قاله السائل صحيح، فإن التاريخ في الحقيقة يزوّر ويشوّه حسب ما تكون الدولة، فهو خاضع مع الأسف للدولة بحيث توجهه حيث ما تريد، وخاضع كذلك لبعض الأفكار التي تجترئ على الكذب وتستسيغه في جانب ما تدعو إليه وتهدف إليه، ولذلك نرى في كثير من كتب التاريخ أشياء مشوهة إن كان صدقًا، وكثيرًا وكثيرًا مزورة مكذوبة، لاسيما فيما جرى بين الصحابة ﵃ مما هم فيه معذورون؛ لأنهم مجتهدون، ومن أصاب منهم له أجران، ومن أخطأ فله أجر، وخطؤه مغفور. فيجب على المرء أن يحذر من مثل هذه الكتب المزورة أو المشوهة بزيادة أو نقص، لاسيما إذا كان يشعر بأن هذا الكتاب مثلًا يسيء إلى الصحابة ﵃ في تشويه حياتهم ومجتمعاتهم؛ لأن القدح في الصحابة ﵃ ليس قدحًا في الصحابة أنفسهم فقط، بل هو قدح فيهم وقدح في رسول الله ﷺ، وقدح في الشريعة، وقدح في الله ﷾؛ لأنه إذا صار القدح في الصحابة ﵃ كان ذلك قدحًا في الشريعة؛ لأنهم هم وسيلة النقل، هم الذين نقلوها إلينا، فإذا كانوا محل قدح وعيب فكيف نثق بالشريعة التي بين أيدينا وهي جاءت عن طريقهم؟ وإذا كان قدحًا في الصحابة صار قدحًا في النبي ﷺ؛ لأنهم أصحابه وأحبابه وناصروه على أعدائه، والقدح في الصاحب قدح في المصحوب، وإذا كان القدح في الصحابة صار قدحًا في الله ﷿، فكيف يقال: إن الله تعالى اختار لنبيه -وهو أفضل خلقه- مثل هؤلاء الأصحاب الذين هم محل القدح والسب والعيب؟ إذًا فالقدح في الصحابة قدح في الله وفي رسوله وفي شريعته، والأمر أمر عظيم، وكتب التاريخ قد يكون بعضها متناولًا لهذا الأمر مما يكون دالًا على القدح في الصحابة إما تصريحًا وإما تلميحًا،فليحذر المؤمن من مثل هذه التواريخ التي تضله.والله المستعان. ***
وجدت في تفسير ابن كثير حديثًا يقول فيه الرسول ﷺ ما معناه: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة) . فهل هذا الحديث صحيح؟ وما هي الفرق الضالة من هذه الفرقة الناجية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الحديث صحيح، بكثرة طرقه، وتلقي الأمة له بالقبول، فإن العلماء قبلوه وأثبتوه حتى في بعض كتب العقائد، وقد بين النبي ﵊ أن الفرقة الناجية هي الجماعة الذين اجتمعوا على ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه من عقيدة وقول وعمل، فمن التزم ما كان عليه رسول الله ﷺ من العقائد الصحيحة السليمة والأقوال والأفعال المشروعة فإن ذلك هو الفرقة الناجية، ولا يختص ذلك بزمان ولا بمكان، بل كل من التزم هدي الرسول ﵊ ظاهرًا وباطنًا فهو من هذه الجماعة الناجية، وهي ناجية في الدنيا من البدع والمخالفات، وناجية في الآخرة من النار. ***
ماالمقصود بالسلف؟ فأجاب رحمه الله تعالى: السلف معناه المتقدمون، فكل متقدم على غيره فهو سلف له، ولكن إذا أطلق لفظ السلف فالمراد به القرون الثلاثة المفضلة: الصحابة، والتابعون، وتابعوهم، هؤلاء هم السلف الصالح، ومن كان بعدهم وسار على منهاجهم فإنه مثلهم على طريقة السلف، وإن كان متأخرًا عنهم في الزمن؛ لأن السلفية تطلق على المنهاج الذي سلكه السلف الصالح ﵃، كما قال النبي ﵊: (إن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة،كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة) . وفي لفظ: (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) . وبناء على ذلك تكون السلفية هنا مقيدة بالمعنى، فكل من كان على منهاج الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان فهو سلفي وإن كان في عصرنا، هذا وهو القرن الرابع عشر بعد الهجرة. ***
ما المراد بالتوسط في الدين أو الوسطية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: التوسط في الدين أو الوسطية أن يكون الإنسان بين الغالي والجافي، وهذا يدخل في الأمور العلمية العقدية، وفي الأمور العملية التعبدية. فمثلًا في الأمور العقدية انقسم الناس فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته إلى ثلاثة أقسام: طرفان ووسط طرفٌ، غلا في التنزيه فنفى عن الله ما سمى ووصف به نفسه، وقسمٌ غلا في الإثبات فأثبت لله ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، لكن باعتقاد المماثلة، وقسمٌ وسط أثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، لكن بدون اعتقاد المماثلة، بل باعتقاد المخالفة، وأن الله تعالى لا يماثله شيئٌ من مخلوقاته. مثال الأول الذين غلوا في التنزيه الذين يقولون: إن الله تعالى لا يوصف إلا بصفاتٍ معينة حددوها، وادعوا أن العقل دل عليها، وأن ما سواها لا يثبت؛ لأن العقل بزعمهم لم يدل عليها، فمثلًا أثبتوا صفة الإرادة لله وقالوا: إن الله تعالى مريد، لكنهم نفوا صفة الرحمة عنه وقالوا: معنى الرحمة الإحسان أو إرادة الإحسان، وليست وصفًا في الله ﷿، فتجد هؤلاء أخطؤوا حيث نفوا ما وصف الله به نفسه، بل نفوا ما كانت دلالة العقل فيه أظهر من دلالة العقل على ما أثبتوه، فإن إثباتهم للإرادة بالطريق العقلي أنهم قالوا: إن تخصيص المخلوقات بما تختص به مثل: هذه سماء وهذا أرض وهذه بعير وهذه فرس وهذا ذكر وهذه أنثى، هذا التخصيص يدل على إرادة الخالق أنه أراد أن يكون الشيء على هذا فكان. فنقول لهم: إن دلالة نعم الله ﷿ ودفع نقمه تدل على الرحمة أكثر مما يدل التخصيص على الإرادة، ولكن مع ذلك نفوا الرحمة وأثبتوا الإرادة، بناءً على شبهةٍ عرضت لهم. القسم الثاني الذين غلوا في الإثبات وهم أهل التمثيل، قالوا: نثبت لله ﷿ الصفات، لكن على وجهٍ مماثل للمخلوق، وهؤلاء ضلوا وغفلوا عن قول الله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) . والقسم الثالث الوسط قالوا: نثبت لله كل ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو فيما صح عن رسوله ﷺ من الأسماء والصفات، مع اعتقاد عدم المماثلة، وأن ما يثبت للخالق من ذلك مخالفٌ لما يثبت للمخلوق، فإن ما يثبت للخالق أكمل وأعلى، كما قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) . هذا في العقيدة، كذلك أيضًا في الأعمال البدنية: من الناس من يغلو فيزيد ويشدد على نفسه، ومن الناس من يتهاون ويفرط فيضيع شيئًا كثيرا، ً وخير الأمور الوسط. والوسط الضابط فيه: ما جاءت به الشريعة فهو وسط، وما خالف الشريعة فليس بوسط، بل هو مائل إما للإفراط وإما إلى التفريط. وقد ذكر شيخ الإسلام ﵀ في العقيدة الواسطية خمسة أصول، بين فيها ﵀ أن أهل السنة فيها وسطٌ بين طوائف المبتدعة، فيا حبذا لو أن السائل رجع إليها؛ لما فيها من الفائدة. ***
عبد الله بن عبد الرزاق يقول: ما حكم من قال بأن الخوض في مسائل العقيدة والتوحيد والمناقشات العلمية يسبب الفرقة وضياع الجهد والفكر والدعوة؟ وجهونا في ضوء هذا السؤال؟ فأجاب رحمه الله تعالى: التعمق في السؤال فيما يتعلق بالعقيدة ليس هو من طريق السلف، بل كانوا يحذرون منه غاية التحذير؛ لأن أمور العقيدة أمورٌ غيبية يجب أن يتلقاها الإنسان بالتسليم، دون الخوض في كيفياتها وحقيقتها، ولهذا لما سأل رجلٌ الإمام مالكًا ﵀ عن قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى): كيف استوى؟ فأطرق مالكٌ ﵀ برأسه حتى علاه الرحض- أي: حتى علاه العرق- ثم رفع رأسه فقال: (يا هذا! الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعًا)، ثم أمر به فأخرج من المسجد مسجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وأما البحث عن معاني أسماء الله تعالى وصفاته وإثباتها على الوجه اللائق به جل وعلا من غير تكييفٍ ولا تمثيل فهذا حق، وهذا منهج السلف الصالح ﵃، هذه هي القاعدة والجادة فيما يتعلق بالعقيدة، ولكن إذا ابتليت بشخص أرغمك على أن تبحث معه وله اصطلاحات خاصة، فعليك أن تبين الحق، وأن لا تسكت أو تسكته إلا إذا علمنا أنه معاند، فلنا أن نسكته حتى يعرف قدر نفسه. ***
أم عبد الله تقول: ما حكم التنطع في الإسلام؟ وضحوا لنا ذلك من الكتاب والسنة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: التنطع في الإسلام معناه التشدد في الإسلام والتعمق والتقعر، وحكمه أنه هلاك للمرء؛لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) . ودين الله ﷾ الحق بين الغالي فيه والجافي عنه، فالتعمق والتنطع وإلزام النفس بما لا يلزمها هذا كله هلاك، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ***
ما السبب في وجود عقيدة صحيحة وعقيدة خاطئة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا سؤالٌ عجيب! يعني إذًا قل: ما السبب في وجود مؤمنين وكافرين؟ ما السبب في وجود فاسقين ومعتدلين؟ ونقول: السبب في ذلك أن هذه حكمة الله ﷿، كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) . وقال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) . أي: على دينٍ واحد وعقيدة واحدة،ولكن: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) . ولولا هذا الاختلاف لكان خلق الجنة والنار عبثًا؛ لأن النار تحتاج إلى أهل والجنة تحتاج إلى أهل، فلا بد من الاختلاف. لكن ينبغي أن يقول: ما هو الضابط في العقيدة الصحيحة وفي العقيدة الفاسدة؟ وجوابنا على هذا أن نقول: ما كان موافقًا لما كان عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه فهو عقيدةٌ صحيحة، وما كان مخالفًا لهم فهو عقيدةٌ فاسدة، وكذلك يقال في الأعمال البدنية: ما كان موافقًا لما كان عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه فهو عملٌ صالح، وما لم يكن كذلك فهو عملٌ فاسد، وهذا هو الذي ينبغي أن نسأل عنه، وينبغي أن نبحث: هل نحن في عقيدتنا، هل نحن في أعمالنا موافقون لما كان عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه أم مخالفون؟!! ***
في بعض البلاد الإسلامية يدرس تاريخ الإسلام بطريقة غير صحيحة، مما يؤدي إلى بغض بعض الصحابة رضوان الله عليهم، نرجو التوضيح خاصة عن موقف بعض المعارك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: ما قاله السائل صحيح، فإن التاريخ في الحقيقة يزوّر ويشوّه حسب ما تكون الدولة، فهو خاضع مع الأسف للدولة بحيث توجهه حيث ما تريد، وخاضع كذلك لبعض الأفكار التي تجترئ على الكذب وتستسيغه في جانب ما تدعو إليه وتهدف إليه، ولذلك نرى في كثير من كتب التاريخ أشياء مشوهة إن كان صدقًا، وكثيرًا وكثيرًا مزورة مكذوبة، لاسيما فيما جرى بين الصحابة ﵃ مما هم فيه معذورون؛ لأنهم مجتهدون، ومن أصاب منهم له أجران، ومن أخطأ فله أجر، وخطؤه مغفور. فيجب على المرء أن يحذر من مثل هذه الكتب المزورة أو المشوهة بزيادة أو نقص، لاسيما إذا كان يشعر بأن هذا الكتاب مثلًا يسيء إلى الصحابة ﵃ في تشويه حياتهم ومجتمعاتهم؛ لأن القدح في الصحابة ﵃ ليس قدحًا في الصحابة أنفسهم فقط، بل هو قدح فيهم وقدح في رسول الله ﷺ، وقدح في الشريعة، وقدح في الله ﷾؛ لأنه إذا صار القدح في الصحابة ﵃ كان ذلك قدحًا في الشريعة؛ لأنهم هم وسيلة النقل، هم الذين نقلوها إلينا، فإذا كانوا محل قدح وعيب فكيف نثق بالشريعة التي بين أيدينا وهي جاءت عن طريقهم؟ وإذا كان قدحًا في الصحابة صار قدحًا في النبي ﷺ؛ لأنهم أصحابه وأحبابه وناصروه على أعدائه، والقدح في الصاحب قدح في المصحوب، وإذا كان القدح في الصحابة صار قدحًا في الله ﷿، فكيف يقال: إن الله تعالى اختار لنبيه -وهو أفضل خلقه- مثل هؤلاء الأصحاب الذين هم محل القدح والسب والعيب؟ إذًا فالقدح في الصحابة قدح في الله وفي رسوله وفي شريعته، والأمر أمر عظيم، وكتب التاريخ قد يكون بعضها متناولًا لهذا الأمر مما يكون دالًا على القدح في الصحابة إما تصريحًا وإما تلميحًا،فليحذر المؤمن من مثل هذه التواريخ التي تضله.والله المستعان. ***
2 / 2
الإيمان والإسلام
Unknown page
ما هي أركان الإيمان؟ وما حكم الإيمان بها؟
فأجاب رحمه الله تعالى: أركان الإيمان هي ما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جبريل حين سأله عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) . ومن لم يؤمن بها جميعًا فهو كافر، يعني: لو آمن ببعض وكفر ببعض فهو كافر؛ لأن الذي يؤمن ببعض الشريعة ويكفر ببعضها فهو كافر بالجميع، والذي يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعضهم كافر بالجميع، كما قال الله تعالى موبخًا بني إسرائيل: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) . وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا) . فبين الله تعالى أن هؤلاء الذين يؤمنون ببعض الرسل دون بعض هم الكافرون حقًا فأركان الإيمان إذًا ستة: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره فأما الإيمان بالله فأن يؤمن الإنسان بأن الله تعالى حي عليم قادر، منفرد بالربوبية وبالألوهية وبأسمائه وصفاته، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ويؤمن بأنه على كل شيء قدير، وأن أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون. والإيمان بالملائكة: أن تؤمن بهذا العالم من الخلق، وهم- أعني: الملائكة- عالم غيبي لا نشاهده إلا إذا أراد الله أن نشاهده لحكمة فهذا يقع، هذا العالم من المخلوقات خلقوا من نور- أعني: الملائكة- وهم مطيعون لله تعالى دائمًا، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، نعلم منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل: أما جبريل فهو موكل بالوحي يأتي به من الله ﷿ إلى من أوحاه الله إليه، وأما اسرافيل فإنه موكل بالنفخ في الصور، وأما ميكائيل فإنه موكل بالقطر والنبات، ومنهم- أي: من الملائكة- من وكلوا بحفظ بني آدم كما قال تعالى عنهم: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) . ومنهم من هو موكل بإحصاء أعمال ابن آدم يكتبها عليه، كما قال الله ﵎ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) . فهم عن أيماننا وعن شمائلنا لكن لا نراهم، وقد يُرى الملك بصورة إنسان مثلًا، كما جاء جبريل ﵇ إلى النبي ﷺ في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد من الصحابة، جلس إلى النبي ﷺ جلسة المتأدب، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، ثم سأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأشراطها. والملائكة عليهم الصلاة والسلام لا يأكلون ولا يشربون، وهم عدد لا يحصيهم إلا الله ﷿ كما جاء في الحديث: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد) . (وأخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن البيت المعمور أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه)، وهذا يدل على كثرتهم العظيمة. الإيمان بكتب الله هذا الركن الثالث من أركان الإيمان، كتب الله المنزلة نعرف منها التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى، وخاتمها القرآن الكريم المنزل على محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ورسله جمع رسول، وهم الذين أرسلهم الله ﵎ إلى البشر، وهم من بني آدم، يلحقهم من العوارض الجسدية ما يلحق بني آدم، وكم من بني آدم فضلوا بما أعطاهم الله من النبوة والأخلاق والشمائل، نعرف منهم عددًا كبيرًا، ومنهم من لم نعلم، لم يقصه الله علينا، لكن يكفينا الإجمال: أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ومن علمناه بعينه آمنا به بعينه. اليوم الآخر هو يوم القيامة، وسمي آخرًا لأنه لا يوم بعده. قال شيخ الإسلام ﵀: ويدخل في الإيمان باليوم الآخر كل ما صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما يكون بعد الموت: كفتنة القبر وعذابه أو نعيمه؛ لأن كل من مات فقد قامت قيامته، انتهى، انتقل إلى اليوم الآخر، ويدخل في ذلك الإيمان بما يكون في ذلك اليوم من حشر العالم كلهم في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وما ذكر في ذلك اليوم من الميزان، وحوض النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والصراط المنصوب على جهنم، والجنة والنار، وغير ذلك مما جاء به القرآن وصحت به السنة. والقدر خيره وشره، القدر يعني: تقدير الله ﷿، والله ﵎ قدر كل شيء، قال الله تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) . ومراتب القدر أربع: الأولى: أن تؤمن بعلم الله تعالى المحيط بكل شيء جملة وتفصيلًا، فإن الله تعالى عالم بكل شيء كان أم لم يكن، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، قال الله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) . المرتبة الثانية: الكتابة، فإن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى قيام الساعة، ودليل ذلك: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) . وقال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) . فما كتب في اللوح المحفوظ فلابد أن يقع، كما جاء في الحديث: (جفت الأقلام وطويت الصحف) . المرتبة الثالثة: أن تؤمن بعموم مشيئة الله ﷿، وأنه ما في الكون من موجود ولا معدوم إلا بمشيئة الله، فهو الذي يحيي ويميت، ويعز ويذل، ويؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، حتى أفعالنا نحن كائنة بمشيئة الله. المسألة الرابعة: الإيمان بخلق الله، أي بأن الله تعالى خالق كل شيء، وأن له مقاليد السماوات والأرض، حتى أعمال العباد مخلوقة لله ﷿، قال الله تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (الفرقان: من الآية٢) . وقال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات: ٩٦) . هذه المراتب الأربع لابد من الإيمان بها، فمن نقص منها مرتبة واحدة لم يتم إيمانه بالقدر. وقوله: (خيره وشره) . إذا قال قائل: إذا كان القدر من الله كيف يكون فيه شر؟ فالجواب: أن الشر ليس في تقدير الله، ولكن فيما قدره الله، أي: في المقدورات، أما قدر الله لها بالشر فإنه لحكمة بالغة، وبهذا الاعتبار يكون خيرًا.
***
3 / 1
ما هي العقيدة الإسلامية الصحيحة التي بها يتقبل الله صلوات المصلىن؟
فأجاب رحمه الله تعالى: العقيدة الصحيحة للمسلمين التي يتقبل الله بها صلاة المصلىن هي ما أجاب به النبي ﷺ جبريل حين سأله عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) . هذه هي العقيدة الصحيحة التي يتقبل الله بها من المسلمين، وتتضمن هذه العقيدة تمام القبول والانقياد، وذلك بأن يشهد الإنسان أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وحينئذٍ يكون مسلمًا تصح منه الصلاة وسائر العبادات.
***
ما هي العروة الوثقى؟ فأجاب رحمه الله تعالى: العروة الوثقى هي الإسلام، وسميت عروة وثقى لأنها توصل إلى الجنة. ***
إذا أخل المسلم بركن واحد من أركان الإيمان الستة فما الحكم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إذا أخل بركن من أركان الإيمان الستة جحدًا وتكذيبًا فهو كافر، وأما إذا كان عن تأويل- كالذين أنكروا مسائل في باب القدر- فهذا لا يكفر؛ لأنه متأول لكن أحيانًا يكون التأويل بعيدًا، وأحيانًا يكون التأويل قريبًا. ***
ما الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان؟ وإذا أقام الشخص الإسلام وترك الباقيات هل نكفره أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الفرق بين هذه الثلاثة بيّنه النبي ﵊ حين سأله جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان فقال له: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت) . وسأله عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره) . فسأله عن الإحسان فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، هذا هو الفرق. ومن ترك واحدًا من ذلك ففيه تفصيل: من ترك الشهادتين فلم يشهد أن لا إله إلا لله ولا أن محمدًا رسول الله فهو كافر مرتد بإجماع المسلمين، ومن أتى بالشهادتين لكن ترك الصلاة فهو كافر على القول الراجح، والأدلة على ذلك كثيرة تمر بنا كثيرًا في هذا البرنامج، ومن ترك الزكاة أو الصيام أو الحج فإنه لا يكفر على القول الراجح؛ لقول عبد الله بن شقيق: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) . وأما الإيمان فأركانه ستة، إذا أنكر واحدًا منها كفر: لو لم يؤمن بالله فهو كافر، أو بملائكته فهو كافر، أو بكتبه فهو كافر، أو برسله فهو كافر، أو باليوم الآخر فهو كافر، أو بالقدر فهو كافر. وأما الإحسان فهو كمال: إن أتى به الإنسان فلا شك أنه أكمل، يعني: صلى كأنه يرى ربه فإن لم يكن يراه فإن الله تعالى يراه، فالإحسان كمال وفضل، والإيمان ترك واحد من أركانه كفر، والإسلام فيه التفصيل. ***
تقول المستمعة: كيف يعلم الشخص أنه وصل إلى درجة الإيمان؟ لأن عندي إحدى الأخوات تقول بأنها مؤمنة وإيماني قوي، كيف يعلم الإنسان بأن إيمانه قوي؟ وما هي الشروط التي تجعل المؤمن قوي الإيمان؟ وهل يعلم الإنسان إذا كان إيمانه قويًّا أو ضعيفًا؟ أرجو توضيح ذلك مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإيمان أعلى مرتبة من الإسلام، والإنسان يعلم أنه مؤمن بما يكون في قلبه من الإقرار الجازم بما يجب الإيمان به، وهو: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وبما يكون لهذا الإيمان من النتائج، وهي الإنابة إلى الله ﷿ بفعل الطاعات، والتوبة إليه من المعاصي، ومحبة الخير للمؤمنين، ومحبة النصر للإسلام، وغير ذلك من موجبات الإيمان التي تدل دلالة واضحة على أن الإنسان مؤمن. ويمكن هذا، أعني: أن العلم بأن الإنسان مؤمن، بأن يطبق أحواله وأعماله على ما جاءت به السنة مثل: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) . فلينظر: هل هو يحب لأخيه ما يحب لنفسه، أو يحب أن يستأثر على أخيه ولا يهتم بشأنه، أم ماذا؟ وليطبق ذلك أيضًا على نفسه في المعاملة:هل هو ناصح في معاملته لإخوانه، أو غاشٌّ لهم؟ لأن النبي ﵌ قال: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم) . وثبت عنه ﷺ أنه قال: (من غش فليس منا) . فلننظر إلى هذا، ولننظر أيضًا: هل هو حَسَنُ الجوار بجيرانه، أو على خلاف ذلك؟ لأن حسن الجوار من علامات الإيمان؟ قال النبي ﷺ: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه) . وقال ﷺ: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)، إلى غير ذلك من الأحاديث التي يعرف بها الإنسان ما عنده من الإيمان قوة وضعفًا. فالإنسان العاقل البصير يزن إيمانه بما يقوم به من طاعة الله واجتناب معصيته، ومحبة الخير لنفسه وللمسلمين. وأما قول القائل: أنا مؤمن وإيماني قوي، فهذا إن قاله على سبيل التزكية لنفسه فقد أساء؛ لقول الله تعالى: (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) . وإن قالها على سبيل التحدث بنعمة الله، وتشجيع غيره على تقوية إيمانه، فلا حرج عليه في ذلك، ولا بأس به. والإنسان يعرف قوة الإيمان- كما ذكرنا آنفًا- بآثاره التي تترتب عليه، ومتى قوي إيمانه صار الإنسان كما أنه يشاهد علم الغيب الذي أخبر الله عنه، بحيث لا يكون عنده أدنى شك فيما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب. ***
ما الفرق بين المسلم والمؤمن؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإسلام والإيمان يذكران جميعًا ويذكر أحدهما منفردًا عن الآخر. فإذا ذكرا جميعًا اختلف معناهما، وكان الإيمان للأعمال الباطنة والإسلام للأعمال الظاهرة، ودليل ذلك حديث عمر بن الخطاب ﵁ حين جاء جبريل إلى رسول الله ﷺ فسأله عن الإسلام، فقال النبي ﵌: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت الحرام) . ثم سأله عن الإيمان فقال النبي ﵌: (الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره) . ففرق بين الإيمان والإسلام، فجعل الإسلام هي الأعمال الظاهرة التي هي قول اللسان وعمل الجوارح، وجعل الإيمان الأعمال الباطنة التي هي إقرار القلب واعترافه وإيمانه، ولهذا قال الله ﷿ عن الأعراب: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) . فجعل الله تعالى الإيمان في القلب، وبين في هذه الآية الكريمة أن الإيمان أعلى رتبة من الإسلام؛ لأن الإسلام يكون من المنافق ومن المؤمن حقًا، وفي هذه الحال نقول: إن الإيمان أعلى مرتبة من الإسلام. أما إذا أفرد أحدهما عن الآخر فإنهما يكونان بمعنى واحد، كقول الإنسان: أنا مؤمن، كقوله: أنا مسلم ولا فرق، ولكن إذا قال: أنا مؤمن، فإنه يجب عليه أن يكون الباعث له على هذه المقالة التحدث بنعم الله ﷿، أو الإخبار المحض المجرد، لا أن يكون الحامل له على ذلك تزكية نفسه وإعجابه بها وافتخاره على غيره، فإن ذلك من الأمور المحرمة. ***
ما الفرق بين المسلم والمؤمن وفقكم الله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإسلام والإيمان يتفقان في المعنى إذا افترقا في اللفظ، بمعنى: أنه إذا ذكر أحدهما في مكان دون الآخر فهو يشمل الآخر، وإذا ذكرا جميعًا في سياق واحد صار لكل واحد منهما معنى: فالإسلام إذا ذكر وحده شمل كل الإسلام، من شرائعه ومعتقداته وآدابه وأخلاقه، كما قال الله ﷿: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) . وكذلك المسلم إذا ذكر هكذا مطلقًا فإنه يشمل كل من قام بشرائع الإسلام من معتقدات وأعمال وآداب وغيرها، وكذلك الإيمان: فالمؤمن مقابل الكافر، فإذا قيل: إيمان ومؤمن بدون قول الإسلام معه فهو شامل للدين كله، أما إذا قيل: إسلام وإيمان في سياق واحد فإن الإيمان يفسر بأعمال القلوب وعقيدتها، والإسلام يفسر بأعمال الجوارح. ولهذا قال النبي ﷺ في جوابه لجبريل: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله) إلى آخر أركان الإسلام. وقال في الإيمان: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه) إلى آخر أركان الإيمان المعروفة. ويدل على هذا الفرق قوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) . وهذا يدل على الفرق بين الإسلام والإيمان: فالإيمان يكون في القلب، ويلزم من وجوده في القلب صلاح الجوارح؛ لقول النبي ﷺ: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) . بخلاف الإسلام فإنه يكون في الجوارح، وقد يصدر من المؤمن حقًا، وقد يكون من ناقص الإيمان. هذا هو الفرق بينهما، وقد تبين أنه لا يفرق بينهما إلا إذا اجتمعا في سياق واحد، وأما إذا انفرد أحدهما في سياق فإنه يشمل الآخر. ***
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) . يقول: أيهما أولى: الإسلام أم الإيمان؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإيمان أكمل، ولهذا قال الله تعالى في هذه الآية: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) . يعني: لم يدخل بعدُ الإيمان في قلوبكم، ولكنه قريب من الدخول. ولكن إذا ذكر الإسلام وحده دخل فيه الإيمان، كما في قوله تعالى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) . وإذا ذكر الإيمان وحده فقيل: مؤمن وكافر، فإن الإيمان يشمل الإسلام، أما إذا ذكرا جميعًا- كما في آية الحجرات- فإن الإيمان في القلب، والإسلام في الجوارح، والإيمان أكمل. ***
بعض الناس يقدمون المعونات المادية لبعض المساكين، ويكتفون بذلك ولا يؤدون فرائض الله تعالى كالصلاة والصوم وغيرهما، ويدّعون أنهم يعملون الصالحات، وأنهم خيرٌ عند الله من الذين يؤدون فرائض الله ثم يذنبون،وأنهم سيدخلون الجنة بما قدموا من حسناتٍ ماديةٍ قبل الذين يؤدون الفرائض، وربما حرمت على الذين يؤدون الفرائض ويذنبون وهم لا يحرمون منها؛ لأنهم أيضًا بيض القلوب غير مذنبين،فما الحكم في مثل هؤلاء أينما كانوا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الحكم في هؤلاء أنه إذا كان الواحد منهم يدعي بأنه غير مذنب فإننا نقول: أي ذنبٍ أعظم من ترك الصلاة وشعائر الإسلام؟ وما أنفقوه على الناس من سد الحاجات وإعانة المحتاج وإصلاح الطرق وغيرها، كل هذا لا ينفعهم، كل هذا هباءٌ منثور كما قال الله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) . وقال تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ) . فهؤلاء كل أعمالهم- ولو كانت متعديًا نفعها إلى الغير، كلها- لا تنفعهم عند الله ولا تقربهم إليه، وهم إن ماتوا على ترك الصلاة ماتوا كفارًا مخلدين في النار والعياذ بالله. فعليهم أن يتوبوا إلى الله ﷾، وأن يقوموا بما أوجب الله عليهم، ودعواهم أن من قام بشرائع الإسلام ولم ينفق إنفاقهم فإنه يحرم دخول الجنة وتكون الجنة لهم، هذه دعوىكاذبة، بل إن من قام بشرائع الإسلام، وحصل منه بخل في بعض ما أوجب الله عليه بذله، فإنه كغيره من أهل الذنوب والمعاصي تحت المشيئة إن شاء الله تعالى عذبه، وإن شاء غفر له، فهذه التي قالها أولئك القوم دعوى باطلة كاذبة. ***
راشد غانم العبد الغفار الرياض الديرة يقول: كثير من الناس لا يؤدون شرائع الإسلام، وإذا طُلب من أحدهم تأديتها قال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهذا ما طُلب من الرسول تحصيله بالقتال، فإذا قالوا ذلك فقد عصموا منه دماءهم وأموالهم، ولذا يرددون: الإسلام مجرد النطق بكلمة التوحيد؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نقول: هذا الفهم الذي فهمه هذا السائل وغيره خطأ عظيم فادح، حيث يظنون أن الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وإنما هذا مفتاح الإسلام للدخول فيه، وأما الإسلام فإنه هذا مع الشرائع الأخرى، ولهذا قال النبي ﵊: (فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) . وقاتلهم أبو بكر ﵁، قاتل من منع الزكاة، ولما راجعه عمر في ذلك قال: الزكاة حق المال، والزكاة من حقوق الإسلام التي لابد منها. وكذلك الصلاة والحج والصيام، لكن من هذه الحقوق ما يكون تركه كفرًا، كما في الصلاة التي ثبت عن النبي ﵊ أنها هي التي بين الرجل وبين الكفر والشرك، وأنها هي العهد الذي بيننا وبين الكفار؛ ومن حقوق الإسلام ما لا يكون تركه كفرًا بحسب ما تقتضيه النصوص الشرعية. والمهم أن الإسلام ليس مجرد النطق بالشهادتين، وكيف يكون مسلمًا من يقول: أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهو لا يقوم لله ولا لرسوله ﷺ بالحق الواجب لهما؟ إذا كان يشهد ألا إله إلا الله فلماذا لا يقوم بحقه؟ لماذا لا يعبده؟ إذا كان يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله لماذا لا يقوم بحقه؟ لماذا لا يتبعه؟ فلابد من عبادة الله، ومن اتباع رسول الله ﷺ، وإلا مجرد النطق بالشهادتين لا يكفي، المنافقون يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ولكنهم لا يأتون بأركان الإسلام، فلذلك لم يكونوا مؤمنين. ***
عثمان محمد يقول: أحيانًا يوسوس لي الشيطان: من خلق هذا؟ إلى أن يقول لي: من خلق الله ﷾؟ وأسهو كثيرًا وأحزن وأترك هذا الموضوع. أفيدوني على ما أصرف به هذا الوسواس، وهل الوسواس يؤثر عليّ في حياتي؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الوسواس لا يؤثر عليك، وقد أخبر به النبي ﵊ (أن الشيطان يأتي للإنسان فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ إلى أن يقول: من خلق الله؟) . وأعلمنا رسول الله ﷺ بالدواء الناجع، وهو: أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وننتهي عن هذا، فإذا طرأ عليك هذا الشيء وخطر ببالك فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وانتهِ عنه وأعرض إعراضًا كليًا، وسيزول بإذن الله. ***
مدحت أحمد محمود عمارة يقول: أنا مصري الجنسية وأعيش في ألمانيا، وقد حاول الكثير ممن أعرفه يدينون بالمسيحية، حاولوا استمالتي وترغيبي في دينهم، ولقلة معرفتي بدين الإسلام وعدم توفر القرآن عندي جعلني أحتار وأشك في أي الدينين هو الصحيح؟ وقد قرأت الإنجيل الذي أهدوه إلي ولم أجد فيه شيئًا يقبله العقل السليم ولا المنطق، مما يؤكد لي أنه محرف وأنه غير صحيح، مما قوى إيماني بالله وتمسكي بديني الإسلام، وأخيرًا حصلت على نسخةٍ من القرآن الكريم وأخذت أقرأ فيها وفي بعض التفاسير، وزادني ذلك والحمد لله قوة إيمانٍ ويقين بأن دين الإسلام هو الدين الحق، وأخذت بعد ذلك أحاول فيهم هم أن يعتنقوا دين الإسلام. فهل علي إثمٌ في حيرتي الأولى؟ وبماذا تنصحونني أن أفعل نحو هؤلاء؟ كما أرجو إرشادي إلى من أجد عنده الكتب الدينية والقرآن بخطٍ واضح والتفاسير الصحيحة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الذي حصل لك أيها الأخ هو من نعمة الله عليك، حيث ثبتك الله ﷿ في حال الشبهة والتلبيس من هؤلاء، ولا ريب أن ما فتح الله به عليك من معرفة الحق ومعرفة الإنجيل المحرف، لا ريب أن ما فتح الله عليك به خيرٌ ونعمة، ولهذا يسر الله لك حيث كنت تريد الحق، يسر الله لك هذه النسخة من القرآن الكريم، وكذلك ما تقرؤه من التفاسير، وما حصل لك من الحيرة إبان دعوتهم إياك لا يضرك، ما دمت والحمد لله قد ثبت على دين الإسلام، ثم ازددت يقينًا بما حصل لك من هذه النسخة من القرآن الكريم والتفاسير القيمة، فنرجو لك الثبات، ونرجو أن تمضي قدمًا في دعوة هؤلاء وغيرهم إلى دين الإسلام، ببيان صحته من الوجهة النقلية ومن الوجهة العقلية، فإنه الدين الحق الذي لا يشك فيه أي عاقلٍ منصف إذا علمه أنه حق، وحينئذٍ فاستمر في دعوتك إليه: (ولأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حمر النعم) . وأما ما ذكرت من إرشادك إلى من يكون عنده تفسير أو كتب دينية: فإننا نرشدك إلى أن تتصل برئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في الرياض في المملكة العربية السعودية، وتطلب منها الكتب المناسبة، لعل الله ينفع بها من يطلع عليها. ***
السائل أبو عبد الله يقول: أكثر الناس يحبون المال حبًا شديدًا، فهل يؤثر ذلك على عقيدتهم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إن حب المال لا يؤثر على العقيدة ولا على الدين إذا لم يشغل عن واجب أو مستحب، فإن شغل عن واجب كان الاشتغال به حرامًا، وإن شغل عن مستحب كان الاشتغال بالمستحب أولى من الاشتغال بالمال، ولابد أن يكون تصرف الإنسان بالمال على وفق الشريعة الإسلامية، فلا يعامل معاملة تشتمل على ظلم أو ربا أو غش، ولا يعامل الناس بدعوى ما ليس له أو بإنكار ما هو عليه. وحب المرء للمال أمر طبيعي، كما قال الله ﵎: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا. فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا. فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا. فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا. فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعا. ً إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) . أي: لحب المال، كما قال تعالى: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) . وإذا كانت محبة الإنسان المال من أجل أن ينميه ليعمل به عملًا صالحًا كان ذلك خيرًا، فإنه نِعْمَ المال الصالح عند الرجل الصالح، وكم من أناس أغناهم الله فنفع الله تعالى بأموالهم: في الجهاد في سبيل الله، في نشر العلم، في إعانة الملهوف، إلى غير ذلك. ***
مديحة القاضي تقول في رسالتها: عندما أقرأ القرآن تمر علي آيات الترغيب في الجنة وآيات الترهيب من النار، ولكني في قرارة نفسي أتأثر كثيرًا من آيات الترغيب في الجنة، ولكنني قليلة التأثر في الترهيب من النار، فهل في ذلك خلل أو نقص في العقيدة؟ رغم أنني والحمد لله مؤمنة بهما، وأقيم الصلاة في أوقاتها. أفيدوني بارك الله فيكم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا ليس فيه خلل في العقيدة، ما دمت تؤمنين بأن ما أخبر الله به من الثواب والعقاب حق واقع لا محالة، فإن ذلك لا يؤثر في عقيدتك، وبعض الناس قد يكون في قلبه شيء من القسوة فلا يلين عند المواعظ، وبعض الناس ربما يتأثر من المواعظ دون بعض، باعتبار صفاء ذهنه في تلك الساعة، أو باعتبار إلقاء الواعظ، أو باعتبارات أخرى. والحاصل أن الإنسان ما دام مؤمنًا بما أخبر الله به من الثواب والعقاب ولا شك عنده في ذلك فإن عقيدته سليمة، فلا يحزن ولا يخف. ***
ما هي العروة الوثقى؟ فأجاب رحمه الله تعالى: العروة الوثقى هي الإسلام، وسميت عروة وثقى لأنها توصل إلى الجنة. ***
إذا أخل المسلم بركن واحد من أركان الإيمان الستة فما الحكم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إذا أخل بركن من أركان الإيمان الستة جحدًا وتكذيبًا فهو كافر، وأما إذا كان عن تأويل- كالذين أنكروا مسائل في باب القدر- فهذا لا يكفر؛ لأنه متأول لكن أحيانًا يكون التأويل بعيدًا، وأحيانًا يكون التأويل قريبًا. ***
ما الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان؟ وإذا أقام الشخص الإسلام وترك الباقيات هل نكفره أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الفرق بين هذه الثلاثة بيّنه النبي ﵊ حين سأله جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان فقال له: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت) . وسأله عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره) . فسأله عن الإحسان فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، هذا هو الفرق. ومن ترك واحدًا من ذلك ففيه تفصيل: من ترك الشهادتين فلم يشهد أن لا إله إلا لله ولا أن محمدًا رسول الله فهو كافر مرتد بإجماع المسلمين، ومن أتى بالشهادتين لكن ترك الصلاة فهو كافر على القول الراجح، والأدلة على ذلك كثيرة تمر بنا كثيرًا في هذا البرنامج، ومن ترك الزكاة أو الصيام أو الحج فإنه لا يكفر على القول الراجح؛ لقول عبد الله بن شقيق: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) . وأما الإيمان فأركانه ستة، إذا أنكر واحدًا منها كفر: لو لم يؤمن بالله فهو كافر، أو بملائكته فهو كافر، أو بكتبه فهو كافر، أو برسله فهو كافر، أو باليوم الآخر فهو كافر، أو بالقدر فهو كافر. وأما الإحسان فهو كمال: إن أتى به الإنسان فلا شك أنه أكمل، يعني: صلى كأنه يرى ربه فإن لم يكن يراه فإن الله تعالى يراه، فالإحسان كمال وفضل، والإيمان ترك واحد من أركانه كفر، والإسلام فيه التفصيل. ***
تقول المستمعة: كيف يعلم الشخص أنه وصل إلى درجة الإيمان؟ لأن عندي إحدى الأخوات تقول بأنها مؤمنة وإيماني قوي، كيف يعلم الإنسان بأن إيمانه قوي؟ وما هي الشروط التي تجعل المؤمن قوي الإيمان؟ وهل يعلم الإنسان إذا كان إيمانه قويًّا أو ضعيفًا؟ أرجو توضيح ذلك مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإيمان أعلى مرتبة من الإسلام، والإنسان يعلم أنه مؤمن بما يكون في قلبه من الإقرار الجازم بما يجب الإيمان به، وهو: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وبما يكون لهذا الإيمان من النتائج، وهي الإنابة إلى الله ﷿ بفعل الطاعات، والتوبة إليه من المعاصي، ومحبة الخير للمؤمنين، ومحبة النصر للإسلام، وغير ذلك من موجبات الإيمان التي تدل دلالة واضحة على أن الإنسان مؤمن. ويمكن هذا، أعني: أن العلم بأن الإنسان مؤمن، بأن يطبق أحواله وأعماله على ما جاءت به السنة مثل: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) . فلينظر: هل هو يحب لأخيه ما يحب لنفسه، أو يحب أن يستأثر على أخيه ولا يهتم بشأنه، أم ماذا؟ وليطبق ذلك أيضًا على نفسه في المعاملة:هل هو ناصح في معاملته لإخوانه، أو غاشٌّ لهم؟ لأن النبي ﵌ قال: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم) . وثبت عنه ﷺ أنه قال: (من غش فليس منا) . فلننظر إلى هذا، ولننظر أيضًا: هل هو حَسَنُ الجوار بجيرانه، أو على خلاف ذلك؟ لأن حسن الجوار من علامات الإيمان؟ قال النبي ﷺ: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه) . وقال ﷺ: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)، إلى غير ذلك من الأحاديث التي يعرف بها الإنسان ما عنده من الإيمان قوة وضعفًا. فالإنسان العاقل البصير يزن إيمانه بما يقوم به من طاعة الله واجتناب معصيته، ومحبة الخير لنفسه وللمسلمين. وأما قول القائل: أنا مؤمن وإيماني قوي، فهذا إن قاله على سبيل التزكية لنفسه فقد أساء؛ لقول الله تعالى: (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) . وإن قالها على سبيل التحدث بنعمة الله، وتشجيع غيره على تقوية إيمانه، فلا حرج عليه في ذلك، ولا بأس به. والإنسان يعرف قوة الإيمان- كما ذكرنا آنفًا- بآثاره التي تترتب عليه، ومتى قوي إيمانه صار الإنسان كما أنه يشاهد علم الغيب الذي أخبر الله عنه، بحيث لا يكون عنده أدنى شك فيما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب. ***
ما الفرق بين المسلم والمؤمن؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإسلام والإيمان يذكران جميعًا ويذكر أحدهما منفردًا عن الآخر. فإذا ذكرا جميعًا اختلف معناهما، وكان الإيمان للأعمال الباطنة والإسلام للأعمال الظاهرة، ودليل ذلك حديث عمر بن الخطاب ﵁ حين جاء جبريل إلى رسول الله ﷺ فسأله عن الإسلام، فقال النبي ﵌: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت الحرام) . ثم سأله عن الإيمان فقال النبي ﵌: (الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره) . ففرق بين الإيمان والإسلام، فجعل الإسلام هي الأعمال الظاهرة التي هي قول اللسان وعمل الجوارح، وجعل الإيمان الأعمال الباطنة التي هي إقرار القلب واعترافه وإيمانه، ولهذا قال الله ﷿ عن الأعراب: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) . فجعل الله تعالى الإيمان في القلب، وبين في هذه الآية الكريمة أن الإيمان أعلى رتبة من الإسلام؛ لأن الإسلام يكون من المنافق ومن المؤمن حقًا، وفي هذه الحال نقول: إن الإيمان أعلى مرتبة من الإسلام. أما إذا أفرد أحدهما عن الآخر فإنهما يكونان بمعنى واحد، كقول الإنسان: أنا مؤمن، كقوله: أنا مسلم ولا فرق، ولكن إذا قال: أنا مؤمن، فإنه يجب عليه أن يكون الباعث له على هذه المقالة التحدث بنعم الله ﷿، أو الإخبار المحض المجرد، لا أن يكون الحامل له على ذلك تزكية نفسه وإعجابه بها وافتخاره على غيره، فإن ذلك من الأمور المحرمة. ***
ما الفرق بين المسلم والمؤمن وفقكم الله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإسلام والإيمان يتفقان في المعنى إذا افترقا في اللفظ، بمعنى: أنه إذا ذكر أحدهما في مكان دون الآخر فهو يشمل الآخر، وإذا ذكرا جميعًا في سياق واحد صار لكل واحد منهما معنى: فالإسلام إذا ذكر وحده شمل كل الإسلام، من شرائعه ومعتقداته وآدابه وأخلاقه، كما قال الله ﷿: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) . وكذلك المسلم إذا ذكر هكذا مطلقًا فإنه يشمل كل من قام بشرائع الإسلام من معتقدات وأعمال وآداب وغيرها، وكذلك الإيمان: فالمؤمن مقابل الكافر، فإذا قيل: إيمان ومؤمن بدون قول الإسلام معه فهو شامل للدين كله، أما إذا قيل: إسلام وإيمان في سياق واحد فإن الإيمان يفسر بأعمال القلوب وعقيدتها، والإسلام يفسر بأعمال الجوارح. ولهذا قال النبي ﷺ في جوابه لجبريل: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله) إلى آخر أركان الإسلام. وقال في الإيمان: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه) إلى آخر أركان الإيمان المعروفة. ويدل على هذا الفرق قوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) . وهذا يدل على الفرق بين الإسلام والإيمان: فالإيمان يكون في القلب، ويلزم من وجوده في القلب صلاح الجوارح؛ لقول النبي ﷺ: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) . بخلاف الإسلام فإنه يكون في الجوارح، وقد يصدر من المؤمن حقًا، وقد يكون من ناقص الإيمان. هذا هو الفرق بينهما، وقد تبين أنه لا يفرق بينهما إلا إذا اجتمعا في سياق واحد، وأما إذا انفرد أحدهما في سياق فإنه يشمل الآخر. ***
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) . يقول: أيهما أولى: الإسلام أم الإيمان؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإيمان أكمل، ولهذا قال الله تعالى في هذه الآية: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) . يعني: لم يدخل بعدُ الإيمان في قلوبكم، ولكنه قريب من الدخول. ولكن إذا ذكر الإسلام وحده دخل فيه الإيمان، كما في قوله تعالى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) . وإذا ذكر الإيمان وحده فقيل: مؤمن وكافر، فإن الإيمان يشمل الإسلام، أما إذا ذكرا جميعًا- كما في آية الحجرات- فإن الإيمان في القلب، والإسلام في الجوارح، والإيمان أكمل. ***
بعض الناس يقدمون المعونات المادية لبعض المساكين، ويكتفون بذلك ولا يؤدون فرائض الله تعالى كالصلاة والصوم وغيرهما، ويدّعون أنهم يعملون الصالحات، وأنهم خيرٌ عند الله من الذين يؤدون فرائض الله ثم يذنبون،وأنهم سيدخلون الجنة بما قدموا من حسناتٍ ماديةٍ قبل الذين يؤدون الفرائض، وربما حرمت على الذين يؤدون الفرائض ويذنبون وهم لا يحرمون منها؛ لأنهم أيضًا بيض القلوب غير مذنبين،فما الحكم في مثل هؤلاء أينما كانوا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الحكم في هؤلاء أنه إذا كان الواحد منهم يدعي بأنه غير مذنب فإننا نقول: أي ذنبٍ أعظم من ترك الصلاة وشعائر الإسلام؟ وما أنفقوه على الناس من سد الحاجات وإعانة المحتاج وإصلاح الطرق وغيرها، كل هذا لا ينفعهم، كل هذا هباءٌ منثور كما قال الله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) . وقال تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ) . فهؤلاء كل أعمالهم- ولو كانت متعديًا نفعها إلى الغير، كلها- لا تنفعهم عند الله ولا تقربهم إليه، وهم إن ماتوا على ترك الصلاة ماتوا كفارًا مخلدين في النار والعياذ بالله. فعليهم أن يتوبوا إلى الله ﷾، وأن يقوموا بما أوجب الله عليهم، ودعواهم أن من قام بشرائع الإسلام ولم ينفق إنفاقهم فإنه يحرم دخول الجنة وتكون الجنة لهم، هذه دعوىكاذبة، بل إن من قام بشرائع الإسلام، وحصل منه بخل في بعض ما أوجب الله عليه بذله، فإنه كغيره من أهل الذنوب والمعاصي تحت المشيئة إن شاء الله تعالى عذبه، وإن شاء غفر له، فهذه التي قالها أولئك القوم دعوى باطلة كاذبة. ***
راشد غانم العبد الغفار الرياض الديرة يقول: كثير من الناس لا يؤدون شرائع الإسلام، وإذا طُلب من أحدهم تأديتها قال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهذا ما طُلب من الرسول تحصيله بالقتال، فإذا قالوا ذلك فقد عصموا منه دماءهم وأموالهم، ولذا يرددون: الإسلام مجرد النطق بكلمة التوحيد؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نقول: هذا الفهم الذي فهمه هذا السائل وغيره خطأ عظيم فادح، حيث يظنون أن الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وإنما هذا مفتاح الإسلام للدخول فيه، وأما الإسلام فإنه هذا مع الشرائع الأخرى، ولهذا قال النبي ﵊: (فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) . وقاتلهم أبو بكر ﵁، قاتل من منع الزكاة، ولما راجعه عمر في ذلك قال: الزكاة حق المال، والزكاة من حقوق الإسلام التي لابد منها. وكذلك الصلاة والحج والصيام، لكن من هذه الحقوق ما يكون تركه كفرًا، كما في الصلاة التي ثبت عن النبي ﵊ أنها هي التي بين الرجل وبين الكفر والشرك، وأنها هي العهد الذي بيننا وبين الكفار؛ ومن حقوق الإسلام ما لا يكون تركه كفرًا بحسب ما تقتضيه النصوص الشرعية. والمهم أن الإسلام ليس مجرد النطق بالشهادتين، وكيف يكون مسلمًا من يقول: أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهو لا يقوم لله ولا لرسوله ﷺ بالحق الواجب لهما؟ إذا كان يشهد ألا إله إلا الله فلماذا لا يقوم بحقه؟ لماذا لا يعبده؟ إذا كان يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله لماذا لا يقوم بحقه؟ لماذا لا يتبعه؟ فلابد من عبادة الله، ومن اتباع رسول الله ﷺ، وإلا مجرد النطق بالشهادتين لا يكفي، المنافقون يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ولكنهم لا يأتون بأركان الإسلام، فلذلك لم يكونوا مؤمنين. ***
عثمان محمد يقول: أحيانًا يوسوس لي الشيطان: من خلق هذا؟ إلى أن يقول لي: من خلق الله ﷾؟ وأسهو كثيرًا وأحزن وأترك هذا الموضوع. أفيدوني على ما أصرف به هذا الوسواس، وهل الوسواس يؤثر عليّ في حياتي؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الوسواس لا يؤثر عليك، وقد أخبر به النبي ﵊ (أن الشيطان يأتي للإنسان فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ إلى أن يقول: من خلق الله؟) . وأعلمنا رسول الله ﷺ بالدواء الناجع، وهو: أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وننتهي عن هذا، فإذا طرأ عليك هذا الشيء وخطر ببالك فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وانتهِ عنه وأعرض إعراضًا كليًا، وسيزول بإذن الله. ***
مدحت أحمد محمود عمارة يقول: أنا مصري الجنسية وأعيش في ألمانيا، وقد حاول الكثير ممن أعرفه يدينون بالمسيحية، حاولوا استمالتي وترغيبي في دينهم، ولقلة معرفتي بدين الإسلام وعدم توفر القرآن عندي جعلني أحتار وأشك في أي الدينين هو الصحيح؟ وقد قرأت الإنجيل الذي أهدوه إلي ولم أجد فيه شيئًا يقبله العقل السليم ولا المنطق، مما يؤكد لي أنه محرف وأنه غير صحيح، مما قوى إيماني بالله وتمسكي بديني الإسلام، وأخيرًا حصلت على نسخةٍ من القرآن الكريم وأخذت أقرأ فيها وفي بعض التفاسير، وزادني ذلك والحمد لله قوة إيمانٍ ويقين بأن دين الإسلام هو الدين الحق، وأخذت بعد ذلك أحاول فيهم هم أن يعتنقوا دين الإسلام. فهل علي إثمٌ في حيرتي الأولى؟ وبماذا تنصحونني أن أفعل نحو هؤلاء؟ كما أرجو إرشادي إلى من أجد عنده الكتب الدينية والقرآن بخطٍ واضح والتفاسير الصحيحة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الذي حصل لك أيها الأخ هو من نعمة الله عليك، حيث ثبتك الله ﷿ في حال الشبهة والتلبيس من هؤلاء، ولا ريب أن ما فتح الله به عليك من معرفة الحق ومعرفة الإنجيل المحرف، لا ريب أن ما فتح الله عليك به خيرٌ ونعمة، ولهذا يسر الله لك حيث كنت تريد الحق، يسر الله لك هذه النسخة من القرآن الكريم، وكذلك ما تقرؤه من التفاسير، وما حصل لك من الحيرة إبان دعوتهم إياك لا يضرك، ما دمت والحمد لله قد ثبت على دين الإسلام، ثم ازددت يقينًا بما حصل لك من هذه النسخة من القرآن الكريم والتفاسير القيمة، فنرجو لك الثبات، ونرجو أن تمضي قدمًا في دعوة هؤلاء وغيرهم إلى دين الإسلام، ببيان صحته من الوجهة النقلية ومن الوجهة العقلية، فإنه الدين الحق الذي لا يشك فيه أي عاقلٍ منصف إذا علمه أنه حق، وحينئذٍ فاستمر في دعوتك إليه: (ولأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حمر النعم) . وأما ما ذكرت من إرشادك إلى من يكون عنده تفسير أو كتب دينية: فإننا نرشدك إلى أن تتصل برئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في الرياض في المملكة العربية السعودية، وتطلب منها الكتب المناسبة، لعل الله ينفع بها من يطلع عليها. ***
السائل أبو عبد الله يقول: أكثر الناس يحبون المال حبًا شديدًا، فهل يؤثر ذلك على عقيدتهم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إن حب المال لا يؤثر على العقيدة ولا على الدين إذا لم يشغل عن واجب أو مستحب، فإن شغل عن واجب كان الاشتغال به حرامًا، وإن شغل عن مستحب كان الاشتغال بالمستحب أولى من الاشتغال بالمال، ولابد أن يكون تصرف الإنسان بالمال على وفق الشريعة الإسلامية، فلا يعامل معاملة تشتمل على ظلم أو ربا أو غش، ولا يعامل الناس بدعوى ما ليس له أو بإنكار ما هو عليه. وحب المرء للمال أمر طبيعي، كما قال الله ﵎: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا. فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا. فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا. فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا. فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعا. ً إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) . أي: لحب المال، كما قال تعالى: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) . وإذا كانت محبة الإنسان المال من أجل أن ينميه ليعمل به عملًا صالحًا كان ذلك خيرًا، فإنه نِعْمَ المال الصالح عند الرجل الصالح، وكم من أناس أغناهم الله فنفع الله تعالى بأموالهم: في الجهاد في سبيل الله، في نشر العلم، في إعانة الملهوف، إلى غير ذلك. ***
مديحة القاضي تقول في رسالتها: عندما أقرأ القرآن تمر علي آيات الترغيب في الجنة وآيات الترهيب من النار، ولكني في قرارة نفسي أتأثر كثيرًا من آيات الترغيب في الجنة، ولكنني قليلة التأثر في الترهيب من النار، فهل في ذلك خلل أو نقص في العقيدة؟ رغم أنني والحمد لله مؤمنة بهما، وأقيم الصلاة في أوقاتها. أفيدوني بارك الله فيكم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا ليس فيه خلل في العقيدة، ما دمت تؤمنين بأن ما أخبر الله به من الثواب والعقاب حق واقع لا محالة، فإن ذلك لا يؤثر في عقيدتك، وبعض الناس قد يكون في قلبه شيء من القسوة فلا يلين عند المواعظ، وبعض الناس ربما يتأثر من المواعظ دون بعض، باعتبار صفاء ذهنه في تلك الساعة، أو باعتبار إلقاء الواعظ، أو باعتبارات أخرى. والحاصل أن الإنسان ما دام مؤمنًا بما أخبر الله به من الثواب والعقاب ولا شك عنده في ذلك فإن عقيدته سليمة، فلا يحزن ولا يخف. ***
3 / 2
توحيد الربوبية
4 / 1
حامد عبد الله الجور يقول: ما رأيكم في نشرة الأحوال الجوية، وكل التنبؤات الجوية التي نسمعها يوميًا في نشرات الراديو وفقكم الله؟
فأجاب رحمه الله تعالى: إن نزول المطر من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) . فمن ادعى علم الغيب فيما ينزل من المطر في المستقبل فإنه كافر؛ لأنه مكذب لقول الله تعالى: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) . وأما من أخبر بنزول مطر، أو توقع نزول مطر في المستقبل، بناءً على ما تقتضيه الآلات الدقيقة التي تقاس بها أحوال الجو، فيعلم الخبيرون بذلك أن الجو مهيأ لسقوط الأمطار؛ فإن هذا ليس من علم الغيب، بل هو مستند إلى أمر محسوس، والشيء المستند إلى أمر محسوس لا يقال: إنه من علم الغيب، والتنبؤات التي تقال في الإذاعات من هذا الباب وليست من باب علم الغيب، ولذلك هم يستنتجونها بواسطة الآلات الدقيقة التي تضبط حالات الجو، وليسوا مثلًا يخبرونك بأنه سينزل مطر بعد كذا سنة وبمقدار معين؛ لأن هذه الآلات لم تصل بعد إلى حدٍ تدرك به ماذا يكون من حوادث الجو، بل هي محصورة في ساعات معينة، ثم قد تخطئ أحيانًا وقد تصيب، أما علم الغيب فهو الذي يستند إلى مجرد العلم فقط بدون وسيلة محسوسة، وهذا لا يعلمه إلا الله ﷿. وبهذه المناسبة أود أن أقول: إنه يجب أن يعلم بأن ما جاء في كتاب الله أو فيما صح عن رسوله ﷺ من الأمور الإخبارية فإنه لا يمكن أبدًا أن يُكَذِّبها الواقع؛ لأن الواقع أمر يقيني، وما جاء به كتاب الله أو ما صح عن رسوله ﷺ فهو أيضًا أمر يقيني، إذا كانت دلالاته على مدلوله غير محتملة، ولا يمكن التعارض بين يقينيين؛ لأن اليقيني قطعي ولا تعارض بين قطعيين. وعلى هذا فإذا وجدنا آيةً في كتاب الله ظاهرها كذا ولكن الواقع يخالف الظاهر فيما يبدو لنا، فإنه يجب أن نعرف أن هذا الظاهر ليس هو ما أراده الله ﷿؛ لأنه لا يمكن أبدًا أن يكون الواقع المحسوس مكذبًا للقرآن أبدًا، بل إن القرآن نزل من عند الله ﷿، وهو العليم الخبير الصادق فيما يقول، فبعض الناس يظن أن هذه التنبؤات مخالفة لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) . والحقيقة أنها لا تعارضها؛ لأنه كما أشرنا إليه إنما يعارضها لو كانوا يحكمون بهذه الأمور بمجرد العلم، ولكنهم هم يحكمونها بواسطة آلات محسوسة يتبين بها حال الجو، وهل هو مهيأ للأمطار أو ليس بمهيأ. ومثل هذا ما نُقل أخيرًا من كونهم يعلمون ما في الأرحام من ذكر أو أنثى، يعرفون أنه ذكر أو أنه أنثى، فإن بعض الناس يظن أنه معارض لقوله تعالى: (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) . وفي الحقيقة أنه إذا ثبت ذلك فإنه لا يعارض هذه الآية؛ لأن قوله: (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) ما اسم موصول يقتضي العموم، وهو شامل لكل ما يتعلق بهذا الجنين، ومن المعلوم أن أحدًا لا يستطيع أن يدعي أنه يعلم أن هذا الجنين سيخرج حيًا أو ميتًا، أو أنه إذا خرج حيًا سيبقى مدة طويلة أو يموت بعد زمن قصير، أو أن هذا الجنين إذا خرج إلى الدنيا وعاش هل يكون غنيًا أو فقيرًا، وهل يكون صالحًا أو فاسدًا، وهل هو شقي أو سعيد، ثم لا يدعي أحد أن يعلم هل هو ذكر أو أنثى قبل أن يُخلَّق وتتبين ذكورته وأنوثته. فمتعلق العلم بما في الأرحام ليس خاصًا بالذكورة والأنوثة بعد أن يُخلَّق الجنين في بطن أمه؛ لأنه إذا خُلِّق فإنه يمكن أن يعلم به الملك الذي يوكّل بالأرحام يقول: أذكر أو أنثى؟ ويعلم أنه ذكر أو أنثى. فتبين بهذا أن ما ذكر إذا صح أنهم استطاعوا أن يعرفوا كون الجنين ذكرًا أم أنثى، فإنه لا يعارض الآية؛ لسعة متعلق علم ما في الأرحام؛ لأنه ليس خاصًا بكونه ذكرًا أو أنثى.
***
مجدي عبد الغني محاسب بالعراق محافظة صلاح الدين يقول: إلى فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين نرى في الآونة الأخيرة ما شاع عن حقيقة تحديد نوع المولود ذكر أم أنثى، وبهذا نسأل توصل علماء الطب في أمريكا واليابان إلى ذلك، فهل هذا حرام؟ وما علاقة الآية الكريمة التي يقول الله فيها ﷿ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً * ألم يك نطفة من مني يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا السؤال الذي ذكره السائل يحتمل أن يريد بقوله: نوع الذكورة والأنوثة، أي: العلم بأن هذا ذكر أو أنثى. ويحتمل أن يكون مراده تحديد نوع الذكورة والأنوثة، أي: العلم بأن هذا ذكر وأنثى، أن يجعلوا هذه الأنثى ذكرًا، أو أن يجعلوا الذكر أنثى. أما الأول- وهو: العلم بأن الجنين ذكر أو أنثى- فهذا كما قاله السائل، قد اشتهر أنهم يعلمون ذلك، وهذا العلم لا ينافي ما جاءت به النصوص من كون الله ﷾ يعلم ما في الأرحام، فإن الله تعالى يعلم ما في الأرحام بلا شك، ولا ينافي علمه بذلك أن يكون أحدٌ من خلقه يعلمه، فالله يعلم وكذلك غيره يعلم. لكن المعلوم الذي يتعلق بالجنين ينقسم إلى قسمين: قسم محسوس يمكن للخلق أن يعلموا به، كالذكورة والأنوثة، والكبر والصغر، واللون، وما أشبه ذلك، فهذا يكون معلومًا عند الله ﷿، ويكون معلومًا عند من يتوصل إلى علمه بالوسائل الحديثة، ولا منافاة بين الأمرين. وأما المعلوم الثاني للجنين فهو المعلوم الذي ليس بمحسوس يدرك، وهو علم ماذا سيكون مآل هذا الجنين: هل يخرج حيًا أو ميتًا؟ وإذا خرج حيًا هل يبقى طويلًا في الدنيا أو لا؟ وإذا بقي فهل يكون عمله صالحًا أم سيئا؟ ً وإذا بقي أيضًا فهل يكون رزقه واسعًا أو ضيقًا؟ وما أشبه ذلك من المعلومات الخفية التي ليست بحسية، فهذا النوع من العلوم المتعلقة بالجنين هذا لا يعلمه إلا الله، ولا يستطيع أحد أن يعلمه، ومن ادعى علمه فهو كاذب، ومن صدقه في ذلك فقد كذب قول الله ﷿: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّه) . أما الاحتمال الثاني ما يحمله سؤال السائل أنهم توصلوا إلى أن يجعلوا الذكر أنثى أو الأنثى ذكرًا، فهذا لا يمكن؛ لأن هذا يتعلق بخلق الله ﷿، وهو الذي بيده التذكير والتأنيث، فلا يمكن لأحد من المخلوقين أن يجعل ما قدره الله ذكرًا أنثى، ولا يمكن أن يجعل ما قدره الله أنثى ذكرًا، يقول الله ﷿: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) . وكذلك الآية التي ساقها السائل: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (٣٧) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى) . فالذي أقوله الآن: إن هذا أمر غير ممكن، وكما أنهم لا يستطيعون أن يجعلوا الذكر المولود أنثى والأنثى المولودة ذكرًا، فكذلك لا يمكنهم أن يجعلوا الجنين الذي قدره الله ذكرًا أن يجعلوه أنثى أو العكس، هذا ما أعتقده في هذه المسألة. ***
أبو صالح يقول: هل صحيح أن للأرض حركتين أم لا؟ وهل في ذلك آيات تدل على ذلك أم العكس؟ ثم أفيدوني أين توجد الجنة والنار؟ وهل هناك آيات دالة على ذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إن البحث في هذا من فضول العلم، وليس من الأمور العقدية التي يجب على الإنسان أن يحققها ويعمل بما تقتضيه الأدلة، ولهذا لم يبين هذا الأمر في القرآن الكريم على وجهٍ صريح لا يحتمل الجدل، فمن الناس من يقول: إن للأرض حركتين: حركة تختلف بها الفصول، وحركة أخرى يختلف بها الليل والنهار، ويقول: إن قول الله تعالى: (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) يدل على ذلك، ووجه الدلالة عنده أن نفي المَيَدان دليلٌ على أصل الحركة، إذ لو لم يكن أصل الحركة موجودًا لكان نفي الميدان لغوًا من القول لا فائدة منه، ويقول: إن هذا دالٌ على كمال قدرة الله، أن تكون هذه الأرض- وهي هذا الجرم الكبير- تتحرك بدون أن تميد بالناس وتضطرب، مع أن الله ﷿ إذا شاء حركها فحصلت الزلازل والخسوفات. ومن العلماء من يقول: الأرض لا تتحرك، بل هي ثابتة؛ لقوله ﵎: (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ) أي: تضطرب. ولقوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) . ولأن الله تعالى جعل الأرض قرارًا يقر الناس عليه، وهذا ينافي أن تكون لها حركة. وأيًا كان هذا أو هذا فإن إشغال النفس بمثل ذلك ليس فيه كبير فائدة، فيقال: إن كانت تتحرك وهي في هذا القرار التام فهذا دليلٌ على تمام قدرة الله ﷿، وإن كانت لا تتحرك فالله تعالى هو الذي خلقها وجعلها ساكنةً لا تتحرك، لكن الشيء الذي أرى أنه لا بد منه هو أن نعتقد أن الشمس هي التي تدور على الأرض، وهي التي يكون بها اختلاف الليل والنهار؛ لأن الله تعالى أضاف الطلوع والغروب إلى الشمس، فقال ﷿: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ) . فهذه أربعة أفعال أضيفت كلها إلى الشمس: إذا طلعت، وإذا غربت، تزاور، تقرض، كلها أفعال أضيفت إلى الشمس، والأصل أن الفعل لا يضاف إلا إلى فاعله أو من قام به، أي: من قام به هذا الفعل، فلا يقال: مات زيدٌ ويراد مات عمرو، ولا يقال: قام زيدٌ ويراد قام عمرو، فإذا قال الله: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ) فليس المعنى أن الأرض دارت حتى رأينا الشمس؛ لأنه لو كانت الأرض هي التي تدور وطلوع الشمس يختلف باختلاف الدوران ما قيل: إن الشمس طلعت، بل يقال: نحن طلعنا على الشمس، أو: الأرض طلعت على الشمس. وكذلك قال الله ﵎ في قصة سليمان: (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ) أي: الشمس (بالْحِجَابِ) ولم يقل: حتى توارى عنها بالحجاب. وقال النبي ﵊ لأبي ذر عند غروب الشمس: (أتدري أين تذهب)؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: (فإنها تذهب فتسجد تحت العرش) . فأضاف الذهاب إلى الشمس. فظاهر القرآن والسنة أن اختلاف الليل والنهار يكون بدوران الشمس على الأرض، وهذا هو الذي يجب أن نعتقده، ما لم يوجد دليلٌ حسيٌ قاطع يسوغ لنا أن نصرف النصوص عن ظواهرها إلى ما يوافق هذا النص القاطع، وذلك لأن الأصل في أخبار الله ورسوله أن تكون على ظاهرها، حتى يقوم دليل قاطع على صرفها عن ظاهرها؛ لأننا يوم القيامة سنسأل عما تقتضيه هذه النصوص بحسب الظاهر، والواجب علينا أن نعتقد ظاهرها، إلا إذا وجد دليلٌ قاطع يسوغ لنا أن نصرفها عن هذا الظاهر، هذا هو الجواب عن السؤال الأول. وأما قوله: أفيدوني أين توجد الجنة والنار؟ فالجواب عليه أن نقول: الجنة في أعلى عليين، والنار في سجين، وسجين في الأرض السفلى، كما جاء في الحديث: (الميت إذا احتضر يقول الله تعالى: اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الأرض السفلى) . وأما الجنة فإنها فوق في أعلى عليين، وقد ثبت عن النبي ﵊ (أن عرش الرب جل وعلا هو سقف جنة الفردوس) . جعلنا الله تعالى من أهلها. ***
يا فضيلة الشيخ تعلمون وفقكم الله أن الملاحدة منذ زمن قديم يبثون شبهاتهم حول الإسلام، ويدعون لأفكارهم الفاسدة، ومن تلك الأفكار أن الكون أوجد نفسه، ثم ما زال يتطور حتى كان كما هو عليه الآن، واستدلوا على هذا بالميكروبات والطفيليات التي تتكون في الأشياء المتعفنة من غير أصل لها، فبماذا نرد على هذه الطائفة لدحض حجتهم الزائفة وشبهاتهم الباطلة؟ جزاكم الله خيرًا فأجاب رحمه الله تعالى: نرد على هؤلاء بما ذكره الله تعالى في سورة الطور: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون َ* أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) . فنسألهم أولًا: هل هم موجودون بعد العدم، أو موجودون في الأزل وإلى الأبد؟ والجواب بلا شك أن يقولوا: نحن موجودون بعد العدم، كما قال الله تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) . فإذا قالوا: نحن موجودون بعد العدم، قلنا: من أوجدكم؟ أوجدكم أبوكم أو أمكم أو وجدتم هكذا بلا موجد؟ سيقولون: لم يوجدنا أبونا ولا أمنا؛ لأن الله تعالى يقول: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُون * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشيءكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ) . إذا قالوا: وجدنا من غير موجد، نقول: هذا مستحيل في العقل؛ لأنه ما من حادث إلا وله محدث، وحينئذٍ يتعين أن يكون حدوثهم بمحدث، وهو الله ﷿ الواجب الوجود. وكذلك يقال في السماوات والأرض: نقول: من أوجد السماوات والأرض؟ هو الله ﷿، لكن السماوات والأرض كانت ماءً تحت العرش، كما قال الله ﵎: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) . فخلق الله ﷿ السماوات والأرض من هذا الماء، قال الله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) أي: فصلنا ما بينهما (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) . فهذا جواب على هؤلاء الملاحدة، فإن أَبَوا إلا ما كانوا عليه فهم مكابرون، ويحق عليهم قول الله تعالى في آل فرعون: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) . ***
الخير أحمد سوداني مقيم بالعراق يقول في رسالته: عرفنا من القرآن الكريم أن الله ﷾ (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) . ولكن أريد أن أعرف منكم ما البعد بين كل سماء؟ وهل هناك سمك لكل سماء؟ أفيدونا بذلك مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الجواب على ذلك أن السماوات كما ذكر السائل سبع، جعلهنّ الله تعالى طباقًا، وجعل بينهن مسافات، ويدل لذلك حديث المعراج الثابت في الصحيحين وغيرهما: (أن جبريل ﵊ جعل يعرج بالنبي ﷺ من سماء إلى سماء، ويستفتح عند دخول كل سماء، حتى انتهى به إلى السماء السابعة، وبلغ ﷺ موضعًا سمع فيه صريف الأقلام، ووصل إلى سدرة المنتهى) . وكذلك الأَرَاضون هي سبع، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) . والمثلية هنا ليست في الصفة؛ لأن ذلك من المعلوم بالضرورة، ولكنها مثلية في العدد، ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين في قول الرسول ﵊: (من اقتطع شبرًاَ من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) . وهذا يدل على أن الأرضين متطابقة أيضًا، وأن بعضها تحت بعض.وأما بُعْد ما بين كل سماء والأخرى: فقد ورد في ذلك حديث عن رسول الله ﷺ: (أن بعد ما بين سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وأن كثافة كل سماء مسيرة خمسمائة عام) . والعلم عند الله ﵎. ***
الشهادتان
السائلة من الأردن تقول يا فضيلة الشيخ محمد ما هي شروط لا إله إلا الله وضحها لنا يا شيخ فأجاب رحمه الله تعالى: لا تحتاج إلى شروط توضح واضحة بنفسها لا إله إلا الله يعني لا معبود حق إلا الله يجب أن يشهد الإنسان بذلك بقلبه ولسانه وجوارحه. فبقلبه يعتقد اعتقادًا جازمًا أنه لا معبود حق إلا الله، وأن جميع ما يعبد من دون الله فهو باطل، كما قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (الحج: ٦٢) . ثانيًا: أن يقول ذلك بلسانه ما دام قادرًا على النطق؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (حتى يشهدوا ألا إله إلا الله) . فلابد من النطق لمن كان قادرًا عليه، أما الأخرس فيكتفى باعتقاد قلبه. ثالثا: ً لابد من تحقيق هذه الكلمة، وذلك بالعمل بمقتضاها، بأن لا يعبد إلا الله، وأن لا يصرف شيئًا من أنواع العبادة لغير الله، فمن أشرك بالله ولو شركًا أصغر فإنه لم يحقق معنى قول: لا إله إلا الله، ومن تابع غير الرسول ﵊ مع مخالفته للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه لم يحقق معنى لا إله إلا الله، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يكتفي بقول: لا إله إلا الله، حتى فيما يظن الإنسان أنه قالها غير مخلص بها، لحق أسامة بن زيد بن حارثة رجلًا مشركًا، فلما أدركه قال الرجل: لا إله إلا الله، فظن أسامة أنه قال ذلك خوفًا من القتل، فقتله، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال لأسامة: (أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله)؟ قال يا رسول الله إنما قالها تعوذًا! فجعل يكرر الرسول ﷺ ويقول: (ما تفعل بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة)؟ يقول: حتى تمنيت أنني لم أكن أسلمت من قبل. فلهذا نقول: لابد من النطق بها باللسان، والعمل بمقتضاها بالأركان، والاعتقاد بمعناها ومدلولها في الجنان، أي: في القلب. ***
السائل من السودان ع. أحمد يقول في هذا السؤال: ما هي شروط كلمة التوحيد لا إله إلا الله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: كلمة التوحيد لا إله إلا الله أولًا لا بد أن نعرف ما معناها؟ معناها: لا معبود حقٌ إلا الله، هذا معناها، فكل ما عبد من دون الله من ملكٍ ونبيٍ ووليٍ وشجرٍ وحجر وشمسٍ وقمر فهو باطل؛ لقوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) . هذا معنى هذه الكلمة العظيمة، وهي مبنية على ركنين: نفي وإثبات، نفي الألوهية عما سوى الله، وإثباتها لله، وبهذا يتحقق التوحيد، أي: باجتماع النفي والإثبات يتحقق التوحيد، ووجه ذلك أن النفي المحض الذي لا يقترن بإثبات نفيٌ محض فهو عدم وأن الإثبات المحض الذي لا يقترن بالنفي إثباتٌ لا يمنع المشاركة، فلا يتحقق التوحيد إلا بإثبات ونفي: نفي الحكم عما سوى من أثبت له، وإثباته لمن أثبت له، وهذان الركنان هما الأصل. أما شروطها: فلا بد أن تكون صادرةً عن يقين وعلم، يقين لا شك معه، وعلمٍ لا جهل معه، ولا بد لها من شروطٍ لاستمرارها: كالعمل بمقتضاها حسب ما تقتضيه الشريعة، وأما مجرد القول باللسان بدون اعتقادٍ وإيقان فإن ذلك لا ينفع، فنشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. ***
كيف يكون المسلم محققًا لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قولًا وعملًا واعتقادًا بحيث يضمن لنفسه النجاة من الخلود في النار؟ وجهونا في ضوء هذا السؤال؟ فأجاب رحمه الله تعالى: تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله: أن يفهم الإنسان معناها أولًا ثم يعمل بمقتضى هذا العلم، فمعنى لا إله إلا الله: لا معبود حق إلا الله، وليس معناها لا إله موجود إلا الله، بل المعنى: لا إله حق إلا الله؛ لأن من المخلوق ما عبد من دون الله وسمي إلهًا، كما قال تعالى: (فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) . وقال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) . وقال المشركون: (أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا) . لكن هذه الآلهة ليست حقًّا، بل هي باطل؛ لقول الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) . وإذا كان لا معبود حق إلا الله وجب على الإنسان أن يجعل العبادة كلها عقيدة وقولًا وعملًا لله تعالى وحده، وإذا كان هذا معنى لا إله إلا الله فلا يمكن أن يحققها الإنسان حتى يعمل بمقتضاها، بمعنى: أن لا يعبد إلا الله، فلا يتذلل ولا يخضع لأحد على وجه التعبد والتقرب والإنابة إلا لله ﷿، ومقتضى هذا أيضًا أن لا يعبد الله إلا بما شرع؛ لأن الله هو الإله الحق، وما سواه فهو الباطل، وعلى هذا فلا يعبد الله إلا بما شرع على أيدي الرسل عليهم الصلاة والسلام. ولا بد أيضًا لتحقيق شهادة أن لا اله إلا الله من أن يكفر بما سوى الله ﷿ من الآلهة، حتى يتحقق له الاستمساك بالعروة الوثقى قال الله تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) . وقال الله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) . فلابد لتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله من اجتناب الطاغوت، وهو: كل ما عبد من دون الله ﷿، أو تحكم إليه من دون الله. ***
أحسن الله إليكم هناك من يقول بأن شروط لا إله إلا الله السبعة أو الثمانية التي وضعت لا يصح أن نسميها شروطًا؛ لأن التعريف ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود. يقول: فبهذه الشروط تلزم كل إنسان، ومتى اختل واحد من هذه الشروط اختلت هذه الشروط وقيل بأن الأصح أن يقال: من لوازم لا إله إلا الله؛ لأن اللازم ليس مثل الشروط، فما رأيكم في ذلك مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: رأينا في هذا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين أعظم بيان ﷺ، سأله أبو هريرة ﵁: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: (من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه) . فإذا قال الإنسان: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه، وقام بلوازم هذه الشهادة العظيمة فإنه مسلم، وأما من قالها غير مخلص في قلبه،كالمنافقين الذين يقولونها اتقاءً ورياءً فإنها لا تنفعه، ومن قالها ولم يلتزم ببعض الشرائع فإن قوله إياها ناقص بلا شك؛ لأن تركه بعض شرائع الإسلام يضعف توحيده، وربما ينتفي عنه التوحيد كله، حسب ما تقتضيه الأدلة الشرعية. ***
المستمع سيد عباس مصري يقول: فضيلة الشيخ هل الكبار الذين يجهلون معنى كلمة التوحيد لا إله إلا الله مسلمون؟ وماهي شروط كلمة التوحيد وواجباتها؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الذين يقولون: لا إله إلا الله يجب أن يعرفوا معناها، وأنه لا معبود حق إلا الله، وأن كل ما يعبد من دون الله فهو باطل؛ لقول الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) . وشروط قول: لا إله إلا الله: أن يقولها الإنسان بلسانه نطقًا لا بقلبه، وأن يقولها طائعًا مختارًا. ويشترط أيضًا أن يقوم بما تقتضيه هذه الكلمة العظيمة ومن أهم ما يقوم به الصلاة لأن من ترك الصلاة فهو كافر ولو قال لا إله إلا الله ثم إن هذة الكلمة إذا قالها الإنسان وهو يفهم معناها فإنها تستلزم أن يقوم بطاعة الله ﷿؛ لأن معنى لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله، وهذا يقتضي أن يعبد هذا الإله الحق على الوجه الذي أمر به: مخلصًا له الدين، متبعًا لخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ***
هذه رسالة وصلت من عبد الله أحمد يقول: في كلمة الإخلاص شروط وأركان، فإذا لم يأت بها المسلم كاملًا فهل يكون قد أدى حقيقتها؟ أرجو الإفادة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: كلمة الإخلاص هي قول لا إله إلا الله. ولا يكفي أن يقولها الإنسان بلسانه؛ لأن المنافقين يقولون ذلك بألسنتهم كما قال الله تعالى: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) . ولكن لا بد من أن يكون الإنسان معتقدًا لمعناها في قلبه، مؤمنًا بها، قائمًاَ بما تقتضيه هذه الكلمة العظيمة، وهو: التعبد لله وحده لا شريك له، بحيث لا يشرك معه في عبادته ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلًا، ولا سلطانًا حاكمًا، ولا غير ذلك من مخلوقات الله ﷿، كما قال الله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) . ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية بالتكفير في أمور تقع ممن قال: لا إله إلا الله، مثل كفر تارك الصلاة، فإن من ترك الصلاة كسلًا وتهاونًا يكفر، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وكلام الصحابة ﵃، والمعنى الصحيح بل والنظر الصحيح. وهذه مناسبة لما وعدنا به سابقًا من أننا سنتكلم بإسهاب عن حكم تارك الصلاة، حيث بينا فيما سبق أن كفر تارك الصلاة تهاونًا وكسلًا هومقتضى دلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والنظر الصحيح، وأن ما خالف ذلك لا يخلو من واحد من أمور خمسة: إما ألا يكون فيه دلالة أصلًا، وإما أن يكون وقع من قوم معذورين بجهلهم، وإما أن يكون مقيدًا بقيد يمتنع معه أن يترك الصلاة، وإما أن يكون ضعيفًا، وإما أن يكون عامًا لكنه مخصوص بأدلة تكفير تارك الصلاة. وبينا أيضًا فيما سبق بأن المراد بترك الصلاة تركها بالكلية، وأما من كان يصلى ويخلي، أي: إنه يصلى أحيانًا ويدع أحيانًا فإنه لا يكفر. نحن الآن نسوق ما تيسر لنا من الأدلة الدالة على كفر تارك الصلاة: فمن ذلك قوله ﵎ عن المشركين: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) . فإن هذه الآية الكريمة شرطت لثبوت الأخوة في الدين من المشركين ثلاثة شروط: الشرط الأول: أن يتوبوا من الشرك، والشرط الثاني: أن يقيموا الصلاة، والشرط الثالث: أن يؤتوا الزكاة. ومن المعلوم أن ما رُتب على شرط فإنه يتخلف بتخلف هذا الشرط، فإذا لم يتوبوا ولم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة فليسوا إخوانًا لنا في الدين، ولا تنتفي الأخوة الدينية إلا بكفر مخرج عن الإيمان، أما مجرد المعاصي- وإن عظمت، إذا لم تصل إلى حد الكفر- فإنها لا تخرج الإنسان من الإيمان، ودليل ذلك- أي: دليل أن المعاصي لا تخرج من الإيمان وإن عظمت- قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) . فجعل الله القاتل والمقتول أخوين، مع أن القاتل أتى ذنبًا عظيمًا، توعد الله عليه بوعيد شديد في قوله: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) . وقال الله ﷿: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) . فأثبت الله الأخوة بين الطائفتين المقتتلتين وبين الطائفة المصلحة بينهما، مع أن قتال المؤمن من أعظم الذنوب. فإذا تبين أن الأخوة الإيمانية لا تنتفي بكبائر الذنوب التي دون الكفر، فإن انتفاءها يدل على أن من حصل منه ما يوجب هذا الانتفاء، دليل على أنه كافر. فإن قال قائل: ما تقولون فيمن تاب من الشرك وأقام الصلاة ولم يؤت الزكاة؟ أتكفرونه كما تقتضيه الآية أم لا تكفرونه؟ قلنا لا نكفره؛ لأن لدينا منطوقًا يدل على أنه ليس بكافر، والمنطوق عند العلماء مقدم على المفهوم، هذا المنطوق ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله: إما إلى الجنة، وإما إلى النار) . فإن هذا الحديث يدل على أن من لم يؤد الزكاة لا يكفر؛ لأن قوله: (ثم يرى سبيله: إما إلى النار أو الجنة) دليل على أنه قد يدخل الجنة، ولا يمكن أن يدخل الجنة مع كفره، وعلى هذا فيبقى القيد في التوبة من الشرك وإقام الصلاة قيدًا معتبرًا لا معارض له، بخلاف قوله: (وآتوا الزكاة)، فإن مفهومه عورض بمنطوق الحديث الذي ذكرت، فحينئذٍ لا يكون ترك الزكاة والبخل بها مكفرًا مخرجًا عن الإسلام، على أن من العلماء من قال: إن تارك الزكاة الذي لا يؤديها كافر، وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل، ولكن الذي تقتضيه الأدلة أنه لا يكفر، ونحن بحول الله لا نعدو ما دلت الأدلة عليه سلبًا ولا إيجابا. ً وأما دلالة السنة على كفر تارك الصلاة: ففيما رواه مسلم عن جابر ﵁ أن النبي ﷺ قال: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) . فجعل ترك الصلاة هو الحد الفاصل بين الكفر وبين الإيمان، أو بين الشرك وبين الإيمان ومن المعلوم أن الحد فاصل بين محدودين لا يدخل أحدهما في الآخر، ويدل لهذا أن لفظ الحديث: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) . فقال: (والكفر) . ولم يقل ﷺ: ترك الصلاة كفر، حتى يمكن أن يحمل على كفر دون كفر، ولكنه عرفه بأل، الدالة على حقيقة الكفر، وقد أشار إلى هذا الفرق شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم. أما الحديث الثاني فهو ما رواه أهل السنن عن بريدة بن الحصيب ﵁ أن النبي ﷺ قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) . فجعل النبي ﷺ الحد الفاصل بين المسلمين والكفار هو الصلاة، ومن المعلوم أن الحد يخرج كل محدود عن دخوله في الآخر. أما كلام الصحابة ﵃: فقد حكى إجماعهم على كفر تارك الصلاة عبد الله بن شقيق ﵀، وهو تابعي مشهور قال: (كان أصحاب رسول الله ﷺ لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) . وقد حكى إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة إسحاق بن راهويه الإمام المشهور، وحكاه غيره أيضًا. وأما النظر الصحيح الذي يقتضي أن تارك الصلاة كافر كفرًا أكبر مخرجًا عن الملة: فإنه لا يمكن لمؤمن- بل لا يمكن لمن في قلبه أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان- أن يعلم شأن الصلاة وعظمها ومنزلتها عند الله ﷿ ثم يحافظ على تركها، هذا من المحال أن يكون في قلبه شيء من الإيمان، وعلى هذا نقول: إن من كان في قلبه أدنى مثقال حبة من خردل إيمان لا يمكن أن يترك الصلاة تركًا مطلقًا وهو يعلم ما لها من المنزلة العظيمة في دين الإسلام. وأما الأدلة التي استدل بها من قال: إنه لا يكفر، فقد أشرنا إلى أنها لا تخلو من واحد من خمسة أمور، كما صدرنا ذلك في كلامنا هذا. وإذا تبين قيام الدليل السالم عن المعارض المقاوم فإنه يجب الأخذ بمقتضاه، وإننا حين نحكم بالكفر على من دلت الأدلة على كفره لم نتجاوز ولم نتعد؛ لأن الحكم بالتكفير أو عدم التكفير إلى الله ﷿، كما أن الحكم بالتحليل والتحريم والإيجاب والاستحباب إلى الله ﷿، ولا لوم على الإنسان إذا أخذ بما تقتضيه الأدلة من أي حكم من الأحكام، وعلى كل مؤمن أن يأخذ بما تقتضيه الأدلة من أي وصف كان، ولأي موصوف كان، وألا يجعل النزاع سببًا موجبًا للتخلي عن مدلول الكتاب والسنة وغيرهما من الأدلة؛ لقول الله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) . وقال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) . فإن قال قائل: إذا قلت بتكفير تارك الصلاة حصل في ذلك ارتباك وتشويش وتكفير لكثير من الناس؟ فالجواب عن ذلك أن نقول: إننا إذا قلنا بمقتضى الأدلة الشرعية فإنه لن يكون من جراء ذلك إلا ما فيه الخير والصلاح؛ لأن الناس إذا علموا أن ترك الصلاة كفر مخرج عن الملة وردَّة كبرى، فإنهم لن يتجرؤوا على ترك الصلاة، بل سيكون ذلك حافزًا لهم على القيام بها على الوجه المطلوب منهم، ولكننا إذا قلنا: إنه ليس بكفر وإنما هو فسق، فإنهم يتهاونون بها أكثر مما قلنا لهم ذلك: إنه كفر، ونحن لا نقول: إنه كفر، من أجل أن نحث الناس على فعل الصلاة، ولكننا نقول: إنه كفر، من أجل دلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة على ذلك. وأما قول هذا القائل الذي يقول: إنك إذا حكمت بكفر تارك الصلاة فإنك بهذا توقع الإرباك والتذبذب، وتخرج كثيرًا من الناس عن الملة الإسلامية، أقول: ما قول هذا القائل إلا كقول من قال: إنك إذا قطعت يد السارق أصبح نصف الشعب مقطوعًا؛ لأننا نقول لهذا: إنك إذا قطعت يد السارق فسيقل السراق قلة كبيرة؛ لأن السارق إذا علم أن يده ستقطع فإنه لن يقدم على السرقة، وما مثل هذا وهذا إلا كمثل من يقول: إنك إذا قتلت القاتل المستحق للقتل قصاصًا فإنك تضيف إلى قتل الأول قتل رجل آخر، وهذا يضاعف عدد المقتولين، فإننا نقول: إن هذه القولة قولة باطلة، أبطلها الله في قوله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) . فإن القاتل إذا علم أنه إذا قتل عمدًا سيقتل لن يقدم على القتل، فحينئذٍ يقل القتل عمدًا وعدوانًا. والمهم كل المهم أنه يجب على الإنسان العالم المتقي لله ﷿ أن يكون متمشيًا مع الدليل حيث ما كان إيجابًا وسلبًا، وإصلاح الحال على الرب ﷿ الذي شرع هذا الذي أقدم عليه المفتي والحاكم، والله ﷿ لم يشرع لعباده إلا ما فيه صلاحهم وسعادتهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة، لا يمكن أبدًا أن يشرع لعباده ما فيه مفسدة راجحة على مصلحة، كما قال الله تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) . وأنت إذا حكمت الناس بمقتضى شريعة الله لا بمقتضى واقعهم فإن الواقع سوف يتغير، حتى يتحول إلى مراد الله ﷿ في عباده فيما شرعه لهم. فضيلة الشيخ: يقول: في كلمة الإخلاص شروط وأركان، فإذا لم يأت بها المسلم كاملةً فهل يكون قد أدى حقيقتها؟ فأجاب رحمه الله تعالى: قلنا: إنه لا يؤدي حقيقتها إذا لم يأت بشروطها ومقتضياتها اللازمة، فإنه ليس المراد من كلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله أن يقولها بلسانه، بل لا بد أن يقولها بلسانه معتقدًا مدلولها بقلبه، قائمًا بما تقتضيه من واجبات وشروط وأركان. ***
السائل أحمد صالح يقول: هل من قال: لا إله إلا الله، بدون أن يعمل أي عمل يدخل الجنة؟ أي: قالها بلسانه؛ لأنه يوجد حديث فيما معناه يقول: (وعزتي وجلالي لأُخْرِجَنَّ من النار كل من قال: لا إله إلا الله) . والله أعلم، ولكم جزيل الشكر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: كلمة لا إله إلا الله كلمة عظيمة، لو وزنت بها السماوات والأرض لرجحت بهن. ومعناها: لا معبود حق إلا الله، فكل ما يعبد من دون الله فهو باطل؛ لقول الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) . والعبادة لا تختص بالركوع أو السجود، يعني: أن الإنسان قد يعبد غير الله دون أن يركع له ويسجد، ولكن يقدم محبته على محبة الله، وتعظيمه على تعظيم الله، ويكون قوله أعظم في قلبه من قول الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعطَ سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) . فَجَعَلَ للدينار عبدًا، وللدرهم عبدًا، وللخميلة عبدًا، وللخميصة عبدًا، الخميلة: الفراش، والخميصة: الكساء، مع أن هؤلاء لا يعبدون الدرهم والدينار، لا يركعون له ولا يسجدون له، لكنهم يعظمونه أكثر من تعظيم الله ﷿، وإلى هذا يشير قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) . فهذه الكلمة كلمة عظيمة، فيها البراءة من كل شرك، وإخلاص الألوهية والعبادة لله ﷿، فلو قالها بلسانه وقلبه فهو الذي قالها حقًا، ولهذا قال أبو هريرة: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: (من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه) . وقال في حديث عتبان بن مالك- أعني: النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال-: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله)، فلا بد من الإخلاص. وأمَّا مَنْ قالها بلسانه دون أن يوقن بها قلبه فإنها لا تنفعه؛ لأن المنافقين يذكرون الله ويقولون: لا إله إلا الله، كما قال تعالى: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) . ويشهدون للنبي ﷺ بالرسالة، كما قال تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) . فلن تنفعهم شهادة أن لا إله إلا الله ولا شهادة أن محمدًا رسول الله؛ لأنهم لم يقولوا ذلك عن قلب وإخلاص. فمن قال هذه الكلمة دون إخلاص فإنها لا تنفعه، ولا تزيده من الله تعالى إلا بعدًا. فنسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين الإيقان بها والعمل بمقتضاها، إنه على كل شيء قدير. ***
هذا المستمع سيد محمد من جمهورية مصر العربية يقول: يوجد بعض الرجال يقولون لنا: قولوا: لا إله إلا الله تدخل الجنة، فإن رسول الله ﷺ يقول: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، قولًا بلا عمل فقط، فهل هم على صواب؟ أفيدونا وانصحونا بهذا مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: ليسوا على صواب، فإن المراد بقول: لا إله إلا الله، أن يقولها الإنسان بلسانه، معتقدًا مدلولها بقلبه، عاملًا بمقتضاها. ولهذا لو قال الإنسان: لا إله إلا الله، وجحد ولو حرفًا واحدًا من القرآن كان كافرًا، ولم تنفعه لا إله إلا الله. ومن قال: لا إله إلا الله، وترك الصلاة مثلًا كان كافرًا، ولم تنفعه لا إله إلا الله، لكن من قال: لا إله إلا الله، وكانت آخر كلامه، فإنه سيقولها مخلصًا لله بها وهو في هذه الحال، لا يستطيع أن يعمل أكثر من ذلك فتكون مدخلة له الجنة. ***
الذي ينطق بالشهادة قبل موته هل يدخل في قول الرسول ﷺ: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إذا قال: لا إله إلا الله، عند موته موقنًا بها قلبه فإنه يدخل في الحديث، ولكن ليعلم أن النصوص العامة فيما يدخل الجنة أو يدخل النار لا تطبق على شخصٍ بعينه إلا بدليل، فمثلًا: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) . إذا علمنا أن هذا الرجل كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله فنحن نقول: يرجى أن يكون من أهل الجنة، فالمعين لا تجزم له وإنما قل: يرجى إذا كان في خير، أو يخشى إذا كان في شر؛ لأنه يفرق بين العموم والخصوص، نحن نشهد ونعلم ونوقن بأن كل مؤمنٍ في الجنة، فهل نشهد لكل مؤمن بعينه أنه في الجنة؟ فالجواب: لا، لكننا إذا علمنا أنه مؤمن نرجو له أن يكون داخلًا في الجنة، نؤمن بأن الله تعالى يحب المؤمنين ويحب المحسنين، فلو رأينا رجلًا يحسن ورأينا رجلًا مؤمنًا يقوم بالواجبات ويترك المحرمات فهل نشهد أن الله يحبه؟ فالجواب: لا؛ لأن التعيين غير التعميم، ولكن نقول: نشهد لكل مؤمن أن الله يحبه، ونرجو أن يكون هذا الرجل بعينه ممن يحبه الله ﷿. وقد أشار البخاري ﵀ في صحيحه إلى نحو هذا فقال: (بابٌ: لا يقال فلان شهيد) . وإن كان قتل في سبيل الله فلا تقل: إنه شهيد، واستدل لذلك بقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما من مكلومٍ يكلم في سبيل الله- والله أعلم بمن يكلم في سبيله- إلا إذا كان يوم القيامة جاء وجرحه يثعب دمًا، اللون لون الدم، والريح ريح المسك) . فقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (والله أعلم بمن يكلم في سبيله) إشارة إلى أنك لا تشهد للشخص المعين، بل قل: الله أعلم. وخطب أمير المؤمنين عمر ﵁ فقال: إنكم تقولون: فلان شهيد فلان شهيد، وما أدراك لعله فعل كذا وكذا؟ ولكن قولوا: من مات في سبيل الله أو قتل فهو شهيد، ففرق ﵁ بين التعيين والتعميم. ***
ع. أ. ك.، يقول: أخبركم أني قرأت في كتاب رياض الصالحين عن الإمام المحدث الحافظ محيي الدين أبي زكريا بن شرف النووي أحاديث كثيرة، ومنها يقول: قال رسول الله ﷺ: (من قال في آخر حياته- يعني: عند موته، من قال-: لا إله إلا الله دخل الجنة) . (ومن مات له ثلاثة أولاد أو أقل قبل البلوغ دخل الجنة) . (ومن كان له أربع بنات ورباهن على تربية الإسلام دخل الجنة) . (ومن مات له ولد في السن الصغير وقال: الحمد لله عند موته بني له بيت في الجنة) . وقال رسول الله ﷺ: (من صام يومًا في سبيل الله إلا أبعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا)، وقال رسول الله ﷺ في باب يقال له: باب الريان: (يدخل منه الصائمون) . فإذا كان ذلك من الأحاديث الصحيحة، فما بال آكل الربا والزاني والقاتل والسارق والكذاب؟ أفتوني بهذه المسألة؛ لأنني في حيرة جزاكم الله عني خير الجزاء؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا السؤال مهم، وهو موضع إشكال كما ذكره الأخ الكاتب؛ لأن ما ذكره من الأحاديث التي ترتب دخول الجنة على هذه الأعمال يعارضها أحاديث كثيرة تدل على دخول النار لمن عمل أعمالًا أخرى، مع قيام صاحبها بهذه الأعمال الموجبة لدخول الجنة، فجوابنا على هذا وأمثاله من الأحاديث، بل من النصوص، سواء من القرآن أو من السنة أن يقال: إن ذكر بعض الأعمال التي تكون سببًا لدخول الجنة ما هو إلا ذكر للسبب، وكذلك ذكر بعض الأحاديث التي ذكر فيها أن بعض الأعمال سبب لدخول النار ما هو إلا ذكر للسبب فقط، ومن المعلوم أن الأحكام لا تتم إلا بتوفر أسبابها وشروطها وانتفاء موانعها، فهذه الأعمال المذكورة هي سبب لدخول الجنة، لكن هذا السبب قد يكون له موانع، فمثلًا: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) . هذا إذا قالها على سبيل اليقين والصدق، فإذا قالها على سبيل النفاق- وهو بعيد أن يقولها على سبيل النفاق في هذه الحال- فإنها لا تنفعه،وهكذا: (من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحلم كانوا سترًا له من النار) . هذا سبب من الأسباب، من أسباب وقاية النار، لكن قد يكون هناك موانع تمنع نفوذ هذا السبب، وهي الأعمال التي تكون سببًا لدخول النار، وإن هذه الموانع وتلك الأسباب تتعارضان، ويكون الحكم لأقواهما، فالقاعدة إذًا أن ما ذكر من الأعمال مرتبًا عليه دخول الجنة ليس على إطلاقه، بل هو مقيد بالنصوص الأخرى التي تفيد أن هذا لابد له من انتفاء الموانع، فلنضرب مثلًا أن رجلًا من الناس كافر ومات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحلم وصبر، فهل نقول: إن هذا الكافر يدخل الجنة ولا يدخل النار؟ فالجواب لا، كذلك أيضًا في آكل الربا، وكذلك في آكل مال اليتيم، وكذلك في قتل النفس وغيرها، مما وردت فيه العقوبة بالنار، هذا أيضًا مقيد بما إذا لم يوجد أسباب أو موانع قوية تمنع من نفوذ هذا الوعيد، فإذا وجدت موانع تمنع من نفوذ هذا الوعيد فإنها تمنع منه؛ لأن القاعدة كما أسلفنا هي: أن الأمور لا تتم إلا بتوفر أسبابها وشروطها، وانتفاء موانعها. ***
العبادة
السائلة ن ع من جمهورية مصر العربية وتقيم الآن في المملكة تقول هذه السائلة بأنه كانت لي أمنية أرجو أن تتحقق من الله ﷿، وقد نذرت لها العديد من النذور لتتحقق، وكنت أذهب إلى مساجد أولياء الله الصالحين وأنذر هناك، كذلك وبعد تحقق هذه الأمنية قمت بالوفاء بما أتذكر من هذه النذور، ولكن كان هناك العديد من النذور نسيتها نظرًا لطول المدة على هذه النذور، فأرجو من فضيلتكم توضيح هل تسقط هذه النذور التي نسيتها أم ماذا أفعل؟ جزاكم الله خيرًا فأجاب رحمه الله تعالى: نقول في الجواب على هذا السؤال المهم: أولا: ً كونها تنذر لله ﷿ ليحصل مقصودها هذا خطأ عظيم؛ لأن النبي ﷺ نهى عن النذر وقال: (إنه لا يأتي بخير) . فليس النذر هو الذي يجلب الخير للإنسان، ولا النذر هو الذي يدفع الشر، إذا قضى الله قضاءً فلا مرد له لا بالنذر ولا غيره، ولهذا جاء في حديث آخر: (أن النذر لا يرد القضاء) . فإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يظن الظان إذا نذر شيئًا وحصل مقصوده أن هذا من أجل النذر؛ لأن النذر مكروه منهي عنه، والمكروه لا يكون وسيلة إلى الله ﷿، وكيف تتوسل إلى الله بما نهى عنه رسول الله؟ هذا فيه مضادة؟ إنما يتوسل الإنسان إلى الله بما يحب- أي: بما يحبه الله ﷿ حتى يحصل للمتوسل ما يحب. ثانيًا: كونها تذهب إلى مساجد الأولياء والصالحين، أفهم من هذا أن هناك مساجد مبنية على قبور الأولياء والصالحين، وهذه المساجد التي تبنى على قبور الأولياء والصالحين ليست مكان عبادة ولا قربة، والصلاة فيها لا تصح، ويجب أن تهدم؛ لأن النبي ﷺ نهى عن البناء على القبور وقال: (لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) . والواجب على ولاة الأمور في البلاد التي فيها مساجد مبنية على القبور، الواجب أن يهدموها إذا كانوا ناصحين لله ورسوله وكتابه والمسلمين، أما إذا كانت المساجد سابقة على القبور ودفن الميت في المسجد؛ فإن الواجب نبشه؛ لأن المسجد لم يبنَ على أنه مقبرة، بني للصلاة والذكر وقراءة القرآن، فالواجب نبش هذا القبر، وإخراج الميت منه، ودفنه مع الناس، ولا يجوز إقرار القبر في المسجد. فإن قال قائل: كيف تقول هذا وقبر النبي ﷺ في مسجده؟ الآن المسجد محيط به من كل جانب ومازال المسلمون يشاهدون هذا؟ فالجواب: أن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، وقبر النبي ﵊ لم يبن عليه المسجد، ولم يدفن الرسول في المسجد، فالنبي ﷺ لم يدفن في المسجد، والمسجد لم يبن على قبره، المسجد كان قديمًا بناه الرسول ﵊ من حين قدم المدينة مهاجرًا، والنبي ﷺ لم يقبر فيه، وإنما قبر في بيته في حجرة عائشة ﵂، ثم لما احتاج المسلمون إلى توسعة المسجد وسعوه، فدخلت فيه بيوت أزواج النبي ﷺ، وكان من جملتها بيت عائشة، لكنه بيت مستقل، لم ينو المسلمون حين وسعوا المسجد أن يكون من المسجد، فهو حجرة في مسجد، قائمة قبل بناء المسجد-أعني: الزيادة في المسجد-ثم إنه زيد فيه أن طوق بثلاثة جدران، فهو بناء مستقل سابق على هذه الزيادة، وحين زادوها كانوا يعتقدون أن هذا بناء منفصل عن المسجد متميز بجدرانه، فليس مثل الذي يؤتى بالميت ويدفن في جانب المسجد، أو يبنى المسجد على القبر، وحينئذٍ لا حجة فيه لأصحاب المساجد التي بنيت على القبور أو التي قبر فيها الأموات إطلاقًا، وما الاحتجاج بهذا إلا شبهة يلقيها أهل الأهواء على البسطاء من الناس؛ ليتخذوا منها وسيلة إلى تبرير مواقفهم في المساجد المبنية على قبورهم، وما أكثر الأمور المتشابهات-بل التي يجعلها ملبسوها متشابهات-من أجل أن يضلوا بها عباد الله، هاتان مسألتان مهمتان في الجواب على هذا السؤال. أما المسألة الثالثة، وهي: أنها لا تعلم أن النذور التي نذرت قد وفت بها جميعا، فلا يجب عليها إلا ما علمته؛ لأن الأصل براءة الذمة، فما علمته من النذور وجب عليها الوفاء به، وما لم تعلمه فإنه لا يجب عليها؛ لأن الأصل براءة الذمة إلا بيقين. ولكنني أكرر النهي عن النذر، سواء كان نذرًا مطلقًا أو معلقًا بشرط، أكرر ذلك لأن النبي ﷺ نهى عن النذر وقال: (إنه لا يأتي بخير) . هكذا كلام الرسول ﵊: لا يأتي بخير، لا يرد قضاءً، ولا يرفع بلاءً، وإنما يكلف الإنسان، ويلزمه ما ليس بلازم له، وما هو بعافية منه، سواء كان هذا النذر معلقًا بشرط، مثل أن يقول: إن شفى الله مريضي فلله علي كذا وكذا، أو غير معلق مثل أن يقول: لله علي نذر أن أصوم من كل شهر عشرة أيام مثلًا، فالبعد البعد عن النذر، نسأل الله السلامة. ***
هذه سائلة من الدمام تقول: فضيلة الشيخ كيف يكون المؤمن بين الرجاء والخوف؟ وإذا كان عند الإنسان خوف كثير، وأنا أعلم بأن فضل الله ﷿ على عباده كبير، وأن رحمته سبقت غضبه، فأنا دائمًا خائفة جدًّا لتقصيري، وأسأل الله ﷿ أن يمن علينا وعليكم بعفوه وفضله، وجهونا في ضوء هذا السؤال؟ فأجاب رحمه الله تعالى: المؤمن يجب أن يسير إلى الله ﵎ بين الخوف والرجاء كجناحي طائر، قال الإمام أحمد ﵀: ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحدًا، فأيهما غلب هلك صاحبه. فالإنسان إذا رأى ذنوبه وما حصل منه من التقصير في حقوق الله ﷿ وحقوق العباد خاف، وإذا تأمل فضل الله تعالى وسعة رحمته وعفوه طمع ورجع، وعليه فينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحدًا؛ لأنه إن غلب عليه الرجاء يخشى عليه من الأمن من مكر الله، وإن غلب عليه الخوف خشي عليه أن يقنط من رحمة الله، وكلاهما محظور، وقد قال الله تعالى عن أوليائه وأنبيائه: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) . ومن العلماء من قال: إن فعل الطاعات فليغلب جانب الرجاء والقبول، وأن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملًا؛ وإن فعل المحرمات غلب الخوف، وخاف أن تناله سيئاته بعقوبات حاضرة ومستقبلة. وقال آخرون من أهل العلم: ينبغي في حال الصحة أن يغلب جانب الخوف؛ ليحمله ذلك على فعل الواجبات وترك المحرمات، وفي حال المرض المدنف الذي يخشى أن يلاقي ربه به يغلب جانب الرجاء، من أجل أن يموت وهو يحسن الظن بالله ﷿. وعلى كل حال يجب على الإنسان أن لا يستولي عليه الخوف حتى يقنط من رحمة الله، أو الرجاء حتى يأمن من مكر الله، وليكن سائرًا إلى ربه بين هذا وهذا. ***
السائلة ن ع غ تقول: اشرحوا لنا حسن الظن بالله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: حسن الظن بالله أن الإنسان إذا عمل عملًا صالحًا يحسن الظن بربه أنه سيقبل منه، إذا دعا الله ﷿ يحسن الظن بالله أنه سيقبل منه دعاءه ويستجيب له إذا أذنب ذنبًا ثم تاب إلى الله ورجع من ذلك الذنب يحسن الظن بالله أنه سيقبل توبته، إذا أجرى الله تعالى في الكون مصائب يحسن الظن بالله، وأنه جل وعلا إنما أحدث هذه المصائب لحكم عظيمة بالغة، يحسن الظن بالله في كل ما يقدره الله ﷿ في هذا الكون، وفي كل ما شرعه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأنه خير ومصلحة للخلق، وإن كان بعض الناس لا يدرك هذه المصلحة، ولا يدرك تلك الحكمة مما شرع، ولكن علينا جميعًا التسليم بقضاء الله تعالى شرعًا وقدرًا، وأن نحسن به الظن؛ لأنه ﷾ أهل الثناء والمجد. ***
بارك الله فيكم هذا السائل من جمهورية مصر العربية يقول: ما حقيقة التوكل على الله؟ أرجو بهذا إفادة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: حقيقة التوكل على الله ﷿ تفويض أمرك إلى الله، كما قال الله تعالى عن مؤمن آل فرعون: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) . أن يفوض الإنسان أمره إلى الله، ويصدق في الاعتماد عليه في جلب المنافع ودفع المضار، ويثق في الله ﷿ وبوعده، ويفعل الأسباب الشرعية والحسية التي أمر الله بها، هذا هو التوكل. وأنت إذا اعتمدت على ربك على هذا الوصف فإن الله تعالى حسبك وكافيك؛ لقول الله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) . ونحن نقر بذلك-أي: بالتوكل على الله، أو بما يتضمنه- في كل صلاة، نحن نقول في كل صلاة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) . والاستعانة تستلزم تفويض الأمر إلى الله ﷿، وأنه ليس لنا حول ولا قوة ولا قدرة على العبادة إلا بمعونة الله، ولكن لا بد من فعل الأسباب الموصلة إلى المقصود، شرعيةً كانت أم حسية. فمن قال: أنا أعتمد على الله وأتوكل عليه في حصول الولد، ولم يتزوج كان كاذبًا في توكله، لا بد أن يتزوج، والزواج هو الوسيلة الشرعية لحصول الولد. ومن قال: أنا أعتمد على الله، وألقى نفسه في النار، أو ألقى نفسه في اليم وهو لا يعرف السباحة، نقول: أنت كاذب، لا بد أن تفعل الأسباب الواقية من النار أو من الغرق. ولهذا كان سيد المتوكلين محمدٌ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كان يأخذ بالأسباب الحسية مع صدق توكله على الله، فكان ﵊ في الحرب يلبس الدرع، والدرع عبارة عن درع من حديد يقي السهام والحراب، وربما لبس درعين زيادةً في الوقاية، كما فعل ذلك يوم أحد. فلا بد من فعل الأسباب النافعة، شرعية كانت أم قدرية حسية، من أجل أن يحصل لك المقصود في اعتمادك على الله ﷿. ***
كيف يكون الإنسان متوكلًا على الله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يكون الإنسان متوكلًا على الله بأن يصدق الاعتماد على ربه ﷿، حيث يعلم أنه ﷾ هو الذي بيده الخير، وهو الذي يدبر الأمور، ولقد قال النبي ﷺ لعبد الله بن عباس: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) . فبهذه العقيدة يكون الإنسان معتمدًا على ربه جل وعلا، لا يلتفت إلى من سواه. ولكن حقيقة التوكل لا تنافي فعل الأسباب التي جعلها الله تعالى سببًا، بل إن فعل الأسباب التي جعلها الله تعالى سببًا، هو من تمام التوكل، سواء كانت شرعية أم حسية ومن تمام الإيمان بحكمة الله ﷿؛ لأن الله تعالى قد جعل لكل شيء سببًا. وهذا النبي ﷺ وهو سيد المتوكلين- كان يلبس الدروع في الحرب، ويتوقى البرد، ويأكل ويشرب لإبقاء حياته ونمو جسمه، وفي أحد ظاهر بين درعين- أي: لبس درعين- فهؤلاء الذين يزعمون أن حقيقة التوكل بترك الأسباب والاعتماد على الله ﷿ هم في الواقع مخطئون، فإن الذي أمر بالتوكل عليه له الحكمة البالغة في تقديره وفي شرعه، قد جعل للأمور سببًا تحصل به، ولهذا لو قال قائل: أنا سأتوكل على الله تعالى في حصول الرزق، وسأبقى في بيتي لا أبحث عن الرزق. قلنا إن هذا ليس بصحيح، وليس توكلًا حقيقيًّا، فإن الذي أمرك بالتوكل عليه هو الذي قال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) . ولو قال قائل: أنا سأتوكل في حصول الولد أو في حصول الزوجة، ولم يشرع في طلب الزوجة وخطبتها، لعده الناس سفيهًا، ولكان فعله هذا منافيًا لما تقتضيه حكمة الله ﷿. ولو أن أحدًا أكل السم وقال: إني أتوكل على الله تعالى في أن لا يضرني هذا السم، لكان هذا غير متوكل حقيقة؛ لأن الذي أمرنا بالتوكل عليه ﷾ هو الذي قال لنا: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) . والمهم أن فعل الأسباب التي جعلها الله تعالى أسبابًا لا ينافي كمال التوكل، بل هو من كماله، وأن التعرض للمهلكات لا يعد هذا من توكل الإنسان على الله، بل هو خلاف ما أمر الله ﷿ به. ***
هذا سؤال بعث به كل من الأخ سليمان ومحمد من حضرموت قال أهل العلم: إن الدعاء ينقسم إلى قسمين: دعاء عبادة ودعاء مسألة، ماذا يقصد بكل منهما؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يريد العلماء ﵏ بتقسيم الدعاء إلى قسمين: دعاء مسألة ودعاء عبادة، ما ذكره الله تعالى في قوله: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) . فدعاء المسألة: أن تسأل الله تعالى حاجاتك، بأن تقول: رب اغفر لي وارحمني وارزقني وعافني واجبرني وما أشبه ذلك. ودعاء العبادة: أن تتعبد لله ﵎ بما شرع، تصلى وتزكي وتصوم وتحج وتفعل الخير؛ لأن هذا الذي يتعبد لله ما قصد إلا رضوان الله وثوابه، فهو داع لله تعالى بلسان الحال له لا بلسان المقال. على أن بعض هذه العبادات التي يتعبد بها تتضمن دعاء المسألة، كالصلاة مثلًا، ففي الصلاة يقول المصلى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) وهذا دعاء مسألة. ويقول: رب اغفر لي وهذا دعاء مسألة، ويقول: السلام عليك أيها النبي، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، اللهم صل على محمد، اللهم بارك على محمد، أعوذ بالله من عذاب جهنم، وهذا كله دعاء مسألة. فالفرق بينهما إذًا: أن دعاء المسألة أن يسأل الله تعالى شيئًا مباشرة، سواء سأله حصول مطلوب أو سأله النجاة من مرهوب. ودعاء العبادة أن يتعبد لله تعالى بما شرع، رجاء ثوابه جل وعلا، وخوفًا من عقابه، هذا هو معنى تقسيم أهل العلم ﵏. وقد علمنا أن الدعاء نفسه عبادة، كما تدل عليه الآية التي تلوتها، وهي قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) ولم يقل: عن دعائي، وهذا يدل على أن الدعاء عبادة. وقال الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) . ودعاء الله تعالى بأسمائه الحسنى يتضمن سؤاله بها، مثل: يا غفور اغفر لي، يا رحيم ارحمني، ويتضمن التعبد لله تعالى بمقتضاه: فإذا علمنا أنه غفور عملنا ما يكون سببًا للمغفرة، علمنا أنه رحيم عملنا ما يكون سببًا للرحمة، وإذا علمنا أنه رزاق عملنا ما يكون سببًا للرزق، وهلم جرًّا. ***
هل من دعوة الأمة إلى سؤال الله ﷿ والتعلق به دون التعلق بغيره؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم وسنقول لإخواننا: إن الذي يجب أن يوجه إليه الدعاء وأن توجه إليه الاستعاذة هو الله ﷿، وهو المعين، وهو المجيب، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، قال الله ﵎: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) وفي قراءة: (سَيَقُولُونَ اللهُ) . وقال تبارك تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) . وقال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) . وقال الله تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (٥) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) . فالدعاء لله وحده، والاستعاذة بالله وحده، والملك لله وحده، فهو أهل الدعاء، وأهل الاستعاذة، وهو أهل الفضل والإحسان. ***
يقول: مجموعة من الناس طلبوا مني أن أشتري لهم من الأماكن المقدسة حاجات، مثل سجادة وكفن وحناء ومصحف؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما السجادات: فإن كانوا أوصوك بها لأن السجادات تتوفر في ذلك المكان أكثر من غيره، وقد تكون أرخص، فلا حرج؛ وأما إذا كان الاعتقاد أن السجادات التي تُشترى من هناك لها مزية على غيرها في الفضل، فليس بصحيح، ولا تشترِيها لهم بناءً على هذا الاعتقاد. وأما الكفن أيضًا: فإنه ليس بمشروع أن يشتري الإنسان كفنه من تلك المواضع، ولا أن يغسله بماء زمزم؛ لأن ذلك ليس واردًا عن النبي ﵊ ولا عن أصحابه، وإنما يتبرك بالكفن فيما ورد به النص، وهو ما ثبت به الحديث عن النبي ﷺ أنه أهديت إليه جبة، فسأله إياها رجل من الصحابة، فلاذ الناس به وقالوا: كيف تسأل النبي ﷺ ذلك، وقد علمت أنه لا يرد سائلًا؟ فقال: إني أريد أن تكون كفني، فصارت كفنه، وكذلك أيضًا طلب عبد الله بن عبد الله بن أبي من النبي ﷺ أن يكفن أباه عبد الله بن أبي بقميص الرسول ﵊ ففعل، فهذه الأكفان التي كانت من لباس الرسول ﵊ لا بأس أن يتبرك بها الإنسان، وأما كونها من مكة أو من المدينة فهذا لا أصل للتبرك به. ***
بعض المشايخ يعالجون المرضى بالآيات القرآنية، ما مدى صحة هذا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لاشك أن الله تعالى جعل هذا القرآن شفاءً لما في الصدور، وشفاء لما في الأجسام أيضًا: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) . (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) . وقد قال الرسول ﵊ كما في حديث أبي سعيد: أنهم قرؤوا على لديغ سورة الفاتحة، قرؤوها عليه سبع مرات، فقام كأنما نشط من عقال، فقال النبي ﵊ لما رجعوا إليه وأخبروه، قال-: (ما يدريك أنها رقية)؟ فأثبت النبي ﵊ أن الفاتحة رقية؛ لأنه يرقي بها المريض، أي يقرأ عليه. فالقرآن كله خير وكله بركة، ولا شك أنه مؤثر، ولكن يجب أن نعرف كما يقال: السيف بضاربه، لا بد لتأثير القرآن من ثلاثة أمور: أولًا: إيمان القارىء بتأثيره، وثانيًا: إيمان المقروء عليه بتأثيره، وثالثًا: أن يكون ما قرأ به مما تشهد الأدلة له بالتأثير. فإذا كان كذلك فإنه مؤثر بإذن الله، أما إذا نقص واحد من هذه الأمور الثلاثة، مثل: أن يقرأ على سبيل التجربة، يقول: أجرب أشوف ينفع أم لا؟ فإن ذلك لا ينفع؛ لأن الواجب على المؤمن أن يؤمن بتأثيره، وكذلك أيضًا لو كان المريض عنده شك في ذلك، وليس عنده إيمان بتأثير القرآن، فإن ذلك لا ينفعه أيضًا؛ لأن المحل غير قابل حينئذ، وكذلك أيضًا لو قرأ آيات لم تشهد الأدلة لها بالتأثير، فهذا أيضًا قد لا يؤثر، وليس معنى ذلك أنه نقص في القرآن الكريم، ولكنه خطأ في استعمال أو قراءة ما تبقى قراءته من الآيات أو السور. ***
بارك الله فيكم من السودان سائل يقول أسأل عن الرقية الشرعية وغير الشرعية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الرقية الشرعية ما جاءت به السنة مثل (اللهم رب الناس اذهب البأس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقمًا) وغير الشرعية هي البدعية أو الشركية فما كان بدعة أو شركًا فإن الرقية به محرمة ولا تزيد الإنسان إلا ضررا ومرضًا وإن قدر أنه شفي بها فهو لم يشفَ بها في الواقع وإنما كان الشفاء عندها لا بها امتحانًا من الله ﷾ لهذا الرجل الذي رقى بالشرك أو بالبدع وأما الأدعية المباحة التي ليست ببدعة فالرقية بها جائزة فتبين بهذا أن الرقى أربعة أقسام ما جاءت به السنة فالرقية به مشروعة مستحبة وما كان شركًا أو كان بدعة فالرقية به محرمة وما كان دعاءً مباحًا لا شرك فيه ولا بدعة لكنه ليس مما ورد عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فالرقية به جائزة ولهذا قال النبي ﵊ في الرقى (لابأس بها ما لم تكن شركًا) . ***
ماحكم القراءة في الماء ثم الوضوء بهذا الماء؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا بأس أن يقرأ في الماء ويتوضأ به المريض ليستشفي به وهذا وإن كنت لا أعلم أنه واردٌ عن السلف لكن قد يقول قائل إنه يدخل في عموم الآية الكريمة (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) وخيرٌ من ذلك أن يقرأ المريض على نفسه بآيات من القرآن أو يقرأ عليه أحدٌ من أهله أو من أصحابه بما يراه مناسبًا. ***
المستمع الذي رمز لاسمه بـ: ي وس م سوريا درعاء الحائرة يقول في رسالته فضيلة الشيخ هل يجوز التداوي ببعض آيات القرآن الكريم؟ وإن كان كذلك فكيف تتم هذه المداواة؟ وما هي الطريقة؟ وهل التداوي بالقرآن لكافة أنواع الأمراض، أم لمرض معين؟ وإن كان كذلك فما هو؟ أرشدونا بارك الله فيكم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم يجوز التداوي بالقرآن العظيم؛ لأن الله ﷿ يقول: (وَنُنَزِّلُ مِن الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) . وكان النبي ﷺ يقرأ المعوذتين يتعوذ بهما، وقال: (ما تعوذ متعوذ بمثلهما) . فيقرأ على المريض الآيات المناسبة لمرضه، مثل أن يقرأ لتسكين المرض والألم: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) . ويقرأ: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)، أو نحو ذلك من الآيات المناسبة. وكذلك يقرأ الفاتحة، فإن النبي ﷺ ذكر أنها رقية يرقى بها المريض واللديغ، وينتفع بها بإذن الله، لكن يجب أن نعلم أن القرآن نفسه شفاء ودواء، ولكنه بحسب القارىء وبحسب المقروء عليه؛ لأنه لا بد من أهلية الفاعل وقابلية المحل، وإلا لم تتم المسألة: فالفاعل لا بد أن يكون أهلًا للفعل، والمحل لابد أن يكون قابلًا له، فلو أن أحدًا من الناس قرأ بالقرآن وهو غافل أو شاك في منفعته فإن المريض لا ينتفع بذلك، وكذلك لو قرأ القرآن على المريض والمريض شاك في منفعته فإنه لا ينتفع به، فلا بد من الإيمان من القارىء والمقروء عليه بأن ذلك نافع، فإذا فعل هذا مع الإيمان من كلٍ من القارىء والمقروء عليه انتفع به. ***
بارك الله فيكم ما هي الأدعية التي تقال في الرقية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الأدعية التي تقال في الرقية أهمها وأعظمها قراءة سورة الفاتحة، فإن قراءة سورة الفاتحة على المريض من أسباب شفائه، كما قال النبي ﷺ: (وما يدريك أنها رقية)؟ ومن ذلك ما جاءت به السنة، مثل قوله: (باسم الله أرقيك، من كل داء يؤذيك، من شر كل عين حاسد الله يشفيك) . ومثل قوله: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض، أنت رب الطيبين، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجَع أو على هذا الوجِع) . ومثل قوله: (اللهم رب الناس، أذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا) . والأحاديث في هذا معروفة، يمكن للسائل أن يرجع إليها في كتاب الوابل الصيب من الكلم الطيب لابن القيم، أو في كتاب الأذكار للنووي، أو غيرهما مما كتبه أهل العلم في هذا الباب. ***
بينما كنت جالسًا في مصلى المسجد أقرأ القرآن دخلت علي امرأة ومعها فتاة بالغة، وطلبت مني أن أقرأ على الفتاة آيات من القرآن؛ لأنها كانت تعاني من حالة نفسية، فقرأت قدر خمسين آية من سورة البقرة، وبعد أن انتهيت من القراءة قمت بمسح رأس ووجه الفتاة، وطلبت منها أن تنظر في المصحف. فهل أنا آثم على ما فعلت؟ علمًا بأني ما أردت من ذلك إلا الخير والثواب وقصد الشفاء إن شاء الله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما قراءتك على الفتاة فإن هذا لا بأس به، ولكن في هذه الحال يجب أن تكون ساترة لما يجب ستره من الوجه وغيره، وأما مسحك رأسها ووجهها بعد قراءتك فلا أرى له وجهًا، ولا ينبغي ذلك منك، بل يحرم عليك أن تمس بشرة امرأة أجنبية منك، ليست زوجة وليس بينك وبينها محرمية، فعليك أن تتوب إلى الله من هذا الأمر، وأن لا تعود إليه. أما القراءة على النساء والرجال مع مراعاة التحفظ الواجب فإن هذا لا بأس به، وهو من الإحسان، بشرط أن لا يكون هناك فتنة. ***
المستمع يحيى أبو خالد يقول: ما صحة هذا الحديث المروي عن الرسول ﷺ أنه (إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما فقرأ: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الناس، وقل أعوذ برب الفلق، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده) ويفعل ذلك ثلاث مرات، وما كيفية النفث؟ أرجو الإفادة والتوضيح بارك الله فيكم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الحديث صحيح أنه كان ﵊ إذا أوى إلى فراشه فعل ما ذكره السائل، لكن السائل بدأ بقل أعوذ برب الناس قبل قل أعوذ برب الفلق، والترتيب الصحيح أن نقول: قل أعوذ برب الفلق قبل قل أعوذ برب الناس، نفث: نفخ مع ريق خفيف، والحكمة من ذلك أن هذا الريق تأثر بقراءة هذه السورالكريمة، فإذا كان متأثرًا به ومسحه على وجهه ورأسه وبسط عن جسده كان في ذلك خيرٌ وبركة وحماية ووقاية للإنسان في منامه. ***
السائلة مريم تقول: فضيلة الشيخ هل هناك آيات واردة تقرأ بغرض تسهيل الولادة بالنسبة للمرأة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا أعلم في ذلك شيئًا عن السنة، لكن إذا قرأ الإنسان على الحامل التي أخذها الطلق ما يدل على التيسير، مثل: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) . ويتحدث عن الحمل والوضع، كقوله تعالى: (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِه) . ومثل قوله تعالى: (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا (١) وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا) . فإن هذا نافع ومجرب بإذن الله، والقرآن كله شفاء، إذا كان القارىء والمقروء عليه مؤمنَين بأثره وتأثيره فإنه لابد أن يكون له أثر، فإن الله ﷾ يقول: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا) . وهذه الآية عامة: شفاء ورحمة يشمل شفاء القلوب من أمراض الشبهات وأمراض الشهوات، وشفاء الأجسام من الأمراض المستصعبات. ***
بارك الله فيكم المستمع أبو عبد الله يقول: طلبت مني زوجتي أن أذهب بها إلى أحد الأشخاص الذين يرقون المرضى، إلا أني لم أتشجع لذلك مع علمي بجواز الرقية بشروطها، والسبب في ذلك هو أن كثيرًا من هؤلاء الذين يقرؤون جعلوا من عملهم وسيلة للتكسب، فينظرون ماذا يدفع لهم، وقد يطلبون مبلغًا معينا، ً فهل عملي في محله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أقول إن تأثير الإنسان في قراءته على حسب إخلاصه ونيته، والذي ينبغي للقراء الذين ينفع الله بهم أن يخلصوا النية لله ﷿، وأن ينووا بذلك- أي: بقراءتهم على المرضى- التقرب إلى الله، والإحسان إلى عباد الله، حتى ينفع الله بهم، ويجعل في قراءتهم خيرًا وبركة. ***
هذه رسالة وصلت من السائل أحمد بن صالح الطليان يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما حكم التفرغ للقراءة واتخاذها حرفة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. التفرغ للقراءة على المرضى من الخير والإحسان، إذا قصد الإنسان بذلك وجه الله ﷿، ونفع عباد الله، وتوجيههم إلى الرقى الشرعية التي جاءت في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وأما اتخاذ ذلك لجمع الأموال فإن هذه النية تنزع البركة من القراءة، وتوجب أن يكون القارىء عبدًا للدنيا: إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط. لذلك أنصح إخواني الذين يتفرغون للقراءة على المرضى أن يخلصوا النية لله ﷿، وألا يكون همهم المال، بل إن أعطوا أخذوا، وإن لم يعطوا لم يطلبوا، وبذلك تحصل البركة في قراءتهم على إخوانهم، هذا ما أقوله لإخواني القراء. ***
هل تجوز القراءة في الماء والنفث فيه؟ الشيخ: القراءة على المريض فعلها السلف ﵏، ولعل لها أصلًا من كون الرسول ﵊ عند النوم ينفث في يديه ويقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ثلاث مرات. ***
كيف يفعل الإنسان بالماء المقروء فيه بالقرآن إذا أراد أن يغتسل به؟ فأجاب رحمه الله تعالى: المعروف أن قراءة القرآن في الماء إنما يشربها المريض ولا يغتسل بها، وإذا كان المرض في الجلد- يعني: لا في داخل الجسم- فإنه يؤخذ من هذا الماء ويدهن به الجلد، يؤخذ بقطنة أو بمنديل ويدهن به الجلد المصاب، هذا المعروف، أما أن يغتسل به الإنسان غسلًا كاملًا فلا أصل له. ***
هل يجوز أن أستعمل الماء أو الزيت المقروء فيه أثناء العذر الشهري؟ وهل تجوز القراءة على الكريمات مثل الفازلين وغيره؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يجوز للمرأة الحائض أن تستعمل ما قرىء به من زيت أو ماء أو تمر أو خبز أو غيره، وتجوز القراءة في الأدهان جميعها، وفي الأطعمة التي يأكلها المريض، وفي الأشربة التي يشربها؛ لأن الله تعالى قال: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) . فإذا استعمل القرآن على وجه ظهرت فيه الفائدة والمصلحة وليس فيه إهانة للقرآن الكريم فلا بأس، وقولنا: ليس فيه إهانة للقرآن الكريم، احترازٌ من ما يوجد في بعض الأواني: يكتب في بعض الأواني آية الكرسي أو غيرها من القرآن، منقورًا نقرًا لا يزول بالغسل، وهذا لا شك أنه إهانة للقرآن، وأنه لا يجوز؛ لأن هذا الإناء مبتذل، وربما يلقى في الأرض، وربما يداس بالقدم خطأً أو عمدًا نسأل الله العافية، فلذلك لا يحل للإنسان أن يكتب شيئًا من القرآن على وجه محفور يبقى في الإناء؛ لما في ذلك من امتهان القرآن الكريم. ***
بارك الله فيكم ما حكم القراءة في الماء ثم يقوم الإنسان بشربه أو إعطائه للمريض ليشربه؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا ورد عن السلف الصالح ﵏ أنهم يقرؤون القرآن ويلفظون بريقهم ليشربه المريض، وقد جرب هذا ونفع، لكن إذا علم القارىء أن في فمه داء يمكن أن تنتقل الجراثيم بواسطة الريق إلى هذا الماء فيصاب به المريض فإنه لا يجوز له ذلك، خوفًا من وقوع الضرر على المريض، وفي هذه الحال يمكن أن يذهب الرجل بنفسه إلى المريض فيقرأ عليه. ***
هل ورد في سنة النبي الكريم ﷺ قراءة القرآن للمريض في الماء ثم شربه؟ أو قراءة القرآن في الزيت ثم الادهان به؟ أو قراءة القرآن في كأس مكتوبٍ فيه آية الكرسي ووضع ماء فيه ثم شرب الماء؟ لأن كثيرًا من الناس يفعلون ذلك، هل هذا جائز يا فضيلة الشيخ أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: قال الله ﷿: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) . وهذا الشفاء الذي أنزله الله ﷿ في هذا القرآن الكريم يشمل شفاء القلوب من أمراضها، وشفاء الأبدان من أمراضها أيضًا. ولهذا لما أخبر النبي ﷺ أبو سعيد أو غيره ممن معه في السرية التي بعثها رسول الله ﷺ، فاستضافوا قومًا من العرب فلم يضيفوهم، ثم إن سيد هؤلاء القوم لدغ، فطلبوا له قارئًا يقرأ من السرية التي بعثها رسول الله ﷺ، فجاؤوا إليهم وقالوا: هل منكم من راق؟ يعني: من قارئ قالوا: نعم ولكنكم لم تضيفونا، فلا نرقي لكم إلا بِجُعل. فجعلوا لهم شيئًا من الغنم، ثم ذهب قارئٌ منهم يقرأ على هذا اللديغ، فقرأ عليه بفاتحة الكتاب، فقام كأنما نشط من عقال، يعني: قام بسرعة طيبًا بريئًا، ثم أعطوهم الجُعل، ولكنهم توقفوا حتى يسألوا رسول الله ﷺ، فلما سألوا رسول الله ﷺ عن هذا قال: (خذوا، واضربوا لي معكم بسهم) . وقال للقارىء (وما يدريك أنها رقية)؟ يعني ما يعلمك أنها- أي: الفاتحة- رقية؟ وهكذا بعض الآيات الأخرى التي يسترقي بها الناس التي يقرأ بها الناس، على المرضى، كثير فيه فائدةٌ مجربة معروفة، فإذا قرأ القارىء على المريض بفاتحة الكتاب وبغيرها من الآيات المناسبة فإن هذا لا بأس به ولا حرج، وهو من الأمور المشروعة. وأما كتابة القرآن بالأوراق ثم توضع في الماء ويشرب الماء، أو على إناء ثم يوضع فيه الماء ويرج فيه ثم يشرب، أو النفث في الماء بالقرآن ثم يشرب، فهذا لا أعلم فيه سنة عن رسول الله ﷺ، ولكنه كان من عمل السلف، وهو أمرٌ مجرب، وحينئذٍ نقول: لا بأس به- أي: لا بأس أن يصنع هذا للمرضى لينتفعوا به- ولكن الذي يقرأ في الماء بالنفث أو التفل ينبغي له أن لا يفعل ذلك إذا كان يعلم أن به مرضًا يخشى منه على هذا المريض الذي قرىء له. ***
هل يمكن علاج الأمراض بالرقية؟ وهل هناك أحاديث واردة عن الرسول ﷺ في ذلك؟ وهل كتابة آية الكرسي وسورة يس أو الفاتحة في ورقة، ثم نقوم بوضعها في ماء ونشرب ذلك الماء، هل هذا من السنة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم الأمراض قد تشفى بقراءة القرآن، وهذا أمرٌ واقع شهدت به السنة، وجرت عليه التجارب، فإن النبي ﷺ بعث رهطًا في سرية، فنزلوا على قوم، ولكن القوم الذين نزلوا عليهم لم يضيفوهم، فقعدوا ناحية، ثم إن الله ﷾ سلط على سيدهم حيةً فلدغته، فجاؤوا إلى هؤلاء الرهط وقالوا: هل معكم من يرقي؟ قالوا: نعم. تقدم إليه رجل فقرأ عليه الفاتحة، فقام كأنما نشط من عقال، فلما وصلوا إلى رسول الله ﷺ وأخبروه قال له ﵊: (وما يدريك أنها رقية)؟ وقد قال الله ﷿: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا) . وأما ما ذكره السائل من كتابة بعض الآيات التي فيها الاستعاذة والاستجارة بالله ﷿، بأن توضع في ماء ويشرب، فهذا أيضًا قد جاء عن السلف الصالح، وهو مجربٌ ونافع. لكن ورد في سؤاله ذكر سورة يس، وهذا لا أعلم أن يس مما يرقى به، لكن يرقى بالفاتحة، بآية الكرسي، بالآيتين الأخيرتين في سورة البقرة، بقل هو الله أحد، بقل أعوذ برب الفلق، قل أعوذ برب الناس. ***
أسأل عن المحاية التي تكتب على اللوح من القرآن وتشرب من أجل الشفاء، أفيدوني في هذا السؤال جزاكم الله خيرًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: كان بعض السلف يكتب بالزعفران في الإناء أو نحوه، ثم يخض بالماء ويشربه المريض، ويحصل به الشفاء إن شاء الله، وهذا يدخل في عموم قول الله تبارك تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) . فإن قوله تعالى: (مَا هُوَ شِفَاءٌ) يعم الشفاء القلبي والبدني، أي: يعم الشفاء من الأمراض القلبية كالشك والشرك والعداوة للمؤمنين والبغضاء لهم وما أشبه ذلك، وكذلك من الأمراض الجسدية كالصداع والألم وما أشبه ذلك، فالقرآن كله خير، كله شفاء، فإذا استشفى به الإنسان على وجهٍ من الوجوه وانتفع به فهذا محل الغرض ***
هذه رسالة وصلتنا من حسين إسماعيل يعقوب من السودان يقول في رسالته: عندنا في السودان بعض من الناس يعرفون بالمشايخ، يكتبون المحايا للناس: إذا مرض الشخص أو أصابه سحر أو غير ذلك من الأمور الخرافية، ما حكم من يتعامل معهم وما حكم عملهم هذا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الجواب على ذلك هو أن الرقية على المريض المصاب بسحر أو بغيره من مرض لا بأس بها إذا كانت من القرآن أو من الأدعية المباحة، فقد ثبت أن النبي ﷺ كان يرقي أصحابه، ومن جملة ما يرقيهم به: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، أنت رب الطيبين، كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ) . ومن الأدعية المشروعة: (باسم الله أرقيك، من كل داء يؤذيك، من شر كل عين أو حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك) . ومنها: (أن يضع الإنسان يده على الألم الذي يؤلمه من بدنه فيقول: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) . إلى غير ذلك مما ذكره أهل العلم من الأحاديث الواردة عن النبي ﷺ. وأما كتابة الآيات أو الأذكار وتعليقها، فقد اختلف أهل العلم في ذلك، فمنهم من أجازه ومنهم من منعه، والأقرب المنع من ذلك؛ لأن هذا لم يرد عن النبي ﷺ، وإنما الوارد أن يقرأ على المريض، أما أن تعلق الآيات أو الأدعية على المريض في عنقه أو في يده، أو تحت وسادته وما أشبه ذلك، فإن ذلك من الأمور الممنوعة على القول الراجح؛ لعدم ورودها، وكل إنسان يجعل شيئًا من الأمور سببًا لأمر آخر بغير إذن من الشرع فإن عمله هذا يعد نوعًا من الشرك؛ لأنه إثبات سبب لم يجعله الله سببًا، هذا بقطع النظر عن حال هؤلاء المشايخ، فلا ندري لعل هؤلاء المشايخ من المشعوذين الذين يكتبون أشياء منكرة وأشياء محرمة، فإن ذلك لا شك في تحريمه، ولهذا قال أهل العلم: لا بأس بالرقى بشرط أن تكون معلومة مفهومة خالية من الشرك. ***
من السودان ومن مدينة أبو زيد وردتنا هذه الرسالة من مختار التجاني مهدي يقول في سؤاله: ما هو رأي الدين في كتابة آيات من القرآن في لوح من الخشب، ومحو هذه الآيات وتقديمها إلى المريض؟ وهل كان الرسول ﷺ يعمل ذلك أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا نحفظ عن النبي ﷺ أنه عمل مثل هذا، ولكن بعض السلف كانوا يفعلون ذلك، فإذا فعله الإنسان فلا حرج عليه، ولكن الأفضل من هذا والأولى أن يقرأ هو بنفسه على المريض ما وردت السنة به من الآيات والأحاديث، ومن ذلك مثلًا قراءة الفاتحة على المريض، فإنها من أبلغ الأدوية، وقد قال النبي ﵊: (وما يدريك أنها رقية)؟ وكذلك القراءة على المريض بقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، وكذلك ما جاءت به الأحاديث مثل: (اللهم رب الناس، أذهب البأس، واشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا) . ومثل: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض، أنت رب الطيبين، واغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنزل رحمة من رحمتك وشفاءً من شفائك على هذا الوجع) فيبرأ. (باسم الله أرقيك، من كل داء يؤذيك، من شر كل نفس أوعين حاسد الله يشفيك) . وغير ذلك مما جاءت به السنة، فإذا قرأ الإنسان هذه على المريض فهو أولى من كتابة آيات من القرآن تجعل في ماء يستشفي بها المريض. ***
أحمد ن. ن من الرياض: يعمل بعض الناس عملًا وهو: أنهم يكتبون بالقلم الحبر أو السائل البعض من الآيات القرآنية أو البعض من الأحاديث أو الأدعية على ورقة، ثم يضعونها بداخل كأس في إناء، ويعطون هذا الماء لأي شخص مريض أو تعبان لكي يشربه، الرجاء منكم توضيح هذا العمل هل هو جائز أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أولًا: يجب أن نعرف أن تلك الكتابة بهذا الحبر أو بالأقلام الناشفة على ورقة ثم توضع في إناء ويشربها المريض قد يكون في ذلك ضرر على المريض؛ لان تركيب هذا الحبر وهذه المادة الناشفة قد يكون فيه أشياء سامة تضر البدن، لكن العلماء ﵏ قالوا: إنه يكتب بالزعفران إما على ورقة ثم تلقى في الماء حتى يظهر أثر الزعفران على الماء، وإما في إناء نظيف يكتب فيه آيات من القرآن، ثم يصب فيه الماء ويمزج، ثم يشربه المريض، هذا الذي كان يفعله السلف الصالح، ولا بأس باستعماله، وقد جربه بعض الناس فانتفعوا به. وأما بالنسبة للأقلام وبالنسبة للحبر فلا ينبغي أبدًا أن يستعملها الإنسان في هذه المسألة؛ لأننا لا ندري ما هي مركبات هذا الحبر، سواء ناشفًا أو سائلًا. ***
هل تجوز الرقية بالنفث بالقرآن والأحاديث؟ حيث يرقي هذا الشخص الماء ثم يشربه المريض؟ فأجاب رحمه الله تعالى: فعل بعض السلف مثل هذا، أي إنه ينفث في الماء ثم يشربه المريض، وقد جرب ونفع، لكن كون القارىء يقرأ على المريض مباشرة أحسن وأفيد وأرجى للانتفاع، والمسلم إذا أتى إلى أخيه ورقاه فإنه على خير، قد يجعل الله الشفاء على يده فيكون محسنًا إلى هذا المريض إحسانًا بالغًا، ولكن ليعلم أن الراقي على المرضى لابد أن يعتقد أن هذه الرقية نافعة في حد ذاتها، بأنه لو قرأ وهو متشكك متردد فإنها لا تنفع، لابد أن يعتقد بأنها نافعة، ولابد للمرقي أن يعتقد أيضًا انتفاعه بها، فإن كان مترددًا شاكًّا فلا تنفعه؛ لأن كل سبب شرعي لابد أن يكون الفاعل له مؤمنًا بأنه سبب يؤدي إلى المقصود حتى ينفع الله به، وإنما أحث إخواني الذين نفع الله بقراءتهم على المرضى أن يبتعدوا عن الكلمات التي لا تعرف، والتي ليس فيها إلا أسجاع سمجة باردة، وأن يقتصروا على ما جاءت به السنة من الرقى، وأعظمه الرقية بالفاتحة، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال- في الذي رقى المريض بها فقام كأنما نشط من عقال، قال النبي ﷺ: (وما يدريك أنها رقية)؟ وهذا حث له ولغيره على أن يرقي بها المرضى. ***
ما الحكم في تعليق التمائم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: التمائم لا يخلو إما أن تكون من القرآن أو من غيره، فإن كانت من القرآن ففيها خلافٌ بين أهل العلم من السلف والخلف، فمن العلماء من يقول: إن تعليقها جائز ولا بأس به، وربما يستدل بقوله تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) ويجعل هذا من بركة القرآن أن الله تعالى يرفع به العين والشر ممن علقه. وقال بعض أهل العلم من السلف والخلف: إن تعليقه محرم، وذلك لأن مثل هذه الأمور لا يجوز إثباتها إلا بدليلٍ من الكتاب والسنة، وليس في الكتاب والسنة دليلٌ على أن تعليق القرآن يكون نافعًا لصاحبه، وإنما ينفع من يقرؤه، وقد قال الله تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْبَابِ) . فنيل البركة من القرآن إنما يكون على حسب ما جاءت به الشريعة، وهذا القول هو القول الراجح أنه لا يجوز أن تعلق التمائم من القرآن على الصدر، ولا أن تجعل تحت الوسادة وما أشبه ذلك، ومن أراد أن يستشفي بالقرآن فليستشفِ به على حسب ما جاءت به السنة وأما إذا كانت التمائم من غير القرآن من طلاسم لا يدرى ما معناه، أو كتابة كالنقوش لا تقرأ وما أشبهها فإنها محرمة، محرمة بلا شك، ولا يجوز للمرء أن يعلقها بأي وجهٍ من الوجوه؛ لأنها قد تكون أسماء شياطين، أو أسماء عفاريت من الجن أو ما أشبه ذلك، والشيء الذي لا تدري معناه لا يجوز لك أن تتناوله وتستعمله في مثل هذا الأمور. ***
حكم من يلبس الحجاب الذي يكتب فيه كلام الله،هل هذا حرام أم حلال؟ أفيدونا أفادكم الله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الحجاب يعني التميمة التي تعلق على الإنسان، أو يجعلها بعض الناس تحت الوسادة، أو يعلقها على الجدار، وقد اختلف العلماء ﵏ في تعليق التمائم إذا كانت من القرآن أو من الأذكار النبوية أو الأدعية المباحة، اختلفوا في هذا على قولين، فمنهم من منع ذلك؛ لعموم التحذير من التمائم، ومنهم من أجاز ذلك وأدخلها في عموم قوله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) . والاحتياط ألا يعلق هذا ولو كان من القرآن أو من الأدعية أو الأذكار الواردة. فأما إذا كانت التميمة لا يقرأ ما فيها فإن تعليقها حرام ولا يجوز، أو كان الذي فيها كتابة لا يعرف ما هي فإن تعليقها حرام ولا يجوز، أو كان ما فيها من أسماء الشياطين أو الجن أو ما أشبه ذلك فإن هذا حرام ولا يجوز. المهم أن التمائم تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما علم أنه من القرآن أو من الأذكار النبوية أو من الأدعية المباحة، فهذا محل خلاف بين العلماء، والاحتياط ألا يعلقها. والثاني: ما سوى ذلك، فتعليقه حرام على كل حال. ***
من مصر أأ يقول: في الحديث: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) . ما هي التولة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: التولة شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والزوج إلى امرأته، وقريب من ذلك ما يسمى عندنا بالدبلة، يقال: إن الزوج يكتب اسم امرأته في خاتمه، والزوجة تكتب اسم زوجها في خاتمها، ويدعون أنهما- أي: الزوجين- يحصل بفعلهما هذا الألفة بينهما، وأنه لو خلع هذه الدبلة أو خلعتها معناه الفراق. فإذا قال قائل: ما هي الوسيلة إلى أن يحب الرجل زوجته والمرأة زوجها؟ فنقول: الوسيلة إلى ذلك بينها الله بقوله: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) . عاشروهن بالمعروف، فإذا عاشر كل إنسان زوجته بالمعروف، وهي كذلك، حصلت المحبة والألفة والحياة الزوجية السعيدة. ***
ما حكم تعليق الأحجبة على أعضاء الجسد، وخاصة تلك الحجب التي بها آيات قرآنية أو أحاديث؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذه المسألة- أعني: تعليق الحجب أو التمائم- تنقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون المعلق من القرآن، والثاني: أن يكون من غير القرآن مما لا يعرف معناه. وأما الأول، وهو: تعليقها من القرآن، فقد اختلف في ذلك أهل العلم سلفًا وخلفًا، فمنهم من أجاز ذلك، ورأى أنه داخلٌ في قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ)، وأن من بركته أن يعلق ليدفع السوء. ومنهم من حرَّم فعل هذا وقال: إن تعليقها لم يثبت عن النبي ﵊ أنه سببٌ شرعيٌ يدفع به السوء أو يرفع به، والأصل في مثل هذه الأشياء التوقيف. وهذا هو القول الراجح، وأنه لا يجوز تعليق التمائم ولو من القرآن، ولا يجوز أن تجعل تحت وسادة المريض، أو تعلق في الجدران أو ما أشبه ذلك، وإنما يوضع المريض ويقرأ عليه مباشرةً، كما كان النبي ﵊ يفعل. وأما إذا كان المعلق من غير القرآن- وهو القسم الثاني مما لا يعرف معناه- فإنه لا يجوز بكل حال؛ لأنه لا يدرى ماذا يكتب، فإن بعض الناس يكتبون طلاسم وأشياء معقدة، حروفًا متداخلة ما تكاد تعرفها ولا تقرؤها، فهذا من البدع، وهو محرم لا يجوز بكل حال. ***
ماحكم وضع القرآن في السيارة حفظًا من العين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لايجوز هذا ولا ينفع؛ لأنه لم يرد عن النبي ﷺ ولا عن أصحابه أنه يتحصن بالقرآن على هذا الوجه، وما يتوهمه بعض الناس فهو لأنه تخيّل أنّ هذا نافع، فظن أنّ انتفاء الشر والعين عن سيارته بواسطة وضع المصحف فيها. ***
أحسن الله إليكم يا شيخ، امرأة كلما حملت تسقط، وذكر لها أحد الناس بعمل تمائم من القرآن وقد نفعت، وهي مترددة، فما الحكم في ذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: التمائم من القرآن- يعني: التي تعلق على العنق- اختلف فيها السلف والخلف، فمنهم من قال بجوازها، واستدل بعموم قوله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)، وقالوا: إن أي تجربة يكون فيها الشفاء وهي من القرآن الكريم فإنها داخلة في هذا العموم. ومنهم من قال: إن التمائم ممنوعة، سواء كانت من القرآن أو من غير القرآن، فهذا موضع خلاف بين أهل العلم ﵏. ***
السائلة من الأردن تقول: والدي يعلم بأن والدتي تستعمل أحجبة العرافين، لكنه لا يهتم بذلك بحجة أنه يقرأ المعوذات وآية الكرسي، وأنها لن تستطيع أن تؤثر عليه، علمًا بأن والدتي تستخدم هذه الأحجبة نظرًا للمشكلات بينها وبين أبي، فما الحكم في ذلك مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إذا كان الحجاب الذي يعلقه المريض من القرآن والأدعية المباحة فقد اختلف العلماء ﵏ في جواز تعليقه، فمنهم من منعه ومنهم من أجازه، أما إذا كان الحجاب قد كتب فيه ما لا يدرى عنه ولا عن معناه فإنه لا يجوز لبسه؛ لاحتمال أن يكون به أشياء شركية لا نعلم بها. ***
هذه رسالة وصلت من أحد الإخوة المستمعين من العراق رمز لاسمه بـ ن م ع يقول في رسالته: في بلدنا دارج وضع الحجاب، إما لغرض الحفظ من العين، أو للحماية من إطلاق الرصاص، أي: لا يصيب الشخص أيُّ أذى من إطلاق النار عليه بحمد الله ولبسه للحجاب، أو يوضع في غرض تهدئة الطفل الذي يبكي كثيرًا. ولكن رأيي- والله أعلم- هو أنه خرافة أو بدعة، وأستند على قوله تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ) . ولكن في بعض الأحيان بعض الناس يقولون: إن الحجاب الذي يحتوي على بعض آيات من القرآن أو أدعية من أدعية الرسول الكريم ﷺ عبارة عن رقية مكتوبة؛ لأن الرقى هي تؤدي إلى شفائها، فما رأي الشرع في نظركم في هذه المسألة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يريد السائل بالحجاب التميمة التي تعلق على الإنسان في عنقه، أو يجعلونها في جيبه، أو يجعلونها تحت وسادته إذا نام. وهذه التمائم تكون على وجهين: الوجه الأول: أن يكتب فيها ما لا يعلم ولا يدرى معناه، فإن هذه لا تحل ولا تجوز؛ لأنه لا يدرى ما الذي تشتمل عليه: أهو شرك، أم أسماء للشياطين، أو لمردة الجن، أو ما أشبه ذلك من الأشياء المحرمة؟ فهذه لا تجوز قطعًا. وأما الوجه الثاني: فهو التمائم التي يكتب فيها شيء من القرآن على وجه واضح بيِّن يقرأ، أو شيء من الأدعية الواردة عن النبي ﷺ، وهذه فيها خلاف بين العلماء، فمنهم من أجازها ومنهم من منعها، والصواب مع من منعها وأنها لا تجوز؛ لأن الاستشفاء بالقرآن إنما يجوز على الوجه الوارد عن النبي ﷺ، وذلك بقراءته على المريض مباشرة، وبعض السلف يجوِّز أن يكتب القرآن في إناء بزعفران أو نحوه، ويصب عليه الماء ويحرك حتى يصطبغ الماء بهذا اللون المكتوب به القرآن، ثم يشرب. وعلى هذا فنقول: إن تعليق التمائم واصطحابها في الجيب ووضعها تحت الوسادة لا يجوز مطلقًا، سواء كانت من القرآن أو غيره، ولكن يقرأ على المريض بالآيات التي يرقى بها للمرضى. وأما قول السائل: أرى أن هذا لا يفيد؛ لأن الله تعالى يقول: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ) . فإن الآية لا تدل على منع هذا الحجاب أو هذه التميمة إذا صح أنها سبب شرعي؛ لأن قوله تعالى: (فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ) يشمل ما كشفه الله ﷾ بسبب غير معلوم لنا، وما كشفه بسبب معلوم، لكن لا بد أن يكون هذا السبب معلومًا عن طريق الشرع، أو عن طريق الحس والتجربة. ***
من سوريا تقول: فضيلة الشيخ انتشرت عندنا ظاهرة الأحراز التي يعلقها الشباب والشابات على صدورهم، وهذه الأحراز مكتوبة من مشايخ يقولون بأنها تحفظ من العين. فما حكم الشرع في نظركم في مثل هذه؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الجواب على هذا السؤال: أنه يجب أن نعلم أن الأسباب التي تجلب الخير أو تدفع الشر لابد أن تكون متلقاة من الشرع؛ لأن مثل هذا الأمر- أعني: جلب الخير أو دفع الشر- لا يكون إلا بتقدير الله ﷿، فلابد أن نسلك الطريق الذي جعله الله ﷾ طريقًا يوصل إلى ذلك، أما مجرد الأوهام التي لا تبنى على أصل شرعي فإنها أوهام لا حقيقة، لها قد يتأثر الإنسان منها نفسيًا لاعتقاده فيها ما يعتقد، وإن كان في الحقيقة خلاف ذلك. وتعليق الأحراز على الصدور لا يخلو من حالين: الحال الأولى: أن تكون طلاسم أوحروف مقطعة لا يعلم لها معنى، فهذه محرمة بلا شك، وربما يكتب عليها أسماء الشياطين من الجن ولا يعلم حاملها ذلك، وعلى هذا فيكون تعليقها نوعًا من الشرك، وإذا اعتقد معلقها أنها تنفع أو تضر بدون قدر الله ﷿ كان مشركًا شركًا أكبر، وأما إذا كان يعتقد أن النافع والضار هو الله ولكن هي وسيلة، فهي شرك أصغر؛ لأن الله تعالى لم يجعل هذا سببًا يندفع به الشر أو يحصل به الخير. أما الثاني: فأن تكون هذه الأحراز مكتوبة بحروف معلومة من القرآن أو من صحيح السنة، فهذه موضع خلاف بين العلماء، فمنهم من يرى أنها لا بأس بها، مستدلًا بعموم قوله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) . ومنهم من يرى منعها وأنها من الشرك الأصغر، مستدلًا بعموم الأحاديث الدالة على أن التمائم شرك. والذي ينبغي للمؤمن أن يتجنبه، وذلك لأن أقل ما فيها أنه لم يرد فيها عن النبي ﵌ ما يدل على الجواز، والأصل في مثل هذه الأمور المنع حتى يقوم دليل على الجواز. ثم إن الإنسان إذا تعلق بها أعرض عن ما ينبغي أن يقوم به من الأوراد القولية التي جاءت بها الشريعة، مثل قوله ﵌ في آية الكرسي: (إن من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح) . وقوله في الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة: (من قرأهما في ليلة كفتاه) . وكذلك قوله في المعوذتين. المهم أن هذه الأحراز توجب غفلة الإنسان عن ما ينبغي أن يقوم به من الأوراد الشرعية القولية، وعلى هذا فإن نصيحتي لهؤلاء وأمثالهم أن يَدَعوا هذه الأحراز، وأن يقوموا بما جاءت به السنة من الأوراد القولية، إما من الكتاب وإما من السنة. ***
المستمع عودة بن مرعي من قباء شمال يقول: البعض من الناس يكتب سور القرآن الكريم ويعلق ذلك على الأطفال، مثل المعوذتين وسورة الإخلاص، يقصد بأنها تحميه من العين، وتجلب له النفع والهداية. فهل هذا عمل صحيح؟ أرجو بهذا إفادة مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: تعليق الآيات على صدور الصبيان منهيٌ عنه؛ لأنه داخلٌ في التمائم في عمومها، إذ إن الأحاديث الواردة في ذلك لم تستثن شيئًا مما يعلق، ثم إن فيه عرضة بامتهانه؛ لأن الصبي لا يحترز من وقوع الأذى على هذا الذي علق عليه من القرآن، وربما يتلطخ بشيء نجس، وربما يدخل به بيت الخلاء وما أشبه ذلك، فلهذا ينهى عن هذا العمل، ويقال: إذا أردت أن تعوذ أبناءك بشيء فعوذهم بالقراءة عليهم. ومن العلماء من رخص في تعليق المكتوب من القرآن على المريض للاستشفاء به. واستدل بعموم قوله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا) . والاحتياط أن لا يفعل ذلك، لا لدفع البلاء كما ذكره السائل، ولا لرفعه كما أشرنا إليه، وليكن مستعملًا لما جاءت به السنة من تعويذ الإنسان بالقراءة، والقراءة على المريض كذلك بما جاءت به السنة. ***
من العراق محافظة ديالي رمز لاسمه ب ي ي يقول: فضيلة الشيخ ما حكم من يقوم بالقراءة على الأطفال، وكتابة بعض الكلمات أو العبارات في أوراق وتسخيرها لهم، زعمًا منه أن في هذا شفاء لهم من الخوف أو غير ذلك مما يسمونه بهذه الأسماء؟ مع العلم بأن هذه العبارات قد تكون غير مفهومة، وأن هذا الرجل يأتيه الناس ويقولون: إن الله هو الشافي، وإن هذا سبب في الشفاء؟ فأجاب رحمه الله تعالى: تعليق التمائم، أو وضعها تحت وسادة الفراش، أو تعليقها في جدران الحجرة، أو ما أشبه ذلك، كله من البدع، بل مما نهي عنه: (فمن تعلق تميمة فلا أتم الله له) . والشفاء الذي يحصل بهذا ليس منها، بل هو فتنة حصل عندها لا بها. لكن اختلف السلف ﵏ فيما إذا كان المعلق من القرآن هل هو جائز أم لا؟ فكرهه ابن مسعود وجماعة، وهذا أقرب إلى الإخلاص والتوكل على الله ﷿، وأجازه آخرون. وأما ما ليس من القرآن فلا يجوز، لا سيما إذا كان فيه حروف لا يعرف معناها، فإنها قد تكون أسماء للشياطين وطلاسم سحرية، فلا يجوز اعتمادها، حتى لو حصل الشفاء عند استعمالها فإنه لم يحصل بها؛ لأنه لم يقم دليل على أنها سبب شرعي، ولا هي سبب حسي، لكن قد يبتلي الله ﷾ العبد ويفتنه، فيحصل مطلوبه بوسيلة محرمة. فليحذر العاقل اللبيب من هذه الأمور، وليستعن بالله ﷿، وليتوكل عليه. نعم لو وجدنا رجلًا صالحًا يقرأ على المريض بالقرآن الكريم وبالأحاديث النبوية فهذا لا بأس به، وهو من السنة أن يرقي الإنسان أخاه بالرقى المشروعة. ***
من الأردن تقول في هذا السؤال: أود أن أسأل عن الحجب، وهل يجوز إخراجها من مكانها؟ علمًا بأن أهلي قاموا في العام الماضي بالذهاب إلى إحدى النساء التي تعمل ذلك، وتقول بأنها أخرجته من مكانه، وتقوم هذه المرأة بإحضار ماء ويوضع في وسط هذه الحجب، ولكن المرأة تأخذ مبالغ كبيرة مقابل ذلك العمل، هل ينالنا العقاب جراء ذهابنا إلى هذه المرأة وتعاملنا معها؟ وما حكم الشرع في نظركم في هذا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الواقع أنني ما عرفت معنى الحجب بالضبط؛ لأن المعروف أن الحجب هي عبارة عن أوراق يكتب فيها أدعية وتعوذات وآيات قرآنية، يحملها الإنسان على صدره مربوطة في عنقه، يرى أنها تحجبه من الشر ومن الشياطين، وبعضهم يفعل ذلك إذا مرض، يرى أن الله يشفيه بها، هذا معنى الحجب التي نعرف، وأما ما يفيده ظاهر كلامها فكأنها تريد بذلك نقض السحر، ونقض السحر بالسحر ممنوع؛ لأن النبي ﷺ سئل عن النشرة فقال: هي من عمل الشيطان. لكن قد يكون هناك حالات خاصة ينظر فيها بعينها. ***
بارك الله فيكم هذا المستمع أبو عبد الله يقول في هذا السؤال: مرض أحد أقربائي، فطلبت مني والدتي أن أحضر لها عزائم من أحد الناس الذين يقرؤون على الناس، فطلب مني ذلك الرجل مبلغ ألف ريال مقابل هذه العزائم التي توضع عند رأس المريض، فما حكم هذه العزائم؟ وما حكم أخذ هذا الرجل هذا المبلغ الباهظ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما بالنسبة لهذه العزائم فإنه لا يجوز للإنسان أن يستعمل عزائم لا يدري ما هي حتى يعرف أنها من القرآن أو من السنة الصحيحة أو من الأدعية المباحة، فأما أن يأتي لأي شخص يجده يقرأ على الناس ويكتب لهم العزائم فيطلب منه ذلك فإن هذا لا يجوز. وأما وضعها عند الرأس فلا أصل له، ولم يفعله أحد من السلف، لكن رخص بعض السلف في العزائم إن كانت من القرآن أن يتقلدها الإنسان، أو أن يضعها في ماء ويشرب أثر المداد الذي يتحلل في هذا الماء، وأما وضعها عند الرأس أو تحت الوسادة فلا أصل له. وأما أخذ الأجرة والعوض على هذه العزائم: فالذي ينبغي للإنسان أن لا يفعل، وإن فعل فلا حرج؛ لأن النبي ﷺ، أجاز أخذ الأجرة على الرقية في قصة الصحابة الذين بعثهم النبي ﷺ، فاستضافوا قومًا فلم يضيفوهم، فسلط الله على حية فلدغ، ثم جاؤوا إلى الصحابة يطلبون منهم قارئًا، قالوا لا نقرأ عليكم إلا بكذا وكذا من الغنم. فأعطوهم من الغنم، وبلغ ذلك النبي ﷺ فأقره. وأما كون القارىء يأخذ أجرًا كثيرًا على عمل يسير: فإني أنصحه أن يتقي الله ﷿ في إخوانه، وألا يستغل ضرورتهم في ابتزاز أموالهم فليأخذ ما يرى أنه حق له، وأما ما زاد فليتورع عنه. ***
أحسن الله إليكم هذا سؤال من المستمعة فتاة من الأردن الزرقاء تقول: عمرها خمسة وعشرون عاما، ً فمنذ صغرها وهي تطلب للزواج ولا يحصل نصيب، لا يكون ذلك برفض منها ولكنها لا تدري ما هو السبب، فهي إنسانة طبيعية متوسطة الجمال، فقال الناس لأمها: إن ابنتك لها حجاب عن الزواج، ولكن أمها رفضت هذه الفكرة من الأصل؛ لأنها تخاف الله ولا تصدق بهذه الأشياء. وفي يوم من الأيام ذهبت الفتاة وحدها إلى امرأة يقال لها: شيخة، فقالت لها: إن لك عدة أعمال محجوبة، من ضمنها الزواج والوظيفة والقلق والكراهية وما إلى ذلك، وعملت لها عدة أشياء، منها ما يعلق على الصدر وعلى الكتف اليمين، ومنها ما يشرب ويرش، فبقيت تستعمل هذه الأشياء بالسر عن والدتها، ومضى شهر وشهران وأكثر ولم يطرق بابها أي خاطب. أما ما قالته لها بخصوص العمل فهي موظفة، أما ما تعانيه فهو صحيح: فهي تكره أن ترى الناس، بعد ذلك تغيرت وأصبحت حالتها أحسن، وذات مرة خطر ببالها أن تمزق هذا الحجاب الذي أعطته لها تلك المرأة، وعندما فتحته وجدت بداخله تكرارًا لأسماء الرسول والخلفاء وبعض الرسل وبعض الأسماء الغريبة، فحرقتها جميعا. ً فتسأل: هل صحيح أن الحجاب الذي يعمله المشعوذون يمنع الفتاة عن الزواج؟ وهل ما قامت به من تمزيقه حرام؟ مع العلم أن بعض ما أخبرتها به صحيح؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا سؤال يتلخص جوابه في شيئين: الشيء الأول: تعليق هذه الحجب، سواء كان لطالب الزواج، أم للبراءة من المرض الجسمي أو النفسي، هل هو جائز أو ليس بجائز؟ في هذا خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يرى أنه ليس بجائز على كل حال، وذلك لأنه لم يرد في كتاب الله ولا سنة رسول الله ﷺ أن تعليق مثل هذا يكون سببًا في إزالة ما يكره أو حصول ما هو محبوب، وإذا لم يثبت شرعًا فإنه لا يجوز إثبات كونه سببًا. ومن العلماء من يقول: إنه لا بأس به- أي: بتعليق الحجاب- لدفع ضرر أو حصول منفعة، لكن بشرط أن يكون من إنسان موثوق به، وأن يعلم ما كُتب فيه، وأن لا يكون هذا المكتوب مخالفًا لما جاء به الشرع، فإذا تمت هذه الشروط الثلاثة فهو جائز، وبعضهم يشترطون شرطًا رابعًا، وهو: أن يكون من القرآن خاصة. وعلى هذا القول الثاني يجوز التعليق بالشروط الأربعة، ولكن الذي أرى أنه لا يجوز مطلقًا؛ لأن تعليل من قال بعدم الجواز قوي، حيث إنه لم يثبت في كتاب الله ولا سنة رسوله ﷺ أن هذا من الأسباب النافعة، وكل شيء يثبت سببًا لشيء ولم يكن معلومًا بالشرع أو معلومًا بالحس فإنه لا يجوز إثباته. أما المسألة الثانية أو الشيء الثاني مما يتضمنه جوابنا هذا على سؤال المرأة: فإن هذا الذي عملته في هذا الحجاب تمزيقه من المعروف، وهو عمل طيب، بل يجب عليها إذا كانت لا تدري ما الذي فيه أن تكشف عنه، فإذا رأت فيه مثلما ذكرت أسماء الرسول ﷺ وأسماء الخلفاء وبعض الرسل فإنه لا يجوز تعليقه؛ لأن هذا شيء غير مؤكد، وإذا رأت فيه قرآنًا فإنه ينبني على الخلاف الذي ذكرناه قبل قليل والذي نرى أيضًا أنه لا يجوز تعليقه. فإذا كان قرآنًا فهناك طريقان: إما أن تدفنه في محل نظيف، وإما أن تحرقه وتدقه بعد إحراقه حتى يتلاشى نهائيًا. وبهذه المناسبة أود أن أحذر إخواننا من التردد على أولئك الناس الذين يكتبون هذه الأحراز وهذه الحجب، وحالهم لا تعلم لا من جهة الديانة ولا من جهة العلم؛ لأن هذه من الأمور الخطيرة، وكون الإنسان إذا فعلها يتأثر ويجد خفة قد لا يكون ذلك من جراء هذا العمل، قد يكون الله تعالى قد أذن ببرئه أو شفائه وصادف أن يكون عند هذا الشيء لا به، وأيضًا فإنه من المعلوم نفسيًا أن الإنسان إذا شعر بشيء منه نفسيًا فإنه يتأثر به جسمه، حتى إن الإنسان -كما هو مشاهد- إذا كان غافلًا عما به من مرض فإنه لا يحس به، فإذا التفت بفكره إليه أحس به هذا الرجل، يكون مشتغلًا بتحميل عفشه مثلًا فيجرحه مسمار أو زجاجة، تجده لا يحس بها حين اشتغاله بالعمل، فإذا تفرغ فإنه يحس به؛ لأنه جعل فكره إليه. والمهم أننا ننصح إخواننا عن هذه الطرق التي لا يعلم من سلكها، ولا يعلم ما فيها من مكتوب، والإنسان ينبغي له أن يعلق قلبه بالله ﷿، ويتبع ما جاء عن النبي ﷺ في الاستشفاء بالقرآن والدعاء. ***
من السودان المستمع إدريس يقول: يوجد في قريتنا مسجد، ولكن إمام المسجد يستعمل التراب من القبور، ويكتب التمائم والحروز، ويدعي بأنها تعالج المرضى وتفك من السحر والعين. هل تصح الصلاة خلف هذا الإمام المذكور؟ نرجو إفادة مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إنه لا شك أن خير الهدي هدي محمد ﷺ، وأن شر الأمور محدثاتها، كما كان النبي ﷺ يعلن ذلك في خطب الجمع. وأخذ التراب من القبور للاستشفاء به بدعة، وهو ضلال في دين الله وسفهٌ في العقل، فإن هذا التراب لم يحدث له أي شيء يجعله سببًا في شفاء المرضى من أجل دفن الميت في القبر، بل هذه التربة كسائر تراب الأرض، وليس لها مزيةٌ على غيرها، ومن تبرك بها أو استشفى بها فقد ابتدع وضل وسفه في عقله، وعليه أن يتوب إلى الله ﷿ من هذا العمل، وأن يعلم أن الشفاء من الله ﷿، وأنه لا شفاء بأي سببٍ من الأسباب إلا ما جعله الله سببًا، ولم يجعل الله تعالى أخذ التراب من القبور سببًا في شفاء المرضى. وأما القراءة على المرضى بآياتٍ من القرآن، أو بما جاءت به السنة عن رسول الله ﷺ: فإن هذا سببٌ شرعي يحصل به الشفاء بإذن الله، وقد صح أن سريةً في عهد النبي ﵊ نزلوا على قومٍ فاستضافوهم، فأبى القوم أن يضيفوهم، فقدر الله تعالى على سيدهم- أي: سيد القوم- أن لدغته حية، فأتوا إلى أصحاب رسول الله ﷺ وقالوا: هل عندكم من راقٍ؟ قالوا: نعم. قالوا إنه لدغ سيدهم، فيريدون أن يرقى عليه. فقالوا لا نرقي عليه إلا بكذا وكذا من الغنم. فأعطوهم إياها، فذهب أحد القوم من السرية إلى اللديغ، فجعل يقرأ عليه بفاتحة الكتاب، فقام هذا الملدوغ كأنما نشط من عقال، وبرأ بإذن الله بقراءة الرجل عليه سورة الفاتحة. وتأثير قراءة القرآن في المرضى أمرٌ لا ينكر، قال الله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا) . والشفاء هنا شامل الشفاء من أمراض القلوب وأمراض الأجسام، وهذا الإمام الذي ذكرت أنه يتبرك بتراب القبور ويستشفي بها يجب عليكم أن تنصحوه، وتبينوا له أن ذلك بدعةٌ وضلالٌ في دين الله وسفهٌ في العقول، وأن عليه أن يتوب إلى الله ﷿ من هذا العمل الذي كان يقوم به. وأما قراءته على المرضى بآياتٍ من القرآن وبما جاءت به السنة فإن هذا لا بأس به، بل هو أمرٌ مطلوب. وأما الصلاة خلفه: فالقول الراجح من أقوال أهل العلم أن الإنسان إذا لم يصل بعمله وبدعته إلى الكفر المخرج من الإسلام فإنه يصلى خلفه، وتصح الصلاة خلفه، إلا إذا كان في الصلاة خلفه فتنة، بحيث يفتتن به الناس ويتابعونه على بدعته، فحينئذٍ يحسن أن لا يصلى خلفه؛ لئلا يفتتن به الناس ويظنوا أنه على حق، حيث كان الناس يصلون وراءه، لا سيما إذا كان الذي يصلى وراءه ممن يشار إليهم بالفقه والعلم. ***
يقول الله تعالى في سورة البقرة: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) . ما معنى هذه الآية؟ وهل يدخل فيها من يكتبون الحجب من القرآن مقابل أجر نقدي يتقاضونه؟ فأجاب رحمه الله تعالى: معنى هذه الآية الكريمة أن الله ﷾ توعد أولئك الذين يفترون عليه كذبًا فيكتبون بأيديهم كلامًا ثم يقولون للناس: هذا من عند الله، من أجل أن ينالوا به حظًا من الدنيا، إما جاهًا أو رئاسة أو مالًا أو غير ذلك، ثم بين الله تعالى أن هذا الوعيد على الفعلين جميعًا: على كتابتهم الباطلة، وعلى كسبهم المحرم الناشيء عن هذه الكتابة الباطلة. أما الذين يكتبون الحجب- وهي: ما يعلق على المريض لشفائه من المرض، أو على الصحيح لوقايته من المرض -فإنه ينظر: هل تعليق هذه الحجب جائز أم لا؟ إذا كانت هذه الحجب لا يعلم ما كتب فيها، أو كتب فيها أشياء محرمة، كأسماء الشياطين والجن وما أشبه ذلك، فإن تعليقها لا يحل بكل حال. وأما إذا كانت هذه الحجب مكتوبة من القرآن والأحاديث النبوية ففي حلها قولان لأهل العلم، والراجح أنه لا يحل تعليقها، وذلك لأن التعبد لله ﷾ بما لم يشرعه الله بدعة، ولأن اعتقاد شيء من الأشياء سببًا لم يجعله الله سببًا نوع من الشرك. وعلى هذا فالقول الراجح أنه لا يجوز أن يعلق على المريض شيء، لا من القرآن ولا من غيره، ولا أن يعلق على الصحيح شيء، لا من القرآن ولا من غيره، وكذلك لو كتبت هذه الحجب ووضعت تحت وسادة مريض ونحو ذلك، فإنه لا يجوز. ***
المستمع سعيد عبد اللطيف صالح من اليمن لواء تعز يقول: نعلم أنه روي عن النبي ﷺ أنه صلى بأصحابه صلاة الصبح في الحديبية على إثر سماء نزلت في الليل، فلما سلم أقبل على أصحابه وقال لهم: أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (إنه قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فقد أصبح وهو مؤمن بي وكافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا، فهو مؤمن بالكوكب وكافر بي) . وفي هذا الزمن يقولون: إن الأمطار تتبخر، أو هي نتيجة تبخر البحار والمحيطات إلى غير ذلك، فمن اطلع على حقيقة ذلك؟ وهل هذا الاعتقاد جائز؟ وما الدليل من الكتاب والسنة على هذا القول؟ فأجاب رحمه الله تعالى: قول السائل: نعلم أنه روي عن النبي ﷺ، الصواب أن يقال: إنه ثبت عن النبي ﷺ؛ لأن قول: روي عن الرسول معناه تضعيف الحديث، والحديث ثابت، وهو أن الرسول ﵊ صلى بأصحابه صلاة الصبح على إثر مطر نزل، فلما أنهى صلاته أقبل عليهم وقال: (هل تدرون ماذا قال ربكم)؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) . من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فهو مؤمن بالله؛ لأنه اعترف لله بالفضل، وأن هذا المطر من آثار فضله ورحمته ﵎، وهذا هو الواجب على كل مسلم أن يضيف النعم إلى بارئها ومسديها وهو الله ﵎، ولا حرج أن يضيفها إلى سببها الثابت شرعًا أو حسًا إلا أنه إذا أضافها إلى سببها الثابت حسًا أو شرعًا، فإنه لا يضيفها إلى السبب مقرونًا مع الله ﷿ بالواو، وإنما يضيفها إلى سببها مقرونًا مع الله تعالى بثم، أو إلى سببها وحده. فلو أن شخصًا أنقذ غريقًا من غرق فهنا لا يخلو من حالات: الأولى: أن يقول: أنقذني الله تعالى على يد فلان، وهذا أفضل الأحوال. الثانية: أن يقول: أنقذني الله ثم فلان، وهذه جائزة، وهي دون الأولى. الثالثة: أن يقول: أنقذني فلان، ويعتقد أنه سبب محض، وأن الأمر كله إلى الله ﷿، وهذه جائزة، ويدل لجوازها أن النبي ﷺ لما أخبر عن عمه أبي طالب أنه كان في ضحضاح من نار، وعليه نعلان يغلي منهما دماغه- والعياذ بالله- قال النبي ﵊: (ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) . الرابعة: أن يقول: أنقذني الله وفلان، وهذا لا يجوز؛ لأنه أشرك سببًا مع الله بحرف يقتضي التسوية وهو الواو، ودليل ذلك أن النبي ﷺ قال له رجل: ما شاء الله وشيءت. فقال النبي ﷺ: (أجعلتني لله ندًا؟ بل ما شاء الله وحده) . فالمطر النازل لاشك أنه بفضل الله ورحمته وبتقديره ﷿ وقضائه، ولكن الله تعالى جعل له أسبابًا، كما أشار الله إليه بقوله: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا) . قال: (يُرْسِلُ) (فَتُثِيرُ) أضاف الإثارة إلى السحاب؛ لأنها سبب هذه الإثارة، فتثير سحابًا فيبسطه في السماء كيف يشاء، فلا بأس بإضافة الشيء إلى سببه مع اعتقاد أنه سبب محض، وأن خالق السبب هو الله ﷿. وأما قول الرسول ﵊ عن الله ﵎: (أن من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فهوكافر بي مؤمن بالكوكب، فهذا لأنهم أضافوا الشيء إلى سبب غير صحيح؛ لأن النوء ليس سببًا للمطر، فالنوء الذي هو الكوكب ليس هو الذي يجلب المطر، ولا علاقة له به، ولذلك أحيانًا تكثر الأمطار في نوء من الأنواء في سنة وتقل في سنة أخرى وتعدم في سنة ثالثة، وربما يكون العكس فالأنواء ليس لها تأثير في نزول المطر ولهذا كانت إضافة المطر إليها نوعًا من الشرك فإن اعتقد أن النوء يحدث المطر بنفسه بدون الله فذلك شرك في الربوبية، شرك أكبر مخرج عن الملة، فهذا وجه قوله ﵎ فيما رواه عنه نبيه محمد ﷺ: (من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) . وأما ما اشتهر من أن الأمطار تكون بسبب تبخر البحار ونحو ذلك: فهذا إن صح فإنه لا ينافي ما ذكره الله تعالى في القرآن، إذ من الجائز أن يكون هذا البخار تثيره الريح حتى يصعد في جو السماء، ثم يبسطه الله تعالى في السماء كيف يشاء، ثم ينزل به المطر، وهذه مسألة ترجع إلى أهل العلم بهذا الشأن، فإذا ثبت ذلك فإنا نقول: هذا البخار الذي تصاعد من البحار الذي خلقه هو الله، والذي جعله يتصاعد في الجو حتى يمطر هو الله ﷿، ولا ينافي ذلك ما جاء في القرآن إذا صح علميًا. والله أعلم. ***
وردتنا رسالة حول بعض الآبار يقول: إن بعض الناس يقومون بالذهاب إلى البئر التي تقع على طريق المدينة المنورة، ومثلها العين التي تقع في تهامة، لقصد طلب الشفاء من بعض الأمراض، والشافي هو الله ﷾، وأنه عند العودة من هناك يخبروننا بأنهم قد شُفي البعض منهم من بعض الأمراض التي بهم، مثل أمراض كثيرة والأمراض الصعبة، فما رأيكم في صحة ما يذكرون عند اعتقادهم بأن الاغتسال من ذلك الماء يشفي المرضى والله يحفظكم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: رأينا في هذا أنه إذا ثبت أن لهذا الماء تأثيرًا حسيًا في إزالة الأمراض فإنه لا بأس من قصده والاستشفاء به، وذلك لأن الطب على نوعين: أحدهما: ما ثبت به الشرع، فهذا مقبول بكل حال ولا يسأل عنه، إنَّما يسأل عن هل هذا الذي ثبت بالشرع أنه دواء هل يكون دواء لهذا المرض المعين؟ لأنه ليس كل ما كان دواء لمرض يكون دواء لكل مرض. القسم الثاني من أقسام الطب: شيء لم يثبت به الشرع لكنه ثبت بالتجارب، وهذا كثير جدًا من الأدوية المستعملة قديمًا وحديثًا، فإذا ثبت بالاستعمال والتجارب أن هذا له تأثير حسي في إزالة المرض فإنه لا بأس باستعماله، وكثير من الأدوية التي يتداوى بها الناس اليوم إنما عُلمت منافعها بالتجارب؛ لأنه لم ينزل فيها شرع. فالمهم أن ما أشار إليه السائل من هذه المياه، إذا ثبت بالتجارب أن لها تأثيرًا في بعض الأمراض، فإنه لا بأس بالاستشفاء بها والذهاب إليها. ***
الأخت سعدية كنجاري من الأفلاج تقول: أرى بعض الناس عندنا عندما يريدون الاحتفاظ بطعام إلى وقت آخر يضعون تمرة على غطاء الإناء الذي فيه الطعام، يزعمون أنها تحفظه من كل سوء كالحشرات ونحوها. فهل في فعلهم هذا ما يناقض التوحيد؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الفعل- وهو: وضع التمر على الطعام لئلا تصيبه الحشرات، هذا- لا أصل له، ولا أعلم له أصلًا من الشرع، ولا أصلًا من الواقع، فإن الحشرات تأتي إلى ما يلائمها، فمنها ما يلائمها التمر وتأتي حوله، بل تأكل منه أيضًا، ومنها ما يلائمها الدسم فتأتي إليه وتطعم منه، ولا أصل لهذا الذي يفعل. وإذا لم يكن له أصل من الشرع ولا من الواقع فإنه لا ينبغي للإنسان أن يفعله؛ لأنه مبني على مجرد أوهام وخيالات لا حقيقة لها. ***
هذه رسالة وردتنا من المرسل م. ن. العتيبي من نجد: في أيام التشريق ونحن نذهب من منى إلى الجمرات ونعود إليها نجد بعض الأفريقيين يجلسون على الطرقات، ويبيعون أكياسًا مثل الحبال، وهي من الجلد الملون، ومختومة من جميع أطرافها، وفيها شيء لا نعلمه، ويقولون: فيها شفاء من أمراض عدة وتقي الإنسان: فاللون الأسود عن الجان مثلًا، واللون الأحمر عن الجلجان، واللون الأصفر عن ذات الصفراء، واللون كذا يشفي من المرض كذا، ويقول: ضع هذا في حقيبتك أو في منزلك فيفيدك. فما حكم شراء مثل هذه الأمور؟ وما حكم بيعها؟ فأجاب رحمه الله تعالى: حكم شرائها لا يجوز، واعتقاد أن فيها هذا النفع الذي يقال لا يجوز أيضًا؛ لأن هذا لا دليل عليه، وأما بيعها فلا يجوز أيضًا، وينبغي لكم- بل يجب عليكم- إذا رأيتم مثل هذا أن تخبروا السلطات عن هذا الأمر، حتى يمنعوهم من أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن التكسب بمثل هذه الأمور من أكل أموال الناس بالباطل، والواجب منعه وتأديب فاعله. ***
بارك الله فيكم من ينبع المستمع رمز لاسمه بـ ف ج يقول في رسالته: نرى كثيرًا ما توضع لافتات ولوحات، سواء كانت من الورق أو القماش أو اللوحات الخشبية، ومكتوب عليها جميعًا آيات قرآنية، وتوضع على أبواب المساجد والعمائر والشوارع العامة، مما يعرض كلام الله ﷾ للإهانة لا سمح الله، بسبب سقوط هذه اللوحات على الطرق والمحلات القذرة. نرجو التوجيه من فضيلتكم بشأن هذا الموضوع المهم لحماية كلام الله من التعرض للخطأ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الأمر الذي أشار إليه السائل- وهو: تعليق الآيات القرآنية على الجدران وأبواب المساجد وما أشبهها- هو من الأمور المحدثة التي لم تكن معروفة في عهد السلف الصالح الذين هم خير القرون، كما ثبت عن النبي ﵊ أنه قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) . ولو كان هذا من الأمور المحبوبة لله ﷿ لشرعه الله تعالى على لسان رسوله ﷺ؛ لأن كل ما ينفع الناس في دينهم ودنياهم فهو مشروع على لسان الرسول ﷺ، ولو كان هذا من الخير لكان أولئك السلف الصالح أسبق إليه منا ومع هذا فإننا نقول لهؤلاء الذين يعلقون هذه الآيات: ماذا تقصدون من هذا التعليق؟ أتقصدون بذلك احترام كلام الله ﷿؟ فإن قالوا: نعم. قلنا: لسنا والله أشد احترامًا لكتاب الله ﷾ من أصحاب النبي ﷺ، ومع ذلك لم يعلقوا شيئًا من آيات الله على جدرانهم أو جدران مساجدهم. وإن قالوا: نريد بذلك التذكير والموعظة. قلنا: لننظر إلى الواقع، فهل أحد من الناس الذين يشاهدون هذه الآيات المعلقة يتعظ بما فيها؟ قد يكون ذلك ولكنه نادر جدًا، وأكثر ما يلفت النظر في هذه الآيات المكتوبة حسن الخط، أو ما يحيط بها من البراويز والزخارف، أو ما أشبه ذلك وهو نادر جدًا أن يرفع الإنسان رأسه إليها ليقرأها فيتعظ بما فيها. وإن قالوا: نريد التبرك بها. فيقال: ليس هذا طريق التبرك، والقرآن كله مبارك، لكنه بتلاوته وتفقد معانيه والعمل به، لا بأن يعلق على الجدران ويكون كالمتاحف. وإن قالوا: أردنا بذلك الحماية والوِرد. قلنا: ليس هذا طريق الحماية والوِرد، فإن الأوراد التي تكون من القرآن إنما تنفع صاحبها إذا قرأها، كما في قوله ﷺ فيمن قرأ آية الكرسي في ليلة: (لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح) . ومع هذا فإن بعض المجالس- أو كثيرًا من المجالس- التي تكتب فيها الآيات قد يكون فيها اللغو، بل قد يكون فيها الكلام المحرم، أو الأغاني المحرمة، وفي ذلك من امتهان القرآن المعنوي ما هو ظاهر. ثم إن الامتهان الحسي الذي أشار إليه السائل- بأن هذه الأوراق قد تتساقط في الأسواق وعلى القاذورات، وتوطأ بالأقدام- هو أمر آخر أيضًا مما ينبغي أن ينزه عنه، بل مما يجب أن ينزه عنه كلام الله ﷿. والخلاصة: أن تعليق هذه الآيات إلى الإثم أقرب منه إلى الأجر، وسلوك طريق السلامة أولى بالمؤمن وأجدر. على أنني أيضًا رأيت بعض الناس يكتب هذه الآيات بحروف أشبه ما تكون مزخرفة، حتى إني رأيت من كتب بعض الآيات على صورة طائر أو حيوان، أو رَجُلٍ جالسٍ جلوس التشهد في الصلاة أو ما أشبه ذلك، فيكتبون هذه الآيات على وجه محرم، على وجه التصوير الذي لعن النبي ﷺ فاعله. ثم إن العلماء ﵏ اختلفوا هل يجوز أن ترسم الآيات برسم على غير الرسم العثماني أو لا يجوز؟ اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: منهم من قال: يجوز مطلقًا أن ترسم على القاعدة المعروفة في كل زمان ومكان بحسبه، ما دامت بالحروف العربية. ومنهم من يقول: إنه لا يجوز مطلقًا، بل الواجب أن ترسم الآيات القرآنية بالرسم العثماني فقط. ومنهم من يقول: إنه يجوز أن ترسم بالقاعدة المعروفة في كل زمان ومكان بحسبه للصبيان؛ لتمرينهم على أن ينطقوا بالقرآن على الوجه السليم، بخلاف رسمه للعقلاء الكبار فيكون بالرسم العثماني. وأما أن يرسم على وجه الزركشة والنقوش، أو صور الحيوان، فلا شك في تحريمه، فعلى المؤمن أن يكون معظمًا لكتاب الله ﷿ محترمًا له، وإذا أراد أن يأتي بشيء على صورة زركشة ونقوش فليأتِ بألفاظ ُأخر من الحِكم المشهورة بين الناس وما أشبه ذلك، وأما أن يجعل ذلك في كتاب الله ﷿، فيتخذ الحروف القرآنية صورًا للنقوش والزخارف، أو ما هو أقبح من ذلك بأن يتخذها صورًا للحيوان أو للإنسان، فإن هذا قبيح محرم. والله المستعان. ***
هل يجوز تعليق بعضٍ من الآيات من القرآن الكريم في المنازل أو المكاتب؟ فأجاب رحمه الله تعالى: تعليق الآيات على الجدر ونحوها في المساجد والمساكن، والجواب على هذه الفقرة أنني لا أرى ذلك، أي: لا أرى أن الإنسان يعلق آيات من القرآن على الجدر، سواء في المساجد أو في البيوت؛ لأن هذا التعليق لا بد أن نسأل: ما الحامل على ذلك؟ إن قال: الحامل على ذلك التبرك بكلام الله ﷿. قلنا: إن التبرك بالقرآن الكريم على هذا الوجه ليس بصحيح؛ لأن هذا لم يرد عن النبي ﷺ ولا عن أصحابه أنهم كانوا يتبركون بالقرآن على هذا الوجه، وإذا لم يرد عنهم ذلك عُلِم أنه ليس من الشرع، وإذا لم يكن من الشرع فإنه لا يجوز للإنسان أن يتعبد به لله ﷿، أو أن يتبرك بالقرآن على هذا الوجه بدون مستندٍ شرعي. قد يقول: إنني أريد بذلك تذكير الجالسين بما تتضمنه هذه الآية من ترغيب أو ترهيب. فنقول: هذا التفكير وإن كان مقصودًا للواضع، لكنه في الحقيقة غير واقع وغير عملي، فما أكثر الآيات التي فيها ترغيب وترهيب، إذا وضعت فإن أكثر الحاضرين- إن لم يكن كلهم- لا ينتفع بذلك ولا يتعظ، قد يكون من المعلق قوله تعالى: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)، ويكون المجلس الذي فيه هذه الآية كله غيبة وكلام في أعراض الناس، فيكون هذا من باب المضادة لكلام الله ﷿. قد يقول: إني علقتها حماية لبيتي، فأنا أعلق آية الكرسي لتحفظ البيت من الشياطين؛ لأنه ثبت عن النبي ﷺ (أنه من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح) . فنقول: هذا أيضًا من البدع، فإن السلف لم يكونوا يحفظون بيوتهم بتعليق الآيات عليها، والنبي ﵊ يقول: (من قرأ آية الكرسي في ليلة)، والقراءة غير التعليق كما هو ظاهر، وبناء على هذه العلة التي يتعلل بها من يعلق الآية تجد كثيرًا من الناس يعتمد على هذا التعليق ولا يقرؤها بنفسه؛ لأنه يقول: قد كفيت بتعليق هذه الآية، فيفوت الإنسان خير كثير بناء على هذا العمل المبني على هذا الاعتقاد الذي لا أصل له. ونحن نقول: إن بعض الناس قد يعلقها- أي: الآيات- من باب التجميل، ولهذا تجدهم أحيانًا يعلقون آيات كتبت على غير الرسم العثماني، بل هي مخالفة له، وربما يكتبونها على الشكل الذي يوحي به معناها، وربما يكتبونها على صورة بيت أو قصر أو أعمدة وما أشبه ذلك، مما يدل على أنهم جعلوا كلام الله ﷿ مجرد نقوش وزخرفة، وهذا رأيته كثيرًا. فالذي أرى أنه لا ينبغي للإنسان أن يعلق شيئًا من كلام الله ﷿ على الجدر، فإن كلام الله أعلى وأسمى وأجل من أن يجعل وشيًا تحلى به الجدران، ولا يمكن أن يقاس هذا على شخص علق المصحف بوتد أو شبهه في الجدار، فإن هذا قياس مع الفارق العظيم: فالمصحف مغلف في جيبه أو بظرفه، ولم تبدُ حروفه ولا أسطره، ولا أحد يقول: إني علقت المصحف هنا لأتبرك به أو لأتعظ به، وإنما يقول: علقته هنا لرفعه عن الأرض، وحفظه عن الصبيان ونحو ذلك، وفرق بين البارز الظاهر المعلق أو المشمع على الجدار، وبين مصحف معلق مغلف جعل في فرجة أو علق بوتد أو شبهه، ولا ينطلي هذا القياس على أحد تأمل المسألة وتدبرها. ***
هذا السائل جاد الكريم محمد عبد المنان من السودان يقول: اعتاد بعض المزارعين عندنا حينما تثمر مزارعهم ويكثر ورود الطير عليها مما يتلف المحصول عليهم، اعتادوا أن يذهبوا إلى أحد أهل القرية ليعمل لهم ويكتب ورقة تحمي زراعتهم من الطير، بشرط أن يأخذ منهم ربع جوال من المحصول. فهل هذا العمل جائز شرعًا أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا العمل ليس بجائز شرعًا، وذلك لأنه لا يمكن أن تكون هذه الورقة تطرد الطيور عن المزارع، فإن هذا ليس معلومًا بالحس، وليس هو أيضًا معلومًا بالشرع، وكل سبب ليس معلومًا بالحس ولا بالشرع فإن اتخاذه محرم، فلا يجوز أن يعملوا هذا العمل، وإنما عليهم أن يكافحوا هذه الطيور التي تنقص محاصيلهم، يكافحوها بالوسائل المعتادة التي يعرفها الناس، دون هذه الأمور التي لا يعلم لها سبب حسي ولا شرعي. ***
السائل محمود يوسف يقول: ما المقصود بالتطير؟ وما حكمه؟ فأجاب رحمه الله تعالى: التطير هو التشاؤم بمرئي أو مسموع أو زمان أو مكان، وأصله من الطير، وكانت العرب في الجاهلية تتشاءم: يزجرون الطير، فإذا طار واتجه إلى جهةٍ ما، تطيروا، حتى إنه ربما كان إنسان قد ربط متاعه وأناخ راحلته يريد السفر، فيتطير، فإذا جنح الطير إلى جهةٍ ما ترك السفر وقال: هذا سفر شر. هذا هو الأصل في معنى التطير، ولهذا يجب على الإنسان إذا حدث في قلبه التشاؤم أن يتوكل على الله وأن يعتمد عليه، وأن لا يبالي بهذه الأوهام التي يجرها الشيطان إلى العبد ليكدر عليه صفوه، فقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر) . وقال: (ليس منا من تطير أو تطير له، أو سحر أو سحر له) . ***
كيف نوفق بين قوله ﷺ: (لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر) . وبين قوله: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: التوفيق بينهما أن قوله ﷺ: (لا عدوى،ولا طيرة) نفي لما كان يعتقده أهل الجاهلية بأن الأمراض تعدي بنفسها، بحيث ينتقل المرض من المريض إلى السليم بنفسه حتمًا، فنفى رسول الله ﷺ ذلك، وبين أن العدوى لا تكون إلاباذن الله ﷾، أي: إن هذا النفي يتضمن أن العدوى لا تكون إلا من الله ﷿، ولهذا أورد على النبي ﷺ لما حدث بهذا الحديث أن الرجل يأتي إبله السليمة بعير أجرب فتجرب الإبل، فقال النبي ﷺ ردًا على هذا الإيراد: (فمن أعدى الأول)؟ أي: من جعل في الأول المرض؟ هل هناك مريض أعداه؟ والجواب: لا، ولكن الذي جعل فيه المرض هو الله، فالذي جعل المرض ابتداءً في المريض الأول هو الذي يجعل المرض ثانية في المريض الثاني بواسطة العدوى. وعلى هذا فيكون معنى الحديث (لا عدوى) أي: بنفسها، ولكن ذلك بتقدير الله ﷿ الذي جعل لكل شيء سببًا، ومن أسباب المرض اختلاط المريض بالسليم، ولهذا قال: (فر من المجذوم فرارك من الأسد)؛ لأن اختلاطك به قد يكون سببًا للعدوى، فينتقل المرض من المجذوم إليك إذا اختلطت به، ولهذا قال: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) . فيكون الحديث الثاني فيه الأمر بتجنب أسباب المرض وهي مخالطة المريض، ولهذا جاء في الحديث: (لا يورد ممرض على مصح) . ***
هذا السائل يا فضيلة الشيخ يقول: بعض الشباب يسكنون معي، ودائمًا يمزحون ببعض الكلمات العفوية بالنسبة لهم، فيقول أحدهم للآخر مثلًا: إن المصالح اليوم كلها تعطلت في المكان الفلاني لأنك كنت متواجدًا فيه، وهذا لشؤم وجهك. ويضحكون لمثل هذا الأمر، حتى صار هذا ديدنهم في كل كلامهم، بل ويقولون: إن فلانًا مات لأنك ذهبت تزوره، فمات من شؤم وجهك، وهذه هي الكلمات التي يقولونها، فأرجو من فضيلة الشيخ الإجابة عن حكم هذا مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الكلام محرم؛ لأنه كذب ورجم بالغيب، ثم إنه قد يوجد عقيدة فاسدة بالتشاؤم من هذا الرجل، ثم إنه قد يوجد عداوة مستقبلًا؛ لأن كثرة المزاح في مثل هذه الأمور تؤثر على القلب وعلى النفس حتى يكون فيه عداوة وبغضاء، فنصيحتي لهؤلاء أن يتجنبوا مثل هذه الكلمات المبنية على الكذب، والتي تسبب ما لا ينبغي أن يكون. ***
هذه رسالة من الأخت. ع. م. ق. من السودان تقول: نحن نسكن في منزل منذ أربع سنوات، ومنذ نزلنا هذا المنزل ونحن نمر بحالات سيئة جدًّا: من مرض لأفراد الأسرة، ولما نملكه من بهائم، فلم تعد تتكاثر، فلا نسل منها ولا لبن فيها ولا فائدة، مما جعلنا نتشاءم من هذا المنزل، فهل يجوز لنا ذلك؟ وهل لو خرجنا منه وانتقلنا إلى منزل آخر لهذا السبب، هل نأثم بذلك أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: ربما يكون بعض المنازل، أو بعض المركبات، أو بعض الزوجات مشؤومًا، يجعل الله ﷾ بحكمته- مع مصاحبته إما ضررًا، أو فوات منفعة، أو نحو ذلك. وعلى هذا فلا بأس أن تبيعوا هذا البيت وتنتقلوا إلى بيت غيره، ولعل الله ﷾ أن يجعل لكم الخير فيما تنتقلون إليه. وقد ورد عن النبي صلى الله وسلم أنه قال: (الشؤم في ثلاث، وذكر منها الدار) . فضيلة الشيخ: ما هي الثلاث التي فيها الشؤم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هي الدار والمرأة والفرس، يعني: بعض المركبات قد يكون فيه شؤم، بعض الزوجات يكون فيه شؤم، بعض البيوت يكون فيه شؤم، فإذا رأيت ذلك فاعلم أنه بتقدير الله ﷿، وأن الله ﷾ بحكمته قدر ذلك لتنتقل إلى محل آخر. ***
بعض الناس إذا اشترى سيارة ثم حصل لها عدة صدمات قال: هذه السيارة منحوسة، فيقوم ببيعها فهل هذا من التشاؤم في محله؟ أرجو الإفادة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: صحيح أن بعض الناس يجد في بعض ماله من بركة فينتفع به كثيرًا ويوقى الآفات، سواء كان في السيارة أو في البيت أو في غير ذلك، وربما يجد منه خلاف هذا، ربما يكون هذا الشيء كثير الآفات مقلقًا له لا ينشرح صدره له، فإذا وجد ذلك في بعض ماله فلا حرج عليه أن يبيعه ليتخلص من آفاته، وكم من إنسان حصل له مثل هذا، أي: اشترى سيارة فصارت كثيرة الآفات من صدمات أو غيرها، فيبيعها ثم يشتري أخرى، فيجد منها الراحة والبركة وقلة الآفات، ولا يعد هذا من باب التشاؤم، بل هو من باب التخلص من آفات هذا الشيء وخسارته التي يخسرها عليه، ولا يعد هذا من باب التطير. ***
هذه الرسالة وردتنا من أحد السادة المستمعين من بلاد بني عمرو من قرية بران ع خ م يقول في رسالته: يوجد أناس في بلد غير بلدنا وقريتنا يتشاءمون برجل منهم، إذا قَبّلهم يقولون: يصيبهم مصيبة. فما حكم هؤلاء وفقكم الله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هؤلاء لا يجوز لهم هذا التشاؤم؛ لأن النبي ﷺ نهى عن الطيرة وقال: (ليس منا من تطير أو تُطِير له، أو سَحَر أو سُحِر له) . فلا يجوز لأحد أن يتشاءم بشخص، وهذا على عكس التفاؤل، فإن التفاؤل مطلوب، كون الإنسان يتفاءل يكون مطلوبًا في حقه، وأما التشاؤم الذي يُدخِل على الإنسان الحزن والهم والغم فإن ذلك ليس من أعمال المسلمين، فلا يجوز للمرء أن يتطير بأحد. *** الأسماء والصفات
أحسن الله إليكم يسأل عن مذهب أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات لله ﷿؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أهل السنة والجماعة- جعلنا الله منهم- أشد الناس تعظيمًا لله ﷿، وأشد الناس احترامًا لنصوص الكتاب والسنة، فلا يتجاوزون ما جاء به القرآن والحديث من صفات الله ﷿، فيثبتون لله تعالى ما أثبته الله لنفسه وإن حارت العقول فيه، وينفون ما نفى الله عن نفسه وإن توهمت العقول ثبوته. مثال ذلك: أن الله ﷿ فوق كل شيء أزلًا وأبدًا، وهو ﷾ له العلو المطلق في كل وقت وحين، فوق سماواته، فوق مخلوقاته، مستوٍ على عرشه، ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (أنه ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر)، فيأتي الشيطان للإنسان ويقول: كيف ينزل وعلوه لازم له؟ كيف ينزل؟ فنقول: هذا يحار فيه العقل، لكن يجب علينا أن نصدق ونقول: الله أعلم بكيفية هذا، نؤمن بأنه ينزل ولكن لا نعلم بالكيفية، عقولنا تحار ولكن يجب أن نقبل؛ لأن الله ليس كمثله شيء في جميع صفاته. ولهذا قال بعضهم: إن القرآن والسنة أتى بما تحار فيه العقول، لا بما تحيله العقول، فالواجب علينا في أسماء الله وصفاته تصديقها والإيمان بها، وأنها حق وإن حارت عقولنا في كيفيتها، فالجادة لأهل السنة والجماعة أن كل ما سمى الله به نفسه أو وصف به نفسه، سواء في القرآن أو في السنة، فإنه يجب الإيمان به وتصديقه. قوله تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) . يأتي الإنسانَ الشيطانُ فيقول: كيف يجيء؟ فنقول: يجيء على الكيفية التي أراد الله، الكيف مجهول، يجب عليك أن تؤمن بهذا حتى لو حار عقلك به، مأمور بأن تصدق على كل حال. ولذلك ضل قوم حكموا عقولهم في أسماء الله وصفاته، فأنكروا ما أثبته الله لنفسه، وحرفوا به نصوص الكتاب والسنة، فقالوا: إن معنى قوله تعالى: (استوى على العرش) أي: استولى على العرش. فسبحان الله! كيف يقول ﷿: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) . أفيمكن أن نقول: إنه قبل ذلك ليس مستوليًا عليه؟ هذا أمر ينكره العامي فضلًا عن طالب العلم، لكن إذا حكم الإنسان عقله في الأمور التي تتوقف على الخبر المحض ضل وزل. ولهذا ننصح إخواننا الذين يقولون: استوى بمعنى استولى، أن يتوبوا إلى الله ﷿، وأن يؤمنوا بأنه استوى على العرش، أي: علا عليه علوًّا خاصًّا يليق بجلاله وعظمته، وليعلموا أن الله سائلهم يوم القيامة عما اعتقدوا في ربهم ﷿، وهل اعتقدوا ذلك بناء على كتاب الله وسنة رسوله، أو بناء على ما تقتضيه أهواؤهم وعقولهم؟ إن نصيحتي لهؤلاء أن يتوبوا إلى الله، وأسأل الله أن يتوب عليهم ويوفقهم للحق، فليؤمنوا بما جاء في كتاب الله على مراد الله ﷿، وكذلك أيضًا من قالوا: إن الله ليس عاليًا بذاته فوق المخلوقات، وقالوا: لا يجوز أن نقول: إن الله فوق، فنقول: توبوا إلى ربكم، أنتم الآن تدعون الله وتجدون قلوبكم مرتفعة إلى فوق، وتمدون أيديكم أيضًا إلى فوق، دعوكم وفطرتكم فقط، واتركوا عنكم الأوهام والأشياء التي تضلكم، وإذا أنكرتم علو الله وقلتم: إنه بذاته في كل مكان، فكيف يليق هذا؟ أيليق أن يكون الله تعالى في حجرة ضيقة؟ ألا فليتق الله هؤلاء، وليتوبوا إلى الله من هذه العقيدة الفاسدة الباطلة، أخشى أن يموتوا فيلقوا ربهم على هذه العقيدة فيخسروا. ***
بارك الله فيكم من موريتانيا المستمع سعدي. أ. ن يقول: فضيلة الشيخ أريد أن أعرف الفرق بين أسماء الله وصفاته مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الفرق بين الاسم والصفة ظاهر، فإذا قلت مثلًا السميع، فالسميع اسم والصفة السمع، وإذا قلت: البصير فالبصير اسم والصفة البصر، وإذا قلت: العلي فالعلي اسم والعلو صفة، وإذا قلت: الحكيم فالحكيم اسم والحكمة صفة، وهلم جّرًا. فهذا هو الفرق: فالاسم ما تسمى الله به، والصفة ما اتصف الله به، وهي المعنى القائم بالله ﷿. وهناك صفات ليست صفات معانٍ مثل اليد، فلله تعالى يدان اثنتان، قال الله تعالى: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) . والعين، فلله تعالى عينان، كما قال النبي ﵊: (إن الدجال أعور، وإن ربكم ليس بأعور) . وما أشبه ذلك مما جاء في الكتاب والسنة، فهذه الصفات وأمثالها ليست صفات معانٍ ولكنها صفات مسماها بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء. ***
هذا السائل من جمهورية مصر العربية يقول: ما هو مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات؟ نرجو بهذا الإفادة جزاكم الله خيرًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: مذهب أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته أنهم يثبتون لله تعالى كل ما أثبته لنفسه من الأسماء، وكل ما أثبته لنفسه من الصفات، على وجه ليس فيه تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل. ولنضرب لهذا مثلًا: قال الله ﵎: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) . فيقول أهل السنة والجماعة: إن معنى الآية الكريمة أن الله استوى على العرش، أي: علا عليه، لكن كيف علا؟ الله أعلم، لا نكيف صفاته لكن نؤمن بمعناها، فنقول: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) أي: علا عليه علوًّا يليق بجلاله وعظمته، ويجتنبون طريق أهل البدع الذين يحرفون الكلم عن مواضعه فيقولون: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) أي: استولى. ولا شك أن هذا صرف للكلام عن ظاهره بلا دليل، ولا شك أيضًا أنه يستلزم لوازم باطلة؛ لأننا إذا قلنا: استوى بمعنى استولى، لزم أن يكون العرش قبل خلق السماوات والأرض ملكًا لغير الله، وأن الله استولى عليه بعد ذلك، ولزم أيضًا أن يقال: إنه يصح أن تقول: إن الله استوى على الأرض؛ لأنه مستولٍ عليها، وهذا أمر باطل. ومثال ثانٍ: قول الله ﵎: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ) . قال أهل التعطيل الذين يحرفون الكلم عن مواضعه: المراد بوجه الله ثوابه، وليس المراد به وجهه الذي هو صفة من صفاته ﷿، من صفاته الخبرية التي لا مدخل للعقل فيها وليست معنوية، بل هي صفة خبرية، نظيرها بالنسبة لنا بعض منا وجزء منا، فيقال: هذا خلاف ظاهر الآية الكريمة، وخلاف ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى من بعدهم، فوجهه الله تعالى هو وجهه، والثواب شيء آخر، ثم أين المقارنة: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦) وَيَبْقَى وَجْهُ) أين المقارنة بكون المراد العمل؟ فالآيات هذه لا تناسب ما قبلها حتى يقال: إنها من العمل، أي لا تناسب ما قبلها من حيث تفسيرها بالثواب. ومن ذلك أيضًا قول الله ﵎ لإبليس: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)؟ قالوا: المراد باليد هنا القدرة. فيقال: سبحان الله! كل البشر خلقهم الله بقدرته، ثم هل القدرة تتبعض وتتعدد؟ القدرة صفة واحدة، يستطيع بها القادر أن يفعل بلا عجز. وقس على هذا كثيرًا، فأهل السنة والجماعة يقولون: كل ما سمى الله به نفسه فالواجب علينا إثباته، وكل ما وصف الله به نفسه فالواجب علينا إثباته، لكن يجب أن يكون إثباتنا هذا منزهًا عن التمثيل وعن التكييف، بمعنى: أن نثبت لله هذه الصفة وننفي أن يكون مماثلًا للعباد في هذه الصفة، وكذلك نثبت هذه الصفة ولا نكيفها، لا نقول: كيفيتها كذا وكذا. ولهذا لما سأل الإمام مالكًا رجل فقال: يا أبا عبد الله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء، ثم قال: (يا هذا! الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) . فقال ﵀: الكيف غير معقول، يعني: لا يمكن أن ندركه بعقولنا، وإذا كنا لا ندركه بعقولنا لزم أن نعتمد في ذلك على النقل، ولم ينقل لا في القرآن ولا في السنة كيفية استواء الله ﵎ على عرشه، وعلى هذا فتكون كيفية الاستواء مجهولة، وليست معلومة لنا. ***
بارك الله فيكم من المغرب رسالة وصلت من المستمع أحمد يقول: ما هو منهج أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات؟ نرجو من فضيلة الشيخ إجابة مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا السؤال سؤال عظيم، ومنهج أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات منهج وسط بين أهل التعطيل وأهل التثميل: فأهل التمثيل قوم أكدوا لله الصفات، لكن بالغوا في إثباتها وغلوا في ذلك، وجعلوها من جنس صفات المخلوقين، فانحرفوا بذلك عن الصراط المستقيم؛ لأن الله ﷾ يقول في كتابه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) . ويقول جل ذكره: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) . ويقول ﷾: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) . ويقول ﷿: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) . والقسم الثاني معطلة: عطلوا الله ﷾ من صفاته التي أثبتها لنفسه، ونفوها عنه، وحرفوا من أجل ذلك نصوص الكتاب والسنة، وعطلوها من المراد بها بحجج هي شُبَه في الحقيقة وليست بحجج، حكموا في ذلك عقولهم، وجعلوا يثبتون لله ما اقتضت عقولهم إثباته، وينكرون ما لم تقضِ عقولهم إثباته، فظلموا في ذلك وصاروا هم الحاكمين على الله، وليس كتاب الله هو الحاكم بينهم، فأنكروا ما وصف الله به نفسه وقالوا: ليس لله وجه، ليس لله عين، وليس لله يد. وقالوا أيضًا. ليس لله فرح، وليس لله غضب، وليس لله عجب. وقالوا أيضًا: ليس لله فعل: لا استواء على العرش، ولا نزول إلى السماء الدنيا. بل بالغوا حتى قالوا: إن الله ليس عاليًا فوق خلقه، وإنما علوه علوُّ صفة وعلو معنوي، وليس علوًّا ذاتيًّا. وبالغ بعضهم فقالوا: إن الله ﷾ لا يقال: إنه فوق العالم، ولا تحت العالم، ولا يمين ولا شمال، ولا متصل ولا منفصل، وأتوا بأقوال يعجب منها المرء ويقول: كيف يكون هذا مقتضى العقول؟ أما أهل السنة والجماعة فإنهم يثبتون لله تعالى ما أثبته من الأسماء والصفات إثباتًا حقيقيًا، مع نفي المماثلة- أي: مماثلة المخلوقين- فيقولون: نثبت لله كل ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، أي: فيثبتون لله الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر، ويثبتون لله الأفعال المتعلقة بمشيئته: كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والإتيان للفصل بين العباد،؟ ويثبتون لله الفرح والضحك والعجب، ويثبتون لله الحكمة والرحمة، وغير ذلك مما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله ﵌، لكن من غير تحريف ولا تعطيل. ويقولون لهؤلاء الذين أنكروا ما أثبته لله لنفسه، وحكموا على الله بعقولهم، يقولون: إننا إذا سلمنا جدلًا أن ما نفيتموه لا يدل عليه العقل، فإنه قد دل عليه السمع، والسمع دليل شرعي نتفق وإياكم عليه، على أن الكتاب والسنة هما الدليلان بإثبات ما أثبته لنفسه، ونفي ما نفاه عن نفسه، وكونكم تقولون: إن إثبات شيء ما من هذه الصفات يقتضي التمثيل والتشبيه، نقول لكم: وأنتم حين أكدتموه يقتضي على قاعدتكم أنكم مشبهة ممثلة. فأي فرق بين من يقول: إن لله سمعًا وبصرًا، ومن يقول: إن لله رحمة وإن لله وجهًا، وإن الله استوى على العرش؟ إن كان ما أكدتموه لا يدخل في التمثيل فما أكدناه نحن لا يدخل في التمثيل، وإن كان ما أثبتناه يقتضي التمثيل فما أثبتموه يقتضي التمثيل، والتفريق بين هذا وهذا تحكُّم وتناقض، والواجب على المرء أن لا يتقدم بين يدي الله ورسوله لنفي ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله، أو إثبات مالم يثبته الله لنفسه ولا أثبته له رسوله، الواجب في هذا الأمر- يعني: في باب الأسماء والصفات- أن يتلقى من الكتاب والسنة؛ لأنه من الأمور التي لا مجال للعقل فيها، والعقل لا يدرك ما يجب لله من الأسماء والصفات أو يجوز أو يمتنع، وإن كان العقل قد يدرك من حيث الإجمال أن الله موصوف بصفات الكمال ولا بد، ولكن تفاصيل ذلك لا تعلم إلا عن طريق السمع. وخلاصة القول: أن مذهب أهل السنة والجماعة هو إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ونفي ما نفى الله عن نفسه من الصفات، والسكوت عما لم يرد به نفيٌ ولا إثبات؛ لأن هذا هو مقتضى السمع ومقتضى العقل، فنسأل الله تعالى أن يتوفانا على عقيدة أهل السنة والجماعة. ***
بارك الله فيكم هذه رسالة وصلت من سوداني يعمل بالرياض يقول: فضيلة الشيخ أريد أن أعرف مذهب أهل السنة والجماعة في الصفات مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: مذهب أهل السنة والجماعة في ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسول الله ﷺ قبول هذا الوصف، والإيمان به، واعتقاد أنه حق على حقيقته، إلا أنهم ينزهون الله تعالى عن أي نقص في هذه الصفة، أو عن مشابهة المخلوقين فيها. فيؤمنون مثلًا بقوة الله، ويؤمنون بأن هذه القوة لن يلحقها ضعف، ويؤمنون بأن هذه القوة لا تشبه قوى المخلوقين، مهما اجتمعوا وكثروا فإن قوتهم لن تكون مثل قوة الله ﷿. إن لله تعالى يدًا حقيقية، ويؤمنون بأن هذه اليد قوية عظيمة، قال الله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) . وقال تعالى: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) . ويؤمنون بأن هذه اليد لا تماثل أيدي المخلوقين؛ لقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) . فالقاعدة إذًا فيما جاء من صفات الله ﷿ في القرآن أو السنة: الإيمان بذلك، وقبوله، وتنزيه الله ﷾ عن أي نقص فيه، وتنزيه الله تعالى أن يكون مماثلًا للمخلوقين فيه، هذه هي السبيل التي درج عليها أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة وأئمتها، ولهذا كانوا يقولون في آيات الصفات وأحاديثها: أمروها كما جاءت دون كيف. وسئل الإمام مالك ﵀ عن الاستواء فقيل له: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استوى؟ فأطرق رأسه حتى تصبب منه العرق، ثم قال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) . قال الاستواء غير مجهول؛ لأنه معلوم في اللغة العربية أن معنى استوى على كذا أي علا. والكيف غير معقول، أي: غير مدرك بالعقل؛ لأنه فوق ما تتصوره عقولنا. والإيمان به واجب؛ لأن النص ورد به، فقد ذكر الله استواءه على عرشه في سبعة مواضع من كتابه. والسؤال عنه بدعة، أي: السؤال عن كيفيته بدعة لا عن معناه، فإنه لا حرج على الإنسان أن يسأل عن معنى آيات الصفات وأحاديثها؛ لأن هذا من الأمورالتي يمكن الوصول إليها، أما الكيفية فلا يجوز السؤال عنها؛ لأنها من الأمور التي لا يمكن الوصول إليها. ولم تكن من عادة السلف، ولهذا قال ﵀: السؤال عنه بدعة. وهكذا نقول في سائر الصفات: إنها معلومة المعنى مجهولة الكيفية، وإن الإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة. فنقول مثلًا في العين: إن معناها معلوم، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عن كيفيتها بدعة. وهكذا نقول في الوجه، وغير ذلك مما جاء في الكتاب والسنة من صفات الله: إنه معلوم المعنى، مجهول الكيفية. ***
السائل من السودان يقول في هذا السؤال: حدثونا عن مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات التي ذكرت في الكتاب والسنة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات التي ذكرت في الكتاب والسنة هو الكلمة المشهورة: أمروها كما جاءت بلا كيف، وأنه يجب الإيمان بها والتصديق، واعتقاد مقتضاها من غير تحريف ولا تعطيل، ولاتكييف ولا تمثيل، فلا يجوز أن يحرف الكلم عن مواضعه، فيقال مثلًا: المراد باليدين القوة أو القدرة أو النعمة، ولا يجوز أيضًا أن يحرف الوجه عن معناه فيقال: المراد بالوجه الثواب أو ما أشبه ذلك، ولا يجوز أيضًا أن يحرف استواء الله على العرش إلى استيلائه عليه فيقال: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) أي: استولى، ولا يجوز أن يحرف نزول الله إلى السماء الدنيا بنزول أمره أو نزول رحمته، أونزول ملك من ملائكته، ولا يجوز أن يحرف قوله تعالى: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) إلى أن المراد إتيان شيء من آياته، ولا يجوزأن يحرف قول الله ﵎: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) إلى أن المراد بذلك علمنا أو ما أشبه ذلك. المهم أن مذهب أهل السنة والجماعة هو إبقاء النصوص على ظاهرها اللائق بالله ﷿، كما أنه لا يجوز عندهم التمثيل، أي: أن تمثل هذه الصفات بصفات المخلوقين، فيقال مثلًا: إن وجه الله تعالى كوجوهنا، أو يده كأيدينا، أو عينه كأعيننا، أو نزوله كنزولنا، أو استواءه كاستوائنا، كل هذا محرم. فطريقتهم ما دل الكتاب والسنة والعقل على أنها حق، وذلك بإثباتها على ظاهرها، من غير تمثيل ولا تحريف. ***
يقول هذا السائل: يا فضيلة الشيخ ما مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات؟ وما معنى أمروها كما جاءت؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم مذهب أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات إثبات ما أثبته الله لنفسه في القرآن الكريم، أو صح عن النبي ﷺ في سنته المطهرة، فكل ما جاء في القرآن من أسماء الله وصفاته فهو حق، وكل ما جاء في السنة مما صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو حق، ويتبرؤون من أمورٍ أربعة: التمثيل، والتحريف، والتعطيل، والتكييف. فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، ولا يحرفون القرآن والسنة عن ظاهرهما بتأويلٍ ليس بسائغ، ولا يعطلون الله تعالى من صفاته التي أثبتها لنفسه، ولا يعطلون النصوص من دلالتها التي أراد الله بها، ولا يكيفون صفات الله بصفات خلقه، بل يؤمنون بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ولا يتعمقون في البحث عن أسماء الله وصفاته، بل يسكتون عما سكت الله عنه ورسوله، وعما سكت عنه الصحابة ﵃. ومعنى قولهم: أمروها كما جاءت بلا كيف، يعني أبقوا جلالتها على ما هي عليه، وأثبتوا ما دلت عليه من الإثبات، ولا تكيفوا صفات الله بصفات الخلق، أو تكيفوا صفات الله بصفةٍ تتخيلونها وإن خالفت صفة الخلق؛ لأن الله تعالى أخبرنا عن صفاته ولم يخبرنا عن كيفيتها. ***
جزاكم الله خيرًا أبو إبراهيم من دمياط من جمهورية مصر العربية يقول في هذا السؤال: سئل أحد السلف ﵃ عن الأسماء والصفات فقال: أمرُّوها كما جاءت. ما معنى ذلك؟ وهل هذا القول منسوب إلى أحد السلف؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا القول منسوب إلى عموم السلف، يقولون في آيات الصفات وأحاديثها: أمروها كما جاءت بلا كيف، فقولهم: أمروها كما جاءت يعني: لا تتعرضوا لها بتحريف، أي بتأويل يخرجها عن ظاهرها، ويتضمن هذا القول أيضًا إثبات معانيها، وأنه ليس المراد مجرد إثبات اللفظ؛ لأن نصوص الصفات في كتاب الله وسنة رسوله ألفاظ جاءت لإثبات معناها، لا أن نمرها على ألسنتنا دون أن نفهم المعنى، فكأنهم يقولون: أمروها على معناها المراد بها لا تغيروها. وقولهم: بلا كيف، أي: لا تكيفوها، وليس المعنى بلا اعتقاد كيفية لها؛ لأن لها كيفية ضرورة إثباتها، إذ لا يمكن إثبات شيء لا كيفية له، فيكون المعنى: بلا كيف، أي: بلا تكييف لها، لا تكيفوها، لا تقولوا: كيفية وجه الله كذا وكذا، ولا كيفية يديه كذا وكذا، ولا كيفية عينيه كذا وكذا، لأن الله تعالى أجل وأعظم من أن يدرك العباد كيفية صفاته. وفي هذا القول المشهور عن السلف رد على طائفتين منحرفتين: إحداهما: طائفة التعطيل، التي سلبت عن الله تعالى جميع معاني صفاته، وجعلتها ألفاظًا لا معنى لها، أو جعلت لها معاني مخالفة لظاهر اللفظ؛ لأن الذين لم يمروها على ما جاءت انقسموا إلى قسمين: قسم قالوا: لا معنى لها إطلاقًا، وليس علينا إلا إمرار لفظها دون التعرض لمعناها. وقسم آخر قالوا: نتعرض للمعنى، لكن حملوا المعنى على خلاف ظاهرها، وأثبتوا لها معاني من عند أنفسهم لا دليل عليها من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا من أقوال الخلفاء والصحابة. فالأول طائفة المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم من معطلي الصفات، والثانية طريقة الأشاعرة ومن سلك سبيلهم ممن حرفوا نصوص الصفات إلى معانٍ ابتكروها من عقولهم، ولم ينزل الله بها سلطانًا، ولم يثبتوا إلا ما زعموا أن العقل يدل عليه، كالصفات السبع التي أثبتتها طائفة الأشعرية، وأنكروا من الصفات ما العقل أدل عليه من دلالة العقل على هذه الصفات التي أثبتوها. على كل حال الجملة الأولى فيها رد على طائفتين: الأولى من عطلت المعاني مطلقًا، والثانية من أثبتت معاني لا دليل عليها، وربما تكون الطائفة الثانية أشد مخالفة من الطائفة الأولى؛ لأن الطائفة الأولى أمسكت وقالت: لا نثبت معنى، فنفت المعنى، وهذا نفي بلا علم بلا شك. والثانية نفت المعنى المراد وأثبتت معنى آخر لا يدل عليه اللفظ، فصار في ذلك جنايتان: الجناية الأولى: نفي المعنى الذي هو ظاهر اللفظ، والثانية: إثبات معنى لا يدل عليه اللفظ، نسأل الله الهداية للجميع. أما قولهم: بلا كيف، فهو رد على طائفة منحرفة على ضد الطائفتين المعطلتين، وهي طائفة الممثلة الذين قالوا: نثبت لله الصفات، ولكنها على مثل ما كان من صفات المخلوقين: فوجه الله تعالى- على زعمهم، تعالى الله عن قولهم- يكون على مثل أجمل وجه بشري، وهكذا بقية صفاته ﷿. وهؤلاء أيضًا خالفوا قول الله تعالى خبرًا: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) . وعصوا أمر الله تعالى نهيًا في قوله: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) . وخلاصة الجواب أن معنى قول السلف: أمروها كما جاءت: أثبتوا هذه الألفاظ مع معانيها التي دلت عليها، وهو ما يفهم من ظاهرها، على الوجه اللائق بالله ﷿. وقولهم: بلا كيف، رد على الممثلة، أي: لا تكيفوها، وليس المعنى لا تعتقدوا لها كيفية؛ لأن لها كيفية، مجرد القول بإثباتها يستلزم أن يكون لها كيفية، لكنها غير معلومة، ولهذا قال الإمام مالك ﵀ في استواء الله على عرشه: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) . ***
هذا السائل يقول: يا فضيلة الشيخ البعض من الدعاة يقولون بأنه لا ينبغي أن نعلِّم الناس مسائل توحيد الأسماء والصفات؛ لأنها من المتشابه، ولكن إذا حصل إشكال لهم في أي شيء منها- أي: من الصفات- بينا لهم ذلك، فما رأي فضيلتكم بارك الله فيكم وفي علمكم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أقول: إن الناس في هذا الباب- أي: في باب أسماء الله وصفاته- ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: طرفان ووسط. فطرفٌ يقول مثلما قال هذا السائل عن شخصٍ آخر أنه يقول: لا تبينوا أسماء الله وصفاته؛ لأنها من المتشابه، ولكن إذا سألوا فأجيبوهم. وقسمٌ آخر طرفٌ آخر يقول: بينوا للناس أسماء الله وصفاته، ثم ما يتفرع على هذه الأسماء والصفات من الإشكالات أوردوه عليهم، أو تعمقوا في جانب الإثبات واذكروا كل شيء، حتى إن بعضهم يقول مثلًا: كم أصابع الله؟ كيف استوى على العرش؟ هل لله أذن؟ وما أشبه ذلك من الأمور التي يجب الإعراض عنها؛ لأنها لم تذكر في الكتاب ولا في السنة، ولو كان ذكرها مما تتوقف عليه العقيدة الصحيحة لكان الله يبينها لعباده: إما في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. والقسم الثالث وسط يقول: علموا الناس ما يحتاجون إليه في هذا الباب، دون أن تتعمقوا وتتكلفوا ما لستم مكلفين به. وهذا القول هو الصحيح، هو الراجح، أن نعلم الناس ما يحتاجون إليه، إلى معرفته في هذا الباب، وأن لا نتكلف علم، ما ليس لنا به علم، بل نعرض عنه. فمثلًا: إذا شاع في الناس مذهبٌ يخالف مذهب السلف، فلا بد أن نبين للناس مذهب السلف في هذا الباب، لو شاع في الناس أن اليدين اللتين أثبتهما الله لنفسه هما النعم، يجب علينا أن نبين أن هذا خطأ، وأن اليدين صفتان لله ﷿، أثبتهما الله لنفسه، وبين جل وعلا أن يديه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، وأخبر النبي ﷺ (أن الله يبسط يده بالليل ليتوب المسيء بالنهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب المسيء بالليل) . وأخبر أن يد الله ملأى سحاء الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه، وأجمع سلف الأمة على أنهما يدان حقيقيتان ثابتتان لله على وجهٍ يليق به، لكن لا تماثلان أيدي المخلوقين، حتى يزول عن الناس الاعتقاد الذي ليس بصحيح، وهو أنهما النعمتان، هذا لا بد منه. لكن إذا كنا في قومٍ لم يطرأ على بالهم هذا الشيء، ولو دخلنا معهم في مسائل تفصيلية لحصل لهم ارتداد، أو لدخلوا في أمورٍ يتنطعون فيها، فهنا نأخذ بما جاء عن السلف، وخاصةً عن ابن مسعود ﵁ أنه قال: (إنك لن تحدث حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) . وقال عليٌ ﵁: (حدث الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله)؟ أما التعمق في الصفات، وطلب ما لا يمكن العلم به، فإن هذا من التكلف والبدعة، ولهذا لما قال رجلٌ للإمام مالك: يا أبا عبد الله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استوى؟ وكان هذا سؤالًا عظيمًا وقع موقعه في الإمام مالك ﵀، فأطرق برأسه وجعل يتصبب عرقًا، ثم رفع رأسه وقال: (يا هذا! الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) . يريد بذلك ﵀ أن الاستواء غير مجهول، معروف استوى على كذا يعني: علا عليه، قال الله تعالى: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) يعني: علوت عليه وركبت فيه. وقال تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) يعني: إذا علوتم عليه راكبين. فاستوى على العرش يعني: علا عليه علوًا يليق بجلاله وعظمته، هذا معنى قوله: الاستواء غير مجهول. والكيف غير معقول، لم يقل ﵀: الكيف غير موجود، بل قال: الكيف غير معقول، يعني: هناك كيفية استوى الله عليها لكن لا ندري، عقولنا لا تدرك ذلك، وشرعنا لم يأتِ بها، الكتاب والسنة ليس فيهما كيفية استواء الله على العرش، وعقولنا لا تدرك هذا، فانتفى عنها الدليلان العقلي والسمعي، فوجب السكوت، فإذا سئلنا: كيف استوى؟ قلنا: الله أعلم الإيمان به واجب أي بالاستواء واجبٌ على ما أراده الله ﷿ والسؤال عنه بدعة هذا محل الشاهد من كلامنا، هذا السؤال عن الكيفية بدعة، لماذا؟ لأن الصحابة- وهم أحرص منا على معرفة الله، وأحرص منا على العلم، وإذا سألوا سألوا من هو أعلم منا بالإجابة- لم يسألوا النبي ﷺ، لم يقولوا: يا رسول الله كيف استوى؟ مع أنهم يسألون عن أشياء أدق من هذا، لكنهم يعرفون ﵃ أن مثل هذه الأمور لا يمكن العلم بها، لذلك لم يسألوا، وإلا فهم يسألون عما هو أدق، كما سنبين إن شاء. الله أيضًا السؤال عنه بدعة: من سمات أهل البدع؛ لأن أهل البدع هم الذين يحرجون أهل السنة في ذكر الكيفية، يقولون: كيف استوى؟ كيف ينزل إلى السماء الدنيا؟ يحرجونهم ليقولوا: استوى على الكيفية الفلانية، أو ينكروا الاستواء، أو يقولوا: نزل على الكيفية الفلانية، أو ينكروا النزول، فهو من سمات أهل البدع، السؤال عن كيفية الصفات من سمات أهل البدع، ثم إن السؤال عن الكيفية- كيفية الصفات- من التنطع في دين الله، وقد قال النبي ﵊: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) . أو بما جاءت به النصوص من أمور الغيب، ولا تسأل عما وراء ما ذكر لك؛ لأنك لن تصل إلى شيء، وإذا سألت عما لم يذكر لك من أمور الغيب ربما تكون من الذين يسألون عن أشياء لا حاجة لهم بها، بل أنت منهم، وربما تقع في متاهات تعجز عن التخلص منها. وقولنا: إن الصحابة ﵃ يسألون عما دون ذلك، أستدل له بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذكر أن الدجال يخرج ويمكث في الأرض أربعين يومًا: اليوم الأول كسنة كاملة، يعني: اثني عشر شهرًا، واليوم الثاني كشهر، واليوم الثالث كأسبوع، وبقية أيامه كأيامنا. فالصحابة ﵃ لما قال: يوم كسنة، قالوا: يا رسول الله! هذا اليوم الذي كسنة تكفينا فيه صلاةُ يوم واحد؟ قال: (لا، اقدروا له قدره) . فتجدهم أنهم سألوا عن هذا لأنهم مكلفون بالصلوات الخمس في أوقاتها المعلومة، وهذا اليوم سيكون طويلًا، سيكون اثني عشر شهرًا، هل تكفي فيه خمس صلوات؟ لذلك سألوا، فإذا كانوا لم يسألوا الرسول ﵊ فيما يتعلق بصفات الله فإنهم خير سلفٍ لنا نقتدي بهم، ولا نسأل عن كيفية صفات الله، ولا نسأل أيضًا عما لم يبلغنا علمه من هذه الصفات ولا من غيرها من أمور الغيب، كل أمور الغيب الأدب فيها أن يقتصر الإنسان فيها على ما بلغه، وأن يسكت عما لم يبلغه لأنه لو كان في بيانه خيرٌ لبينه الله ورسوله. وأما قول السائل: لا تخبروا العوام بها؛ لأنها من المتشابه. فنقول له: يا أخي ماذا تريد بالمتشابه؟ إذا كانت صفات الله ﷿ وكانت نصوصه الواردة فيها من المتشابه فماذا يبقى بيانًا؟ آيات الصفات من أبين الآيات، أحاديث الصفات من أبين الأحاديث، وليس فيها ولله الحمد شك، كلها معناها معلوم، كلها معناها مفهوم بمقتضى اللسان العربي المبين الذي نزل به القرآن، وكيف ينزل الله علينا شيئًا يتعلق بأسمائه وصفاته ونحن نجهله ولا يمكننا الوصول إليه؟ هذا مستحيل فنقول: إن آيات الصفات وأحاديثها من المعلوم، وليست من المتشابه، فهل يشتبه على أحد قول الله ﵎: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) فلا يدري ما معنى خلق؟ هل يشتبه على أحد قول الله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) أن معناها نفي المماثلة وإثبات السمع والبصر؟ آيات الصفات وأحاديثها ليست من المتشابه، نعم إن أراد القائل بقوله: من المتشابه، يعني: من الذي يشتبه علينا إدراك كيفيته وحقيقته فهذا صحيح، نحن لا نعلم كيفية ما وصف الله به نفسه وكنهه، لكن معناه واضح، ولولا أن معناه واضح ما استطعنا أن ندعو الله بأسمائه، وقد قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) . فالمهم أن هذه الكلمة التي أطلقها بعض العلماء على آيات الصفات وأحاديثه وقال: إنها من المتشابه، نقول له: إن أردت أنها من المتشابه معنىً فلا، وإن أردت أنها من المتشابه حقيقةً وكنهًا، وأننا لا ندرك كيفيتها ولا حقيقة كنهها فهذا حق، وليس بغريبٍ أن نعلم معنى الشيء ولا ندرك حقيقته وكيفيته، نحن نعلم معنى الروح التي بين جنبينا، والتي إذا انسلت من الجسد مات الإنسان، نعم نعلم هذا، لكن هل ندرك حقيقتها وكيفيتها؟ لا أبدًا، نحن نعلم ما ذكر الله عن الجنة بأن فيها من كل فاكهةٍ زوجين ونخلًا ورمانًا وما أشبه ذلك، ولكن هل نحن ندرك حقيقة ذلك وكنهه؟ لا؛ لأن الله يقول: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) . ويقول الله ﷿ في الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر) . والمهم التنبيه على هذه العبارة المتداولة في كلمة المتشابه بالنسبة لأسماء الله وصفاته، حيث يتوصل بها أهل التعطيل إلى أن نسلك مسلكًا سيئًا في ذلك، بحيث نفوض العلم بمعنى أسماء الله وصفاته، كما زعم بعض المتأخرين أن مذهب السلف هو التفويض، أي: تفويض القول بأسماء الله وصفاته إلى الله، وألا نتكلم بشيءٍ من معناها، وهذا القول بالتفويض على هذا الوجه قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: (إنه من شر أقوال أهل البدع والإلحاد) . أما تفويض الحقيقة والكنه فهذا شيء لا بد منه، ولا يضرنا إذا كنا نعلم المعنى، ولكن لا نعلم الكنه والحقيقة التي عليها هذا المسمى والموصوف. ***
بارك الله فيكم فضيلة الشيخ المستمع أبو محمد يقول: هل من أسماء الله (الحق) ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم من أسماء الله تعالى الحق، قال الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ)، (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) . ولكن نسمع كثيرًا من الناس إذا أراد أن يستشهد بآية قال: قال الحق كذا وكذا، والأولى أن يعبر بما كان السلف يعبرون به فيقول: قال الله كذا، حتى كان النبي ﵊ إذا حدث عن الله ﷿ بحديث قال: قال الله تعالى. فالذي ينبغي لنا أن نتبع ما كان عليه سلفنا في مثل هذه الأمور، وإذا أردنا أن نستشهد بآية قلنا: قال الله تعالى كذا وكذا. ***
يقول السائل: هل الحنَّان، المنان،المحسن، من أسماء الله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الحنان لم يثبت أنها من أسماء الله، وأما المنان فثابت أنها من أسماء الله، والمحسن أيضًا من أسماء الله ﵎. ولهذا ما زال الناس يسمون عبد المحسن، عبد المنان، والعلماء يعلمون بذلك ولا ينكرونها. ***
أحسن الله إليكم هل الحفي من أسماء الله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هو في القرآن الكريم: (إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) . ولا أعلمها وردت مطلقة في أسماء الله ﷿، بل هي مقيدة، وبدلًا من أن يدعو الإنسان بقوله: يا حفي احتفِ بي، يقول: يا رحيم ارحمني، وإذا كان عن ذنب يقول: يا غفور اغفر لي، وما أشبه ذلك. ***
تقول السائلة: إن أسماء الله وصفاته على وزن فعيل من صيغ المبالغة، فهل هذا صحيح؟ وهل يصح القول بأن أسماء الله وصفاته من صيغ المبالغة؟ نرجو النصح والتوجيه في هذا مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أسماء الله تعالى وصفاته التي جاءت في القرآن وغير القرآن منها ما هو صفةٌ مشبهة- ويعني العلماء بالصفة المشبهة: الصفة اللازمة للموصوف التي لا ينفك عنها- وذلك مثل: العزيز، الحكيم، السميع، البصير، وما أشبهها، هذه صفةٌ مشبهة، بمعنى: أنها صفةٌ لازمة لا تنفك عن الله ﷿. ومن أسماء الله ما يكون صيغة مبالغة، ومعنى صيغة مبالغة أنها دالةٌ على الكثرة، وليس المعنى أنه مبالغٌ فيها دون إرادة الحقيقة، مثل: الرزاق، فإن الرزاق من أسماء الله ﷾، وجاء بهذه الصيغة للدلالة على كثرة من يرزقه الله ﷿، فإنه ما من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها، ولكثرة رزقه الذي يعطيه ﷾ لمن يشاء، كما قال الله ﷾: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) . ولعل الطالبة فهمت من قول المدرسة: صيغة مبالغة، أنها صيغةٌ مبالغٌ فيها ولا تعني الحقيقة، وليس هذا هو المراد، بل مراد العلماء من قولهم: صيغة مبالغة، أنها دالة على الكثرة، وبهذا التفصيل وبهذا الشرح لمعنى المبالغة يزول الإشكال. فإذا قلنا مثلًا: إن الرزاق من أسماء الله وهو صيغة مبالغة، فليس معناه أن الله ﷾ لا يرزق، بل معناه أنه كثير الرزق. ***
أبو منار يقول: فضيلة الشيخ ما المقصود من كلام الرسول ﷺ عندما قال: (إنما بعثت رحمة للعالمين)؟ وهل يجوز استنادًا لهذا القول أن نقول بأن محمدًا ﷺ رحيم أو كريم أو عليم أو حكيم، أو إلى ما هنالك من صفات الله عز جل؟ أفيدونا بما علمكم الله وجزاكم الله خيرًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما وصف النبي ﷺ بأنه رؤوف رحيم فهذا قد جاء في القرآن الكريم، لكنه مقيد بالمؤمنين، فقال الله ﷿: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) . وأما كونه رحمة فقد قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) . لكن ليس معنى الآية أنه هو الرحمة، بل معناه أن الله رحم به الخلق، يعني: ما أرسلناك إلا لنرحم الخلق بك، فإن النبي ﷺ هو الدال على الله ﷿، المبين شريعته، الداعي إليها، فكان بعثه وإرساله رحمة للعالمين في الدنيا والآخرة. وأما قول السائل: وغير ذلك من أوصاف الله وأسماء الله، فلا نقول به؛ لأن من أسماء الله وأوصافه ما يختص به ﷿: فالله هو الجبار، والمتكبر، والقدوس وما أشبه ذلك مما لا يصح أن يوصف به أحد سوى الله ﷿. ***
رسالة بعث بها المستمع محمد صالح عبد الله من حائل يقول: ما حكم التسمية بأسماء هي من أسماء الله أو صفاته، كمثل: رؤوف، وعزيز، وجبار، ونحو ذلك؟ هل تجوز مثل هذه التسمية، أم يجب تغييرها فيمن تسمى بها؟ فأجاب رحمه الله تعالى: التسمي بأسماء الله ﷿ يكون على وجهين: الوجه الأول: أن يحلى بأل، أو يقصد بالاسم ما دل عليه من صفة، ففي هذه الحال لا يسمى به غير الله، كما لو سميت أحدًا بالعزيز والسيد والحكيم وما أشبه ذلك، فإن هذا لا يسمى به غير الله؛ لأن أل هذه تدل على لمح الأصل، وهو المعنى الذي تضمنه هذا الاسم، وكذلك إذا قصد بالاسم وإن لم يكن محلًّى بأل، إذا قصد بالاسم معنى الصفة فإنه لا يسمى به، ولهذا غير النبي صلى الله وسلم كنية أبي الحكم التي تكنى بها؛ لأن أصحابه يتحاكمون إليه، فقال النبي ﵊: إن الله هو الحكم وإليه الحكم، ثم كناه بأكبر أبنائه شريح، كناه بأبي شريح، فدل ذلك على أنه إذا تسمى أحد باسم من أسماء الله ملاحظًا بذلك معنى الصفة التي تضمنها هذا الاسم فإنه يمنع؛ لأن هذه التسمية تكون مطابقة تمامًا لأسماء الله ﷾. أما الوجه الثاني: فهو أن يتسمى باسم غير محلًّى بأل، ولا مقصود به معنى الصفة، فهذا لا بأس به، مثل حكم وحكيم، ومن أسماء بعض الصحابة حكيم بن حزام الذي قال له النبي ﵊: (لا تبع ما ليس عندك) . وهذا دليل على أنه إذا لم يقصد بالاسم معنى الصفة فإنه لا بأس به، لكن في مثل جبار لا ينبغي أن يتسمى به وإن كان لم يلاحظ الصفة، وذلك لأنه قد يؤثر في نفس المسمى فيكون معه جبروت وعلو واستكبار على الخلق، فمثل هذه الأسماء التي قد تؤثر على صاحبها ينبغي للإنسان أن يتجنبها. والله أعلم. ***
بارك الله فيكم من الجزائر أبو بسام يقول: فضيلة الشيخ ما قول أهل السنة والجماعة في رؤية المسلم لربه ﷿ يوم القيامة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: قول أهل السنة والجماعة في رؤية الله ﷾ يوم القيامة ما قاله الله عن نفسه، وقاله عنه رسوله ﵌ فالله تعالى قال في كتابه: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذ) يعني: يوم القيامة (نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) ناضرة الأولى بمعنى حسنة، الثانية من النظر بالعين؛ لأنه أضاف النظر إلى الوجوه، فالوجوه محل العينين التين يكون بهما النظر، وهذا يدل على أن المراد نظر العين، ولو كان المراد نظر القلب وقوة اليقين لقال: قلوب يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة، ولكنه قال: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) . ومن ذلك قوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) . فالزيادة فسرها أعلم الخلق بمراد الله، رسول الله ﵌ بأنها النظر إلى وجه الله ﷿. ومن ذلك قوله تعالى في الفجار: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) . فحجب هؤلاء الفجار عن الله يومئذ- يعني: يوم القيامة- يدل على أن غيرهم ينظرون إلى الله ﷿، ولو كان غيرهم لا ينظر إلى الله لم يكن بينهم وبين الفجار فرق. ومن ذلك قوله ﵎: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) . فإن هذه الآية تدل على أن الله تعالى يرى بالأبصار، ودليل ذلك أنه نفى الإدراك، وهذا يدل على وجود أصل الرؤية، ولو كان أصل الرؤية غير ثابت ما صح أن ينفى الإدراك. ولا يصح أن يستدل بهذه الآية على امتناع رؤية الله ﷿؛ لأن الآية إنما نفت ما هو أخص من الرؤية، وهو الإدراك، ونفي الأخص يستلزم وجوب الأعم، وهو الرؤية، والله ﷿ يرى يوم القيامة ولكن الأبصار لا تدركه، هذا بالنسبة لما جاء في القرآن. أما السنة: فقد ثبت عن النبي ﷺ ثبوتًا متواترًا لا شك فيه إثبات رؤية الله ﷿ يوم القيامة، أي: إنه يرى ﷾. فمن ذلك قوله ﵌: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا) . والأحاديث في هذا متواترة، كما قال بعض العلماء في نظم شيء من المتواتر: مما تواتر حديث من كذب ومن بنى لله بيتًا واحتسب ورؤية شفاعة والحوض ومسح خفين وهذي بعض هذا هو قول أهل السنة والجماعة: أن الله ﷾ يرى يوم القيامة بالبصر رؤية حقيقية، لكنه مع هذه الرؤية لا يمكن إدراكه ﷿؛ لأنه أعظم من أن تدركه الحواس أو الأفهام أو الخواطر. ولكن يبقى النظر: متى تكون هذه الرؤية؟ نقول: هذه الرؤية تكون في عرصات القيامة- أي: قبل دخول الجنة- وتكون كذلك بعد دخول الجنة. يبقى نظرٌ آخر: هل يراه كل الناس في عرصات القيامة أم ماذا؟ نقول: أما الكفار الخلص فإنهم لا يرون الله ﷿؛ لقول الله تعالى: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) . وأما المنافقون فإنهم يرون الله في عرصات القيامة، ثم لا يرونه بعد ذلك، وهذا أعظم وأشد حسرة عليهم. وأما المؤمنون فإنهم يرون الله تعالى في عرصات القيامة، كما يرونه بعد دخول الجنة. أسأل الله تعالى أن يجعلني وإخواني السامعين ممن ينظر إلى الله ﷿، إنه على كل شيء قدير. ***
أحسن الله إليكم وبارك فيكم فضيلة الشيخ هذا السائل يقول: اختلاف السلف في العقيدة في مسألة رؤية النبي ﷺ لربه أم لا؟ نريد توجيهًا سديدًا في هذه المسألة مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: القول الراجح في هذه المسألة أن النبي ﷺ لم ير ربه؛ لأنه نفسه صلوات الله وسلامه عليه سئل: هل رأيت ربك؟ فقال: (نور أنَّى أراه)؟ وفي رواية: (رأيت نورًا) والله ﷿ قد احتجب عن عباده بحجب النور لا يمكن اختراقها، فإذا كان النبي ﷺ نفسه نفى أن يكون رأى الله، فلا يمكن بعد ذلك أن يدعي مدع أن النبي ﷺ رأى ربه. وما ذكر عن عبد الله بن عباس ﵄ أن النبي ﷺ رأى ربه، فقد قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: إن ابن عباس لم يصرح أن النبي ﷺ رأى ربه بعينه يقظة، وإن قوله- أي: ابن عباس- يعني: أنه رآه بفؤاده، وهو كناية عن العلم اليقيني الذي يكون في القلب حتى كأنه رآه بالعين. وما قاله شيخ الإسلام ﵀ هو الحق، ولن يتمكن أحد في الدنيا أن يرى ربه يقظة أبدًا. ولهذا لما قال موسى ﵊: (رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ) شوقًا إلى الله ﷿، قال الله له: (لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي) . فعلق الرب عزوجل على أمر مستحيل؛ لأنه يستحيل على الجبل أن يصمد على رؤية الله ﷿، وهو جبل أصم، حجر غليظ قاسٍ قال الله تعالى: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) . اندك الجبل أمام موسى يشاهده بعينه، فصعق ﵊ من هول ما رأى. (فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) فشكر الله له وقال: (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) . فالمهم أنه لا يمكن لأحد أن يرى الله ﵎ يقظة في الدنيا، ولن يستطيع أحد أن يَثْبُتَ لذلك. أما في الآخرة: فقد دل القرآن والسنة المتواترة وإجماع الصحابة ﵃ أن الله تعالى يرى في الآخرة رؤية حقيقة بالعين، قال الله ﵎: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إلى ربها ناظرة) . وهذا صريح بأن الإنسان يرى ربه بعينه، إذ إن ما تحصل به الرؤية هو العين، وهي موجودة في الوجه، لكن أضاف الله تعالى النظر إلى الوجه: لأن هذه النظرة إلى الرب ﷿ يحصل بها سرور في القلب ونورفي الوجه، حتى كأن الوجه كله ينظر إلى الله ﷿؛ لتأثره بهذه النظرة التي أسأل الله تعالى أن لا يحرمني وإخواني منها. ومن الأدلة على ذلك- على أن الله تعالى يرى في الآخرة- قول الله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) . فالحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله، كما فسرها بذلك أعلم الخلق بالله وآياته محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. واستدل العلماء بقوله تعالى في أهل الجنة: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) . وقالوا: إن هذا المزيد هو الزيادة التي ذكرت في الآية التي سقناها الآن، وهو النظر إلى وجه الله ﷿، واستدلوا أيضًا بقول الله ﵎ في الأبرار: (عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ) قالوا: إنهم ينظرون الله ﷿، وينظرون ما أعد الله لهم من النعيم؛ لقوله في الفجار: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) . فلما حجب الفجار في حال الغضب جعل النظر للأبرار في حال الرضا، فهذه أربع آيات من كتاب الله. أما السنة عن رسول الله ﷺ الذي هو أعلم الخلق بالله، وأشدهم تنزيهًا لله- فقد تواترت السنة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بثبوت رؤية الله تعالى في الجنة، حتى إن الرسول ﵊ قال ذلك بوجه صريح أصرح من الشمس في رابعة النهار، حيث قال: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته) . وقال: (إنكم سترون ربكم عيانًا، كما ترون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب) . وأما أقوال الصحابة: فقد أجمع الصحابة ﵃ على ثبوت رؤية الله تعالى في الآخرة، فما منهم أحد قال ولا بحرف واحد: إن الله تعالى لا يرى في الآخرة، وهذه أقوالهم مأثورة في كتب السنة، ما منهم أحد نفى أن يرى الله تعالى في الآخرة، بل كلهم مجمعون على هذا، حتى إن بعض أهل العلم قال: من أنكر رؤية الله تعالى في الآخرة فهو كافر؛ لوضوح الأدلة فيها وصراحتها، وإجماع الصحابة عليها، وإجماع الأئمة المتبوعين عليها، ولم يرد عن أحد منهم إنكارها. أسأل الله ﵎ لي ولإخواني النظر إلى وجه الله الكريم، وأسأل الله الهداية لمن أنكروا هذه الرؤية العظيمة التي هي ألذ ما يجده أهل الجنة في الجنة، والله على كل شيء قدير. ***
بارك الله فيكم هذه الرسالة من المستمع محمد طيب منظور أحمد من الباكستان يقول: ما هي أنواع الاستواء في لغة العرب؟ وكيف نثبت لله ﷾ صفة الاستواء؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الاستواء في اللغة العربية يأتي لازمًا، ويأتي متعديًا إلى المعمول بحرف الجر، ويأتي مقرونًا بواو المعية، فهذه ثلاثة وجوه للاستواء. أما الأول- وهو أن يأتي مطلقًا غير مقيد بالمعمول، ولا واو المعية-: فإنه يكون بمعنى الكمال، ومنه قوله تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى) أي: كمل، ومنه قول الناس في لغتهم العامية: استوى الطعام، أي كمل نضجه. والقسم الثاني أو الوجه الثاني: أن يأتي مقرونًا بواو المعية، فيكون بمعنى التساوي، كقولهم: استوى الماء والخشبة، أي: تساويا. والثالث يأتي معدًّى بحرف الجر، فإن عدي بعلى صار معناه العلو والاستقرار، وإن عدي بإلى فقد اختلف المفسرون فيه، فمنهم من يقول: إنه بمعنى الارتفاع والعلو، ومنهم من يقول: إنه بمعنى القصد والإرادة. مثال ماعُدِّيَ بعلى قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، وقوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، وقوله ذلك في سبعة مواضع في القرآن الكريم. ومثال المعدى بإلى قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ)، وقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) . ولذلك اختلف المفسرون في الاستواء، استوى هنا، فبعضهم قال: معناها علا إلى السماء، ومنهم من قال: معناها قصد وأراد، وعلى كل فاستواء الله على العرش من الصفات الثابتة التي يجب على المؤمن أن يؤمن بها، وهو أن الله تعالى استوى على عرشه، أي: علا عليه علوًّا خاصًّا ليس كعلوه على سائر المخلوقات، بل هو علو خاص بالعرش، كما قال تعالى: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ) . ولكن هذا الاستواء ليس معلومًا لنا في كيفيته؛ لأن كيفيته لا يمكن الإحاطة بها، ولم يخبرنا الله عنها ولا رسوله، ولهذا لما سئل الإمام مالك ﵀ عن قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استوى؟ فأطرق برأسه حتى علاه العرق، ثم قال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) . ونحن نعلم معنى الاستواء ونؤمن به ونقره، وهو أنه ﷾ علا على عرشه واستوى عليه، علوًّا واستقرارًا يليق به ﷾، ولكننا لا نعلم كيفية هذا الاستواء، فالواجب علينا أن نمسك عن الكيفية، وأن نؤمن بالمعنى. وأما قول من قال: إن معنى استوى على العرش أي: استولى عليه، فهذا قول لا يصح، وهو مخالف لما كان عليه السلف، ولما تدل عليه هذه الكلمة في اللغة العربية، فلا يعوَّل عليه، بل هو باطل، ولو كان معنى استوى استولى للزم أن يكون الله تعالى مستوليًا على شيء دون شيء، وهوسبحانه وتعالى مستولٍ على كل شيء، وللزم أن يكون العرش قبل هذا ليس ملكًا لله بل ملكًا لغيره، ثم استولى عليه من غيره، وهذه معان باطلة لا تليق بالله ﷾. ***
هذا مستمع من السودان يقول: هذا سؤالٌ يحيرني وأرجو الإفادة عليه، وهو: أن بعض الناس يقولون بأن الله فوق في السماء، وعندنا في السودان علماء التوحيد يقولون بأن الله كان ولا مكان، وهو منزهٌ عن الجهات الست، طبعًا شرق وغرب وشمال وجنوب فوق تحت، نرجو منكم التوجيه حول هذا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: علو الله ﷿ على خلقه ثابت بالكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، فأدلته متنوعة، كل الأدلة الممكنة في إثبات الشيء تدل على أن الله تعالى فوق عباده. أما من القرآن فأدلة ثبوت علو الله على خلقه كثيرةٌ جدًا متنوعة، مثل قوله تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)، (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ)، (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ)، (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرةً. وكذلك الآيات الدالة على أن الأشياء تصعد إليه، كما في قوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)، (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) . وكذلك الآيات الدالة على أن الشيء ينزل من عنده، كما قال الله تعالى: (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ)، والآيات في هذا كثيرة جدًا. وأما السنة فقد دلت بجميع أنواعها على علو الله، دلت بالقول والفعل والإقرار. فالنبي ﵊ يقول في سجوده: (سبحان ربي الأعلى)، وخطب الناس في يوم عرفة وقال: (هل بلغت؟ قالوا: نعم. فأشار إلى السماء يقول: اللهم اشهد)، وسأل جاريةً قال: (أين الله؟ قالت: في السماء قال: أعتقها فإنها مؤمنة) . فاجتمع من السنة القول والفعل والإقرار على علو الله ﷿، وأنه فوق كل شيء. وأما الإجماع: فقد أجمع الصحابة، وأئمة الهدى من بعدهم، على أن الله تعالى فوق كل شيء، ولم يرد عنهم حرفٌ واحد في نفي علو الله ﷿، بل كانوا مجمعين على أن الله تعالى فوق كل شيء. وأما العقل: فإن كل إنسان يعلم بعقله أن العلو صفة كمال، وأن الرب ﷿ له صفة الكمال المطلق، فإذا كان العلو صفة كمال فإن فوات العلو صفة نقص، والله ﷿ منزهٌ عن النقص، فوجب أن يثبت له العلو؛ لأنه صفة كمال. وأما الفطرة: فما من أحدٍ يقول: يا رب، إلا وجد من قلبه ضرورةً بطلب العلو، ولهذا يرفع يديه إلى السماء، واسألوا الذين يسألونه ويدعونه: أين يوجهون أيديهم؟ هل يوجهونها إلى الأرض أو إلى السماء؟ أو إلى اليمين أو إلى الشمال؟ إنهم يوجهونها جميعًا إلى السماء، وهذا أمرٌ فطري لا يختلف فيه اثنان، إلا من اجتالته الشياطين عن الفطرة، وأنكر هذا الأمر الذي فطر عليه الخلق. وإذا كان كذلك فإننا نقول: إن الله كان ﷿ كان ولم يكن شيء قبله، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، وكان عاليًا ﷿ قبل أن يخلق العرش، ولما خلق السماوات والأرض استوى على العرش، كما قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، فكان استواء الله على عرشه بعد خلقه. وهنا نقول: استواء الله على عرشه حين خلق السماوات والأرض تدل الآية الكريمة أنه لم يكن، أما قبل ذلك فالله أعلم، وأما بعد ذلك- أي: بعد خلق السماوات والأرض- فإن الآية تدل على أن الله استوى على عرشه. وأما قولهم: إن الله تعالى منزه عن الجهات الست، فهذا غاية التعطيل والعياذ بالله؛ لأنهم إذا قالوا: إن الله ليس فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف، فإن هذا هو العدم المحض والتعطيل المحض، أين يكون؟ وإذا قلنا: إن الله تعالى في جهة العلو، العلو الذي ليس فوقه شيء، فليس في هذا من نقصٍ في حق الله ﷿؛ لأن العلو على جميع المخلوقات ليس فيه شيء من المخلوقات يمكن أن نقول إنه محاذٍ لله ﷿، بل كل شيء من المخلوقات فإن الله ﷿ فوقه، ولا يحاذي الله ﷿ شيئًا من مخلوقاته، وعين النقص في إثبات مثل ذلك. وأين الوجود إذا قلنا: إن الله تعالى خالٍ من الجهات الست؟ نعم نقول: إنه لا يمكن لجهة أن تحيط بالله؛ لأن الله تعالى محيطٌ بكل شيء، ولا يحيط به شيء من مخلوقاته، فإذا كان فوق كل شيء فإن ما فوق الأشياء ليس أمرًا وجوديًا حتى نقول: إن هذا يقتضي أن يشارك المخلوق الخالق في علوه ﷿، والواجب على الإنسان أن يؤمن إيمانًا قطعيًا بأن الله تعالى فوق كل شيء، وأنه العلي الأعلى، وأنه ﷾ له العلو المطلق: علو الذات، وعلو الصفات، بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة على ذلك. ***
بارك الله فيكم هذا السائل تجاني إسماعيل سوداني ومقيم بالمملكة يقول: أستفسر عن الآيات الكريمة التالية، يقول تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) . والآية الأخرى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) . يقول: على حُسْنِ قول الناس منهم مَنْ يقول بأن الله موجود في السماء، والبعض يقول بأن الله موجود في كل مكان. اشرحوا لنا ذلك مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذه مسألة عظيمة مهمة، وذلك أن الله ﷾ وصف نفسه بأنه العلي، وأنه الأعلى، وأنه القاهر فوق عباده، وأن الأمور تتنزل من عنده وتعرج إليه، وأنه في السماء، وكل هذا يدل على علوه جل وعلا، وأنه فوق كل شيء. فأما قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) فالمراد بذلك الألوهية، لا ذات الرب ﷿، فقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) فالمراد بذلك أن ألوهيته ثابتة في السماء وفي الأرض، فقول القائل: فلان أمير في المدينة وفي مكة، مع أنه في إحداهما وليس فيهما جميعًا وإنما إمرته ثابتة في المدينة وفي مكة، فالله تعالى إله مَنْ في السماء وإله مَنْ في الأرض، وأما هو نفسه جل وعلا ففوق سماواته على عرشه، وعلى هذا فلا منافاة بين هذه الآية وبين قول الله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) . ومعنى قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) أي: إنه علا على العرش؛ لأن استوى في اللغة العربية إذا عديت بعلى صار معناها العلو، كقوله تعالى: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) أي: علوت، وقوله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ. لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ) - أي: تعلوا على ظهوره- (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) أي: علوتم عليه، فهو سبحانه تعالى مستوٍ على العرش أي: عال عليه، وهذا العلو ليس هو العلو العام لجميع المخلوقات، بل هو علو خاص مختص بالعرش، ولهذا يقال: استوى على العرش، ولا يقال: استوى على السماء، ويقال: علا على العرش وعلا على السماء، فالاستواء على العرش علو خاص ليس هو العلو العام لجميع المخلوقات. وقد أخطأ وضل من فسر الاستواء هنا بالاستيلاء والملك، أخطأ من عدة أوجه: الوجه الأول: أنه مخالف لمقتضى اللغة العربية، فلم تأتِ استوى على كذا بمعنى استولى عليه في اللغة العربية، وها هو كلام العرب بين أيدينا لا نعلم أنَّ منهم من عبر عن الاستيلاء بالاستواء أبدًا، فأما ما قيل: قد استوى بِشرٌ على العراق من غير سيف أو دم مهراق فإننا نطالب أولًا بصحة النقل عن شاعر عربي من العرب الخُلَّص، ولا يمكن لأحد أن يثبت ذلك، ثم على فرض أنه ثبت عن شاعر عربي من العرب الخُلَّص فإنَّ هنا قرينةً تمنع أن يكون المراد بذلك العلو على العراق؛ لأن الرجل لا يمكن أن يعلو على العراق علوًا ذاتيًا، وحينئذ يكون المراد به العلو المعنوي وهو الاستيلاء، أما علو الله تعالى نفسه على عرشه فلا مانع منه لا عقلًا ولا سمعًا. ثانيًا: أن نقول: إن تفسير الاستواء بالاستيلاء مخالف لما كان عليه السلف الصالح وأئمة الخلف، فإنهم مجمعون على أن استوى على العرش بمعنى علا عليه، ولم يأت عن أحد منهم حرف واحد يدل على أنهم فسروا الاستواء بالاستيلاء، ومعلوم أن مخالفة السلف ضلال وخروج عن جماعة الحق. ثالثًا: أنه يلزم على تفسير (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) استولى عليه أن يكون العرش قبل هذا ملكًا لغير الله، وأن الله تعالى بالمعالجة حصل عليه من غيره، وهذا لازم باطل جد البطلان. رابعًا: أننا إذا فسرنا استوى باستولى لجاز أن نقول: إن الله استوى على الأرض، وعلى الإنسان، وعلى الجمل، وعلى السفينة، وعلى كل شيء؛ لأنَّ الله تعالى مستولٍ على كل شيء ومالكٌ له، ومعلوم أنه لا أحد يُسَوِّغ أن يقول القائل إن الله استوى على الإنسان، أو على الأرض، أو ما أشبه ذلك. خامسًا: أنَّ الذين فسروه بالاستيلاء مضطربون ومختلفون، واضطراب أهل القول فيه يدل على عدم رسوخه وعدم صحته، وعلى هذا فلا يحل لأحدٍ أن يفسر قول الله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) أو قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) بأن المعنى استولى عليه من أجل هذه الوجوه التي ذكرناها، فالاستواء على العرش يلزم منه العلو المطلق على جميع المخلوقات، وأن الله تعالى عال بنفسه على جميع المخلوقات، ولا يعارضه ما ذكره السائل من قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ)؛ لما ذكرنا في صدر الجواب. ونظير هذه الآية- أعني قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ) - قوله تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) فقال: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ) وليس المعنى أنه نفسه في السماوات وفي الأرض، ولكن المعنى: أن ألوهيته ثابتة في السماوات وفي الأرض. وليعلم أن اعتقاد أن الله تعالى نفسه في كل مكان اعتقاد باطل، لو شعر الإنسان بلوازمه الباطلة ما تفوه به؛ لأنه يلزم من هذا القول أن يكون الله تعالى في كل مكان من الأماكن الطيبة والأماكن الخبيثة، بل لَلَزِمَ منه أن يكون الله تعالى في أجواف الحيوانات وأجواف الناس وما أشبه ذلك، ثم يلزم من هذا أحد أمرين: إما أن يتعدد بتعدد الأمكنة، وإما أن يكون متجزئًا بعضه هنا وبعضه هناك، وكل هذه لوازم فاسدة، تصورها كاف في ردها وإفسادها. ومَنْ قال: إن الله تعالى نفسه في كل مكان، فهو ضال مبتدع ما قَدَر الله حق قدره، ولا عرف عظمته جل وعلا، وكيف يكون في كل مكان وهو الذي قد وسع كرسيه السماوات والأرض؟ (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) . فليتق الله قائل هذا، وليتب إلى ربه قبل أن يدركه الموت على هذه العقيدة الفاسدة، ويلقى ربه على خبث العقيدة وفساد الطوية، نسأل الله السلامة. ***
بارك الله فيكم هذه رسالة من المستمع عبد الله الفؤاد من بيروت لبنان قال: سمع إجابة عن سؤال في برنامجنا هذا: أين الله؟ فأجيب: بأنه في السماء، واستشهد المجيب على ذلك بآيات من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) . ولكن يبدو أن هذا الأخ قد استشكل هذه الإجابة، ولم تطابق مفهومه الذي كان يعتقده، فأرسل يستفسر حول ذلك، أليس توضحون له الحقيقة حول هذا الموضوع؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الحقيقة حول هذا الموضوع أنه يجب على المؤمن أن يعتقد أن الله تعالى في السماء، كما ذكر الله ذلك عن نفسه في كتابه، حيث قال ﷾: (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) . وكما شهد بذلك رسول الله ﷺ، حين أقر الجارية التي سألها: (أين الله؟ قالت: في السماء قال: أعتقها فإنها مؤمنة) . وكما أشار إلى ذلك ﷺ في أعظم مجمع من أمته يوم عرفة، حين خطب الناس خطبته الشهيرة فقال: (ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد)، وجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكتها إلى الناس، فهذا دليل من القرآن ومن السنة على أن الله في السماء. وكذلك دليل العقل أن الله في السماء، فإن السماء علو، والعلو صفة كمال، والرب ﷾ قد ثبت له صفة الكمال، فكان العلو من كماله ﵎، فثبت له ذلك عقلًا. كذلك في الفطرة: فإن الناس مفطورون على أن الله تعالى في السماء، ولهذا يجد الإنسان من قلبه ضرورة لطلب العلو حينما يسأل الله شيئًا، حينما يقول: يا رب، لا يجد في قلبه التفاتًا يمينًا ولا يسارًا ولا أسفل، وإنما يتجه قلبه إلى العلو، بمقتضى الفطرة التي سلمت من اجتيال الشياطين، وما من أحد يصلى فيقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، إلا وهو يشعر بأن الله تعالى في السماء. وقد انعقد إجماع السلف على ذلك، كما ذكر ذلك الأوزاعي وغيره. وعلى هذا فيكون الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، كل هذه الأدلة قد تطابقت على أن الله تعالى في السماء، وأنه جل وعلا عالٍ بذاته كما أنه عالٍ بصفاته. ولكن يجب أن يعلم أن كونه في السماء لا يعني أن السماء تظله وأنها محيطة به، فإن الله تعالى أعظم من أن يظله شيء من خلقه، وهو ﷾ غني عما سواه، وكل شيء مفتقر إليه ﷾، وهو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، فلا يمكن أن تظله السماء، وعلى هذا فيزول المحظور الذي أظن أنه قد شبه على هذا السائل، بأنه إذا قلنا بأن الله في السماء لزم أن تكون السماء مظلة له ﷿، وليس الأمر كذلك. فإن قال قائل: قوله: في السماء، قد يفهم أن السماء تحيط به؛ لأن (في) للظرفية، والمظروف يكون الظرف محيطًا به. فالجواب: أن ذلك ليس بصحيح؛ لأن السماء بمعنى العلو، وأن السماء بمعنى العلو قد ورد في القرآن، كما في قوله تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) . والماء ينزل من السحاب، والسحاب مسخر بين السماء والأرض، فيكون معنى قوله: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ) أي: أنزل من العلو، ويكون معنى قوله: (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) أي: من في العلو. وهناك وجه آخر بأن نجعل (في) بمعنى (على)، ونجعل السماء هي السماء السقف المحفوظ، ويكون معنى (مَنْ فِي السَّمَاءِ) أي: من على السماء، وإذا كان عاليًا عليها فلا يلزمها أن تكون محيطة به. ولا يمكن أن تكون محيطة به. (وفي) تأتي بمعنى (على)،كما في قوله تعالى: (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ) أي: على الأرض، وكما في قوله تعالى عن فرعون: (وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) أي: على جذوع النخل، بكل هذا يزول الإشكال والوهم الذي قد يعتري من لم يتدبر دلالة الكتاب والسنة في هذه المسألة العظيمة. ولا ريب أن من أنكر أن الله في السماء فهو مكذب بالقرآن والسنة وإجماع السلف، فعليه أن يتوب إلى الله ﷿، وأن يتدبر دلالة الكتاب والسنة على وجه مجرد عن الهوى، ومجرد عن التقليد، حتى يتبين له الحق، ويعرف أن الله ﷿ أعظم وأجل من أن يحيط به شيء من مخلوقاته. أما قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) فإن الاستواء بمعنى العلو، كما في قوله تعالى: (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ) أي: تعلو عليها. وكما في قوله تعالى: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) أي: علوت. فالاستواء في اللغة العربية بمعنى العلو، ولا يرد بمعنى الاستيلاء والملك أبدًا، ولو كان هذا صحيحًا لبينه الله ﷿ في القرآن ولو في موضع واحد، والاستواء على العرش ذكر في القرآن في سبعة مواضع، ما فيها موضع واحد عبر عنه بالاستيلاء أبدًا، ولو كان بمعنى الاستيلاء لعبر عنه في بعض المواضع حتى يحمل الباقي عليه. وليس في سنة رسول الله ﷺ حرف واحد يدل على أن الاستواء- أي: إن استواء الله على عرشه- بمعنى استيلائه عليه، وليس في كلام السلف الصالح والأئمة أن استواء الله على العرش بمعنى استيلائه عليه، والمعروف عنهم أنه بمعنى العلو والاستقرار والارتفاع والصعود، هكذا نقل عن السلف، وعلى هذا فيكون المعنى الصحيح لقوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) وما أشبهها من الآيات، أي: الرحمن على العرش علا علوًا خاصًا يليق بجلاله ﵎، ولا يستلزم ذلك أن يكون الله تعالى محتاجًا إلى العرش، بل إنه لا يقتضي ذلك أبدًا، فإنه قد علم أن الله تعالى غنيٌّ عما سواه، وأن كل ما سواه محتاج إليه. فنرجو من الأخ السامع للجواب، الأول أن يرد إليه هذا الجواب حتى يتبين له الحق، بأن يجرد نفسه قبل كل شيء من التقليد، حتى يكون قلبه سليمًا على الفطرة التي فطر الله الناس عليها. ***
يقول السائل: ما حكم الخوض في ذات الله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا يمكن الخوض في ذات الله ﷿؛ لأن الوصول إلى معرفة حقيقة ذات الله ﷿ مستحيلة، ومن رام ذلك فقد يقع في هلاك وشقاء. نعم يفكر ويتأمل في أسماء الله وصفاته، كما قال ﷿: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) . ***
يقول السائل: لقد سمعت بيتًا لأحد السلف الصالح، ولكنه التبس عليَّ الشطر الأخير وشككت فيه من الناحية العقائدية، فأرجو من فضيلة الشيخ أن يبين لي معنى هذا البيت، وهل هو صحيح من ناحية الاعتقاد أم لا؟ البيت هو: إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل خلوتُ ولكن قل علي رقيب إلى أن قال: ولا تحسبن الله يغفل طرفةً ولا أن ما يخفى عليه يغيب فأجاب رحمه الله تعالى: هذان البيتان صحيحان، فإذا خلا الإنسان يومًا من الدهر فلا يقل: إني خلوت؛ لأن عليه رقيبًا من الله ﷿، كما قال الله ﷿: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) . فالإنسان مهما اختفى عن الناس فإنه لن يخفى على الله، كما قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) . ولا تظن أنك إذا اختفيت فإن الله ﷾ يغفل عنك أو لا يعلم بك، فإن الله تعالى يقول: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) . فهو ﷾ محيطٌ بكل شيء علمًا، يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، ويعلم ما ظهر وما بطن. ***
هذه رسالة من المخلصين عبد الله محمد أحمد الرياض منظور أحمد قريشي أحمد حسين، يقول الإخوة: الموضوع يوجد بطاقات مكتوب عليها أسماء الله ﷻ، مثل هذه الصورة التي بجانب الرسالة- وقد ضمنوا هذه الرسالة صورة لكسوة الكعبة، وعليها آيات من كتاب الله المبين- يقول: ترمى في الأرض من قبل ناس لا يعرفون الإسلام، يقول هذه فقط إشارة، وما تنصحون الباعة بذلك، أو من يهمه الأمر بذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذه المسألة كثرت في الناس على أوجه متعددة، منها بطاقات تحمل لفظ الجلالة الله وأخرى إلى جانبها تحمل محمد، ثم توضع البطاقاتان متوازنتين على الجدار أو على لوحة أو ما أشبه ذلك، ونحن نتكلم على هذه الصورة. أولًا: ما فائدة تعليق كلمة الله فقط ومحمد فقط؟ إذا كان الإنسان يظن أنه يستفيد من ذلك بركة فإن البركة لا تحصل بمثل هذا العمل؛ لأن هذا ليس بجملة مفيدة تكسب معنى يمكن أن يحمل على أنه للتبرك، ثم إن التبرك بمثل هذا لا يسوغ؛ لأن التبرك بالله وأسمائه لا يمكن أن يستعمل إلا على الوجه الذي ورد؛ لأنه عبادة، والعبادة مبناها على التوقيف. ثم إن هذا الوضع الذي أشرنا إليه سابقًا: أن توضع كلمة الله وبجانبها موازيةً لها كلمة محمد، هذا نوع من التشريك والموازنة بين الله وبين الرسول ﷺ، وهذا أمر لا يجوز، وقد قال رجل للنبي ﷺ: ما شاء الله وشيءت. فقال النبي ﷺ: (أجعلتني لله ندا؟ ً بل ما شاء الله وحده) . ثم إن التبرك بمجرد وضع اسم النبي ﷺ أيضًا لا يجوز، التبرك إنما يكون بالتزام شريعة النبي ﷺ والعمل بها. هذه صورة مما يستعمله الناس في هذه البطاقات، وقد تبين ما فيها من مخالفة للشرع. أما بالنسبة للصورة الثانية التي أشار إليها الأخ السائل، فهي أيضًا جوازها محل نظر، وذلك لأن الأصل في كتابة القرآن على الأوراق والألواح، الأصل فيه الجواز، لكن تعليقه أيضًا على الجدران في المنازل لم يرد ذلك عن السلف الصالح ﵏، لا عن النبي ﷺ ولا عن أصحابه ولا عن التابعين، ولا أدري بالتحديد متى حصلت هذه البدعة، هذا في الحقيقة بدعة؛ لأن القرآن إنما نزل ليتلى لا ليعلق على الجدران وغيرها، ثم إن في تعليقه على الجدران، فيه مفسدة، زائدًا على أن ذلك لم يرد عن السلف، تلك المفسدة هي أن يعتمد الإنسان على هذا المعلق، ويعتقد أنه حرز له، فيستغني به عن الحرز الصحيح، وهو التلاوة باللسان، فإنها هي الحرز النافع، كما قال النبي ﷺ في آية الكرسي: (من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح) . فالإنسان إذا شعر أن تعليق هذه الآيات على الجدران مما يحفظه، فإنه سيشعر باستغنائه بها عن تلاوة القرآن، ثم إن فيها نوعًا من اتخاذ آيات الله هزوًا، لأن المجالس لا تخلو غالبًا من أقوال محرمة من غيبة أو سباب وشتم، أو أفعال محرمة، وربما يكون في هذه المجالس شيء من آلات اللهو التي حرمها الشرع، فتوجد هذه الأشياء والقرآن معلق فوق رؤوس الناس، فكأنهم في الحقيقة يسخرون به؛ لأن هذا القرآن يحرم هذه الأشياء، سواء كانت الآية المكتوبة هي الآية التي تحرم هذه الأشياء أو آية غيرها من القرآن، فإن هذا بلا شك نوع من الاستهزاء بآيات الله. لذلك ننصح إخواننا المسلمين عن استعمال مثل هذه التعليقات، لا بالنسبة لاسم من أسماء الله أو أسماء الرسول ﷺ، أو آيات من القرآن، ويستعملوا ما استعمله سلفهم الصالح، فإن في ذلك الخير والبركة. بالنسبة لما أشار إليه الأخ من أن هذه البطاقات التي يكتب عليها القرآن ترمى في الأسواق، وفي الزبل وفي مواطئ الأقدام، فهذا أيضًا لا يجوز؛ لما فيه من امتهان القرآن الكريم، لكن المخاطب بذلك من هي في يده، إلا أن الباعة الذين يبيعونها إذا علموا أن هذا يفعل بها غالبًا يكون ذلك موجبًا لتحريم بيعها والاتجار بها؛ لأن القاعدة الشرعية: أنه إذا كان العقد وسيلة لازمة أو غالبةً إلى شيء محرم فإن ذلك العقد يكون حرامًا؛ لأنه من باب التعاون على الإثم والعدوان، وأظن أن الإجابة على السؤال انتهت. أما بالنسبة لتعليق القرآن على المرضى، سواء كانت أمراضهم جسدية أو نفسية للاستشفاء بها، فإن هذه موضع خلاف بين السلف والخلف، فمن العلماء من يجيز ذلك؛ لما يشعر به المريض من راحة نفسية، حيث إنه يحمل كلام الله ﷿، وشعور المريض بالشيء له تأثير على المرض زيادةً ونقصًا وزوالًاَ كما هو معلوم. ومن العلماء من قال: إنه لا يجوز، وذلك لأنه لم يرد عن النبي ﷺ أن يستعمل مثل ذلك للاستشفاء، وإنما الاستشفاء بقراءة ما ورد على المريض، وإذا كان لم يرد عن الشارع أن هذا سببٌ فإن إثباته سببًا نوع من الشرك، ذلك لأنه لا يجوز أن نثبت أن هذا الشيء سبب إلا بدليل من الشرع، فإذا أثبتنا سببيته فمعنى ذلك أننا أحدثنا أمرًا لم يكن في الشرع، وهذا نوع من الشرك. ***
بارك الله فيكم المستمع م. أ. أ. من القصيم يقول: أسأل عن قوله تعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) . لأنني قرأت بعض التفاسير، وخشيت أن يكون في بعضها ما يخالف مذهب أهل السنة والجماعة، وكذلك في قوله تعالى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) . نريد الجواب الشافي؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أحب أن أنبه على قول السائل: إنه يسأل عن قوله تعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) . فإن ظاهر لفظه أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من مقول الله، والذي ينبغي إذا أراد أن يستعيذ الإنسان بالله من الشيطان الرجيم أن يقدمها على قول الله، فيقول مثلًا: أسأل عن هذه الآية ثم يذكرها، أو يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ما معنى قوله تعالى كذا وكذا. وأما بالنسبة لسؤاله: فإن مذهب أهل السنة والجماعة أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله ﷺ، بدون تحريف، بل يجرى الكلام على ظاهره؛ لأن المتكلم به- وهو الله ﷿ أعلم بنفسه من غيره، ولأنه ﵎ أصدق القائلين، وكلامه أفصح الكلام وأبينه، ومراده ﷿ من عباده أن يهتدوا ولا يضلوا، وكذلك رسول الله ﷺ هو أعلم الناس بربه، وكلامه أصدق كلام الخلق وأفصحه، ومراده ﷺ هداية الخلق دون ضلالهم، وهذه الصفات الأربع: العلم والصدق والفصاحة وإرادة الخير، إذا توافرت في كلام فقد بلغ الغاية في وجوب الأخذ بمدلوله على ظاهره، ولا يجوز أن يحرف إلى غير الظاهر. وبناء على هذه القاعدة العظيمة نقول: إن كل ما وصف الله به نفسه من الصفات فهو حق على ظاهرها، ففي الآية الأولى التي ذكرها قال الله ﵎ عن المنافقين: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) . قال ذلك ﷿ ليبين أن خداعهم ومكرهم دون خداع الله تعالى لهم ومكره بهم، فهو كقوله: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) . والخداع ليس وصفًا مطلقًا بالنسبة لله، ولكنه وصف في مقابلة من يخادعونه؛ ليبين أنه ﷿ أقدر منهم على الخداع والمكر، وهذا لا شك يدل على القوة وعلى ضعف المقابل، وليس به أي نقص يتوجه إلى الله ﷿، ولهذا نرى الناس إذا أرادوا أن يخدعوا شخصًا فعرف خداعهم وخادعهم علموا أنه أقوى منهم وأشد، فالخداع في مقابلة المخادع صفة كمال وليس صفة نقص. ويذكر أن علي بن أبي طالب ﵁ لما بارز عمرو بن ود وخرج إليه عمرو قال علي: إني لم أخرج لأبارز رجلين فالتفت عمرو يظن أنه قد لحقه آخر، فلما التفت ضربه علي حتى أهلكه، فهذا من الخداع الجائز، لأن عمرو بن ود إنما خرج من أجل أن يقتل عليًا ﵁، والحرب خدعة، فخدعه علي ﵁ بهذه الكلمة حتى قضى عليه، ويعد هذا من قدرة علي ﵁ وقوته في خداع خصمه. ولهذا نقول: إن الخداع والاستهزاء والمكر والكيد الذي وصف الله به نفسه إنما يوصف الله به في مقابل من فعل ذلك، لا على سبيل الإطلاق. ولهذا ننبه على مسألة يقولها بعض العامة، يقولون: خان الله من يخون، فيظنون أن الخيانة مثل الخداع، وهذا ليس بصحيح، لأن الخيانة خداع في غير موضعه، ومكر في غير موضعه، فلا يجوز أن يوصف الله بها، ولهذا قال الله تعالى: (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُم) ولم يقل: فخانهم؛ لأن الخيانة وصف لا يليق بالله تعالى مطلقًا؛ لأنه مذموم على كل حال. فضيلة الشيخ: قوله تعالى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذه الآية كما قلنا في الآية الأولى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) . وكما أشرنا إلى آية ثالثة: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، وإلى آية رابعة: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدا. ً وَأَكِيدُ كَيْدًا) . ***
يقول السائل: مذهب أهل السنة والجماعة هو بأن كل صفة من صفات الله التي أثبتها لنفسه نثبتها له من غير تأويل ولا تعطيل، ولا تشبيه ولا تمثيل، فكيف نفسر الآيات الكريمات، الآية الأولى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)، (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (١٥) وَأَكِيدُ كَيْدًا)، (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: مذهب السلف الصالح الذي عليه الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين من بعدهم هو: أن الله تعالى يوصف بما وصف به نفسه في كتابه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل. وهذا هو المذهب الحق الذي دل عليه السمع والعقل، أي: دل عليه الشرع والعقل، وذلك لأن صفات الله ﷾ مجهولة لنا، لا نعلم منها إلا ما أخبرنا الله به عن نفسه، وما أخبرنا به عن نفسه فهو حق؛ لأنه خبر صادق ممن هو أعلم بنفسه من غيره، ولأننا لا ندرك ما يجب لله تعالى وما يجوز وما يستحيل عليه على وجه التفصيل إلا عن طريق الكتاب والسنة، وعلى هذا فما وصف الله به نفسه وجب علينا قبوله والإيمان به، لكننا لا نحيط به على وجه الحقيقة، بمعنى: أننا لا ندرك كيفيته، فمثلًا استواء الله على عرشه أثبته الله تعالى لنفسه في سبعة مواضع من كتابه العزيز، فنحن نعلم عن الاستواء على الشيء أنه العلو عليه، كما قال الله ﵎: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) . ولكننا لا نعلم كيفية استواء الله تعالى على عرشه، يعني: لا نعلم على أي صفةٍ هو، ولهذا لما سئل الإمام مالك ﵀ عليه عن ذلك، فقال له رجل: يا أبا عبد الله (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى جعل يتصبب عرقًا من شدة ما سمع من السؤال وهيبته وتعظيمه لله ﷿، ثم قال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) . يعني: أن الاستواء غير مجهول في اللغة العربية، بل هو معلوم، فإن اللغة العربية تدل على أن استوى على الشيء بمعنى علا عليه، والقرآن نزل باللغة العربية، كما قال الله ﵎: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) . وقال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) . أي: صيرناه باللسان العربي من أجل أن تعقلوه وتفهموه. فقوله ﵀: الاستواء غير مجهول، أي: معلوم المعنى واضح المعنى. والكيف غير معقول، أي: إن عقولنا أقصر وأحقر من أن تدرك كيفية استواء الله على عرشه، وهكذا بقية الصفات لا يمكن لعقولنا القاصرة أن تدرك كيفيتها. والإيمان به واجب، أي: الإيمان بالاستواء على ما تقتضيه اللغة العربية واجب؛ لأن الله أخبر به عن نفسه، فوجب علينا قبوله والإيمان به. والسؤال عنه- أي: عن الاستواء، أي: عن كيفيته- بدعة، أي: إنه من ديدن أهل البدع، وهو أيضًا بدعة لكون الصحابة لم يسألوا عنه رسول صلى الله عليه وعلى آله سلم. فالقاعدة العريضة للسلف الصالح وأئمة المسلمين هي: الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله ﷺ، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل. واعلم أن صفات الله تعالى تنقسم إلى قسمين: قسم كمال مطلق بكل حال، فهو يوصف الله به وصفًا مطلقًا على كل حال، كالسمع والبصر والعلم والقدرة والكلام وما أشبهها. وقسم آخر لا يكون كمالًا على كل حال، لكنه كمال في موضعه، كالآيات التي ذكرها السائل، فإن الله لا يوصف بها مطلقًا، أي: على سبيل الإطلاق، وإنما يوصف بها حيث تكون كمالًا، كما سيتبين إن شاء الله من الكلام على كل آية وحدها. فقوله تعالى في الآية الأولى: (الله يستهزئ بهم) أي: المنافقين؛ لأن المنافقين (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) أي: مستهزئون بالمؤمنين حيث نقول لهم: إننا آمنا، وهم لم يؤمنوا، فقال الله تعالى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) . فقابل استهزاءهم بالمؤمنين باستهزائه ﵎ بهم، وذلك حيث مكن لهم وأمهلهم واستدرجهم من حيث لا يعلمون، فهذا استهزاء في مقابلة استهزاء، واستهزاء الله تعالى أعظم وأكبر من استهزائهم بالمؤمنين. والآية الثانية: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) وهذه أيضًا في المنافقين: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)، وفي آية أخرى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ) . والمخادعة وصف محمود إذا وقع في محله، ولهذا قيل: الحرب خدعة، فهؤلاء المنافقون يخادعون الله والذين آمنوا ويغرونهم ويرونهم أنهم مؤمنون- وهم غير مؤمنين- خداعًا ومكرًا وكيدًا، فيقول الله ﷿: إن الله خادعهم، وذلك بإمهاله لهم واستدراجه لهم وحقن دمائهم ومعاملتهم معاملة المسلمين، لكنه ﷿ سيريهم العذاب الأليم حين ينتقلون من الدنيا إلى الآخرة، وهذا لا شك خداع بهم، حيث يعاملهم ﷾ معاملة الرضا وهم على العكس من ذلك. الآية الثالثة: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (١٥) وَأَكِيدُ كَيْدًا) . إنهم يعني: المكذبين للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يكيدون للنبي صلى الله عليه كيدًا عظيمًا، ولكن الله تعالى يكيد بهم كيدًا أعظم. وتأمل قوله: (يَكِيدُونَ) حيث أتى بصيغة الجمع (وَأَكِيدُ) حيث أتى بصيغة الإفراد، فإن كيد الله تعالى أعظم من كيد جميع كيودهم مهما بلغت والكيد والمكر متقاربان، ومعناهما: الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، يعني: أن يوقع الإنسان بخصمه من حيث لا يشعر به، وقد كاد الله تعالى لنبيه ﷺ مع هؤلاء المشركين المكذبين به كيدًا عظيمًا، كما هو معلوم من قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم. وفي الآية الأخيرة: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) هذه أيضًا كقوله: (إنهم يكيدون كيدًا. وأكيد كيدًا) يعني: أن الكفار يمكرون بأولياء الله ﷿، ولكن الله تعالى يمكر بهم، فيقابلهم بما هو أعظم وأشد من مكرهم، ولهذا قال: (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) أي: أعظمهم وأشدهم. والمكر- كما قلت آنفًا- هو الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، فهو دليل على القوة والعلم والقدرة، فيكون في مقابلة الفاعل صفة مدح وكمال، لكن لا يوصف الله تعالى بأنه ماكر على سبيل الإطلاق، أو بأنه خادع، أو بأنه كائد، أو بأنه مستهزئ على وجه الإطلاق، بل يقال: إنه ﷾ ماكر بمن يمكر به، ومستهزئ بمن يستهزئ به، وهكذا. ***
الإيمان بالملائكة
جزاكم الله خيرًا يقول هذا السائل إبراهيم من الرياض: ما هي أهمية الإيمان بالملائكة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإيمان بالملائكة أهميته عظيمة؛ لأن الإيمان بهم أحد أركان الإيمان الستة، كما قال جبريل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره) . أما كيف نؤمن بهم؟ فنؤمن بأنهم عالم غيبي خلقوا من نور، وجعل الله منهم رسلًا ومنهم عبادًا، وهم على قوة عظيمة، ولا سيما جبريل ﵇، فقد وصفه الله بأنه ذو قوة فقال: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِين ٍ* مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) . وهم في وظائفهم أقسام: منهم ملائكة مع الإنسان عن اليمين وعن الشمال يكتبون أعماله الحسنة والسيئة، ومنهم ملائكة يحفظون الإنسان من أمر الله ﷿ يتعاقبون بالليل والنهار، هؤلاء في الليل وهؤلاء في النهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ومنهم ملائكة موكلون بقبض الأرواح، ومنهم ملائكة موكلون بسؤال الأموات بعد الدفن. المهم أنهم عالم غيبي عظيم، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط) - والأطيط هو صرير الرحل، رحل البعير، إذا حمِّل وصار البعير يمشي، يكون له أطيط، أي: صرير- يقول: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ليس فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد) . (وأخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن البيت المعمور الذي في السماء السابعة: أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه في اليوم الثاني، بل يأتي غيرهم، إلى يوم القيامة) أو إلى ما بعد ذلك الله أعلم. المهم أنهم جنود لا يعلمهم إلا الله ﷿، فنؤمن بما عرفنا من أسمائهم، ونؤمن بما عرفنا من أوصافهم، ونؤمن بما عرفنا من وظائفهم، وما عدا ذلك فالله أعلم. ***
بارك الله فيكم المستمع من جمهورية مصر العربية والذي رمز لاسمه بـ م ل م يقول: فضيلة الشيخ نود أن تعطونا نبذة عن خلق الملائكة، وهل تأتي على صورة حيوان؟ ما صحة ذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الملائكة عالم غيبي خلقهم الله ﷾ من نور، وكلفهم بما شاء من العبادات والأوامر، واصطفى منهم رسلًا، كما قال الله تعالى: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) . فمنهم الرسل الموكلون بالوحي، كجبريل ﵊. ومنهم الرسل الموكلون بقبض أراوح بني آدم، كما قال الله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) . ومنهم الكتبة الذين يكتبون أعمال بني آدم، ومنهم الحفظة الذين يحفظونهم من أمر الله، ومنهم السياحون الذين يسيحون في الأرض يتلمسون حلق الذكر، إلى غير ذلك مما جاء في الكتاب والسنة من أعمالهم ووظائفهم. وأما أوصافهم: فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه رأى جبريل وله ستمائة جناح قد سد الأفق، ولكن مع هذا له قدرة بإذن الله ﷿ أن يكون على صورة إنسان، كما جاء جبريل إلى النبي ﵊ على صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد من الصحابة، فجلس إلى النبي ﷺ، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، وسأل النبي ﷺ عن الإسلام والإيمان والإحسان، وعن الساعة وأشراطها، وكما جاء إليه بصورة دحية الكلبي، وكما أخبرنا النبي ﵊ في قصة الثلاثة من بني إسرائيل: الأبرص والأقرع والأعمى، وأن الملك جاء إلى كل واحد منهم وسأله عن أحب ما يكون إليه، ثم بعد أن أنعم الله عليهم بإزالة العيوب وبالمال عاد إليهم الملك بصورة كل واحد منهم قبل أن يزول عنه العيب ويحصل له الغنى، والقصة معروفة مشهورة. ثم إن الملائكة عليهم الصلاة والسلام لهم قدرة عظيمة، وسرعة عظيمة في الطيران والوصول إلى الغايات، ألم تر إلى قول سليمان ﵊: (يَا أَيُّهَا المَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مسلمين) أي: عرش بلقيس، وهو السرير الذي تجلس عليه، وهو عرش عظيم. (قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) . قال أهل العلم: إن هذا الرجل دعا الله ﷿، فحملت الملائكة العرش حتى وضعته عند سليمان ﵊. ثم ألم تر إلى الإنسان يموت فتقبض الملائكة روحه، وتصعد بها إلى الله ﷿ إذا كان مؤمنًا إلى ما فوق السماوات، وتعاد إليه روحه إذا دفن في قبره؟ وكل هذا يدل على أن الملائكة عليهم الصلاة والسلام لهم قوة عظيمة وسرعة عظيمة. ومن أراد أن يقف على شيء من أوصافهم وأحوالهم فليرجع إلى الكتب المصنفة في ذلك، منها كتاب البداية والنهاية لابن كثير ﵀. ***
المستمعة أشواق تقول: إن الله ﷾ قد خلق لنا كرامًا كاتبين، يكتبون كل ما نقول ونفعل. السؤال: ما الحكمة من خلقهم؟ مع العلم بأن الله ﷾ يعلم ولا يخفى عليه ما نسر وما نعلن؟ فأجاب رحمه الله تعالى: جوابنا على هذا السؤال أن نقول: أولا: ً مثل هذه الأمور قد ندرك حكمتها وقد لا ندرك، فإن كثيرًا من الأشياء لا نعرف حكمتها، كما قال الله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) . فإن هذه المخلوقات لو سألنا سائل: ما الحكمة أن الله جعل الإبل على هذا الوجه؟ وجعل الخيل على هذا الوجه؟ وجعل الحمير على هذا الوجه؟ وجعل الآدمي على هذا الوجه؟ وما أشبه ذلك، لو سُئلنا عن الحكمة في هذه الأمور ما علمناها، ولو سُئلنا: ما الحكمة في أن الله ﷿ جعل صلاة الظهر أربعًا، وصلاة العصر أربعًا، وصلاة العشاء أربعًا؟ وما أشبه ذلك ما استطعنا أن نعرف الحكمة في ذلك، إذ قد يقول قائل: لماذا لم تجعل ثماني أو ستًا؟ ولهذا علمنا أن كثيرًا من الأمور الكونية وكثيرًا من الأمور الشرعية تخفى علينا حكمتها، وإذا كان كذلك فإنا نقول: إن التماسنا للحكمة في بعض الأشياء المخلوقة أو الأشياء المشروعة إن منّ الله علينا بالوصول إليها فذاك زيادة فضل وخير وعلم، وإن لم نصل إليها فإن ذلك لم ينقصنا شيئًا. ثم نعود إلى جواب السؤال، وهو: ما الحكمة في أن الله وكل بنا كرامًا كاتبين يعلمون ما نفعل؟ فالحكمة من ذلك بيان أن الله ﷾ نظم الأشياء وقدرها، وأحكمها إحكامًا متقنًا، حتى أنه ﷾ جعل على أفعال بني آدم وأقوالهم كرامًا كاتبين يكتبون ما يفعلون، مع أنه ﷾ عالم بما يفعلون قبل أن يفعلوه، ولكن كل هذا من أجل بيان كمال عناية الله ﷿ بالإنسان، وكمال حفظه ﵎، وأن هذا الكون منظم أحسن نظام، ومحكم أحسن إحكام. ***
بارك الله فيكم المستمعة من المدينة المنورة أم عبد الله تقول: فضيلة الشيخ بعض الناس يقومون بوضع البخور في بيوتٍ قديمة، يدعون أنهم يبخرونها للملائكة، ويضعون قطعًا من القماش ويبخرونها. فما حكم الشرع في نظركم في ذلك مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أقول: إن هؤلاء جماعة من الخرافيين السفهاء في عقولهم، الضالين في عملهم؛ لأن الملائكة لا يمكن أن تكون أماكنها الأماكن الخربة، الأماكن الخربة يمكن أن تكون مأوى الجن أو الشياطين، أما الملائكة فإن مأواها في الأرض هي بيوت الله ﷿، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيمن أكل بصلًا أو ثومًا قال: (فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)، فالطيبات للطيبين والطيبون للطيبات. وأضل من ذلك أن يبخروا هذه الأماكن، وكذلك يجعلون قطعًا من القماش ويبخرونها، وكل هذا ضلال في الدين وسفه في العقل. والواجب على من علم بذلك أن ينكر على من فعلها، ويبين له أن هذا خطأ عظيم، وأن الملائكة عليهم الصلاة والسلام أجل وأكرم عند الله من أن يجعل مأواهم هذه البيوت الخربة. ***
يقول السائل: هل هناك أدلة تدل على أفضلية الملائكة على الصالحين من بني البشر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذه المسألة- وهي: المفاضلة بين الملائكة وبين الصالحين من البشر- محل خلاف بين أهل العلم، وكل منهم أدلى بدلوه فيما يحتج به من النصوص، ولكن القول الراجح أن يقال: إن الصالحين من البشر أفضل من الملائكة باعتبار النهاية، فإن الله ﷾ يؤدي لهم من الثواب ما لا يحصل مثله للملائكة فيما نعلم، بل إن الملائكة في مقرهم- أي: في مقر الصالحين، وهو الجنة- يدخلون عليهم من كل باب يهنئونهم: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. أما باعتبار البداية فإن الملائكة أفضل؛ لأنهم خلقوا من نور، وجبلوا على طاعة الله ﷿ والقوة عليها، كما قال الله تعالى في الملائكة ملائكة النار: (عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) . وقال ﷿: (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) هذا هو القول الفصل في هذه المسألة. وبعد فإن الخوض فيها، وطلب المفاضلة بين صالح البشر والملائكة، من فضول العلم الذي لا يضطر الإنسان إلى فهمه والعلم به. والله المستعان. ***
الجن والشياطين
جزاكم الله خيرًا عبد المجيد محمد له هذا السؤال يقول: ما الفرق بين الجن والشياطين؟ وهل هم من فصيلة واحدة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الشياطين يكونون من الجن والإنس، كما قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) . بل يكون الشيطان من غير العقلاء، كما قال النبي ﷺ: (الكلب الأسود شيطان) . وأما الجن فإنه من ذرية إبليس، كما قال الله تعالى: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) . ***
هذه رسالة وردتنا من أحد السادة المستمعين يقول: أخوكم في الله ريكان غيلان الضامن من الجمهورية العراقية يقول: نحن نعرف أن إبليس هو أبو الشياطين، فكيف تتكاثر الشياطين وكيف تتناقص؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نقول: لا شك أن إبليس هو أبو الجن؛ لقوله تعالى: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) . وقوله عن إبليس وهو يخاطب رب العزة ﷾: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) . وقوله تعالى: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُو) . فهذه الأمور أدلتها واضحة أن الشيطان له ذرية، وأن الجن ذريته، ولكن كيف يكون ذلك؟ هذا ما لا علم لنا به، وهو من الأمور التي لا يضر الجهل بها، ولا ينفع العلم بها. والله أعلم. ***
السائل أنور محمد إبراهيم من العراق محافظة ذي قار يقول: كيف هي حقيقة حياة الجن؟ وهل بينهم تزاوج شرعي؟ وهل هم يعيشون ويموتون مثلنا نحن الإنس؟ وهل لهم تأثير على الإنس؟ فأجاب رحمه الله تعالى: حقيقة حياة الجن الله أعلم بها، ولكننا نعلم أن الجن أجسام لها حقيقة، وأنهم خلقوا من النار، وأنهم يأكلون ويشربون ويتزاوجون أيضًا، ولهم ذرية، كما قال الله تعالى في الشيطان: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) . وأنهم مكلفون بالعبادات، فقد أرسل إليهم النبي ﵊، وحضروا واستمعوا القرآن، كما قال الله تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) . وكما قال تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) إلى آخر الآيات. وثبت عن النبي ﵊ أنه قال للجن الذين وفدوا إليه وسألوه الزاد، قال: (لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، تجدونه أوفر ما يكون لحمًا) . وهم- يعني: الجن- يشاركون الإنسان إذا أكل ولم يذكر اسم الله على أكله، ولهذا كانت التسمية على الأكل واجبة، وكذلك على الشرب، كما أمر بذلك النبي ﷺ وعليه. فإن الجن حقيقة واقعة، وإنكارهم تكذيب للقرآن، وكفر بالله ﷿، وهم يؤمَرون وينهون، ويدخل كافرهم النار، كما قال الله تعالى: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنَ قَبْلِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا) . ومؤمنهم يدخل الجنة أيضًا لقوله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٧) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) . والخطاب للجن والإنس، ولقوله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا) . إلى غير ذلك من الآيات والنصوص الدالة على أنهم مكلفون، يدخلون الجنة إذا آمنوا، ويدخلون النار إذا لم يؤمنوا. فضيلة الشيخ: تأثيرهم على الإنس. فأجاب رحمه الله تعالى: أما تأثيرهم على الإنس فإنه واقع أيضًا، فإنهم يؤثرون على الإنس: إما أن يدخلوا في جسد الإنسان فيصرع ويتألم، وإما أن يؤثروا عليه بالإيحاش والترويع وما أشبه ذلك. فضيلة الشيخ: كيف العلاج من تأثيرهم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: العلاج من تأثيرهم بالأوراد الشرعية، مثل: قراءة آية الكرسي، فإن من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح. ***
بارك الله فيكم، المستمعة هناء محمد تقول: سمعت بأنه يوجد جن صالحون وجن شياطين، هل يظهرون للإنسان؟ وكيف نتجنب ظهورهم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا شك أن الجن كالإنس فيهم الصالحون، فيهم المسلمون، فيهم الكافرون، فيهم الأولياء الذين آمنوا بالله وكانوا يتقون. ذكر الله ﵎ في سورة الجن عن الجن أنهم قالوا: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ) . وقالوا أيضًا: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (١٤) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) . وفيهم- أي: في الجن- من يحب الصالحين من الإنس، وربما يخاطبهم وينتفع بهم بالنصيحة والتعليم، وفيهم- أي: في الجن- فساق وكفار يحبون الفاسقين والكافرين ويبغضون المؤمنين وأهل الاستقامة، وفي الجن من يحب العدوان على الإنس والأذية، وهم في الأصل عالم غيبي لا يظهرون للإنس، لكن ربما يظهرون أحيانًا ويراهم الإنس وربما يتشكلون بأشكال مؤذية مزعجة لأجل أن يروعوا الإنس، ولكن الإنسان إذا تحصن بالأوراد الثابتة عن رسول الله ﷺ كفاه الله شرهم، ومن ذلك قراءة آية الكرسي، وهي قوله تعالى: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) . فإن هذه الآية العظيمة من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، ولكن لابد أن يكون القارئ مؤمنًا بها، مؤمنًا بأثرها، مؤمنًا بأن الله تعالى يحفظه بها من كل شيطان، أما من قرأها وهو غافل، أو من قرأها مجربًا غير موقن بأثرها فإنه لا ينتفع بها. ***
هل الجن قد أسلموا برسالة محمد ﷺ، وآمنوا بالرسل من قبل؟ وأيضًا هل مفروض عليهم الحج؟ وإن كان كذلك فأين يحجون؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الجواب على ذلك أن الجن مكلفون بلا شك، مكلفون بطاعة الله ﷾، وأن منهم المسلم والكافر، ومنهم الصالح ومنهم دون ذلك، كما ذكر الله تعالى في سورة الجن عنهم حيث قالوا: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) . وقالوا: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) . وقد صرف الله نفرًا من الجن إلى رسول الله ﷺ، فاستمعوا القرآن وآمنوا به، وذهبوا دعاة إلى قومهم، كما قال الله تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) . وهذا يدل على أن الجن كانوا يؤمنون بالرسل السابقين، وأنهم يعلمون كتبهم؛ لقولهم: (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) . وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه أكرم الوفد، وفد الجن الذين وفدوا إليه بأن قال لهم: (لكم كل عظم يذكر اسم الله عليه، تجدونه أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة فهي علف لدوابكم) .ولهذا (نهى النبي ﷺ عن الاستجمار بالعظام، وعن الاستجمار بالروث، وقال: إن العظام زاد إخوانكم من الجن) . فضيلة الشيخ: يقول: هل مفروض عليهم الحج؟ وإن كان كذلك فأين يحجون؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الظاهر أنهم مكلفون بما يكلف به الإنس من العبادات، ولاسيما أصولها كالأركان الخمسة، وحجهم يكون كحج الإنس زمنًا ومكانًا، وإن كانوا قد يختلفون عن الإنس في جنس العبادات التي لا تناسب حالهم، فتكون مختلفة عن التكليف الذي يكلف به الإنس. ***
بارك الله فيكم هذه الرسالة من السائلة الزهراء ع. م. ن. من البيضاء من الجماهيرية العربية الليبية تقول: هل للجن تأثيرٌ حقيقة على الإنسان؟ كما نسمع من تسلط بعض ذكور الجن على إناث الإنس، وتسلط بعض إناث الجن على رجال من الإنس؟ وكيف التخلص من هذا إن كان هذا واردًا؟ وبأي الطرق يمكن معالجة من به مثل هذه الحالة، دون الرجوع إلى وسائل محرمة ومخالفة للتوحيد؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم لاشك أن الجن لهم تأثير على الإنس، بالأذية التي قد تصل إلى القتل، وربما يؤذونه برمي الحجارة، وربما يؤذونه بالإيحاش، أي: يروعونه، إلى غير ذلك من الأشياء التي ثبتت بها السنة ودل عليها الواقع. وقد ثبت أن الرسول ﵊ أذن لبعض أصحابه أن يذهب إلى أهله في إحدى الغزوات- وأظنها غزوة الخندق- وكان شابًا حديث عهد بعرس، فلما وصل إلى بيته وإذا امرأته على الباب، فأنكر عليها ذلك فقالت له: ادخل، فدخل فإذا حية ملتوية على الفراش، فكان معه رمح فوخزها بالرمح حتى ماتت، وفي الحال وفي الزمن أو في اللحظة التي ماتت فيها الحية مات الرجل، فلا يدرى أيهما أسبق موتًا: الحية أم الرجل؟ فلما بلغ ذلك النبي ﷺ (نهى عن قتل الجان التي تكون في البيوت، إلا الأبتر وذا الطفيتين) . وهذا دليل على أن الجن قد يعتدون على الإنس، وأنهم يؤذونهم. كما أن الواقع شاهد بذلك، فإنه قد تواترت الأخبار واستفاضت الأخبار بأن الإنسان قد يأتي إلى خربة فينال الحجارة، وهو لا يرى أحدًا من الإنس في الخربة، وقد يسمع أصواتًا، وقد يسمع حفيفًا كحفيف الأشجار، وما أشبه ذلك مما يستوحش به ويتأذى به. وكذلك أيضًا قد يدخل الجني إلى جسد الآدمي: إما لعشق، أو لقصد الإيذاء، أو لسبب آخر من الأسباب. ويشير إلى هذا قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) . وفي هذا النوع قد يتحدث الجني من باطن نفس الإنسي ويخاطب من يقرأ عليه آيات من القرآن، وربما يأخذ القارئ عليه عهدًا ألا يعود، إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة التي استفاضت بها الأخبار وانتشرت بين الناس. وعلى هذا فإن الوقاية المانعة من شره- من شر الجن- أن يستعيذ الإنسان، أو أن يقرأ الإنسان ما جاءت به السنة مما يتحصن به منهم، مثل: آية الكرسي، فإنها آية إذا قرأها الإنسان في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح. ***
يقول السائل: من المعلوم أن من الجن من هم صالحون، كما يثبت ذلك ويؤكده القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ) . فهل يجوز الاستعانة بهم في الأشياء التي هي فوق طاقة الإنسان وقدرته؟ أم أن ذلك يؤثر على عقيدة المسلم وتوحيده؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لاشك أن الجن كما ذكر السائل وعلى ما استدل به من أن فيهم الصالح وفيهم دون ذلك، كما في الآية الكريمة التي ذكرها السائل، وفيهم أيضًا المسلم والكافر، كما قال تعالى: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (١٤) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) . ومن المعلوم أن الصالح منهم لا يرضى بالفسق ولا يعين عليه، وكذلك المسلم لا يرضى بالكفر ولا يعين عليه، ولهذا قال الله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) . فكافرهم يدخل النار، كما تفيده هذه الآية والآية التي في سورة الجن: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) . ومؤمنهم يدخل الجنة على القول الراجح من أقوال أهل العلم؛ لقوله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) . فأخبر أن لمن خاف مقام ربه جنتين، وخاطب بذلك الجن والإنس في قوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) . وقد سمى النبي ﵊ المؤمنين منهم إخوة لنا، حين نهى عن الاستنجاء بالعظام وقال: (إنها طعام إخوانكم أو زاد إخوانكم) يعني: من الجن. وأما الاستعانة بهم: فإني أحيل السائل على ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوي جمع ابن القاسم صفحة ثلاثمائة وسبع مجلد أحد عشر، وما ذكره ﵀ في كتابه النبوات صفحة مائتين وستين إلى مائتين وسبع وستين، ففيه كفاية. ***
أسمع دائمًا من الناس أن الجن يتصورون في صورة طيور وقطط وأغنام، وأنا أنكر ذلك ولم أصدق به؛ لأن الجن مخلوق مثلنا، ولن يستطيع تغيير الخلق إلا الله ﷾. فهل هذا صحيح أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الذي ذكرته أمرٌ مشهور بين الناس أن الجن قد يتشكلون بشكل شيء مشاهد ومرئي، وربما يشهد له الحديث الثابت في الصحيح أن رجلًا شابًا من الأنصار كان حديث عهدٍ بعرس، فجاء ذات يومٍ أو ليلة فوجد أهله على الباب، فسألهم: ما هو السبب؟ فذكرت له ما في الفراش، فذهب إلى فراشه فوجد فيه حيةً، فأخذ رمحًا فطعنها فماتت هذه الحية، ثم مات الرجل فورًا، فلا يدرى أيهما أسرع موتًا: الرجل أم الحية؟ ثم إن النبي ﷺ نهى عن قتل الحيات التي تكون في البيوت، إلا الأبتر وذا الطفيتين. وهذا يدل على أن هذا كان جنًا، وأنه وقد تصور بصورة الحية، والحكايات في ذلك كثيرةٌ ومشهورة، ولكن هذا الحديث الصحيح قد يشهد لصحتها. وكما أنه يتصور الملائكة عليهم الصلاة والسلام بأشكالٍ ليست على هيئتهم التي خلقوا عليها، فإن جبريل ﷺ كان يأتي إلى النبي ﷺ أحيانًا بصورة دحية الكلبي، وجاء إليه مرة بصورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحدٌ من الصحابة، وجلس إلى النبي ﷺ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه جلسة المتأدب، ثم سأل النبي ﷺ الأسئلة المشهورة في الإسلام والإيمان والإحسان، والساعة وأشراطها، ثم قال النبي ﷺ: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) . ومن المعلوم أن قدرتهم على التشكل بهذا الشكل إنما هي من الله ﷾، فهو الذي أقدرهم على ذلك، فلا يبعد أن يكون الجن هكذا يستطيعون أن يتصوروا أو يتشكلوا للناس بأشكالٍ متعددة، هذا الذي ظهر لي في هذه المسألة. ***
الإيمان بالكتب
التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة هل هي منسوخة بالقرآن؟ وما هو الدليل من القرآن إن وجد؟ والسنة المطهرة؟ وما حكم قراءتها بالنسبة للعالم للاطلاع؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الكتب السابقة منسوخة بالقرآن الكريم؛ لقول الله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) . فكلمة: (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) تقتضي أن القرآن الكريم حاكم على جميع الكتب السابقة، وأن السلطة له، فهو ناسخ لجميع ما سبقه من الكتب. وأما قراءة الكتب السابقة: فإن كان للاهتداء بها والاسترشاد فهو حرام ولا يجوز؛ لأن ذلك طعن في القرآن والسنة، حيث يعتقد هذا المسترشد أنها- أي: الكتب السابقة- أكمل مما في القرآن والسنة، وإن كان للاطلاع عليها ليعرف ما فيها من حق فيرد به على من خالفوا الإسلام فهذا لا بأس به، وقد يكون واجبًا؛ لأن معرفة الداء هي التي يمكن بها تشخيص المرض ومحاولة شفائه، أما من ليس عالمًا ولا يريد أن يطلع ليرد فهذا لا يطالعها. إذًا فأقسام الناس فيها ثلاثة: من طالعها للاسترشاد بها فهذا حرام ولا يجوز؛ لأنه طعن في كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ، ومن طالعها ليعرف ما فيها من حق فيرد به على من تمسكوا بها وتركوا الإسلام فهذا جائز، بل قد يكون واجبًا، ومن طالعها لمجرد المطالعة فقط، لا ليهتدي بها ولا ليرد بها، فهذا جائز، لكن الأولى التباعد عن ذلك؛ لئلا يخادعه الشيطان بها. ***
تقول السائلة: ماحكم قراءة الكتب السماوية مع علمنا بتحريفها؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أولًا يجب أن نعلم أنه ليس هناك كتابٌ سماوي يتعبد لله بقراءته، وليس هناك كتابٌ سماوي يتعبد الإنسان لله تعالى بما شرع فيه، إلا كتابًا واحدًا وهو القرآن، ولا يحل لأحد أن يطالع في كتب الإنجيل ولا في كتب التوراة، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى مع عمر بن الخطاب ﵁ صحيفة من التوراة، فغضب وقال: (أفي شكٍ أنت يا ابن الخطاب)؟ والحديث وإن كان في صحته نظر لكن صحيح أنه لا اهتداء إلا بالقرآن. ثم هذه الكتب التي بأيدي النصارى الآن أو بأيدي اليهود هل هي المنزلة من السماء؟ إنهم قد حرفوا وبدلوا وغيروا، فلا يوثق أن ما في أيديهم هي الكتب التي نزلها الله ﷿، ثم إن جميع الكتب السابقة منسوخة بالقرآن، فلا حاجة لها إطلاقًا. نعم لو فرض أن هناك طالب علم ذا غيرةٍ في دينه وبصيرةٍ في علمه طالع كتب اليهود والنصارى من أجل أن يرد عليهم منها فهذا لا بأس أن يطالعها لهذه المصلحة، وأما عامة الناس فلا، وأرى من الواجب على كل من رأى من هذه الكتب شيئًا أن يحرقه، النصارى عليهم لعنة الله إلى يوم القيامة صاروا يبثون في الناس الآن ما يدعونه إنجيلًا على شكل المصحف تمامًا، مشكل على وجهٍ صحيح، وفيه فواصل كفواصل السور، والذي لا يعرف المصحف- كرجلٍ مسلم ولكنه لا يقرأ- إذا رأى هذا ظن أنه القرآن، كل هذا من خبثهم ودسهم على الإسلام، فإذا رأيت أخي المسلم مثل هذا فبادر بإحراقه يكن لك أجر؛ لأن هذا من باب الدفاع عن الإسلام. ***
عثمان محمد علي سوداني يقول في رسالته: عثرت على بعض الكتب المسيحية، فهل يصح إحراقها أم يجب عليّ أن أدفعها للمسيحيين لأنها تخصهم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: كأن السائل يريد أنه وجد نسخًا من الإنجيل، وأشكل عليه: هل يحرقها، أو يدفعها للنصارى الذين يدعون أنهم متبعون لعيسى بن مريم ﵊؟ والذي أرى أنه يجب عليه إحراقها، وأنه لا يحل له أن يعطيها النصارى. ***
هذه الرسالة وردتنا من الأخ صلاح ساري أبو الخير من جمهورية مصر العربية من دقهلية يقول في رسالته: ما هو الحكم في الذي يقرأ بالإنجيل؟ فهل هو حلال أم حرام، مع العلم أنه يتلو القرآن؟ فأجاب رحمه الله تعالى: تلاوة غير القرآن الكريم من الكتب السابقة تقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون التالي عالمًا بالشريعة، ويتلوها ليقيم الحجة على معتنقيها بصدق ما جاء به الإسلام، فالتلاوة هنا وسيلة إلى أمر محمود فتكون محمودة. والقسم الثاني: أن تكون التلاوة من عامي لا يعرف الشريعة، ويقصد الاهتداء بهذه الكتب، فهذه حرام عليه، أي: هذه التلاوة حرام عليه؛ لأنه لا يجوز أن يسترشد بالكتب السابقة وعنده هذا القرآن الكريم الذي كان مصدقًا لما بين يديه من الكتب ومهيمنًا عليها، ولا يجوز الاهتداء بغير ما جاء به النبي ﷺ، هذا هو خلاصة الجواب في مسألة مطالعة كتب غير المسلمين. ***
هذه يا شيخ رسالة وردت من محمد العيسى الحمود الجارياوي يقول في رسالته: إنني قرأت في كتاب وهو كتاب مسيحي، وفيه مكتوب أن المسيح ابن الله تعالى، وأنا أعرف أنه خطأ وكفر بالله، هل يلحقني ذنب في هذه القراءة؟ أرشدوني جزاكم الله خيرًا، رغم أن الكتاب فيه عدة أخطاء وكفر بالله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الكتاب الذي قرأت للمسيحي لم تبين أنه الإنجيل أو غيره، وعلى كل حال فإن الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل قراءتها على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يقرأها للاسترشاد بها والاستفادة منها، فهذا لا يجوز، وذلك لأن في القرآن والسنة ما يغني عنها. ثانيًا: أن يقرأها ليعرف ما فيها من حق فيلزم به متبعيها، ويبين خطأهم في مخالفة ما جاء به محمد ﷺ، فهذا لا بأس به، بل هو مطلوب إما وجوبًا وإما استحبابًا. الثالث: أن يقرأها لمجرد المطالعة فقط ليعرف ما عندهم، وليس يريد أن يسترشد بها أو يهتدي بها عن القرآن والسنة، ولا أن يرد على متبعيها باطلهم، فالأولى هنا أن لا يفعل؛ لأنه يخشى أن يتأثر بها ويجعلها مصدرًا لرشاده وهدايته. ***
حنان وسامية من بابلة الأردن المستمعتان تسألان: نحن نعلم بأن القرآن الكريم نزل مفرقًا، وورد بالقرآن أنه نزل في ليلة القدر، هل معنى ذلك بأنه نزل في كل سنة من ليلة القدر؟ نرجو بهذا إفادة يا فضيلة الشيخ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إنه لا يخفى علينا جميعًا أن القرآن كلام الله ﷿؛ لقوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أي: حتى يسمع القرآن. وليس المعنى أن هذا المستجير يسمع كلام الله نفسه من الله، بل إنما يسمع القرآن الذي هو كلام الله ﷿، وأن هذا القرآن نزل من عند الله تعالى، كما قال الله تعالى: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) . وكما قال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) فالقرآن نزل من عند الله ﷿، ونزوله كان مفرقًا، كما قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) . وقال تعالى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا) . ولنزوله مفرقًا فوائد كثيرة، ذكرها أهل العلم في التفسير في أصول التفسير. فأما قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) . فقد اختلف المفسرون فيها، فقال بعضهم: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) أي: ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر، فيكون القرآن أول ما نزل في ليلة القدر، ثم نزل متتابعًا حسب ما تقتضيه حكمة الله ﷿. وقال بعض العلماء: إنه نزل إلى بيت العزة جميعًا في ليلة القدر، ثم نزل إلى النبي ﷺ مفرقًا بعد ذلك. لكن الأول أقرب إلى الصواب؛ لأن قوله: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) يقتضي إنزاله إلى منتهى إنزاله، وهو قلب النبي ﷺ، ومعلوم أنه لم ينزل على قلب النبي ﷺ جميعًا في ليلة واحدة، بل نزل مفرقًا، فيكون المعنى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) أي: إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر، ثم صار ينزل مفرقًا حسب ما تقتضيه حكمة الله ﵎. ***
بارك الله فيكم السائلة أع ن تقول: هل نزول القرآن باللغة العربية يجعل الأعجميين لديهم عذر أو حجة لأن القرآن ليس بلغتهم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: ليس للأعجميين حجة أو عذر لكون القرآن ليس بلغتهم، بل عليهم أن يتعلموا لغة القرآن؛ لأنه إذا توقف فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على تعلم العربية كان تعلم العربية واجبًا، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولهذا كان من أئمة اللغة العربية قوم من العجم من فارس وغيرها، وصاروا أئمة في العربية لأنهم عرفوا قدر تعلم اللغة العربية، فتعلموها فصاروا أئمة فيها. وأما تعصب بعض الناس للغتهم، وعدم تحولهم إلى اللغة العربية مع قدرتهم على ذلك، فهذا من حمية الجاهلية، والقرآن ولله الحمد الآن انتشر بين العالم، وترجم معناه إلى لغات متعددة، لغات عالمية حية، ولغات في مناطق معينة، فلا حجة لأحد اليوم في قوله: إن لساني ليس عربيًّا فلا أفهم القرآن. ***
جزاكم الله خيرًا هذه السائلة دعاء م. ع من جمهورية مصر العربية البحيرة تقول في هذا السؤال: قرأت في كتاب بأن أهل السنة والجماعة قالوا بأن من قال: إن القرآن محدث فهو كافر، وإن القرآن ليس مخلوقًا. فما معنى أن القرآن ليس محدثًا وليس مخلوقًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما من قال: إن القرآن مخلوق، فهو مبتدع ضال؛ لأن القرآن كلام الله ﷿، وكلام الله من صفاته، وصفات الخالق غير مخلوقة، وقد أنكر أئمة أهل السنة على من قال ذلك- أي: على من قال: إن القرآن مخلوق- إنكارًا شديدًا، وحصلت بذلك الفتنة المشهورة التي جرت في زمن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل ﵀، حتى إن بعضهم- أي: بعض الأئمة- أطلق الكفر على من قال: إن القرآن مخلوق، ولا شك أن من قال: إن القرآن مخلوق، فقد أبطل الأمر والنهي؛ لأنه إذا كان مخلوقًا فمعناه أنه شيء خلق على هذه الصورة المعينة، فهو كالنقوش في الجدران والورق وشبهها لا يفيد شيئًا، إذ ليس أمرًا ولا نهيًا ولا خبرًا ولا استخبارًا. وأما من قال: إن القرآن محدث، فليس بمبتدع وليس بضال، بل قد قال الله تعالى: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) . نعم لو كان المخاطب لا يفهم من كلمة محدث إلا أنه مخلوق فهنا لا نخاطبه بذلك، ولا نقول: إنه محدث، خشية أن يتوهم ما ليس بجائز. فضيلة الشيخ: لماذا اعتبرت الفرق الضالة بأن القرآن مخلوق وأنه محدث؟ وما هو الغرض من ذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم أولًا: كما سمعت كلمة محدث لا بأس بها، ما لم نكن نخاطب من يفهم منها الخلق، وأن "محدث" في إزاء مخلوق. وأما المخلوق فإنهم إنما ذهبوا هذا المذهب لشبهات كانت عليهم، مثل قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) . ومثل قوله تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) وما أشبه ذلك، فظنوا أن هذا هو الحق، لكنهم بُيِّنَ لهم هذا، وبُيِّنَ لهم الغلط، إلا أنهم أصروا وعاندوا، وصاروا يدعون إلى بدعتهم هذه، وهي بدعة ضلالة. ***
ناصر دوارة من الجمهورية العربية السورية يقول: ما الفرق بين النبي والرسول؟ فأجاب رحمه الله تعالى: المشهور عند أهل العلم أن الفرق بينهما: أن النبي أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، هذا هو الفرق عند جمهور أهل العلم. وقيل: إن الفرق أن النبي لم يأت بشرع جديد، وإنما يكون مبلغًا بشرع من قبله، أي: إنه يحكم بشريعة من قبله بدون وحي جديد يوحى به إليه، كما في قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) . يحكم بها النبيون الذين أسلموا، وهم يحكمون بما في التوراة. فأما إذا أتى بشرع فحينئذٍ- ولو كان تكميلًا لشرع من قبله- يكون رسولًا، ولا يرد على هذا التعريف إلا آدم، فإن آدم كان نبيًا وليس برسول؛ لأن أول رسول نوح، وآدم نبي أوحي اليه بشرع، فعمل به، فأخذت به ذريته الذين كانوا في عهده. ***
فضيلة الشيخ ما الفرق بين الأنبياء والرسل؟ وهل توجد كتب غير الكتب الأربعة التي نزلت أو أنزلت على الأنبياء؟ وما هي الصحف التي أنزلت على إبراهيم؟ نرجو منكم الإجابة فأجاب رحمه الله تعالى: جميع من ذكروا في القرآن من النبيين رسل، حتى وإن ذكروا بوصف النبوة؛ لقول الله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) . وقوله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) إلى أن قال: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) . فكل نبيٌ ذكر في القرآن فإنه رسول، لكن ذكر العلماء ﵏ أن النبي هو الذي أوحى الله إليه بالشرع ولم يلزمه بتبليغه، وإنما أوحى الله إليه بالشرع لأجل أن يتعبد به، فيحيي شريعةً قبله أو يجدد شريعةً إذا لم يكن مسبوقًا بشريعةٍ من قبل. فمن الأول قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) . ومن الثاني- وهو: أن يكون الوحي الذي أوحي إلى النبي نبوة بلا رسالة- آدم ﵊، فإنه كان نبيًا ولم يكن رسولًا، ومع ذلك فهو لم يجدد شريعةً قبله، وإنما تعبد لله تعالى بما أوحى إليه من الشرع، فتبعه على ذلك أولاده، فلما كثر الناس واختلفوا بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب، وأول رسولٍ بعثه الله ﷿ هو نوح ﵊، ومعه كتابٌ بلا شك، وآخر الرسل والأنبياء محمدٌ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكل رسول معه كتاب، ولكننا لا نعلم من الكتب السابقة إلا التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وصحف موسى، وقد اختلف العلماء في صحف موسى هل هي التوراة أم غيرها؟ والله أعلم. هذا هو جواب السؤال. ***
الإيمان بالرسل
السائل ب م حجازي الخبر المملكة العربية السعودية يقول: أرجو أن تبينوا لنا مشكورين حقيقة الأمر في مسألة عصمة الرسول الكريم ﷺ، حيث يلتبس الأمر على كثير من الناس في هذا الشأن، كثيرًا ما نسمع ما يمكن أن يفهم منه أن الرسول ﷺ كان معصومًا من الخطأ، كما يفهم من عموم قوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) . ولكن نرى في بعض ما ورد عنه ﷺ أنه كان يصيب ويخطئ في بعض الأمور، كالسهو في الصلاة مثلًا. فما حقيقة أمر العصمة للرسول ﷺ؟ وما هي الجوانب التي عصم منها من الخطأ تحديدًا والجوانب التي لم يعصم من الخطأ مشكورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: فإني أسأل هذا السائل: هل يؤمن بأن محمدًا رسول الله على كل حال؟ هو يؤمن بهذا لا شك إن شاء الله، إذا كان يؤمن بمحمد رسول الله ﷺ أنه رسول الله فكفى، وما وقع منه فإنه لا ينافي الرسالة، فالسهو وقع منه في الصلاة، ولكنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون) .وعدم العلم وقع منه ﵊، فقد (صلى ذات يوم بأصحابه وعليه نعلاه، وفي أثناء الصلاة خلع النعلين، فخلع المسلمون نعالهم، فلما سلم سألهم: لماذا؟ قالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا. فقال: إن جبريل أتاني وأخبرني أن فيهما قذرًا فخلعتهما) . فهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى في نعليه ولم يعلم أن فيهما قذرًا، وهذا أيضًا من طبيعة البشر أن الإنسان جاهل، هذا الأصل في الإنسان، كما قال الله ﷿: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) . نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد يجتهد في أفعاله ولا يكون اجتهاده مصيبًا، لكنه حين فعله للشيء الذي صدر منه عن اجتهاد هو مصيب، كما في قول الله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى. وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى. أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى. وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى. وَهُوَ يَخْشَى. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى. كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ) . فهذا وقع اجتهادًا من النبي ﷺ أن ينصرف إلى هؤلاء الكبراء الذين جاؤوا إليه من قريش، يرجو إسلامهم وينتفع بإسلامهم قومهم والمسلمون جميعًا. ومثل قول الله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) . فاجتهد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعفا عنهم؛ لمحبته ﷺ للعفو، وأخذ الناس بظواهرهم، وهو حين عفا عنهم مصيب، لكن بين الله ﷿ له أن الحكمة هي الانتظار، وهذا لا يخدش بالرسالة، النسيان من طبيعة الإنسان، وعدم العلم هو أصل الإنسان أنه لا يعلم حين وقع من الرسول ﷺ مثل هذا فإنه والله لا يخدش بالرسالة وأما قوله تعالى (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) فالمعنى: أنه ﷺ لا ينطق نطقًا صادرًا عن هوى، وإنما نطقه إما عن وحي من الله وإما عن اجتهاد، فليس كغيره ممن ينطق عن الهوى ويتكلم بما يهوى، سواء كان الحق أو غير الحق. وإني أنصح هذا السائل وغيره ألا يتعمقوا في مثل هذه الأمور فيلقي الشيطان في قلوبهم شرًّا، فالإنسان غير آمن من الشيطان، أليس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات ليلة وهو معتكف قام يقلب صفية ﵂، حين جلست عنده ساعة من الليل في معتكفه، فقام يقلبها ﵊ أي: يمشي معها- فأبصر به رجلان من الأنصار فأسرعا، أسرعا خوفًا وخجلًا من النبي ﷺ وحياء، فقال: (علىرسلكما إنها صفية) . فقالا: سبحان الله! قال: (نعم، إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شيئًا- أو قال: شرًا-) . فانظر إلى هذا: خاف أن يلقي الشيطان في قلوبهما ما لا يليق بالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهما من الصحابة، فالبحث في هذه الأمور والتعمق فيها قد يكون خطرًا على الإنسان وهو لا يشعر، وأنا أشكر السائل حيث سأل ليتبين له الأمر، لكني أقول: إن الأولى بالإنسان أن يدع البحث في هذه الأمور، وأن يقول: محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو أبعد الناس أن يقول عن هوى أو أن يحكم بالهوى، بل هو الصادق الأمين ﵊. ثم إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من كل ما يخل بالإخلاص لله ﷿، فلم يقع منهم الشرك، معصومون عن كل ما يخل بالمروءة والخلق، فلم يقع منهم ما ينافي ذلك، وأما بعض الذنوب فيقع منهم، لكن من خصائصهم أنهم معصومون من الاستمرار فيها وعدم التوبة، وإذا تاب الإنسان من الذنب فكمن لا ذنب له، بل قد تكون حاله بعد التوبة من الذنب أكمل من حاله قبل أن يفعل الذنب. وبهذه المناسبة أود أن أبين أن ما ذكر في الإسرائيليات عن داود ﵊ في قصة الخصمين اللذين اختصما عنده وقال أحدهما: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (٢٣) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ) . في بعض الإسرائيليات أن داود ﵊ كان له أحد الجنود، وكان عند هذا الجندي امرأة أعجبت داود وأرادها، فطلب من هذا الجندي أن يذهب للجهاد لعله يقتل فيأخذ زوجته، هذه قصة كذب ولا يجوز لأحد أن ينقلها إلا إذا بين أنها كذب، ولا يجوز اعتقادها في نبي من أنبياء الله، هذه لا تليق ولا من عامي من الناس فكيف بنبي؟ ولا أستبعد أن هذه من دسائس اليهود التي دسوها على المسلمين ليفسدوا بذلك دينهم. والقضية هي أن هذا الرجل مع خصمه عنده نعجة واحدة، أي: أنثى من الضأن، وكان أخوه- أي: خصمه- عنده تسع وتسعون، فقال له: أنت ليس عندك إلا واحدة لا تغني شيئًا، وأنا عندي تسع وتسعون، باقٍ واحدة وتكتمل المائة، والإنسان ينظر إلى تكميل العدد، فطلب منه هذه الواحدة، وجعل يورد عليه الحجج حتى غلبه في الحجج، فاختصما إلى داود. فإذا قال قائل: ما تقول في قوله تعالى: (وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ)؟ فالجواب سهل: داود ﵇ جعله الله خليفة في الأرض يحكم بين الناس، وكونه يدخل محرابه- أي: متعبده- ثم يغلق الباب خلاف لما كلف به، وهو مجتهد في ذلك لا شك، ثم إنه حكم على الخصم قبل أن يسمع حجة الآخر المحكوم عليه، فلما قال الخصم: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ) الخ. فحكم قبل أن يسمع حجة الخصم، ولعله من أجل أن يسرع التفرغ للعبادة، فلما جاءت هذه القصة وأخذ بقول الخصم وكان قد أغلق الباب ظن داود ﵊ أن الله تعالى أرسل هذين الخصمين اختبارًا له (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) . فإن قال قائل: ما تقولون في قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لهند حين شكت زوجها أبا سفيان أنه رجل شحيح لا يعطيها وولدها ما يكفيهم، فقال: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) فحكم لها؟ فالجواب: أن حكم النبي ﷺ فتيا وليست قضاء بين خصمين؛ لأن خصمها لم يحضر، فهو أفتاها على صورة القضية بدون محاكمة ومخاصمة. ***
هذا السائل يا فضيلة الشيخ من السودان يقول: يا فضيلة الشيخ نعلم أن الرسل معصومون من الخطأ، هل هم معصومون من الخطأ في التشريع فقط، أم في كل الأمور؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يتكلمون بوحي الله ﷾، وهم معصومون من كل خطأ يخل بصدقهم وأمانتهم، وهذا هو محل الثقة فيهم. وأما ما نتج عن اجتهادٍ منهم فإنهم قد يخطئون فيه، فإن نوحًا ﵊ سأل ربه أن ينجي ابنه، فقال الله له: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) . ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حرم ما أحل الله له اجتهادًا منه، فقال الله له: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَات أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) . وعفا عن قومٍ استأذنوه في الجهاد فقال الله له: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) . لكنهم معصومون من الإقرار على الخطأ، يعني لو حصل منهم خطأ في اجتهادٍ اجتهدوه فإن الله تعالى لا بد أن يعصمهم من الاستمرار فيه، بخلاف غيرهم فإنهم لا يعصمون من ذلك. ***
يوجد في مدينة الكوفة مسجد يقال: إن جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام قد زاروا هذا المسجد، ولكل نبي فيه محراب ودعاء مكتوب على المحراب، والناس يزورون هذا المسجد بكثرة ويتنقلون بين محاريبه، ويدعون عند كل محراب بما كتب عليه من الدعاء بعدد الركعات التي يريد الزائر أن يصلىها. فهل هذا صحيح؟ وهل زيارة هذا المسجد لهذا الغرض جائزة أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا باطل قطعًا، فإن سيد الأنبياء والمرسلين محمدًا ﷺ لم يزره بلا ريب، وكذلك الأنبياء قبله لا يمكن أن يكونوا قد زاروه؛ لأنه لو قصد بالأنبياء الأنبياء الذين لم يرسلوا فإنهم أربعة وعشرون ألفًا، وإن قصد الرسل فهم ثلاثمائة وبضعة عشر رسولًا، وهؤلاء لا يمكن أن يكونوا قد زاروا هذا المسجد، وإنما هذا من التزوير الذي يقصد به أكل المال بالباطل وصد الناس عن سبيل الله. والذهاب إلى هذا المسجد بهذه النية محرم ولا يجوز، والواجب على المسلمين أن يتحققوا في هذه الأمور، وأن ينصحوا من مارس القيام بتعظيمها واحترامها، وليس هناك مساجد تشد الرحال إليها إلا ثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبي ﷺ، والمسجد الأقصى. وماعدا ذلك من المشاهد أو المساجد فإنه لا يجوز أن تشد إليها الرحال مطلقًا في أي حال من الأحوال، ثم إن غالب هذه الأمور تكون كذبًا مزوّرة، والمؤمن العاقل يعرف أن هذا من التزوير بأول نظرة. فضيلة الشيخ: لكن ما حكم الصلاة فيه؟ فأجاب رحمه الله تعالى: قلت في الجواب: إنه لا يجوز قصده للصلاة فيه، وإنه حرام وأما الصلاة فيه كبقعة، مثل: أن يمر به الإنسان مرورًا عابرًا فيصلى فيه، فإنه لا بأس به. فضيلة الشيخ: يعني: دون أن يعتقد فيه شيئًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: دون أن يعتقد ما ذكره السائل؛ لعموم قول النبي ﷺ: (جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا) . إلا أن يخشى أن يفتتن أحد بصلاته فيه، فإنه يتجنبه ويتقدم عنه، ويصلى في مكان آخر. ***
يقول السائل محمد عمر أحمد من السودان: قيل: إن سيدنا محمدًا ﷺ جاءه ملك وفتح صدره وملأه نورًا، فما مدى صحة هذا الكلام؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الكلام صحيح، فإن الرسول ﵊ حين عرج به جاءه جبريل فشق ما بين نحره إلى أسفل بطنه، واستخرج قلبه فملأه حكمة وإيمانًا وليس نورًا، ولكن ملأه حكمة وإيمانًا، والإيمان والحكمة من النور المعنوي. ***
السائلة أم أسامة من مصر أسوان تقول: سمعت من بعض الإخوة يقول بأن محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم خلق من نور، وأن آدم خلق من نور محمد، فهل هذا القول صحيح؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا القول من أبطل الباطل، وهو كذب مخالف لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) .ولقوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ) . والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من بني آدم، وهو سيد ولد آدم، وهو مخلوق من نطفة أبيه، وأبوه مخلوق من نطفة جده، وهكذا إلى أن يصل الخلق إلى آدم الذي خلقه الله من سلالة من طين. والعجب أن هؤلاء الذين يأتون بهذه الأكاذيب تعظيمًا لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعضهم عنده تهاون في دينه، واتباعه لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولعلهم يجهلون أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن الغلو فيه وحذر منه. وإن نصيحتي لهؤلاء أن يتلقوا معتقدهم من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأن يعلموا أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بشر مثلنا، كما أمره الله أن يقول ذلك ويعلنه على الملأ: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ) . فقد تميز صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالوحي، وبما جبله الله عليه من مكارم الأخلاق، وبأنه أتقى الناس لله وأعبد الناس لله، لكنه بشر، وهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعلم أنه بشر مثلنا ينسى كما ننسى فقال: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني) . انظر التواضع العظيم: أخبر أنه بشر ينسى، ومع ذلك قال: (إذا نسيت فذكروني) . ولن ينقص ذلك من قدره شيئًا، بل هو أكمل الخلق إيمانًا وتقوى وزهدًا وخلقًا ﵊، ومن أراد أن يحشر تحت لوائه يوم القيامة فليكن تحت لواء سنته في الدنيا، ولا يتعدَّ حدود الله ولا يقصر عنها، فلا غلو ولا تحريف، هذا الواجب علينا. ولقد قال الله ﵎ لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (قلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) . فمن كان صادقًا في دعوى المحبة لله أو المحبة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فليتبع الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبذلك يقيم بينة على صدق دعواه، وأما أن يدعي أنه متبع للرسول محب للرسول، وهو يقول في الرسول ما ليس حقيقة، ويبتدع في دينه ما لم يشرع، فإن البينة تخالف دعواه. ***
يوجد في القرآن الكريم سورة سميت بسورة لقمان، فمن هو هذا الشخص الذي يدعى لقمان؟ وهل أوتي النبوة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: سميت سورة لقمان لأنه ذكر فيها قصة لقمان وعظته لابنه، وتلك الوصايا التي ذكرها له، والسورة تسمى باسم ما ذكر فيها أحيانًا، كما يقال: سورة البقرة، سورة آل عمران، سورة الإسراء، وما أشبه ذلك. فضيلة الشيخ: أيضًا يقول: من هذا الشخص الذي يدعى لقمان؟ وهل أوتي النبوة أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الصحيح أنه ليس بنبي، وأن الله تعالى آتاه الحكمة وهي موافقة الصواب مع العلم، وقولنا: مع العلم، للتبيان وإلا فلا صواب إلا بعلم، والصواب أنه ليس من الأنبياء، وإنما هو رجل آتاه الله الحكمة، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا. ***
أحسن الله إليكم هل الخضر ﵇ حي إلى يومنا هذا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما كونه حيًّا فلا، ليس بحي؛ لأنه لو كان حيًّا لوجب عليه أن يؤمن بالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأن يجاهد معه، ولم يكن شيء من ذلك، فالخضر كغيره من البشر مات في وقته فيما يظهر لنا، وكذلك ليس الخضر بنبي، وإنما هو رجل آتاه الله تعالى علمًا لا يعلمه موسى ﵊؛ لأن موسى ﵊ قال: إنه لا أحد في الأرض أعلم منه، فأراه الله ﷿ هذه الآية: أن موسى ﵊ وإن كان لديه علم كثير من شريعة الله فإنه قد يفوته شيء من المعلومات الأخرى. ***
يزعم بعض الناس من المسلمين أن نبي الله الخضر ﵇ لا يزال حيًا يطوف على الأرض، وأنه إذا مر على إنسان وطلب منه الإحسان فقدمه له، إن كان ذلك الإنسان فقيرًا صار غنيا، ً ويأتي إلى الناس بهيئة المجانين كي لا يعرفوه، وصار كثير من الناس يقدمون الإحسان لكل من يأتيهم بمثل تلك الهيئة، ظنًا منهم أن يكون هو الخضر ﵇، فهل هذا الزعم الأسطوري وارد في الحديث الشريف؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الكلام على هذا السؤال من وجهين: أولًا: قول السائل: إن نبي الله الخضر، وجزمه بأنه نبي: هذا محل خلاف بين أهل العلم، هل كان الخضر نبيًا، أو كان وليًا أعطاه الله ﷾ من الكرامات ما علم به مآل ما جرى بينه وبين موسى ﵊؟ والراجح أنه ليس بنبي، وأنه ولي من أولياء الله؛ لأدلة ليس هذا موضع بسطها. الوجه الثاني: من حيث بقاء هذا الرجل- أعني: الخضر- إلى الآن: فإن هذا لا يصح إطلاقًا؛ لأنه لو كان الخضر حيًا لكان يجب عليه أن يأتي إلى النبي ﷺ ويؤمن به ويتبعه لو كان حيًا، على فرض أن يكون حيًا لكان قد مات أيضًا؛ لأن النبي ﷺ حدث أصحابه في آخر حياته أنه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها ذلك اليوم أحد، فلو فرض أن الخضر قد بقي إلى الرسول ﵊ لكان لا يمكن أن يبقى بعد مائة السنة التي أخبر عنها رسول الله ﷺ، وعليه فإن الخضر لا وجود له وليس بموجود. ثم إن هذا الزعم الباطل الذي يقتضي السخرية والاستهزاء به، حيث يقول: إنه يأتي إلى الناس بصورة المجنون لئلا يعرف، وإن من أتاه شيئًا وأهدى إليه شيئًا فإنه يصبح غنيًا، فإن هذا باطل من أبطل الباطل. أيضًا والمهم أنه يجب على المؤمن أن يعتقد بأن الخضر ليس بموجود؛ للدليلين اللذين أشرنا إليهما فيما سبق: أنه لو كان موجودًا لم يسعه إلا أن يأتي للنبي ﵊ ويؤمن به ويتبعه، وأنه لو كان موجودًا لكان يموت قبل أن تأتي مائة السنة التي أخبر عنها رسول الله ﷺ. ***
أحسن الله إليكم يقول السائل: هل هناك خصائص اختصها الله ﷿ للرسول ﷺ، ولم تكن لغيره من أفراد أمته؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم الخصائص التي اختص بها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وليست لأمته كثيرة جدًّا، وقد ذكر العلماء ﵏ أعني بهم: الفقهاء، ذكروا- في كتاب النكاح خصائص كثيرة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فمن أحب أن يرجع إليها فليفعل. ومن ذلك ما ذكره الله تعالى في القرآن حيث قال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) إلى قوله: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) . فهنا بين الله ﷿ أن النكاح بالهبة لا يحل إلا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. كما أن هذه الأمة خصها الله تعالى بخصائص لم تكن لغيرها من الأمم، كما في حديث جابر بن عبد الله ﵄ الثابت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصلِّ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي) وذكر تمام الحديث. فالحاصل أن الله ﷾ يختص من شاء من عباده بأحكام شرعية وغيرها مما لا يكون لغيره. ***
محمد جميل حسين مصطفى من الجمهورية العراقية يسأل عن الصلاة على الأنبياء يقول: هل يجوز الصلاة على الأنبياء الآخرين غير محمد ﷺ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الجواب: نعم تجوز الصلاة على الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام، بل تجوز الصلاة أيضًا على غير الأنبياء من المؤمنين: إن كانت تبعًا فبالنص والإجماع، كما في قوله ﷺ حين سئل: كيف نصلى عليك؟ قال: (قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمدٍِ، كما صلىت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد) . وآل النبي ﷺ في هذه الجملة هم المتبعون لشريعته من قرابته وغيرهم، هذا هو القول الراجح، وإن كان أول وأولى من يدخل في هذه- أي: في آل محمد- هم المؤمنون من قرابة النبي ﷺ، لكن مع ذلك هي شاملة لكل من تبعه وآمن به؛ لأنه من آله وشيعته. والصلاة على غير الأنبياء تبعًا جائزة بالنص والإجماع، لكن الصلاة على غير الأنبياء استقلالًا لا تبعًا هذه موضع خلاف بين أهل العلم هل تجوز أو لا؟ فالصحيح جوازها، أنه يجوزأن يقال لشخص مؤمن: صلى الله عليه، وقد قال الله ﵎ للنبي ﷺ: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عليهم) فكان النبي ﷺ يصلى على من أتى إليه بزكاته وقال: (اللهم صلِّ على آل أبي أوفى، حينما جاؤوا إليه بصدقاتهم) . إلا إذا اتخذت شعارًا لشخص معين كلما ذكر قيل: صلى الله عليه، فهذا لا يجوز لغير الأنبياء، مثل: لو كنا كلما ذكرنا أبا بكر قلنا: صلى الله عليه، أو كلما ذكرنا عمر قلنا: صلى الله عليه، أو كلما ذكرنا عثمان قلنا: صلى الله عليه، أو كلما ذكرنا عليًا قلنا: صلى الله عليه، فهذا لا يجوز أن نتخذ شعارًا لشخص معين. ***
كنت في سنوات بعيدة مضت أظن أن الصلاة على الرسول الكريم ﷺ هي ركعات، وقد صلىت عددًا من الركعات ظنًّا مني أن هذه هي الصلاة عليه، وبدون شك لم أقصد أن أشرك بالله في العبادة- والعياذ بالله من الشرك، لا إله إلا الله فما رأيكم جزاكم الله خيرًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: قبل الإجابة على هذا السؤال أود أن أنبه أنه يجب على الإنسان ألا يعمل عملًا يتقرب به إلى الله ويتعبد به لله ﷿ حتى يكون على علم بأن هذا من شريعة الله؛ ليعبد الله تعالى على بصيرة، دليل ذلك قوله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا) . فهذا الذي فهم من الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنها الركوع والسجود له قد فهم فهمًا مخطئًا باطلًا، لكن لكونه مستندًا على أصل يظنه صحيحًا أرجو أن الله تعالى لا يؤاخذه بما فعل، وعليه أن يستغفر الله تعالى ويتوب إليه مما قصر فيه من طلب العلم، ومادام علم الآن أن هذا ليس المقصود بالأمر بالصلاة عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأنه تبين له أن معنى الصلاة عليه أن تقول: اللهم صل على محمد أو ما يؤدي هذا المعنى، فأرجو الله أن يتجاوز عنه وأن يغفر له. ***
السائل حمودة يقول: فضيلة الشيخ منذ سنوات فهمت عن جهلٍ مني بأن الصلاة على النبي ﷺ هي مثل الصلاة العادية: ركوع وسجود وخلاف ذلك، وصلىت عدة ركعات ظنًا مني بأن الله ﷿ أمرنا بذلك، فهل علي إثمٌ في ذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا إثم عليك في ذلك لأنك جاهل، ولكن الواجب على المرء أن يسأل أهل العلم إذا كان لا يعلم؛ لقول الله ﵎: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) . فعملك الذي كنت عملته سابقًا عملٌ مردودٌ باطل؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد) . لكنك مثابٌ إن شاء الله على نيتك، وقد يكون هناك تقصيرٌ منك بعدم سؤال أهل العلم عن كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ***
المستمع الذي رمز لاسمه بـ: أ. ح. الأردن يقول في رسالته: هل محمد ﷺ أفضل الخلق قاطبة، أم أفضل البشر فقط؟ وما الدليل على ذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الجواب الذي أعلمه من ذلك أنه ﷺ سيد ولد آدم كما ثبت ذلك عنه، وأما أنه أفضل الخلق على الإطلاق فلا يحضرني الآن دليل في ذلك، لكن بعض أهل العلم صرح بأنه أفضل الخلق على الإطلاق، كما في قول صاحب الأرجوزة: وأفضل الخلق على الإطلاق نبينا فمل عن الشقاق والمهم أن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله الله تعالى إلى الثقلين الإنس والجن هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، فعلينا أن نؤمن به تصديقًا لأخباره، وامتثالًا لأوامره، واجتنابًا لنواهيه، هذا هو الذي ينفع الإنسان في دينه ودنياه ومعاشه ومعاده. ***
أحسن الله إليكم يا شيخ وبارك فيكم هذا سائل سوداني يقول: فضيلة الشيخ يقولون بأن الرسول مخلوق من نور، هل هذا كلام صحيح؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الكلام باطل، فإن محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم من بني آدم، وسلسلة آبائه وأجداده معلومة، وهو نفسه ﵊ قد صرح بما أمر الله به، فقد قال الله تعالى له: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) . وقال ﷺ هو عن نفسه: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون) . فقد خلق ﵊ من طين، كما هو شأن بني آدم كلهم، والذين خلقوا من نور هم الملائكة، فإن المخلوقات ثلاثة أقسام: قسم خلقوا من نار وهو إبليس وذريته، وقسم خلقوا من النور وهم الملائكة، وقسم خلقوا من طين وهم آدم وبنوه، وليس هناك قسم رابع، فهذا الحديث أو الأثر أو القولة المشهورة أن نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم خلق من نور كذب لا أصل له. ***
جزاكم الله خيرًا يا فضيلة الشيخ، هناك أناس غلوا في الرسول وتجاوزوا الحد في محبته، وهناك أناس فرطوا وتساهلوا في محبته، كيف نوجه مثل هؤلاء؟ فأجاب رحمه الله تعالى: كلهم أخطؤوا: الذين فرطوا والذين أفرطوا، والخطر عظيم على الجميع. أما الذين غلوا فيخشى عليهم من الإشراك به، ولهذا ادعى بعضهم أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعلم الغيب، وأنه يشفي المريض، وأنه يزيل الكربات، فصاروا يدعونه، فالتحقوا بذلك بالمشركين وهم لا يشعرون. وأما الطرف الثاني فيخشى عليهم من التهاون في الشريعة شيئًا فشيئًا حتى يقضى عليها، ولهذا المحب له حقيقة هو المتبع لسنته بدون غلو ولا تفريط. ***
يقول: كيف تحقق محبة الرسول ﷺ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: تحقق محبة الرسول ومحبة الله ﷿ باتباع الرسول ﷺ، فكل من كان أتبع لرسول الله كان أحرى بمحبة الله تعالى ومحبة رسوله، يقول الله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) . وعلامة محبة الرسول أن يتحرى الإنسان سنته فيتبعها، ولا يزيد في ذلك ولا ينقص. وعلى هذا فالذين يبتدعون بدعًا تتعلق بالنبي ﷺ، يدَّعون أن ذلك من محبته وتعظيمه، هم في الحقيقة لم يحبوه ولم يعظموه، وذلك لأن حقيقة المحبة والتعظيم أن تتبع آثاره، وأن لا تزيد في شرعه ولا تنقص منه، وأما من أراد أن يحدث في شرع الله ما ليس منه فإن محبته لله ورسوله قاصرة بلا شك؛ لأن كمال الأدب والتعظيم أن لا تتقدم بين يدي الله ورسوله، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) . ***
يقولون: إن الرسول ﷺ وهو في قبره يسمع ويرد، وضحوا لنا كيف يكون ذلك في حياته؟ والذين يقولون هذا الكلام يستندون للآية الكريمة: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) . وإذا كان الشهداء أحياء فكيف لا يكون الرسول ﷺ؟ هذا في قولهم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نقول: أما كونه ﷺ يسمع ويرد فليس به غرابة، فقد روى أبو داود في سننه: (أنه ما من رجل يسلِّم على رجل في قبره وهو يعرفه في الدنيا، إلا رد الله عليه روحه فرد ﵇ . فلا غرابة أن النبي ﷺ إذا سلم عليه المسلم يرد الله عليه روحه فيرد السلام. وأما كونه حيًّا في قبره: فالشهداء أحياء عند الله، والله ﵎ لم يقل: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا، بل أحياء في قبورهم، بل قال: بل أحياء عند ربهم يرزقون. ولا شك أن النبي ﷺ دفن وصلى عليه صلاة الجنازة وخلفه من خلفه من أصحابه، وليسوا يقدمون له الأكل والشرب، وهم يعلمون أنه مات، كما قال الله ﵎: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) . وكما قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) . وهذا أمر معلوم بالضرورة من الدين، ولا يماري فيه أحد، وحياة الشهداء عند الله ﷿ ليست كحياة الدنيا، أي: ليست حياة يحتاج فيها الإنسان إلى أكل وشرب أو هواء ويعبد ويدعو، هي حياة برزخية،الله تعالى أعلم بكيفيتها. وعلى هذا فلا يحل لأحد أن يقف على قبر النبي ﷺ فيقول: يا رسول الله اشفع لي، يا رسول الله استغفر لي؛ لأن هذا غير ممكن، فالنبي ﷺ لا يمكن أن يستغفر لأحد بعد موته، ولا يمكن أن يشفع لأحد إلا بإذن الله، وإذا أردت أن تسأل سؤالًا صحيحًا فقل: اللهم ارزقني شفاعة نبيك، اللهم شفعه فيَّ، وما أشبه ذلك. ***
يقول السائل: يقول الرسول ﷺ: إن أعمال العباد تعرض عليه وهو في قبره. هل هذا حديث صحيح؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم، فإن الرسول ﵊ تعرض عليه، الصلاة عليه، يعني: إذا صلىنا على النبي ﷺ فإنها تعرض عليه وتبلغه أينما كنا، أما سائر أعمالنا فلا يحضرني الآن هل هو صحيح أو غير صحيح. ***
يقول السائل: إذا قام شخص بقراءة القرآن، أو وضع قدميه وهو متجه إلى بيت الرسول ﷺ، هل عليه إثم في ذلك؟ الشيخ: ليس عليه إثم في ذلك، فإن مد الرجلين إلى اتجاه قبر النبي ﷺ لا حرج فيه، ولا يحتاج أن أقول: بشرط أن لا يكون مستهينًا برسول الله ﷺ أو محتقرًا له؛ لأن هذا لا يمكن أن يقع من مسلم، فمد الرجلين إلى نحو قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا بأس به، وهذا يقع كثيرًا، كالذين يكونون في الصف الأول في المسجد النبوي فإنهم يستندون إلى الجدار القبلي، وحينئذ تكون أرجلهم إن مدوها ممدودة نحو القبر. ***
هذه رسالة من إبراهيم بن عبد الله من بني مالك يقول: أسأل عن النبي ﷺ هل كان يقرأ أم كان أميًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: النبي ﷺ كان أميًا؛ لقول الله تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ) . ولقوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) . فهو ﵊ كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب، فلما نزل عليه القرآن صار يقرأ، ولكن هل كان يكتب؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال: إن النبي ﷺ بعد أن أنزل عليه الوحي صار يقرأ ويكتب؛ لأن الله إنما قيد انتفاء الكتابة قبل نزول القرآن: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) . وأما بعد ذلك فقد كان يكتب، ومن العلماء من قال: إنه لم يزل ﵊ غير كاتب حتى توفاه الله. ***
هل هناك فرق بين المعجزات وآيات الأنبياء؟ فأجاب رحمه الله تعالى: آيات الأنبياء هي المعجزات، وسماها بعض المتأخرين معجزات، والصواب أنها آيات؛ لأنها جمعت بين أمرين: بين كون البشر لا يستطيعون مثلها وهذا إعجاز؛ وكونها دليلًا على نبوة هذا النبي ورسالته، وهذه آية علامة، ولهذا ينبغي أن نسمي ما تأتي به الأنبياء من المعجزات نسميها آيات كما سماها الله تعالى في كتابه. هناك معجزات وليست بآيات، لكنها من الشياطين: فالساحر ربما يُرى طائرًا في الجو، وهذا معجز لا يستطيع البشر أن يفعلوه، لكنه من فعل الشياطين. وهناك كرامات يكرم الله بها من شاء من عباده الأولياء والصالحين، تكون معجزة لكنها آية على صحة ما كان عليه هذا الولي، وعلى صحة الشريعة التي كان يعمل بها، ولهذا نقول: كل كرامة لولي فهي آية للنبي الذي يتبعه هذا الولي؛ لأنها شاهد من الله على صدقه. وكرامات الأولياء موجودة في الأمم السابقة وفي هذه الأمة، ولا تزال فيها إلى يوم القيامة: في الأمم السابقة أصحاب الكهف، اعتزلوا قومهم المشركين وأووا إلى الغار، فهيأ الله لهم غارًا، وألقى عليهم النوم ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعًا، وفي هذه المدة لم يتغير منهم شيء، لم يحتاجوا لطعام ولا لشراب ولا لبول ولا لغائط، ولم تَنمُ أظفارهم ولا شعورهم، كأنما ناموا يومًا واحدًا، ولهذا لما بعثهم الله ﷿ وأيقظهم (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) . مما يدل على أنهم لم يصبهم شيء من العوارض البشرية، لا جوع ولا عطش ولا بول ولا غائط، ولا نمو شعور ولا أظفار، حتى صلحت أحوال القرية وماتت سلاطينهم التي تعينهم على الشرك. مريم ﵂ أجاءها المخاض إلى جذع النخلة فقيل لها: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) . امرأة لتوها ولدت، وما أعلمك بالتعب عند الولادة، أمرت أن تهز جذع النخلة جذع النخلة، لو هزه أي إنسان ما يهز علوه، لكن هي قيل لها: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) ففعلت (تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) تسقط الرطب من فوق إلى الأرض ولا تفسد، مع أنها رطب لينة اصطدامها على الأرض يوجب أن تتقطع، لكن تبقى كأنها مجنية، كأن رجلًا خرقها (تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا) . هذه من الكرامات التي أكرم الله بها من شاء من عباده، في هذه الأمة موجودة: كان سارية بن زنيد أميرًا على سرية في العراق، وكان عمر ﵁ يخطب الناس يوم الجمعة، فسمعوه يقول: يا سارية الجبل! يا سارية الجبل! أمير المؤمنين يخطب ثم يقول هذا الكلام، ما هذا؟ فأخبرهم أنه كشف له عن هذا في سريته والعدو محيط به، فناداه عمر: يا سارية الجبل! يعني: ارجع إلى الجبل، فسمع سارية، فهذه ثلاثة أشياء: كشف لعمر فشاهدهم، ناداهم فسمعوه، لجؤوا إلى الجبل بقيادة السلطان وهو على منبر، سبحان الله! كرامة من الله ﷿. ولهذا كان من مذهب أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء، ولكن الولي من هو؟ هل كل من ادعى الولاية هو ولي؟ ليس كل من ادعى الولاية هو وليًا، قال الله ﷿: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (يونس:٦٢- ٦٣) . اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين. ***
ع م م س يقول: هل لكم فضيلة الشيخ أن تذكروا لنا- ولو بشيء من الإيجاز- معجزات الرسول ﷺ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: معجزات النبي ﷺ وهي الآيات الدالة على رسالته ﷺ، وأنه رسول الله حقًا- كثيرة جدًا، وأعظم آية جاء بها هذا القرآن الكريم، كما قال الله تعالى: (وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) . فالقرآن الكريم أعظم آية جاء بها رسول الله ﷺ، وأنفع آية لمن تدبرها واهتدى بها، فإنها آية باقية إلى يوم القيامة، أما الآيات الأخرى الحسية التي مضت وانقضت فهي كثيرة، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ جملة صالحة منها في آخر كتابه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، هذا الكتاب الذي ينبغي لكل طالب علم أن يقرأه؛ لأنه بين فيه عوار النصارى الذين بدلوا دين المسيح ﵊ وخطأهم، أي: بين خطأهم وخطلهم وضلالهم، وأنهم ليسوا على شيء مما كانوا عليه فيما حرفوه وبدلوه وغيروه، والكتاب مطبوع وبإمكان كل إنسان أن يحصل عليه، وفيه فوائد عظيمة، منها ما أشرت إليه: بيان شيء كثير من آيات النبي ﷺ. وكذلك ابن كثير ﵀ في البداية والنهاية، ذكر كثيرًا من آيات النبي ﷺ، فمن أحب فليرجع إليه. ***
إبراهيم محمد من السودان الفاشر يقول: أحاط المسلمون بسيرة المصطفى ﷺ في بعض الخوارق والمعجزات، أسأل وأقول: ما مدى صحة هذه المعجزات؟ وهل وردت في أحاديث كثيرة؟ ثم ألا ترون أن هذه المعجزات تنزهه عن آدميته؟ نرجو منكم إفادة بارك الله فيكم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: المعجزة عند أهل العلم هي أمر خارق للعادة، يظهره الله ﷾ على يد الرسول تأييدًا له، وقد سماها أكثر أهل العلم بالمعجزات، والأولى أن تسمى بالآيات التي هي العلامات على صدق الرسول وصحة ما جاء به، كما سماها الله ﷿ بذلك، وهي أبين وأظهر من المعجزات، أي: من هذا اللفظ، فالأولى أن تسمى معجزات الأنبياء بآيات الأنبياء. والآيات التي جاء بها النبي ﷺ آيات كثيرة: حسية ومعنوية، أرضية وأفقية، أخلاقية وعملية، فهي متنوعة، وأعظمها وأبينها كتاب الله ﷿، كما قال الله تعالى: (وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) . ومن آيات الرسول ﵊ الأفقية أن رجلًا دخل يوم الجمعة والنبي ﷺ يخطب، فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. فرفع النبي ﷺ يديه وقال: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا) . قال أنس وهو راوي الحديث: وما والله في السماء من سحاب ولا قزعة- أي: قطعة غيم- وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، وسلع جبل معروف في المدينة تخرج من نحوه السحب. قال أنس: فخرجت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ورعدت وبرقت ثم أمطرت، فما نزل النبي ﷺ من منبره إلا والمطر يتحادر من لحيته، وبقي المطر ينزل أسبوعًا كاملًا. َ وفي الجمعة الثانية دخل رجل أو الرجل الأول فقال: يا رسول الله! غرق المال، وتهدم البناء، فادع الله أن يمسكها عنا. (فرفع النبي ﷺ يديه وقال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر) . وجعل يشير ﷺ إلى النواحي، فما أشار إلى ناحية إلا انفرجت، فخرج الناس يمشون في الشمس. ومن أراد المزيد من ذلك فليرجع إلى ما كتبه الحافظ ابن كثير ﵀ في كتاب البداية والنهاية، وإلى ما ذكره من قبله شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، وكتب غيرهما كثير من أهل العلم في هذه الناحية. وآيات الأنبياء فيها ثلاث فوائد: الأولى: الدلالة على ما تقتضيه صفات الله ﷿ من القدرة والحكمة والرحمة وغير ذلك. الثانية: تأييد الرسل عليهم الصلاة والسلام، وبيان أنهم صادقون فيما جاؤوا به. والثالثة: رحمة الخلق، فإن الخلق لو لم يشاهدوا هذه الآيات من الأنبياء لأنكروا وكذبوا، فتأتي هذه الآيات ليزدادوا طمأنينة، ويقبلوا ما جاءت به الرسل، ويذعنوا وينقادوا له، والله عليم حكيم. وأما قول السائل: أفلا تكون هذه الآيات مجردة له عن الأحوال البشرية؟ فإننا نقول له: لا، هذه الآيات لا تخرجه عن كونه بشرًا، ولهذا لما سها النبي ﷺ في صلاته قال لهم: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون) . فبين النبي ﷺ أنه بشر، وأنه يلحقه ما يلحق البشر من النسيان وغير النسيان أيضًا، إلا أنه ﷺ تميز عن البشر بالوحي الذي أوحاه الله إليه، وبما جبله عليه الله تعالى من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، من الصبر والكرم والجود والشجاعة وغير ذلك مما كان به أهلًا للرسالة، والله أعلم حيث يجعل رسالته. وليُعلم أن الرسول ﷺ لا يعلم الغيب، ولايملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، ولا يملك ذلك لغيره أيضًا، فقد قال الله له: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إليَّ) . وقال الله له: (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ) . وبهذا يتبين أن من دعا الرسول ﷺ واستنجد به بعد وفاته واستغاث به فإنه على ضلال مبين، قد صرف الأمر إلى غير أهله، فإن الأهل بذلك- أي: بالدعاء والاستغاثة- هو رب العالمين ﷿، قال الله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) . وقال تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) . وقال تعالى: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) . فيا أخي المسلم لا تدع غير الله، فما بك من نعمة فمن الله ﷿، وإذا مسك الضر فلا تلجأ إلا الله ﷿: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) . لا والله، لا إله إلا الله الذي يكشف السوء ويجيب المضطر إذا دعاه ويجعل من شاء من عباده خلفاء الأرض، فاتق الله في نفسك، وضع الحق في نصابه، ولا تغل في دينك غير الحق فتكون مشابهًا لأهل الكتاب من اليهود والنصارى. ***
ما الرد على من قال: هل كان سلام الرسول ﷺ ليلة المعراج على الأنبياء وردهم عليه كان بالروح، أم بالجسد، أم بهما معًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: السؤال لا ينبغي أن يصاغ على هذه الصفة، بل يقال: هل العروج بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والإسراء به إلى بيت المقدس، هل هو بروحه، أو بروحه وجسده؟ والجواب: أنه بروحه وجسده، أسري به ﵊ يقظة لا منامًا بروحه وجسده؛ لأن الله تعالى قال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا) ولم يقل: بروح عبده وقال الله ﷾ في سورة النجم: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (٦) وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى (٧) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (٨) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (٩) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) إلى آخر الآيات، كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عرج به ببدنه يقظان وليس بنائم. ويدل لذلك من الواقع أن قريشًا لما أخبرهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما رأى في تلك الليلة صاحوا عليه وكذبوه، وأنكروا ذلك غاية الإنكار، ولو كانت بروحه أو رؤيا رآها لما أنكروا هذا عليه؛ لأن العرب لا ينكرون المرائي، والإنسان يرى في منامه أنه سافر إلى أبعد مكان، وأنه فعل وفعل وفعل، مع أنه لو كان يقظان ما حصل له ذلك. فالحاصل أن القول الراجح بل المتعين أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أسري به بروحه وجسده، يقظان وليس بنائم. ***
أسأل عن الإسراء والمعراج بمحمد ﷺ، هل صعد إلى سدرة المنتهى بروحه وجسده أم روحه فقط؟ أفتونا جزاكم الله خيرًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: المعراج الذي حصل للرسول ﷺ كان بجسده وروحه، قال الله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى) . وقال تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (٦) وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى (٧) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (٨) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (٩) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) . والعبد- وكذلك الصاحب- لا يكون إلا في الروح والجسد، فالنبي ﷺ أسري به بجسده وروحه، وعرج به إلى السماوات حتى بلغ مستوى بجسده وروحه ﷺ، ولو كان ذلك بروحه فقط ما أنكرت قريش ذلك، إذ إن المنامات يقع منها شيء كثير من جنس هذا، ولكنه كان ﷺ قد أسري به بجسده وروحه، وعرج به إلى السماوات كذلك. ***
السائل ع م د ومقيم بالمملكة يقول: نرجو من فضيلة الشيخ إلقاء الضوء على العبر والمواعظ من الإسراء والمعراج والمشاهد التي رآها الرسول ﷺ التي تؤثر في القلوب الغافلة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أحيل السائل إلى ما كتبه أهل العلم في ذلك؛ لأن حديث المعراج حديث طويل يحتاج إلى مجالس، ولكن ليرجع إلى ما كتبه ابن كثير ﵀ في كتاب البداية والنهاية في قصة المعراج، وما كتبه العلماء في الحديث على ذلك: كفتح الباري، وشرح النووي على صحيح مسلم، وغيرهما من الكتب، إنما نشير إشارة موجزة لقصة المعراج: فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أسرى به الله تعالى ليلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، كان نائمًا في الحجر فأسري به من هناك، والحجر هو الجزء المقتطع من الكعبة والمقوس عليه بالجدار المعروف، أسري به من هناك ﵊ إلى بيت المقدس، وجمع له الأنبياء، وصلى بهم إمامًا، ثم عرج به جبريل إلى السماء الدنيا فاستفتح ففتح له، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة. وجد في الأولى آدم، ووجد في السابعة إبراهيم ﵊، ووصل إلى موضع لم يصله أحد من البشر، وصل إلى موضع سمع فيه صريف الأقلام التي يكتب بها القدر اليومي، إلى سدرة المنتهى، ورأى من آيات الله ﷾ ما لو رآه أحد سواه لزاغ بصره ولخبل عقله، لكن الله ﷾ ثبت هذا النبي الكريم ﵊ حتى رأى من آيات ربه الكبرى. وفرض الله عليه الصلوات خمسين صلاة في كل يوم وليلة، وقيض الله موسى ﵊ حين مر به رسول الله ﷺ أن يسأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ماذا فرض الله عليه وعلى أمته؟ فأخبره بأن الله تعالى فرض عليه خمسين صلاة في كل يوم. وليلة فقال له: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. فما زال نبينا صلوات الله وسلامه عليه يراجع الله، حتى استقرت الفريضة خمس صلوات في كل يوم وليلة بدل خمسين صلاة، لكنها بنعمة الله وفضله كانت خمس صلوات بالفعل وخمسين في الميزان، أي: إذا صلىنا خمس صلوات فكأننا صلىنا خمسين صلاة، والحمد لله رب العالمين وفي قصة فرض الصلوات في هذه الليلة التي هي أعظم ليلة في حق الرسول ﵊، وأنها خمسون صلاة، وأنها فرضت من الله إلى رسوله بدون واسطة، في هذا دليل على عناية الله تعالى بهذه الصلوات ومحبته لها، وأنها أعظم الأعمال البدنية في الإسلام، ولهذا كان تاركها كافرًا مرتدًّا خارجًا عن الإسلام. وقد اختلف الناس في ليلة المعراج والإسراء: هل هما في ليلة واحدة، أو في ليلتين؟ وهل كان الإسراء بروحه، أو بدنه وروحه؟ والصواب أنهما في ليلة واحدة، وأنه أسري بالرسول ﷺ بروحه. وبدنه ثم انقسم الناس في ليلة المعراج: في أي ليلة هي؟ وفي أي شهر هي؟ وأقرب الأقوال أنها كانت قبل الهجرة بثلاث سنوات، وأنها كانت في ربيع الأول، وليست في رجب. ثم ابتدع الناس في هذه الليلة بدعًا لم تكن معروفة عند السلف، فصاروا يقيمون ليلة السابع والعشرين من رجب احتفالًا بهذه المناسبة، ولكن لم يصح أنها- أعني: ليلة الإسراء والمعراج- كانت في رجب، ولا أنها في ليلة سبع وعشرين منه، فهذه البدعة صارت خطأً على خطأ: خطأً من الناحية التاريخية؛ لأنها لم تصح أنها في سبع وعشرين من رجب، وخطأ من الناحية الدينية؛ لأنها بدعة، فإن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يحتفل بها، ولا الخلفاء الراشدون، ولا الصحابة، ولا أئمة المسلمين من بعدهم. ***
الأيمان باليوم الآخر
هذا المستمع يقول: ما هو أثر الإيمان باليوم الآخر على عقيدة المسلم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإيمان باليوم الآخر هو أحد أركان الإيمان الستة التي أجاب بها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جبريل حين سأله عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر) . وأثر الإيمان على قلب المؤمن وعمله كبير: فإن الإنسان إذا آمن باليوم الآخر عمل له، والعمل لليوم الآخر هو فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهى الله عنه ورسوله، وإذا فقد الإيمان باليوم الآخر فلا إيمان؛ لأنه أحد أركان الإيمان، ففي فقده فقد ركن من أركان الإيمان، والإيمان لا يتبعض في أركانه، لا بد أن يؤمن الإنسان بجميع أركان الإيمان، وإلا فلا إيمان له. فأثر الإيمان باليوم الآخر عظيمٌ جدًا، ولهذا يقرنه الله ﵎ بالإيمان به في مواضع كثيرة من القرآن؛ لأن الإيمان به هو الذي يحمل الإنسان على العمل، وقد قال الله تعالى مبينًا أن جحده كفر: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ) . فأمر الله نبيه أن يقسم على البعث، وبين ﵎ أن ذلك يسيرٌ عليه فقال: (وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) . وقال ﷿: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) . ***
المستمع من مصر سيد عباس يقول: ما هي العلامات الصغرى المتبقية فضيلة الشيخ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الظاهر أنه يريد علامات الساعة، وفيها ما وقع وفيها ما هو مستقبل. ومن علامات الساعة التي وقعت بعثة النبي ﷺ، وكونه خاتم النبيين؛ لأن كونه خاتم النبيين يؤذن بقرب انتهاء الدنيا، والأمر كذلك، فإن الرسول ﷺ خطب الناس ذات يوم في آخر النهار وقال: (إنه لم يبق من الدنيا إلا مثل ما بقي من يومكم هذا) وكانت الشمس على رؤوس النخل، أي: قريبة من الغروب. ومنها ما أشار إليه النبي عليه الصلاة السلام حين سأله جبريل قال له: متى الساعة؟ قال: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) . قال له جبريل: أخبرني عن أماراتها؟ قال النبي ﷺ: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) . ومنها انتشار الربا، وقد وقع وانتشر الربا كثيرًا بين الأمة الإسلامية. ومنها فساد أحوال الناس، فإن كثيرًا من بلاد المسلمين فيها شر كثير ومعاص معلنة، نسأل الله العافية والسلامة. وقد صنف العلماء ﵏ في ذلك كتبًا مستقلة أحيانًا، وفي ضمن كتاب يشتمل عليها وعلى غيرها أحيانًا أخرى، فنرشد السائل إلى مراجعتها. ***
تقول السائلة: ما صحة القول بأن أول علامات الساعة الكبرى هي طلوع الشمس من مغربها؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا ليس بصحيح، طلوع الشمس من مغربها متأخر؛ لأن الدجال ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى كلها قبل طلوع الشمس من مغربها. ***
يقول السائل: أقرأ هذا الدعاء في كل صلاةٍ قبل السلام، وهو: اللهم إنا نعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال. أريد أن أعرف: من هو المسيح الدجال؟ وما هي فتنته؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الدعاء الذي أنت تدعو به في صلاتك بقي عليك شيء، وهو أنك تستعيذ من أربع، كما أمر بذلك النبي ﷺ: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) . هذه الأربع أمر النبي ﷺ بالاستعاذة منها بعد التشهد وقبل السلام. أما المسيح الدجال: فإنه رجل يخرج في آخر الزمان يَدَّعي الربوبية، ويعطيه الله ﵎ من الآيات ما يكون سببًا للفتنة؛ امتحانًا من الله تعالى واختبارًا،هذا الرجل رجلٌ أعور، ولهذا سُمي المسيح لمسح إحدى عينيه، وهو معه جنةٌ ونار، فمن أطاعه أدخله الجنة، ولكنه لا يجد جنةً وإنما يجد نارًا، ومن عصاه أدخله النار التي معه، ولكنه لا يجدها نارًا وإنما يجدها ماءً عذبًا طيبًا، أو جنة كما ورد في بعض ألفاظ الحديث. ويمكث في الأرض أربعين يومًا: اليوم الأول بمقدار سنة، والثاني بمقدار شهر، والثالث بمقدار أسبوع، وبقية الأيام كأيامنا، وقد سأل الصحابة ﵃ رسول الله ﷺ عن هذا اليوم الذي كسنة: هل تكفي فيه صلاة يوم واحد؟ فقال رسول الله ﷺ: (لا اقدروا له قدره) . أي: إن هذا اليوم الأول من أيام الدجال يُصلى فيه صلاة سنةٍ كاملة؛ لأنه عن سنةٍ كاملة، واليوم الثاني يصلى فيه صلاة شهر، واليوم الثالث يُصلى فيه صلاة أسبوع، وبقية الأيام تصلى في كل يوم خمس صلوات. ثم إن هذا الدجال مع ما يحصل من فتنته العظيمة يوفق الله ﷾ المؤمنين فيعرفونه بعلامته، فإنه مكتوبٌ بين عينيه: كافر، كاف وفاء وراء يقرؤها كل مؤمن الكاتب وغير الكاتب، ويعمى عنها من ليس بمؤمن ولو كان قارئًا. ثم إنه أيضًا يُؤتى إليه برجل ليفتتن به، فيقول هذا الرجل: أشهد أنك الدجال الذي أخبرنا عنه رسول الله ﷺ، فيقطعه الدجال قطعتين ثم يمشي بينهما، ثم يقف فيدعوه، يدعو هذا الرجل المقتول المفرق قطعتين، فيقوم هذا الرجل حيًا والناس ينظرون إليه، فيقول له: أتشهد أني الله؟ فيقول: أشهد أنك الدجال الذي أخبرنا عنه رسول الله ﷺ. فيقطعه مرةً أخرى ثم يعود فيدعوه، فيقوم ويقول: أشهد أنك أنت الدجال الذي أخبرنا عنه رسول الله ﷺ. فيريد أن يقتله كما قتله المرتين الأوليين، ولكنه يعجز عنه، فيأخذ به ويلقيه في النار، ولكنه كما أسلفنا النار التي معه جنةٌ وماءٌ عذب، كما جاء به الحديث عن رسول الله ﷺ. ونهاية هذا الدجال أن عيسى بن مريم ﵊ ينزل من السماء؛ لأن عيسى بن مريم قد رفعه الله تعالى إلى السماء حيًا لم يمت، ثم ينزل في آخر الزمان فيقتل هذا المسيح الدجال وتنتهي فتنته. ***
يقول السائل: قرأت في بعض الكتب عن الدجال، هل هو ابن صياد أم لا؟ فما هو الحق في ذلك؟ وكذلك في صحيح مسلم أن الرسول ﷺ رأى رجلًا يطوف بالبيت وفيه صفات الدجال، فلما سأل عنه قيل: هذا هو الدجال، مع أن الدجال لا يدخل مكة والمدينة. نرجو الإفادة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الصحيح أن ابن صياد ليس هو الدجال الذي يبعث في آخر الزمان، وإنما هو دجال من الدجاجلة، يشبه الكهان في تخرصه وتخمينه، ولكنه ليس هو الدجال الذي يبعث يوم تقوم الساعة، فيقتله عيسى بن مريم ﵊. وأما رؤية النبي صلى عليه وسلم من قيل له: إنه هو الدجال يطوف بالبيت، فإن الممتنع إنما هو دخوله في اليقظة، فإنه لا يدخل- أعني: الدجال الذي سيبعث في آخر الزمان، لا يدخل- مكة ولا المدينة وهذا في اليقظة، والأحكام الشرعية تختلف في اليقظة وفي المنام. ***
يقول السائل: من هم يأجوج ومأجوج الذين ذكروا في القرآن؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يأجوج ومأجوج قبيلتان عظيمتان كبيرتان من بني آدم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث الصحيح: (إنه إذا كان يوم القيامة ينادي الله ﷾: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك! فيقول الله تعالى: أخرج من ذريتك بعثًا إلى النار. فيقول: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألفٍ تسعمائة وتسعةٌ وتسعون. يعني: هؤلاء كلهم في النار من بني آدم، وواحد في الجنة. فعظم ذلك على الصحابة فقالوا: يا رسول الله! أينا ذلك الواحد؟ فقال ﷺ: أبشروا! فإنكم في أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج، منكم واحد ومنهم تسعمائة وتسعةٌ وتسعون) . فهما قبيلتان عظيمتان، لكنهما من أهل الشر والفساد، والدليل على ذلك أمران: أمرٌ سابق، وأمرٌ منتظر. فأما الأمر السابق: فما حكاه الله ﷾ عن ذي القرنين أنه لما بلغ السدين (وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (٩٣) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤» إلى آخر ما ذكر الله ﷿. والشاهد من هذا قولهم: (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ)، وطلبوا من ذي القرنين أن يجعل بينهم وبينهم سدًّا. وأما الشر والفساد المنتظر: فهو ما جاء في حديث النواس بن سمعان الطويل (أن الله ﷾ يوحي إلى عيسى أنه أخرج عبادًا لله لا يدان لأحدٍ بقتالهم، وأنهم يعيثون في الأرض فسادًا، وأنهم يحصرون عيسى ومن معه في الطور) . وهذا هو الفساد المرتقب منهم، فسيخرجون في آخر الزمان من كل حدبٍ ينسلون، ويعيثون في الأرض فسادًا، حتى يدعو عيسى بن مريم ربه عليهم، فيصبحون موتى كنفسٍ واحدة. هؤلاء هم يأجوج ومأجوج، وأما ما يذكر في الإسرائيليات من أن بعضهم طويلٌ طولًا مفرطًا، وأن بعضهم قصيرٌ قصرًا مفرطًا، وأن بعضهم لديه آذانٌ يفترش إحدى الأذنين ويلتحف بالأخرى، وما أشبه ذلك: فإن كل هذا لا صحة له، بل الصحيح الذي لا شك فيه أنهم كغيرهم من بني آدم، أجسادهم وما يحسون به وما يشعرون به، فهم بشر كسائر البشر، لكنهم أهل شرٍ وفساد. ***
ما المقصود بيأجوج ومأجوج؟ وماذا تعرفون عنهم، كما ورد ذكرهما في القرآن الكريم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: المقصود بيأجوج ومأجوج أنهما قبيلتان من بني آدم، كما جاء في ذلك الحديث عن النبي ﷺ. وما ورد في بعض الكتب من أن منهم القصير جدًا والصغير، ومنهم الكبير، ومنهم الذي يفترش أذنًا من أذنيه ويلتحف بالأخرى، وما أشبه ذلك: فكل هذه لا أصل لها، وإنما هم من بني آدم وعلى طبيعة بني آدم، لكنهم كانوا في وقت ذي القرنين، كانوا قومًا مفسدين في الأرض، فطلب جيرانهم من ذي القرنين أن يجعل بينهم وبينهم سدًا، حتى يمنعهم من الوصول إليهم وإفسادهم في أرضهم، وفعل ذلك وقال: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) (الكهف:٩٦) ففعلوا، فما استطاعوا أن يظهرو وما استطاعوا له نقبًا، فكفى الله جيرانهم شرهم. ثم إنهم في آخر الزمان، وبعد نزول عيسى ﵊ يخرجون على الناس ويبعثون؛يبعثون بمعنى أنهم يخرجون وينتشرون في الأرض، ويحصرون عيسى بن مريم والمؤمنين معه في جبل الطور، ثم يلقي الله ﵎ في رقابهم دودةً تأكل رقابهم، فيصبحون فرسى- يعني: جمع فريسة، يعني: موتى- كلهم ميتة رجلٍ واحد، ويقي الله ﷾ عيسى وأصحابه شرهم. ***
السائل ش م م من العراق محافظة صلاح الدين يقول: يقول الله ﷿ في سورة الكهف: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) . فمن هم يأجوج ومأجوج؟ وأين يوجدون؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يأجوج ومأجوج ذكرهم الله ﷾ في القرآن الكريم في قوله: (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) . وفي قوله تعالى: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) (الكهف:٩٤) . وهاتان قبيلتان من بني آدم، كما ثبت به الحديث الصحيح عن النبي ﷺ: (أن الله يقول يوم القيامة: يا آدم! فيقول لبيك وسعديك! فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار. فقال: يا ربي وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون. فشق ذلك على الصحابة وقالوا: يا رسول الله! أينا ذلك الواحد؟ يعنون: الذي ينجو من النار. فقال رسول الله ﷺ: أبشروا! فإنكم في أمتين- أو قال: بين أمتين- ما كانتا في شيء إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج) . وهذا دليل واضح على أنهما قبيلتان من بني آدم، وهو كذلك، وهم موجودون الآن، وظاهر الآية الكريمة أنهم في شرق آسيا؛ لأن الله قال: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) . فظاهر سياق الآيات الكريمات أنهم كانوا في الشرق، ولكن هاتان الأمتان سيكون آخر الزمان لهم دور كبير في الخروج عن الناس؛ لما جاء في حديث النواس بن سمعان الذي رواه مسلم في صحيحه: (أن الله تعالى يوحي إلى عيسى أني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم: يأجوج ومأجوج، فحرِّر عبادي إلى الطور) . فخروجهم الكبير المنتشر الذي يظهر به فسادهم أكثر مما هم عليه الآن سيكون في آخر الزمان، وذلك في وقت نزول عيسى بن مريم ﵊. ***
يقول السائل: كثيرًا ما نسمع أن الساعة لا تقوم حتى يعم الإسلام الأرض، ونسمع من جهةٍ ثانية أنها لا تقوم ويبقى من يقول: لا إله إلا الله في الأرض، فكيف نوفق بين هذين القولين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: التوفيق بينهما سهل، وهو: أن كل واحدٍ منهما في زمنٍ غير زمن الآخر، فالإسلام يعم الأرض كلها، ثم بعد ذلك يندثر هذا الإسلام ويموت المؤمنون، ولا يبقى إلا شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة. ***
ما مدى صحة ما يقال بأن من يموت في رمضان أو يوم الجمعة لا يعذب عذاب القبر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: عذاب القبر ثابت لكل من يستحقه، سواء مات في يوم الجمعة أو في رمضان أو في أي وقت آخر، ولهذا كان المسلمون يقولون في صلاتهم، في كل صلاة من صلواتهم في التشهد الأخير: أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال. إلا أن من مات مجاهدًا في سبيل الله فإنه لا يأتيه الملكان اللذان يسألانه عن دينه وربه ونبيه؛ لأن بارقة السيوف على رأسه أكبر امتحان له واختبار، وأكبر دليل على أنه مؤمن، وإلا لما عرض رقبته لأعداء الله. ***
المستمع عدنان من المملكة الأردنية الهاشمية يقول: هل الميت يبصر؟ وما مدى بصيرته؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الميت لا يبصر البصر المعروف في الدنيا؛ لأنه قد فقد الإحساس بموته، لكنه يبصر ما يراه في قبره من عالم الآخرة، ويفسح له في قبره مد البصر إن كان مؤمنًا، ويرى الملكين يسألانه عن ربه ودينه ونبيه. وأما ما يتعلق بأمور الدنيا فإنه لا يبصره؛ لأنه قد حجب عن أمور الدنيا بموته. ***
إذا توفي الإنسان هل يذهب إلى الجنة أو إلى النار بعد وفاته، أو يبقى في القبر إلى يوم القيامة؟ نرجو توضيح ذلك مع إضافة بعض المعلومات عن ذلك وشكرًا لكم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما جسم الميت فإنه يبقى في الأرض في المكان الذي دفن فيه إلى يوم القيامة، قال الله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ) . وقال تعالى: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) . فهو باقٍ في الأرض. وأما روحه فإنها تكون في الجنة أو تكون في النار، قال الله ﵎: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) . فبين أن هذا القول يكون عند الوفاة، فمعنى ذلك أنهم يدخلون الجنة يوم وفاتهم، وهذا لا يكون إلا للروح، لا يكون للبدن. وقد ثبت عن النبي ﷺ (أن الميت في قبره إذا كان مؤمنًا يفتح له بابٌ إلى الجنة، ويأتيه من روحها ونعيمها) . وأما الكافر فإن روحه أيضًا يذهب بها إلى العذاب، قال الله تعالى عن آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) . وفيها قراءة (وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة ادخُلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) . وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً) . وقال تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) . فهذا دليل على أن الميت المؤمن يلقى جزاءه في الجنة من يوم موته، والكافر يلقى عذابه في النار من يوم موته، وهذا بالنسبة للروح، أما البدن فإنه يبقى في الأرض إلى يوم القيامة، وقد تتصل الروح به معذبةً أو منعمة، كما تدل على ذلك الأحاديث. ***
بارك الله فيكم فضيلة الشيخ هل الميت يسمع السلام والكلام ويشعر بما يفعل لديه أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذه مسألة اختلف فيها أهل العلم، والسنة فيها قد بينت بعض الأشياء: فقد صح عن النبي ﵊ (أن الرجل إذا دفن في قبره وانصرف الناس عنه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان) فامتحناه. فأثبت النبي ﵊ أنه يسمع قرع النعال، وأخبر النبي ﷺ أنه (ما من رجلٍ مسلم يمر بقبر رجلٍ مسلم فيسلم عليه وهو يعرفه في الدنيا إلا رد الله عليه روحه فرد ﵇ . وهذا الحديث صححه ابن عبد البر، وذكره ابن القيم في كتاب الروح ولم يعقب عليه. وربما يؤيد هذا أن الرسول ﵊ كان إذا خرج إلى المقابر قال: (السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين) . فإنه قد يشعر بأنهم يسمعون ذلك ويردون، من أجل أنه وجه هذا الدعاء إليهم بالخطاب. وعلى كل تقدير مهما قلنا بأن الميت يسمع فإن الميت لا يسمع غيره ولو سمعه، يعني: أنه لا يمكن أن ينفعك الميت إذا دعوت الله عند قبره، كما لا ينفعك إذا دعوته نفسه، ودعاؤك الله عند قبره معتقدًا أن في ذلك مزية بدعةٌ من البدع، ودعاؤك إياه شركٌ أكبر مخرجٌ عن الملة. فإن قال قائل: إن بعض الذين يدعون الأموات قد ينتفعون بدعائهم؟ فالجواب على ذلك: أن هذا الانتفاع لم يكن بدعائهم الميت، لكن كان عند دعائهم الميت، وفرق بين حصول الانتفاع بدعاء الميت وحصول الانتفاع عند دعاء الميت؛ لأنك إذا قلت: حصل الانتفاع بدعاء الميت كان دعاء الميت هو السبب في ذلك الانتفاع، وإذا قلت: عنده لم يكن هو السبب ولكن كان قريبًا منه في الوقت. فنحن نقول: إن الله قد يبتلي الإنسان الذي يدعو أصحاب القبور بحصول ما يدعو به عند دعائه امتحانًا له واختبارًا له، وإلا فنحن نعلم أن كل من دعا غير الله فإنه من أضل الناس، بل قد قال الله تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (٥) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) . ولا عجب أن يبتلي الله الإنسان بمثل هذه البلوى، فهاهم أصحاب السبت، قومٌ من بني إسرائيل من اليهود كانوا في قريةٍ على شاطئ البحر، وكان عمل صيد الحوت محرمًا عليهم يوم السبت، فابتلاهم الله ﷿، فكانت الحيتان تأتي يوم السبت شرعًا على سطح الماء كثيرة، وفي غير يوم السبت لا تأتي الحيتان، فطال عليهم الأمد وقالوا: كيف نحرم من هذه الحيتان؟ وما الحيلة في الحصول عليها؟ فزين لهم الشيطان حيلةً بأن يضعوا شبكًا يوم الجمعة في الماء، فإذا أتت الحيتان يوم السبت وقعت في هذا الشبك ولم تستطع الخروج منه، فإذا كان يوم الأحد جاؤوا فأخذوها، تحيلوا على محارم الله بأدنى الحيل، فماذا كانت النتيجة؟ قال الله تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) فقلب الله هؤلاء القوم قردةً خاسئة ذليلة. والمهم من سياق هذه القصة أن الإنسان قد يبتلى بما يكون فتنةً له في دينه إن اتبعه، فهؤلاء الذين يدعون الأموات ربما يفتنون فيحصل لهم المطلوب عند دعائهم الأموات فتنةً لهم، وإلا فنحن نعلم علم اليقين أن الأموات لا ينفعون أحدًا مهما كان الأمر، لو دعاهم بالليل والنهار ما نفعوه، كيف وهم أمواتٌ جثث هامدة؟ ولكن من لم يجعل الله له نورًا فما له من نور. ***
مستمعة من العراق محافظة التأمين أشواق إلياس سليمان تقول: لقد ذكر الله جل شأنه في كتابه العزيز أن أصحاب الكهف ناموا أكثر من ثلاثمائة سنة، وأن العزير أماته الله ﷾ مائة، ثم بعثهم وبعثه، وقد علمنا من شأنهم بقية القصة. السؤال: هل الموتى لا يحسون بمدة موتهم إلى أن يحييهم الله يوم القيامة؟ وضحوا لنا ذلك جزاكم الله خيرًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أولًا هي ذكرت قصتين قصة أصحاب الكهف، وقصة الرجل الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، ولم يثبت عن النبي ﷺ أنه كان عزيرًا، فهو رجلٌ حصلت له هذه القصة. والعبرة لما في القصة من آيات الله ﷿: أما أصحاب الكهف فإنهم لم يموتوا ولكنهم ناموا، ألقى الله عليهم النوم هذه المدة الطويلة التي قال الله عنها: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) . ولما استيقظوا تساءلوا: (كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)؛ لأن النائم- كما هو مشاهد ومحسوس- لا يحس بالوقت، قد ينام الإنسان يومًا أو يومين وكأنه لم ينم إلا ساعة أو ساعتين، وهذا شيء مشاهد، والظاهر أن الموتى كالنُّوَّم، وهي التي صارت فيها القصة الثانية: فإن هذا الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، فاستبعد أو استفهم: كيف يحيي الله الأرض هذه القرية بعد موتها؟ فأراه الله ﷿ هذه الآية العظيمة، أماته الله مائة سنة ثم بعثه من موته، وسأله: (كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ) . ثم أمره ﷿ أن ينظر إلى طعامه وشرابه لم يتغير، مع أنه بقي مائة سنة، فلم ييبس من شمس ولا رياح، والطعام لم ينتن، بل هو باق كما، كان أما الحمار فإنه قد مات وذهب جلده ولحمه ولم يبق إلا عظامه، فقال الله تعالى: (وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا) . فشاهد العظام ينشز الله بعضها ببعض بواسطة العصب، فلما تكاملت كساها الله لحمًا فكان حمارًا كاملًا، وهذا من آيات الله العظيمة الدالة على قدرته، وأنه على كل شيء قدير. والخلاصة أن في هاتين القصتين من آيات الله العظيمة ما هو ظاهر للمعتبر، وأن الجواب على سؤال السائلة- وهو: أن الميت لا يدري عن المدة التي تمر عليه-: أن الظاهر أن الميت كالنائم، ينطوي عليه الوقت ولا يدري عن سرعته. ***
يقول: فضيلة الشيخ إمام وخطيب المسجد الجامع الكبير بعنيزة السلام عليكم، سؤالي ما يلي: كيف يتأذى الميت بدخول إنسان لا يصلى معه في القبر؟ ألم يكن كل واحد ذهب إلى مقعده: إن كان في الجنة فهو في الجنة، والثاني في النار فهو في النار؟ أم كيف يكون التأذي؟ أرجو من فضيلة الشيخ إجابة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإجابة على هذا السؤال أن نقول: إنه لا يحل أن يدفن شخص لا يصلى مع شخص مسلم، بل ولا يحل أن يدفن وحده في مقابر المسلمين، والواجب أن يدفن من مات لا يصلى في مكان غير مقابر المسلمين؛ لأنه ليس منهم. هذا القول الراجح الذي رجحناه بأدلة من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وأقوال الصحابة ﵃، وقد سبق لنا مرارًا من هذا البرنامج ذكر الأدلة الدالة على كفر تارك الصلاة كفرًاَ مخرجًا عن الملة، سواء كان مقرًا بفرضيتها أم كان جاحدًا بل إذا كان جاحدًا، كفر وإن صلى، إلا أن يكون جاهلًا بأحكام الإسلام، كحديث عهد بالإسلام، فإنه يعرف ويبين له، فإن أقر بالوجوب وإلا كان كافرًا. المهم أنه لا يجوز أن يدفن من لا يصلى مع شخص مسلم، ولا في مقابر المسلمين، بل إن المشروع ألا يدفن مسلم مع آخر في قبر واحد، وإنما يدفن كل واحد وحده في قبره. واختلف العلماء ﵏: هل دفن الميت مع ميت آخر محرم لا يجوز إلا للضرورة، أو مكروه يجوز عند الحاجة إليه ولو بدون الضرورة، مع اتفاقهم على أن المشروع أن يدفن كل ميت وحده؟ وأما قول السائل: إنه يتأذى به، فهذا الأمر يحتاج إلى توقيف وإلى نص من الشرع أن الميت يتأذى بمن دفن معه إذا كان ممن يعذب في قبره، وهذا أمر لا أعلم عنه شيئًا من السنة، وإن كان بعض العلماء ﵏ يقولون: إن الميت قد يتأذى بجاره إذا كان يعذب، وقد يتأذى بفعل منكر عنده، ولكن لم أجد دليلًا من السنة يؤيد هذا. والله أعلم. ***
المستمع عبد السلام محمود الطقش مصري يسأل ويقول: هل عذاب القبر يختص بالروح أم بالبدن؟ فأجاب رحمه الله تعالى: عذاب القبر ثابت بكتاب الله وسنة رسوله. أما في كتاب الله فقد قال الله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) . وفي قوله تعالى في آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) . وأما الأحاديث التي فيها عذاب القبر فهي كثيرة، ومنها الحديث الذي يعرفه الخاص والعام من المسلمين، وهو قول المصلى: (أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) . وعذاب القبر في الأصل على الروح، وربما يتصل بالبدن أحيانًا، ولا سيما حين سؤال الإنسان عن ربه ودينه ونبيه حين دفنه، فإن روحه تعاد إلى جسده، لكنها إعادة برزخية لا تتعلق بالبدن تعلقها به في الدنيا، ويسأل الميت عن ربه ونبيه ودينه، فإذا كان كافرًا أو منافقًا قال: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته. فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق. ***
يقول: إن موت الإنسان يعني خروج الروح من الجسد، وعندما يدفن في القبر هل ترد الروح إلى جسده أم أين تذهب؟ وإذا كانت ترد الروح إلى الجسد في القبر فكيف يكون ذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: ثبت عن رسول الله ﷺ أن الميت إذا مات فإنها تعاد روحه إليه في قبره، ويسأل عن ربه ودينه ونبيه، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فيقول المؤمن: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد. وأما الكافر أو المنافق فإنه إذا سئل يقول: ها، ها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته. وهذه الإعادة- أعني إعادة الروح إلى البدن في القبر- ليست كحصول روح الإنسان في بدنه في الدنيا؛ لأنها حياة برزخية ولا نعلم كنهها، إذ إننا لم نخبر عن كنه هذه الحياة، وكل الأمور الغيبية التي لم نخبر عنها فإن واجبنا نحوها التوقف؛ لقول الله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا) (الإسراء:٣٦) ***
يقول: تنقسم حياة الإنسان إلى ثلاث: حياة الدنيا وهي التي نعيشها، ثانيا: ً حياة الآخرة معروفة، ثالثا: ً بين الحياة الدنيا وبين الآخرة حياة البرزخ، فما هي حياة البرزخ؟ وهل الإنسان يكون بجسده وروحه فيها؟ أفيدوني جزاكم الله خيرًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: حياة البرزخ حياةٌ بين حياتين، وهذه الأنواع الثلاثة للحياة تكون من أدنى إلى أعلى: فحياة البرزخ أكمل من الحياة الدنيا بالنسبة للمتقين؛ لأن الإنسان ينعم في قبره، ويفتح له بابٌ إلى الجنة، ويوسع له مد البصر. وحياة الآخرة- وهي الجنة التي هي مأوى المتقين- أكمل وأكمل بكثيرٍ من حياة البرزخ. وكذلك يقال بالنسبة للكافر، يقال: إن حياته في قبره أشد عذابًا مما يحصل له من عذاب الدنيا، وعذابه في النار التي هي مأوى الكافرين أشد وأشد، فحياة البرزخ في الواقع حياةٌ بين حياتين في الزمن وفي الحال، فحال الإنسان فيها بين حالين: دنيا وعليا، وكذلك الزمن كما هو معروف. أما سؤاله: هل تكون الحياة البرزخية بالروح والبدن؟ فهي قطعًا بالروح بلا شك، ثم قد تتصل بالبدن أحيانًا إن بقي ولم تأكله الأرض، ولم يحترق ويتطاير في الهواء، وقد لا تتصل. هذا هو القول الراجح في نعيم القبر أو عذابه: أنه في الأصل على الروح، وقد تتصل بالبدن، لكن ما يكون عند الدفن فالظاهر أنه يكون على الروح والبدن جميعًا؛ لأنه جاء في الأحاديث ما يدل على ذلك، من أن الميت يجلس في قبره ويسأل، ويوسع له في قبره، ويضيق عليه حتى تختلف أضلاعه، وكل هذا يدل على أن النعيم أو العذاب عند الدفن يكون على البدن والروح. ***
ما هو اعتقاد أهل السنة والجماعة في الحياة البرزخية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: مذهب أهل السنة والجماعة في الحياة البرزخية أن الإنسان إذا دفن وتولى عنه أصحابه أتاه ملكان فأجلساه، وسألاه عن ثلاثة أشياء: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة- جعلنا الله وإخواننا المسلمين منهم- فيقول المؤمن: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد. وأما المنافق فإنه يقول: ها، ها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته. ثم يبقى المؤمن منعمًا في قبره، والمنافق معذبًا في قبره. والعذاب يكون في الأصل على الروح، ولهذا يحس بالعذاب ولو تمزق بدنه وأكلته السباع، وربما تتصل الروح بالبدن ويكون العذاب على الروح والبدن جميعًا. ومسائل الآخرة كلها أمور غيب لا نطلع على شيء منها إلا عن طريق الوحي، ولهذا لا ينبغي لنا أن نتعمق في السؤال عنها؛ لأننا سنصل إلى باب مسدود، ولن نصل إلى شيء من التفاصيل إلا عن طريق الكتاب والسنة. وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عباس ﵄ أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير) . يعني: أنهما لا يعذبان في أمر شاق عليهما، بل هو أمر سهل. (أما أحدهما فكان لا يستبرىء من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) . يعني: بنقل الكلام كلام الناس بعضهم ببعض؛ ليفسد بينهم ويفرق بينهم. فأمر بجريدة رطبة فشقها نصفين، فجعل على كل قبر واحدة، فقالوا: لِمَ صنعت هذا يا رسول؟ الله قال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) . ففي هذا دليل واضح على ثبوت عذاب القبر، وأنه قد ينقطع وقد يخفف. أخذ بعض أهل العلم ﵏ من هذا أنه ينبغي أن يوضع على القبر جريدة رطبة، كما فعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهذين القبرين، لكن هذا مأخذ ضعيف جدًّا؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما كان يضع الجريدتين أو الجريدة الواحدة في كل من قُبر، لكن وَضَعها على هذين القبرين اللذين يعذبان، فوضع شيء من هذا على القبر يبرهن على إساءة الظن بصاحب القبر، وأنه الآن يعذب. وثُم هو بدعة؛ لأن النبي ﷺ إذا فعل شيئًا لسبب فإنه لا يقتضي أن يكون عامًّا في كل شيء، بل فيما ثبت في هذا السبب. ثم هذا السبب ليس أمرًا معلومًا، بحيث نعلم أن هذا الرجل يعذب في قبره فنضع له الجريدة، بل هو مجهول، وهو عذاب القبر، فلهذا ينهى أن يوضع على القبر شيء من الزهور أو شيء من الأغصان أو شيء من الجريد؛ لأن ذلك كله من البدع، ومتى قصد به التخفيف من العذاب عن هذا القبر صار إساءة ظن بصاحبه. ***
السائل إبراهيم من الرياض يقول: ما هي عقيدة أهل السنة والجماعة في الحياة البرزخية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: عقيدتهم في الحياة البرزخية ما جاء في الكتاب والسنة من الأدلة على أن الإنسان يعذب في قبره وينعم بحسب حاله، قال الله ﵎ في آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) (غافر:٤٦) . وقال تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) . وقال الله تبارك تعالى: (فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصلىةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦» . وهذه الحياة التي يكون فيها النعيم أو العذاب حياة برزخية ليست كحياة الدنيا، فلا يحتاج فيها الحي إلى ماء ولا طعام ولا هواء، ولا وقاية من برد ولا وقاية من حر، حياة لا نعلم كيفيتها، بل هي من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله ﷿، أو من وصل إليها وحصل له بها حق اليقين. ونحن نقرأ في صلواتنا: أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال. ***
السائلة تقول في هذا السؤال: أرجو التحدث عن الحياة البرزخية كما جاء في سورة المؤمنون: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) فأجاب رحمه الله تعالى: الحياة البرزخية هي الحياة التي تكون بين موت الإنسان وقيام الساعة، والإنسان قد يقبر فيدفن في الأرض، وقد يلقى في البحر فتأكله الحيتان، وقد يلقى في البر فتأكله الطيور والوحوش، ومع ذلك فإن كل واحد من هؤلاء يناله من الحياة البرزخية ما يناله. وهي- أعني: الحياة البرزخية- من عالم الغيب، فلولا أن الله ورسوله أخبرانا بما يكون فيها ما علمنا عنها، ولكن الله تعالى أخبرنا في كتابه ورسوله ﷺ أخبرنا في سنته بما لا نعلمه عن هذا الأمر، فالحياة البرزخية يكون فيها العذاب ويكون فيها النعيم، إما على الروح وحدها أو تتصل بالبدن أحيانًا، لكن هذا العذاب ليس من عالم الشهادة، ولهذا يعذب الإنسان في قبره، ويضيق عليه القبر حتى تختلف أضلاعه، أو يفسح له في القبر وينعم فيه، ويفتح له باب من الجنة يأتيه من روحها ونعيمها، ولو أننا كشفنا القبر لوجدنا الميت كما دفناه بالأمس لم تختلف أضلاعه، ولم نجد رائحة من روائح الجنة ولا شيئًا من هذا؛ لأن هذه الحياة حياة برزخية غير معلومة لنا وليست من عالم الشهادة. وأضرب مثلًا يقرب ذلك بأن الإنسان النائم نائم عندك، وهو يرى في منامه أنه يذهب ويجيء، ويبيع ويشتري، ويصلى، ويزور قريبًا له ويعود مريضًا، وهو في منامه مضطجع عندك ما كأنه رأى شيئًا من ذلك، ومع ذلك هو يرى، هكذا أيضًا الحياة البرزخية: الميت يرى فيها ما يرى، وينعم فيها ويعذب، لكن في جانب الحس لا يشاهد شيئًا من هذا، وذلك أن النوم أخو الموت في الواقع، لكن الموت أشد وأعظم عمقًا في مثل هذه الأمور. والنفس لها تعلق بالبدن على وجوه أربعة: الأول: تعلقها بالبدن في حال الحمل، والثاني: تعلقها في حال الحياة الدنيا، وتعلقها في حال الحياة الدنيا يكون في حال اليقظة وفي حال النوم، ويختلف هذا عن هذا، والثالث: تعلقها بالبدن في البرزخ، والرابع: تعلقها بالبدن بعد البعث، وهذا الأخير هو أكمل التعلقات، ولهذا لا تفارق الروح البدن لا بنوم ولا بموت، إذ لا موت بعد البعث ولا نوم، وإنما هي حياة دائمة، حياة يقظة، لكن إما في نعيم دائم- أسأل الله أن يجعلني والمستمعين من هؤلاء- وإما في جحيم دائم والعياذ بالله: (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) . وأما أهل النعيم فهم في نعيم دائم، فهذه أنواع تعلق الروح بالبدن، ولكل منها خاصية ليست في الأخرى. ***
يقول السائل: كيف السؤال في القبر بعد ممات الإنسان؟ فأجاب رحمه الله تعالى: السؤال أنه يأتيه ملكان فيسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول المؤمن: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد. وأما المرتاب أو المنافق فهذا يقول: ها ها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته. فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين. ***
يقول السائل م. ع: ما حقيقة عالم البرزخ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أحيلك على نفسك: إذا كنت في البرزخ فسوف تعرف ما حال الإنسان! ولكن الذي بلغنا من ذلك أن الإنسان إذا دفن وتولى عنه أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فسألاه عن ربه ودينه ونبيه. فأما المؤمن- نسأل الله أن يجعلنا منهم- فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد. فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة. وأما المنافق المرتاب- والعياذ بالله- فإنه إذا سئل قال: ها. ها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته- أعاذنا الله وإياكم منهم- فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه والعياذ بالله، أي: يدخل بعضها بعضًا من الضيق، ويفتح له بابٌ إلى النار- أجارنا الله وإياكم منها- ثم يبقى الإنسان على أمرٍ لا ندري عنه بالتفصيل، لكننا نؤمن بعذاب القبر ونعيم القبر. ***
السائلة ن ع ع جدة تقول: أرجو أن تبينوا لنا عذاب القبر وأسباب النجاة منه، وهل عندما يدفنون الميت ثم يقولون له بعد الفراغ من دفنه: إذا سألك الملكان: من ربك؟ فقل: ربي الله. وما نبيك؟ وما دينك؟ هل صحيح أن الميت يسمعهم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إذا دفن الميت وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم فقد تم توديعه، وحينئذ يأتيه الملكان فيسألانه عن ربه ودينه ونبيه، فإن أجاب بالصواب فسح له في قبره، وفتح له باب إلى الجنة، ونادى منادٍ من السماء: أن صدق عبدي. وإن توقف وقال: لا أدري، فإنه يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، وينادي منادٍ من السماء: أن كذب عبدي. ويفتح له باب إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها. والأسباب المنجية من عذاب القبر كثيرة، تنحصر في أن الأسباب الواقية من عذاب القبر هي القيام بطاعة الله، فيفعل ما أمر الله به ويترك ما نهى الله عنه. ومنها- أي: من الأسباب الواقية من عذاب القبر- التعوذ بالله من عذاب القبر، ولهذا أمرنا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن نتعوذ من عذاب القبر أمرًا عامًّا فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر، وأمرنا أن نتعوذ بالله من عذاب القبر أمرًا خاصًّا بعد التشهد الأخير، حيث قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إذا تشهد أحدكم التشهد الآخر- أو قال: الأخير فليستعذ بالله من أربع، فيقول: أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) . ومن أسباب عذاب القبر عدم التنزه من البول، والمشي بين الناس بالنميمة، كما في حديث ابن عباس ﵄ قال: مر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول- أو قال لا يستنزه من البول-، وأما الثاني فكان يمشي بالنميمة) . ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين، وغرز في كل قبر واحدة، قالوا: لِمَ صنعت هذا يا رسول الله؟ قال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) . فبين النبي ﷺ سبب عذابهما بأن أحدهما لا يستبريء من البول، وأن الثاني كان يمشي بالنميمة. والنميمة هي نقل كلام الناس فيما بينهم على سبيل الإفساد، فيأتي للشخص ويقول: قال فلان فيك كذا، قال فلان فيك كذا؛ ليلقي العداوة بينهما. وبهذه المناسبة أود أن أنبه على شيء يفعله بعض الناس: إذا فرغ من دفن الميت وضع عليه غصنًا أخضر من جريد النخل أو غيره، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث وضع الجريدة التي شقها نصفين على كل قبر واحدة، فإن هذا الذي يفعله بعض الناس بدعة؛ لأن رسول الله ﷺ ما كان يفعله على قبر كل ميت، وأيضًا فإن الرسول ﷺ فعله لسبب، وهو أن أصحاب القبرين يعذبان، فما يدري هذا الرجل أن صاحبه يعذب حتى يضع عليه هذا الغصن الأخضر؟ وأيضًا فإن وضع هذا الغصن الأخضر شهادة بالفعل على أن صاحب القبر يعذب، فيكون في ذلك إساءة ظن بصاحب القبر. لكن بعض الناس لا يتأملون ماذا يتفرع على أفعالهم من المفاسد، فتجدهم يأخذون بظاهر الحال ولا يتأملون حق التأمل، نسأل الله لنا ولهم الهداية. ***
يقول السائل: يقال: إن الكافر عندما يوضع في القبر ويأتيه منكر ونكير، يأتيانه في صورٍ مخيفة ومرعبة، فهل المؤمن يرى منكرًا ونكيرًا بنفس الصورة التي يراهما فيها الكافر؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: من المعلوم أنه لا يستوي المؤمن والكافر فيما يتعلق بعذاب القبر ونعيمه، وأن المؤمن ينعم في قبره، ويوسع له فيه، وينور له فيه، ويفتح له فيه بابٌ إلى الجنة، وأما الكافر فإنه يعذب في قبره، ويضيق عليه فيه حتى تختلف أضلاعه والعياذ بالله، ويفتح له بابٌ إلى النار. وأما المساءلة حين السؤال: فإن الميت يأتيه ملكان يسألانه عن ثلاثة أشياء: عن ربه ودينه ونبيه. فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد. وأما المرتاب فيقول: ها، ها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته. هذا أكثر ما عندي الآن حول الإجابة على هذا السؤال ***
يقول المستمع م. ع. م. من المدينة المنورة: ورد في الحديث الصحيح أن الميت عندما يوضع في قبره يسأل عن ثلاث: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ بينما ورد عن الرسول ﷺ بأن ينتظر عند الميت بعد دفنه مقدار ما تنحر الجزور. السؤال: الأسئلة المذكورة أعلاه الثلاثة لا تستغرق سوى دقيقتين أو ثلاث دقائق، فهل هناك أسئلة أخرى تستغرق مقدار نحر الجزور؟ آمل إفادتي مشكورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لم يرد عن النبي ﷺ أن الناس يمكثون عند القبر بمقدار ما تنحر الجزور، وإنما جاء ذلك عن عمرو بن العاص ﵁، أما الوارد عن النبي ﷺ فإنه كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت) . فالذي أمر به النبي ﵊ أن نقف بعد دفن الميت إذا فرغنا من دفنه، أن نقف عليه وأن نقول: اللهم اغفر له، اللهم ثبته، اللهم اغفر له، اللهم ثبته، اللهم اغفر له، اللهم ثبته، ثلاث مرات ثم ننصرف، هذا هو الوارد فليقتصر عليه. ***
المستمع مصري الجنسية يعمل بالعراق يقول: قرأت في كتاب يسمى دقائق الأخبار ما يفيد بأن الإنسان بعد الموت يدخل عليه في القبر ملك اسمه دومان، فيقول له: اكتب عملك. فيقول: أين قلمي وحبري وورقي؟ فيمسك سبابة يده اليمنى ويقول: هذا قلمك، ويشير إلى فمه: من هنا حبرك، ويقطع قطعة من جلد يده ويقول: هذا ورقك. وروى الكثير مما يحدث بعد الموت، مثل استئذان الروح من ربها بعد أسبوع وتعود إلى البيت الذي كانت تعيش فيه. هل هذا صحيح؟ وهل هناك ما يثبت ذلك من القرآن والسنة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا غير صحيح بل هو باطل، والأمور الغيبية لا يجوز الاعتماد على شيء لم يثبت فيها عن الله ورسوله؛ لأن الأمور الغيبية لا يطلع عليها إلا الله ﷿، أو من أطلعه الله عليه ممن اصطفاه من الرسل، قال الله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (٢٧» . وما ذكره مما يكون للإنسان بعد موته فهو باطل لا أصل له. وإني أحذر أخي السائل من قراءة مثل هذه الكتب، وما أكثر أنواعها في الوعظ والترغيب والترهيب، فإن كثيرًا من الكتب المصنفة في الوعظ والترغيب والترهيب فيها أحاديث لا زمام لها، وإنما يقصد واضعوها أن يقووا رغبة الناس أو رهبتهم، وهذا خطأ، خطأ أرجو الله أن يعفو عنهم إذا كان صادرًا عن حسن النية، والحذر الحذر فالحذر الحذر من مثل هذه الكتب، وما صح من سنة رسول الله ﷺ ففيه كفايتنا عن هذه. ***
يقول السائل: كيف النجاة من فتنة القبر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: النجاة من فتنة القبر أن يموت الإنسان على الإسلام، فإنه إذا مات على الإسلام أنجاه الله؛ لأنه إذا سئل: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فسيجيب بالصواب، وحينئذ ينجو، فإن مات على نفاق- نسأل الله أن يعيذنا وإخواننا من النفاق- فإنه لن يجيب إذا سئل: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ قال: ها. ها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته. فهذا لا ينجو من الفتنة، ويعذب في قبره والعياذ بالله. ***
يقال: إنه إذا قامت القيامة فإن المسلمين الذين هم مؤدون للشريعة الإسلامية والمؤمنون بوجود الله ويوم القيامة وغير مؤدين بدين الإسلام فستأتيهم ريحٌ فيموتون، إلا الكفار فهم يرون أهوال يوم القيامة والأشياء التي تحصل حين قيام الساعة. ما مدى صحة ذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: ليس هذا بصحيح، بل إذا قامت الساعة فإن جميع الناس مسلمهم وكافرهم يشاهدون هذا اليوم العظيم، وينالهم ما ينالهم من شدائده وهمومه وكروبه وغمومه، ولكن الله تعالى ييسره على المسلم، كما قال الله تعالى: (وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا) . وقال تعالى: (عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) . فاليوم عسير وشديد، وعسره وشدته على الجميع، ولكن هذا العسر والشدة ييسر على المؤمنين، ويكون غير شاقٍ عليهم، بخلاف الكافرين. ***
كيف يقوم الناس من قبورهم يوم القيامة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يقوم الناس من قبورهم حفاةً عراةً غرلًا بُهمًا. أما حفاةً فمعناه: أنه ليس في أقدامهم نعالٌ ولا خفاف ولا جوارب، وأما عراة فمعناه: أنه ليس عليهم ثياب، العورات بادية، كما خرجوا من بطون أمهاتهم يخرجون من بطون الأرض، كما قال الله تعالى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) . غرلًا أي: غير مختونين، أي: إن القلفة التي تقطع في الختان في الدنيا- وهي الجلدة التي على رأس الذكر- تعاد يوم القيامة، حتى يخرج الناس من قبورهم كما خرجوا من بطون أمهاتهم غير مختونين، وأما بُهمًا فمعناه: أنه ليس معهم مال يعرفون به، فلا درهم ولا دينار ولا متاع ولا شيء ما هي إلا الأعمال الصالحة، هكذا يخرج الناس من قبورهم لرب العالمين جل وعلا. ***
هل صحيح أن يوم القيامة يخفف على المؤمن حتى يصير كأنه وقت قصير جدًّا؟ أرجو بهذا إفادة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لاشك أن المؤمن يخفف عنه ذلك اليوم حتى يكون يسيرًا جدًّا، ودليل ذلك في كتاب الله ﷿، قال الله ﵎: (وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا) . وقال تعالى: (عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) . وقال تعالى: (يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) . وكل هذا يدل أن هذا اليوم يكون يسيرًا على المؤمنين، وبقدر ما يكون الإيمان عند العبد يكون اليسر في ذلك اليوم؛ لأن الجزاء من جنس العمل، نسأل الله أن ييسر علينا وعلى إخواننا المسلمين أهوال ذلك اليوم. ***
هذه رسالة وصلت من إحدى اخواتنا المستمعات محافظة واسط العزيزية العراق تقول في رسالتها بأنها فتاة مؤمنة بالله تعالى، تحاول جاهدة أن تلتزم بتعاليم الإسلام السمحة، تقول: كثيرًا ما يراودني أفكار كثيرة عن مصيري والحساب يوم القيامة، حيث يبعث الله الخلائق ويحاسب الإنسان بما عمل. سؤال يا فضيلة الشيخ وهو الذي يحيرني هو أن يوم القيامة الذي يتم فيه الحساب هل هو يوم واحد أخير لا غير، يتم فيه حساب كافة الخلائق أم ماذا؟ أو لا يجوز لنا التفكير في ذلك نرجو بهذا إفادة مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا السؤال المقدم عن هذه المرأة فيه إشكال يحتاج إلى الجواب كما قالت. وفيه أن المرأة أثنت على نفسها خيرًا بكونها مؤمنة بالله تعالى، وتحاول جاهدة تصديق الشريعة الإسلامية، وهذا الثناء على النفس إن أراد به الإنسان أن يتحدث بنعمة الله ﷿، أو أن يتأسى به غيره من أقرانه ونظرائه فهذا لا بأس به، وإن أراد به الإنسان تزكية نفسه وإدلاله بعمله على ربه ﷿ فإن هذا فيه شيء من المنّة، وقد قال الله تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) . وأما إذا كان المراد به مجرد الخبر فلا بأس به، لكن الأولى تركه، فالأحوال إذًا في مثل هذا الكلام الذي فيه ثناء المرء على نفسه أربع: الحال الأولى: أن يريد بذلك التحدث بنعمة الله عليه فيما حباه من نعمة الإيمان والثبات، الثانية: أنه يريد بذلك تنشيط أمثاله ونظرائه على مثل ما كان عليه، فهاتان الحالان محمودتان؛ لما تشتملان عليه من هذه النية الطيبة. الحال الثالثة: أن يريد بذلك الفخر والتباهي والإدلال على الله ﷿ بما هو عليه من الإيمان والثبات، وهذا غير محمود؛ لما ذكرناه من الآية. الحال الرابعة: أن يريد بذلك مجرد خبر عن نفسه لما هو عليه من الإيمان والثبات، فهذا جائز ولكن الأولى تركه أما المشكلة التي ذكرت في سؤالها وتريد الجواب عنها، وهي أن يوم الحساب يوم واحد أو أكثر؟ فجوابها: أن يوم الحساب يوم واحد، ولكنه يوم مقداره خمسون ألف سنة، كما قال الله تعالى: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (١) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (٢) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤» أي أن هذا العذاب يقع للكافرين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: (ما من صاحب ذهب ولافضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، وأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى به جبينه وجنبه وظهره، كلما بردت أعيدت، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد) . وهذا يوم طويل، وهو يوم عسير على الكافرين، كما قال تعالى: (وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا) . وقال تعالى: (عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) . ومفهوم هاتين الآيتين أنه على المؤمن يسير وهو كذلك، فهذا اليوم الطويل بما فيه من الأهوال والأشياء العظيمة ييسره الله تعالى على المؤمن، ويكون عسيرًا على الكافر، أسأل الله أن يجعلني وإخواني المسلمين ممن ييسره الله عليهم يوم القيامة. والتفكير والتعمق في مثل هذه الأمور الغيبية هو من التنطع الذي قال النبي ﷺ فيه: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) . ووظيفة الإنسان في هذه الأمور الغيبية التسليم، وأخذ الأمور على ظاهر معناها، دون أن يتعمق أو يحاول المقايسة بينها وبين الأمور في الدنيا، فإن أمور الآخرة ليست كأمور الدنيا، وإن كانت تشبهها في أصل المعنى وتشاركها في ذلك، لكن بينهما فرق عظيم. وأضرب لك مثلًا بما ذكره الله ﷾ في الجنة من النخل والرمان والفاكهة ولحم الطير والعسل والماء واللبن والخمر وما أشبه ذلك، مع قوله ﷿: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) . وقوله في الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) . فهذه الأسماء التي لها مسميات في هذه الدنيا لا تعنى أن المسمى كالمسمى، وإن اشترك في الاسم وفي أصل المعنى، فكل الأمور الغيبية التي تشارك ما يشاهد في الدنيا في أصل المعنى لا تكون مماثلة له في الحقيقة، فينبغي للإنسان أن ينتبه لهذه القاعدة، وأن يأخذ أمور الغيب بالتسليم على ما يقتضيه ظاهرها من المعنى، وأن لا يحاول شيئًا وراء ذلك. ولهذا لما سئل الإمام مالك ﵀ عن قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استوى؟ أطرق ﵀ برأسه حتى علاه الرحض- أي: العرق- وصار يتصبب عرقًا، وذلك لعظم السؤال في نفسه، ثم رفع رأسه وقال قولته الشهيرة التي كانت ميزانًا لجميع ما وصف الله به نفسه، قال ﵀: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. فالسؤال المتعمق في مثل هذه الأمور بدعة؛ لأن الصحابة ﵃ وهم أشد منا حرصًا على العلم وعلى الخير- لم يسألوا النبي ﷺ مثل هذه الأسئلة، وكفى بهم قدوة. وما قلته الآن بالنسبة لليوم الآخر يجري بالنسبة لصفات الله ﷿ التي وصف الله بها نفسه، من العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام وغير ذلك، فإن مسميات هذه الألفاظ بالنسبة لله ﷿ لا يماثلها شيء مما يشاركها في هذا الاسم بالنسبة للإنسان، فكل صفة فإنها تابعة لموصوفها، كما أن الله ﷾ لا مثيل له في ذاته فلا مثيل له في صفاته. وخلاصة الجواب الآن: أن اليوم الآخر يوم واحد، وأنه عسير على الكافرين، ويسير على المؤمنين، وأن ما ورد فيه أنواع الثواب والعقاب أمر لا يدرك كنهه في هذه الحياة الدنيا، وإن كان أصل المعنى فيه معلومًا لنا في هذه الحياة الدنيا. ***
محمد عبد الجبار مصطفى من بغداد العراق يقول: ما حكم الشرع في نظركم يا فضيلة الشيخ في حكم الطفل الذي يولد متخلفًا عقليا؟ ً وهل ورد في أحاديث الرسول ﷺ ما يشير إلى ذلك؟ وهل هناك تفسير لآياتٍ قرآنية كريمة تتعلق بذلك؟ وهل يحاسب يوم القيامة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: المولود وهو متخلفٌ عقليًا حكمه حكم المجنون ليس عليه تكليف، فلا يحاسب يوم القيامة، ولكنه إذا كان من أبوين مسلمين أو أحدهما مسلم فإن له حكم الوالد المسلم، أي: إن هذا الطفل يكون مسلمًا فيدخل الجنة، وأما إذا كان من أبوين كافرين: فإن أرجح الأقوال أنه يمتحن يوم القيامة بما أراد الله ﷿، فإن أجاب وامتثل أدخل الجنة، وإن عصى أدخل النار. هذا هو القول الراجح في هؤلاء، وهو- أي: هذا القول- منطبق على من لم تبلغهم دعوة الرسول ﷺ، كأناسٍ في أماكن بعيدة عن بلاد الإسلام، ولا يسمعون عن الإسلام شيئًا، فهؤلاء إذا كان يوم القيامة امتحنهم الله ﷾ بما شاء، فمن أطاع منهم دخل الجنة، ومن عصى دخل النار. قد يقول قائل: كيف يمتحنون وهم في دار الجزاء، وليسوا في دار التكليف؟ فجوابنا على هذا: أولًا: أن الله ﷾ يفعل ما يشاء، فله أن يكلف عباده في الآخرة كما كلفهم في الدنيا، ولسنا نحن نحجر على الله ﷿. ثانيًا: أن التكليف في الآخرة ثابت بنص القرآن، كما قال الله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (٤٣» . فدل هذا على أن التكليف قد يقع في الآخرة. إذًا هذا الذي ولد متخلفًا عقليًا فحكمه حكم المجانين، وليس عليه تكليف، وحكمه حكم أبويه إن كانا كافرين، وإن كانا مسلمين أو أحدهما فهو مسلم. وبهذا الجواب يتبين حكم هذا المولود المتخلف عقليًا، وما ذكرناه فإنه مقتضى دلالة الكتاب والسنة، فإن القلم قد رفع عن ثلاثة: عن الصغير حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ. فضيلة الشيخ: هل هناك تفسير لآيات قرآنية كريمة تتعلق بذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: القرآن كما قلت قبل قليل والسنة، كلٌ منهما يدل على أن المجنون ومن في حكمه ليس عليه تكليف. فضيلة الشيخ: في فقرةٍ له يقول: وهل وجود طفل متخلف في العائلة هو عقوبة للوالدين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: المصائب التي تصيب الإنسان تارةً تكون عقوبة، وتارةً تكون امتحانًا، تارةً تكون عقوبة إذا فعل الإنسان محرمًا أو ترك واجبًا، فقد يعجل الله له العقوبة في الدنيا، ويصيبه بما شاء من مصيبة، وقد يصاب الإنسان بمصيبة لا عقوبة على ترك واجبٍ أو فعل محرم، ولكن من باب الامتحان يمتحن الله بها الإنسان؛ ليعلم ﷿ أيصبر أو لا يصبر؟ وإذا صبر كانت هذه المصيبة منحة لا محنة، يرتقي بها هذا الإنسان إلى المراتب العالية وهي مرتبة الصابرين؛ لأن الصبر لا يحصل إلا بشيءٍ يصبر عليه، ولهذا كان رسول الله ﷺ يوعك- يعني: يمرض- كما يوعك الرجلان منا، أي: يشدد عليه في الوعك؛ لأجل أن ينال بذلك أعلى درجات الصابرين ﵊. ***
ما مصير الأطفال الذين يموتون دون البلوغ والتكليف، سواءٌ كانوا مسلمين أو غير مسلمين، من ناحية مصيرهم في الآخرة؟ وهل الحديث الذي معناه: (كل مولودٍ يولد على الفطرة) ينطبق حتى على أطفال غير المسلمين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: مصير أطفال المؤمنين الجنة؛ لأنهم تبعٌ لآبائهم، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) . وأما أطفال غير المؤمنين، يعني الطفل الذي نشأ من أبوين غير مسلمين، فأصح الأقوال فيهم أن نقول: الله أعلم بما كانوا عاملين، فهم في أحكام الدنيا بمنزلة آبائهم، أما في أحكام الآخرة فإن الله أعلم بما كانوا عاملين، كما قال النبي ﷺ: (والله أعلم بمآلهم) . هذا ما نقوله، وهو في الحقيقة أمر لا يعنينا كثيرًا، إنما الذي يعنينا هو حكمهم في الدنيا، وأحكامهم في الدنيا- أعني: أولاد المشركين الذين من أبوين كافرين، أحكامهم في الدنيا- أنهم كالمشركين، بمعنى: أنهم لا يغسلون ولا يكفنون ولا يصلى عليهم، ولا يدفنون في مقابرنا. ***
ما مصير أطفال المشركين أو الكفار الذين يموتون؟ هل هم في النار أم في الجنة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أطفال المشركين والكفار: إذا كان الأم والأب كلاهما كافرًا فإن هؤلاء الأولاد لهم حكم الكفار في الدنيا، فلا يغسلون ولا يكفنون ولا يصلى عليهم، ولا يدفنون في مقابر المسلمين. أما في الآخرة فأصح أقوال أهل العلم في ذلك أنهم لا يعلم مصيرهم، وأن علمهم إلى الله ﷿؛ لأنهم ممتحنون في يوم القيامة بما أراده الله، فإن امتثلوا وأطاعوا دخلوا الجنة، وإلا فهم في النار. ***
هل التائب من الذنوب لا يحاسب على ذنوبه الماضية إذا تاب توبة صادقة؟ وهل مرتكبو الكبائر إذا تابوا تقبل منهم توبتهم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم إذا تاب الإنسان توبة نصوحا فإن الله تعالى يقبل منه مهما عظم الذنب دليل ذلك قوله ﵎: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) . وهذه عامة ليس فيها تفصيل، أن مَنْ تاب من أي ذنب فإن الله يتوب عليه، وقال تعالى في التفصيل: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) . فالذنب مهما عظم إذا تاب الإنسان منه توبة نصوحًا غفره الله ﷿، فهنا تجد أن الله تعالى ذكر الشرك وقتل النفس بغير حق والزنى، وكلها عدوان عظيم: الأول عدوان في حق الخالق ﷿، والثاني عدوان على النفس في حق المخلوق، والثالث عدوان على العرض في حق المخلوق، ومع ذلك إذا تاب الإنسان وآمن وعمل عملًا صالحًا بدل الله سيئاته حسنات. ألم تر إلى قوم كانوا مشركين مضادين لدعوة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهداهم الله وتابوا وصاروا من قادة الأمة الإسلامية؟ ولكن إذا كانت المعصية في حق مخلوق فلابد من إيصال الحق إلى أهله، فلو سرق الإنسان مال شخص وتاب من السرقة تاب الله عليه، لكن لابد أن يعيد المال إلى مالكه؛ لأنها لا تتم التوبة فيما يتعلق بحق المخلوق إلا برد الحق إلى أهله. ***
سائل يقول في هذا السؤال: ما الفرق بين الكوثر والحوض؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الفرق بينهما أن الكوثر نهرٌ في الجنة أعطاه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأما الحوض فإنه في عرصات القيامة، يصب عليه ميزابان من الكوثر، هذا الحوض عظيم طوله شهرٌ وعرضه شهر، يرِده المؤمنون من أمة محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، جعلنا الله وإياكم ممن يرده ويشرب منه، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وطعمه أحلى من العسل، وريحه أطيب من ريح المسك، وآنيته كنجوم السماء في حسنها وكثرتها. ***
سائل يسأل عن الحوض المورود ما هو؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الحوض المورود حوض يكون في عرصات القيامة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، طوله شهر وعرضه شهر، وآنيته كنجوم السماء في الكثرة والجمال، وماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من رائحة المسك، يصب عليه ميزابان من الكوثر الذي في الجنة الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما في قوله تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) . أما أثره: فمن شرب منه شربة واحدة لم يظمأ بعدها أبدًا، اللهم اجعلنا ممن يشرب منه، اللهم اجعلنا ممن يشرب منه، اللهم اجعلنا ممن يشرب منه يا رب العالمين. ***
بالنسبة لحديث الحوض والذي يَردِ فيه الناس والذي يكون الرسول ﷺ قائمًا عليه، من هم هؤلاء الناس الممنوعون من الشرب؟ أهم أصحاب البدع؟ وهل للبدع أنواع؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الممنوع من الشرب من حوض النبي ﷺ يوم القيامة كل من أحدث في دين الله ما ليس منه؛ لأن النبي ﷺ يقال له: لا تدري ماذا أحدثوا بعدك. وكلما كان الإنسان أقوى في اتباع الرسول ﵊ كان وروده أضمن، ولهذا قيل: من ورد على شريعته فشرب ورد على حوضه فشرب، ومن لا فلا، ولكلٍ درجات مما عملوا. وأما قول السائل: هل البدع أنواع؟ فنعم البدع أنواع متعددة كثيرة، منها ما يوصل إلى الكفر، ومنها ما دون ذلك. ***
محمد عبد الحميد حاتم الحليفي يمني مقيم بمكة المكرمة يقول: نعرف أن الصراط حق لا ريب، وأنه لابد من العبور عليه، ولكننا سمعنا حديثًا عن صفته يقول بأن طوله مسيرة مائة عام في الاستواء، ومائة عام في الطلوع، ومائة عام في الهبوط، وأنه على متن جهنم. فهل هذا الحديث صحيح؟ وإن لم يكن كذلك فما هي حقيقته؟ ومتى يؤذن لمن تجاوزه بدخول الجنة؟ وما حكم من أنكر وجوده؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الصراط كما ذكر السائل حق، واعتقاد وجوده واجب، وهو مما يعتقده أهل السنة والجماعة. والصراط عبارة عن جسر ممدود على متن جهنم أدق من الشعر وأحد من السيف، وأما كون طوله كما ذكر السائل فإني لا أعلم في ذلك حديثًا صحيحًا عن النبي ﷺ، وهذا الصراط يعبر الناس عليه على قدر أعمالهم: منهم السريع، ومنهم البطيء، على حسب سيرهم على صراط الله المستقيم في هذه الدنيا، فمن كان مستقيمًا على الصراط في هذه الدنيا مسابقًا إلى الخيرات كان مستقيمًا على صراط الآخرة سابقًا فيه، ومن كان دون ذلك كان دون ذلك، وربما يمر بعض الناس به فيلقى في جهنم ويعذب فيها بقدر عمله ثم ينجو، وأما الكافرون فإنهم لا يعبرون على هذا الصراط، وإنما يحشرون إلى جهنم وردًا، كما قال الله ﷿، بدون أن يعبروا على ذلك الصراط؛ لأنهم لم يكونوا عابرين على الصراط في هذه الدنيا، فيكون جزاؤهم أن يحشروا إلى النار بدون أن يعبروا على هذا الصراط. وأول من يجوز بأمته محمد ﷺ، ثم بعد هذا الصراط يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، ويقتص لبعضهم من بعض، ثم يدخلون الجنة بعد أن يشفع النبي ﵊ إلى ربه في فتح أبواب الجنة، فيشفع إلى الله ﷿ أن تفتح أبواب الجنة فتفتح، ويكون أول من يدخلها محمدٌ ﷺ. فضيلة الشيخ: ويقول: ما حكم من أنكر وجوده؟ فأجاب رحمه الله تعالى: حكم من أنكر وجوده: إن كان جاهلًا فإنه يعلَّم حتى يتبين له، فإذا بلغ بالأحاديث الواردة في ذلك فإنه يجب عليه أن يعتقده، فإن أنكره- مع علمه أن النبي ﷺ أخبر به- كان مرتدًا كافرًا؛ لتكذيبه رسول الله ﷺ. ***
يقول السائل: ما صفة الصراط عند المرور عليه؟ وهل ورد له صفة معينة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الصراط هو جسر يوضع على النار، يعبر منه المؤمنون إلى الجنة- جعلنا الله وإياكم منهم- يمر الناس به على قدر أعمالهم: إما كلمح البصر، أو كالبرق، أو كالريح، أو كالفرس الجواد، أو كالإبل، ومنهم من يزحف زحفًا، ومنهم من يكردس في نار جهنم ويعذب بقدر ذنوبه. أما صفته فقد ورد أنه أحدُّ من السيف وأدق من الشعر، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه طريقٌ واسع، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إنه دحض ومزلة)، وهذا لا بد أن يكون واسعًا يسلكه الناس. وليس المهم أن نعرف هل هو واسع أو ضيق، المهم أن نعرف كيف يسير الناس عليه، ولماذا اختلف سير الناس عليه، فبعضهم كلمح البصر، وبعضهم كالبرق، وبعضهم يزحف، وبعضهم يلقى في النار. والجواب: أن هذا على حسب أعمالهم في الدنيا وتلقيهم لشريعة الله، فمن كان مسرعًا لتلقي شريعة الله مسارعًا في الخيرات كان عبوره على الصراط يسيرًا خفيفًا سريعًا، ومن كان متباطئًا في شريعة الله وقبولها صار سيره على الصراط كعمله جزاءً وفاقًا. ***
أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ ذكر بعض المتحدثين بأن الصراط طوله ثلاثة آلاف سنة، فهل هذا ثابت؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا ليس بثابت. ***
بارك الله فيكم فضيلة الشيخ يقول: من صلى في المسجد النبوي ثمانين صلاة متتابعة، مع الحضور قبل الصلاة ليلحق تكبيرة الإحرام، ويشفع له الرسول ﷺ يوم القيامة، فهل هذا صحيح؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا لا أعرف عن صحته شيئًا، ولكن شفاعة الرسول ﵊ لها أسبابٌ أخرى كثيرة، منها: أن من أجاب المؤذن، ثم بعد فراغه صلى على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وسأل الله له الوسيلة، فإنها تحل له- أو: تجب له- شفاعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ***
من السودان السائل أبو محمد يقول: هل الأطفال الذين يموتون وهم صغار يشفعون لوالديهم يوم القيامة؟ أفيدونا مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إذا مات للإنسان أطفال فصبر واحتسب، فإنهم يكونون له حجابًا من النار وسترًا من النار، ويدخل بهم الجنة، أما إذا لم يصبر ولم يحتسب فإنه سيفوته من الأجر بقدر ما فاته من الصبر. ***
بارك الله فيكم فضيلة الشيخ يقول: هل يشفع الابن الصالح والولد الصالح لوالديه في الآخرة؟ وكيف؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما الأولاد الصغار الذين ماتوا وهم صغار: فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنهم يكونون سترًا وحجابًا من النار لوالديهم، وأما البالغون فيشفعون لآبائهم في الحال التي يؤذن لهم فيها، ومن الشفاعة الدعاء للميت، فإن الدعاء للميت شفاعةٌ له؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما من رجلٍ مسلمٍ يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يشركون بالله شيئًا، إلا شفعهم الله فيه) . وهذا يدل على أن الدعاء للغير شفاعةٌ له، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له) . فذكر الدعاء؛ لأن الدعاء شفاعةٌ للمدعو له. فأنا أحث إخواننا على كثرة الدعاء لوالديهم أحياءً أم أمواتًا؛ لأن ذلك طريق الأولاد الصالحين الذين امتثلوا قول الله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) . ***
المستمعة أشواق إلياس سليمان العراق محافظة التأمين تقول: وضعت طفلًا ميتًا بعد رمضان العام الماضي، وقد صمت الشهر كله ولله الحمد. سؤالها تقول: هل يأتي يوم القيامة كبيرًا، كما سمعت من بعض النساء؟ هل لي أجر حمله تسعة أشهر وساعات ولادته العسيرة؟ وضحوا لنا ذلك بارك الله فيكم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الطفل الذي ذكرته السائلة أنه مات، وتسأل: كيف يأتي يوم القيامة؟ جوابي على هذا: أننا لا نعلم كيف يأتي هذا الطفل يوم القيامة، ولكن قد ثبت أن الناس يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلًا، كما قال الله تعالى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) . فالحفاة ليس عليهم نعال ولا خفاف، والعراة ليس عليهم ثياب، والغرل جمع أغرل، وهو الذي لم يختن، أي: إن جلدة الختان تعود يوم القيامة. وأما سؤالها: هل لها أجر على ما حصل لها من المشقة على حمله والتعب في وضعه؟ فجوابه أن نقول: إن لها أجرًا في ذلك، فإنه لا يصيب المرأة، بل لا يصيب الإنسان، من هم ولا غم ولا أذى إلا كفر الله عنه، حتى الشوكة إذا أصابته وحصل فيها ألم فإنه يكفر به عنه من سيئاته، وإذا صبر واحتسب الأجر من الله كان له مع تكفير السيئات زيادة في حسناته على صبره، كما قال الله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) .فالمصائب التي تصيب الإنسان تكفير، ومع الصبر عليها واحتساب الأجر تكون مع التكفير زيادة في الحسنات. ***
المستمعة حصة. م. أ. الرياض تقول في رسالتها: كما نعلم يا فضيلة الشيخ من القرآن الكريم والسنة المطهرة مآل المشركين في الآخرة، سؤالي هو عن أطفالهم الصغار إذا ما ماتوا، ما حكم ذلك يا فضيلة الشيخ؟ أرجو إفادة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إذا مات أطفال الكفار وهم لم يبلغوا سن التمييز فيُسلموا، وكان أبوه وأمه كافرين، فإن حكمه حكم الكفار في الدنيا، أي: لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولا يدفن مع المسلمين؛ لأنه كافر بأبويه، هذا في الدنيا. أما في الآخرة: فالله أعلم بما كانوا عاملين، وأصح الأقوال فيهم أن الله ﷾ يختبرهم يوم القيامة بما يشاء من تكليف، فإن امتثلوا أدخلهم الله الجنة، وإن أبوا أدخلهم النار. وهكذا نقول في أهل الفترة ومن لم تبلغهم الرسالات: إنهم إذا كانوا لا يدينون بالإسلام حكمهم في الدنيا حكم الكفار، وأما في الآخرة فالله أعلم بما كانوا عاملين، يختبرون ويكلفون بما يشاء الله ﷿ وما تقتضيه حكمته، فإن أطاعوا دخلوا الجنة، وإن عصوا دخلوا النار. ***
يقول: جاء في بعض الأحاديث أن القرآن يشفع للعبد، يقول: يا رب إلى آخره، فكيف الجمع بين ذلك وبين أن القرآن كلام الله غير مخلوق، والحديث فيه أن القرآن يقول: يا رب؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الحديث إذا صح- لأن بعض أهل العلم ضعفه، لكن إذا صح هذا الحديث- فإن الله ﷾ قادر على أن يكون هذا القرآن الكريم يمثل جزاؤه وأجره، يمثل بشيء يتكلم فيتكلم، كما أن الموت- وهو معنى من المعاني- يمثل يوم القيامة على صورة كبش، فيذبح بين الجنة والنار، يشهده أهل الجنة وأهل النار. فالمعنى- الذي هو عمل الإنسان، وهو قراءته، وثواب الإنسان على هذه القراءة- قد يجعله الله شيئًا ينطق ويتكلم ويقول: يا رب، هذا إن صح الحديث. ***
أحسن الله إليكم هل صحيح أن الإنسان الذي يموت يكون إما في سجين وإما في عليين، جزاكم الله خيرًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم هكذا جاءت به السنة أن الله ﷾ يقول في الرجل الفاجر: (اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الأرض السابعة السفلى) . وإذا كان من الأبرار قال: (اكتبوا كتاب عبدي في عليين) . وهكذا في الآخرة: الناس إما في سجين وإما في عليين، إما في الجنة وإما في النار، قال الله ﵎: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ* فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) . وقال الله ﵎: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) . وإنني بهذه المناسبة أنبه على مسألة يقولها بعض الناس وهم لا يشعرون، وهي أنهم إذا تحدثوا عن شخص مات قالوا: ثم نقل إلى مثواه الأخير، يعنون بذلك القبر، وهذا غلط واضح؛ لأن القبر ليس هو المثوى الأخير، بل المثوى الأخير إما الجنة وإما النار، أما القبر فإن الإنسان يأتيه ثم ينتقل عنه، وما مجيئه في القبر إلا كزائر بقي مدة ثم ارتحل. وقد ذكر أن بعض الأعراب سمع قارئًا يقرأ قول الله تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) . فقال هذا الأعرابي: والله لنبعثن؛ لأن الزائر ليس بمقيم. ولهذا يجب الحذر من إطلاق هذه الكلمة- أعني: القول بأنه انتقل إلى مثواه الأخير- لأن مضمونها إنكار البعث وأنه لا بعث، ونحن نعلم أن المسلم إذا قالها لا يريد هذا المضمون، لكنها تجري على لسانه تقليدًا لمن قالها من حيث لا يشعر، فالواجب الحذر منها والتحذير منها. ***
السائل حميد أحمد من اليمن يقول في هذا السؤال: لدينا طلاب متفقهون في الشرع، ويقولون بأن الله ﷿ سيرى يوم القيامة، فهل هذا صحيح؟ مع الدليل من الكتاب والسنة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: رؤية الله تعالى يوم القيامة صحيح ثابت بالقرآن والسنة وإجماع السلف. فمن أدلة ذلك في كتاب الله قول الله ﵎: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) فناضرة الأولى بمعنى حسنة، وناظرة الثانية من النظر بالعين، ولهذا أضيف النظر إلى الوجوه التي هي محل الأعين. ومن ذلك قول الله ﵎: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) فقد فسر النبي ﷺ الحسنى بالجنة، والزيادة بالنظر إلى وجه الله ﷿. ومن ذلك قول الله ﵎: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (المطففين: ١٥) يعني في ذلك الفجار، وهذا دليل على أن الأبرار يرون الله ﷿؛ لأن الله تعالى لما حجب هؤلاء في حال سخط كان المفهوم أن الله تعالى لا يحجب هؤلاء في حال الرضا، أعني: الأبرار. ومن ذلك قول الله ﵎، وهي الآية الرابعة: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) فإن المزيد ينبغي أن يفسر بما فسرت به الزيادة في قوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) والذي فسر الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله هو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا شك أن النبي ﷺ أعلم الناس بمراد الله تعالى في كلامه. وأما السنة: فالأحاديث في ذلك متواترة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد تواتر عن النبي ﷺ أن الله يرى بالعين يوم القيامة، فمن ذلك قول النبي ﷺ: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا) . والصلاة التي قبل طلوع الشمس هي صلاة الفجر، والتي قبل غروبها هي صلاة العصر، وهاتان الصلاتان أفضل الصلوات، ولهذا قال ﵊: (من صلى البردين دخل الجنة) . وقد صرح النبي ﷺ في أحاديث أخرى تصريحًا بالغًا من أقوى التصريحات فقال: (إنكم سترون ربكم يوم القيامة عيانًا بأبصاركم، كما ترون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب) . وأمَّا إجماع السلف: فهو أمر مشهور لا يخفى على أحد. ولهذا صرح بعض العلماء بأن من أنكر رؤية الله في الجنة فهو كافر؛ لأنه كذب القرآن والسنة، وخالف إجماع السلف، وقد قال الله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) . ولولا أننا نفضل الدعاء للمنكرين على الدعاء عليهم لقلنا: نسأل الله تعالى أن يحتجب عن من أنكروا رؤيته في الآخرة، ولكننا لا نفضل ذلك، بل نقول نسأل الله تعالى الهداية لمن التبس عليه الأمر، وأن يقر ويؤمن بما جاء في الكتاب والسنة. والعجب أن من الناس من ينكر رؤية الله في الآخرة بشبه يأتي بها من القرآن والسنة، أو بشبه عقلية لا أساس لها من الصحة. فمنهم من قال: إن رؤية الله تعالى غير ممكنة في الآخرة؛ لأن موسى ﵊ قال: (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي) . وقرروا دليلهم ذلك بأنّ (لن) تفيد التأبيد والتأبيد، يقتضي أن يكون هذا عامًّا في الدنيا والآخرة، فيكون قوله: لن تراني، أي في الدنيا وفي الآخرة. ولا شك أن هذا لبس وإلباس وتخبيط؛ لأن موسى إنما سأل الله الرؤية في تلك الساعة، بدليل أن الله تعالى قال له: (لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) . وسؤال موسى الرؤية يدل على إمكانها، إذ لو لم تكن ممكنة عقلًا ما سألها موسى ﵊، لكن الإنسان في الدنيا لا يستطيع أن يرى الله ﷿، وذلك لقصوره وضعفه، ولهذا قال النبي ﵊: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) . ويدل لهذا أن الله تعالى لما تجلى للجبل اندك الجبل وهو الحجر الأصم، فكيف يمكن لجسم ابن آدم الضعيف أن يثبت لرؤية الله ﷿ في هذه الدنيا؟ أما في الآخرة فشأنها غير شأن الدنيا، وفي الآخرة من الأمور ما لا يمكن إطلاقًا في الدنيا: دنو الشمس قدر ميل يوم القيامة، لو حدث ذلك في الدنيا لاحترقت الأرض ومن عليها. كون الناس في الموقف يختلفون، يعرقون فيختلفون في العرق: منهم من يصل إلى كعبيه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، هذا أمر لا يمكن في الدنيا، لكنه في الآخرة ممكن. كون الناس يمشون على الصراط، وهو كما جاء في مسلم بلاغًا (أدق من الشعر وأحد من السيف) أمر لا يمكن في الدنيا، ويمكن في الآخرة. كون الناس يقفون خمسين ألف سنة لا يأكلون ولا يشربون، حفاة عراة غرلًا، هذا لا يمكن في الدنيا وأمكن في الآخرة. فإذا كانت رؤية الله في الدنيا لا تمكن فإنه لا يلزم من ذلك ألا تمكن في الآخرة، وأما دعواهم أن (لن) تفيد التأبيد فدعوى غير صحيحة، فإن الله تعالى قال في أهل النار: إنهم لن يتمنوا الموت أبدًا بما قدمت أيديهم، قال ذلك في اليهود، وقال عن أهل النار يوم القيامة: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) أي: ليهلكنا ويمتنا حتى نستريح، فهنا تمنوا الموت وسألوا الله تعالى أن يقضي عليهم، ولكن لا يتسنى لهم ذلك: (قال إنكم ماكثون) . ولهذا قال ابن مالك ﵀ في الكافية: ومن رأى النفي بلن مؤبدا فقوله اردد وسواه فاعضدا والمهم أن من العقيدة عند السلف الواجبة أن يؤمن الإنسان بأن الله تعالى يرى يوم القيامة، ولكن متى يرى؟ يرى في الجنة إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ، فإن الله تعالى يكشف لهم كما شاء ومتى شاء وكيف شاء، فيرونه في عرصات القيامة، لا يراه الكافرون، يراه المؤمنون والمنافقون، ثم يحتجب الله تعالى عن المنافقين. والخلاصة: أنه يجب علينا أن نؤمن بأن الله تعالى يرى يوم القيامة رؤية حق بالعين، فإن قال قائل: وإذا رئي هل يدرك كما يدرك الرائي وجه مرئيه؟ قلنا: لا، لا يمكن أن يدرك؛ لأن الله تعالى قال: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) . والعجب أن المنكرين لرؤية الله في الآخرة استدلوا بهذه الآية على أنه لا يرى، وهو استدلال غريب، فإن الآية تدل على أنه يرى أكثر مما تدل على أنه لا يرى، بل إنه ليس فيها دلالة إطلاقًا على أنه لا يرى؛ لأن الله تعالى إنما نفى الإدراك، والإدراك أخص من الرؤية، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، بل إنما يقتضي وجود الأعم، فنفي الإدراك دليل على وجود أصل الرؤية، ولهذا جعل السلف هذه الآية من الأدلة على ثبوت رؤية الله ﷿ في الآخرة، وهو استدلال صحيح واضح. ***
السؤال من أحد الإخوة السودانيين مقيم بالمملكة منطقة الباحة يقول: يذهب أهل السنة والجماعة إلى القول بأن مصير الموحدين إلى الجنة في نهاية المطاف، وجاء في الحديث: (أنه لا يدخل الجنة قاطع رحم) . وأيضًا جاء: (لا يدخل الجنة نمام) . فهل الموحدون من هاتين الفئتين لا يدخلون الجنة كما هو ظاهر هذه النصوص؟ أم كيف يكون الجمع بينها؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذه النصوص وأمثالها من أحاديث أو من نصوص الوعيد هي التي أوجبت بطائفة الخوارج والمعتزلة أن يقولوا بخلود أهل الكبائر في النار؛ لأنهم أخذوا بهذه العمومات ونسوا عمومات أخرى تعارضها، وهي ما ثبت في أدلة كثيرة من أن الموحدين، أو من في قلبه إيمان ولو مثقال حبة من خردل فإنه لا يخلد في النار، كما أن عمومات الأدلة الدالة على الرجاء، وأن المؤمن يدخل الجنة، حملت المرجئة على ألا يعتبروا بنصوص الوعيد، وقالوا: إن المؤمن ولو كان فاسقًا لا يدخل النار، فهؤلاء أخذوا بعمومات هذه الأدلة، وأولئك أخذوا بعمومات أدلة الوعيد، فهدى الله أهل السنة والجماعة إلى القول الوسط الذي تجتمع فيه الأدلة، وهو: أن فاعل الكبيرة لا يخرج من الإيمان، وأنه مستحق للعقوبة، ولكن قد يعفو الله عنه فلا يدخله النار، وقد يدعى له فيعفى عن عقوبته، وقد تكفر هذه العقوبة بأسباب أخرى، وإذا قدر أنه لم يحصل شيء يكون سببًا لتكفيرها فإنه يعذب في النار على قدر عمله، ثم يكون في الجنة، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة. وعلى هذا: فأحاديث الوعيد المطلقة أو العامة كما في الحديثين اللذين أشار إليهما السائل: (لا يدخل الجنة قاطع رحم)، (لا يدخل الجنة نمام) تحمل على أن المعنى لا يدخلها دخولًا مطلقًا، أي: دخولًا كاملًا بدون تعذيب، بل لابد أن يتقدم ذلك التعذيب، إن لم يوجد ما يمحو ذلك الإثم من عفو الله أو غيره، فيكون معنى (لا يدخلون الجنة) أي: الدخول المطلق الكامل الذي لم يسبق بعذاب، وبهذا تجتمع الأدلة. ***
يقول هذا السائل: هل السبعون ألفًا الذين يدخلون الجنة هؤلاء إيمانهم يكون كاملًا، ومن هم الذين يعذبون في النار ويدخلون الجنة؟ والذين يبقون في النار خالدين فيها؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما الناس الذين يبقون في النار خالدين فيها فهؤلاء الكفار الذين ليس لهم حسنات، كما قال الله ﵎: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا* خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) . وقد ذكر الله تعالى خلود الكافرين الأبدي في القرآن في ثلاثة مواضع: الأول في النساء في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) والثاني في الأحزاب في قول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) . والثالث في سورة الجن في قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) . وأما أهل المعاصي من المؤمنين فهؤلاء مستحقون لدخول النار والعذاب فيها بقدر ذنوبهم، ولكن قد يغفر الله لهم فلا يدخلون النار، وقد يشفع لهم فلا يدخلون النار. وهناك أناس يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهم الذين وصفهم النبي ﵊ بقوله: (لا يَسْتَرْقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون) . ***
أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، الدليل من الكتاب والسنة على دخول الرجل المسلم العاصي النار ومن ثم خروجه إلى الجنة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الدليل على هذا أحاديث عن النبي ﵊ وردت كثيرًا بأن عصاة المؤمنين يدخلون النار، يعذبون فيها بقدر ذنوبهم ثم يخرجون منها، ومنهم من يخرج بالشفاعة قبل أن يستوفي ما يستحقه من عقوبة، ومنهم من يغفر الله له بفضله ورحمته فلا يدخل النار، فعصاة المسلمين ثلاثة أقسام: قسم يغفر الله له ولا يدخل النار أصلًا، وقسم آخر يدخل النار ويعذب بقدر ذنوبه ثم يخرج، وقسم ثالث يدخل النار ويعذب، ولكن يكون له الشفاعة، فيخرج من النار قبل أن يستكمل ما يستحقه من العذاب. ***
بارك الله فيكم يقول السائل: هل يخلد صاحب الشرك الأصغر في النار؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا يخلد صاحب الشرك الأصغر في النار؛ لأن الشرك الأصغر لا يخرج من الملة، والذي يخلد به الإنسان في النار- أعاذنا الله منها- هو الشرك الأكبر؛ لقول الله ﵎: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) . ولكن هل يكون الشرك الأصغر داخلًا تحت المشيئة كسائر الذنوب، أو لابد فيه من توبة؟ هذا يحتمل أن يكون قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) عامًّا للشرك الأصغر والأكبر، أي إنه لا يغفر، لكن الشرك الأصغر لا يخلد صاحبه في النار. ويحتمل أن يقال: إن المراد بالشرك في قوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الشرك الأكبر، فيكون الشرك الأصغر داخلًا تحت قوله: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) . وفضل الله ﷾ أوسع مما نتصور، فنرجو أن يكون الشرك الأصغر داخلًا تحت المشيئة. وبهذه المناسبة أود أن أنبه إلى مسألة حول هذه الآية، أعني قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) فإن بعض المتهاونين بالمعاصي إذا نهوا عن المعصية قال: إن الله يقول: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) . فجميع المعاصي داخلة تحت مشيئته، فيتهاون بالمعصية من أجل هذا الذي ذكره الله تعالى فيما دون الشرك. فنقول له: أنت على كل حال مخاطر، فهل تعلم أن الله تعالى يشاء أن يغفر لك؟ إنك لا تدري، فربما تكون من الذين لا يشاء الله أن يغفر لهم، فأنت مخاطر، والخطر أمر منهي عنه. ثم إن هناك أدلة أخرى محكمة ليس فيها اشتباه، وهي: وجوب التوبة إلى الله ﷿، فقد قال الله ﵎: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) . ***
بارك الله فيكم هذا السائل عبد الله العتيبي الطائف الحوية يقول: فضيلة الشيخ هل أهل الكبائر من أمة محمد ﷺ يخلدون في النار أم لا؟ وهل تحل لهم الشفاعة أم لا؟ وكيف يكون ذلك؟ أرجو منكم الإفادة مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أهل الكبائر التي دون الكفر لا يخلدون في النار؛ لقول الله تبارك تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) . وهم من أهل الشفاعة الذين يشفع فيهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، وهذا لا يعني أن الإنسان يتهاون بالكبائر، فإن الكبائر ربما توجب انطماس القلب حتى تؤدي إلى الكفر والعياذ بالله، كما قال الله ﵎ في سورة المطففين: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين َ* الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّين ِ* وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) . فهذا يشير إلى أن القلوب قد يران عليها فترى الحق باطلًا، كما ترى الباطل حقًّا. فعلى الإنسان أن يستعتب من كبائر ذنوبه قبل ألا يتمكن من ذلك، وأن يتوب إلى الله ﷿. ***
المستمعة من الرياض تقول: هل المسلم إذا دخل الجنة يتعرف على أقاربه الذين في الجنة؟ وهل يذكر أهله بعد موته ويعرف أحوالهم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما الشق الأول من السؤال، وهو: إذا دخل أحد الجنة هل يتعرف على أقاربه؟ فجوابه: نعم يتعرف على أقاربه وغيرهم من كل ما يأتيه سرور قلبه؛ لقول الله تعالى: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) . بل إن الإنسان يجتمع بذريته في منزلةٍ واحدة إذا كانت الذرية دون منزلته، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) . وأما الشق الثاني من السؤال، وهو: معرفة الميت ما يصنعه أهله في الدنيا؟ فإنني لا أعلم في ذلك أثرًا صحيحًا يعتمد عليه، ولكن بعض الوقائع تدل على أن الإنسان قد يعرف ما يجري على أهله، فقد حدثني شخص أنه بعد موت أبيه أضاع وثيقةً له، وصار يطلبها ويسأل عنها، فرأى في المنام أن أباه يكلمه من نافذة المجلس ويقول له: إن الوثيقة مكتوبة في أول صفحة من الدفتر الفلاني، لكن الورقة لاصقةٌ بجلدةٍ في الدفتر، فافتح الورقة تجد الوثيقة في ذلك المكان. ففعل الرجل ورآها كما ذكر أبوه، وهذا يدل على أن الإنسان قد يكون له علم بما يصنعه أهله من بعده. ***
أحسن الله إليكم هذا سائل عبد المنعم عثمان من السودان يقول: هل الرجل يتعرف على أولاده في يوم القيامة إذا كانوا سعداء؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إذا كان الأولاد سعداء والأب من السعداء فإن الله ﵎ يقول في كتابه: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) يعني: أن الإنسان إذا كان له ذرية، وكانوا من أهل الجنة، فإنهم يتبعون آباءهم وإن نزلت درجتهم عن الآباء، ولهذا قال: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ) أي: ما نقصنا الآباء (مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) بل الآباء بقي ثوابهم موفرًا، ورفعت الذرية إلى مكان آبائها، هذا ما لم يخرج الأبناء عن الذرية بحيث ينفردون بأزواجهم وأهليهم، فيكون هؤلاء لهم فضلهم الخاص ولا يلحقون بآبائهم؛ لأننا لو قلنا: كل واحد يلحق بأبيه ولو كان له أزواج أوكان منفردًا بنفسه، لكان أهل الجنة كلهم في مرتبة واحدة؛ لأن كل واحد من ذريته من فوقه، لكن المراد بالذرية الذين كانوا معه ولم ينفردوا بأنفسهم وأزواجهم وأولادهم، هؤلاء يرفعون إلى منزلة آبائهم ولا ينقص الآباء من عملهم من شيء. ***
حفظكم الله هذه رسالة وصلت من مستمع للبرنامج لم يذكر الاسم، في حالة دخول الزوجين الجنة هل يلتقيان مرة ثانية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم، إذا دخل الرجل وزوجته الجنة فهي زوجته لا تتعداه، وهو أيضًا لا يتعداها إلا فيما أعطاه الله تعالى من الحور العين، أو من نساء الجنة اللاتي ليس لهن أزواج في الدنيا. وإذا كان للمرأة زوجان ودخلا الجنة فإنها تخير بينهما، فمن اختارت فهو زوجها، وفي الحديث أنها تختار أحسنهما خلقًا. ***
رسالة من المستمع ح. م. ص. من جدة بعث بعدة أسئلة، في سؤاله الأول يقول: هل صحيحٌ أن الزوجين إذا كانا صالحين وتوفيا وكانا من أهل الجنة أنهما يكونان زوجين حتى في الجنة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم هذا صحيح أنه إذا مات رجل وزوجته وكانا من أهل الجنة فإنها تبقى زوجةً له، قال الله تعالى: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) . وقال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) . والذرية شاملة لذرية الزوج والزوجة، فإذا كان الله يلحق بالمؤمنين ذرياتهم فمعنى ذلك أن الزوج والزوجة يكونان سواءً، ويلحق الله بهما ذريتهما، وهذا من كمال النعيم الذي في الجنة، فإنها فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وهذا من كمال النعيم كما قلت. ***
فضيلة الشيخ محمد وردتنا الرسالة من المستمع إبراهيم محمد ش. يقول في رسالته لقد عرفنا مصير الرجال في الجنة أن لهم زوجات حورًا عينًا، ويقصد الرجال من المسلمين، ولكن ما مصير النساء في الجنة؟ ألهن أزواجٌ أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يقول الله ﵎ في نعيم أهل الجنة: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢» . ويقول تعالى: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) . ومن المعلوم أن الزواج من أبلغ ما تشتهيه النفوس، فهو حاصلٌ في الجنة لأهل الجنة ذكورًا كانوا أم إناثًا، فالمرأة يزوجها الله ﵎ في الجنة، يزوجها بزوجها الذي كان زوجًا لها في الدنيا، كما قال الله تعالى: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) . وإذا كانت لها زوجان في الدنيا فإنها تخير بينهما يوم القيامة في الجنة، وإذا لم تتزوج في الدنيا فإن الله تعالى يزوجها ما تقر به عينها في الجنة، فالنعيم في الجنة ليس قاصرًا على الذكور، وإنما هو للذكور وللإناث، ومن جملة النعيم الزواج. ولكن قد يقول قائل: إن الله تعالى ذكر الحور العين وهن زوجات، ولم يذكر للنساء أزواجًا؟ فنقول: إنما ذكر الزوجات للأزواج؛ لأن الزوج هو الطالب وهو الراغب في المرأة، فلذلك ذكرت الأزواج للرجال في الجنة، وسكت عن الأزواج للنساء، ولكن ليس معنى ذلك أنه ليس لهن أزواج، بل لهن أزاج من بني آدم. ***
بارك الله فيكم هذا السائل أحمد صالح يقول: هل المرأة الصالحة في الدنيا تكون من الحور العين في الآخرة؟ أرجو منكم الإفادة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: المرأة الصالحة في الدنيا- يعني: الزوجة- تكون خيرًا من الحور العين في الآخرة، وأطيب وأرغب لزوجها، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر أن أول زمرة تدخل الجنة على مثل صورة القمر ليلة البدر. فضيلة الشيخ: هل الأوصاف التي ذكرت للحور العين تشمل نساء الدنيا في القرآن؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الذي يظهر لي أن نساء الدنيا يكن خيرًا من الحور العين حتى في الصفات الظاهرة والله أعلم، ونحن نقول لأخينا السائل: هذه أسئلة لا وجه لها، أنت إذا كنت من أهل الجنة ودخلت الجنة فستجد فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ستجد فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهذه التساؤلات في أمور الغيب هي من التنطع في دين الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) . اصبر يا أخي حتى تدخل الجنة، فستجد ما لا يخطر لك على بال. ***
تقول السائلة ر ق ع في هذا السؤال: ما منزلة المرأة في الجنة مع وجود الحور العين؟ وماذا بالنسبة لزوجها؟ وهل المرأة تصبح زوجة للشهداء؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا شك أن الزوجات يكن مع أزواجهن في الآخرة، يقول الله ﷿ في دعاء الملائكة للمؤمنين: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) . وقال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) . ولا شك أن الزوجة مع زوجها في الجنة لها مقام عظيم عالٍ، حتى إن بعض العلماء قال في دعاء الميت: (وأبدلها زوجًا خيرًا من زوجها) أن المعنى: أبدلها زوجًا خيرًا من زوجها، أي: اجعل زوجها لها في الجنة خيرًا مما هو عليه في الحياة الدنيا. ثم إن قول الله تعالى: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) شامل لكل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فليس فيها كدر ولا نصب، ولا هم ولا غم، فلتبشر النساء بالخير، ولتعلم أن الجنة ليس فيها ما في الدنيا من الغيرة والتأذي. ***
وعد الله ﷿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لهم الجنة والحور العين، أرجو أن تعرفونا هل هذا خاص للرجال فقط بالنسبة للحور العين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا شك أن الجنة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين للرجال وللنساء، وليقرأ السائل قول الله تعالى في سورة الأحزاب: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ) إلى قوله ﵎: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) .وقوله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) . فما ثبت للرجال من الأجور على الأعمال الصالحة فهو ثابت للنساء، وما ثبت من الأوزار على الرجال فهو ثابت للنساء، لكن هناك أحكام تختص بالرجال وأحكام تختص بالنساء بدليل من الكتاب والسنة، فإذا كان هناك دليل يدل على اختصاص الرجال بحكم أو اختصاص النساء بالحكم فليكن هذا على مقتضى الدليل. ***
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يقول: نحن نعلم بأن الله ﷾ قد أعد الحور العين لعباده المؤمنين يوم القيامة في الجنة، فإذا كانت هنالك امرأة مؤمنة وأدخلها الله ﷾ الجنة برحمته، أما زوجها فلسوء سعيه في الدنيا لم يدخل الجنة، فمن يكون زوجها يومئذٍ؟ أفيدونا مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نقول: وعلى السائل السلام ورحمة الله وبركاته. والجواب على سؤاله هذا يؤخذ من عموم قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢» . ومن قوله تعالى: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) . فالمرأة إذا كانت من أهل الجنة ولم تتزوج،؟ أو كان زوجها ليس من أهل الجنة، فإنها إذا دخلت الجنة فهناك من أهل الجنة من لم يتزوجوا من الرجال، وهم- أعني: من لم يتزوجوا من الرجال- لهم زوجات من الحور، ولهم زوجات من أهل الدنيا إذا شاؤوا وشغل ذلك أنفسهم، وكذلك نقول، بالنسبة للمرأة إذا لم تكن ذات زوج، أو كانت ذات زوج في الدنيا ولكن زوجها لم يدخل مع أهل الجنة: إنها إذا اشتهت أن تتزوج فلا بد أن يكون لها ما تشتهيه؛ لعموم هذه الآيات، ولا يحضرني الآن نص خاص في هذه المسألة. والعلم عند الله تعالى. ***
أحسن الله إليكم هذا سؤال من المستمع سالم غانم عاشور العراق الموصل يقول: قرأت في كتاب للشيخ الإمام الغزالي حديثًا عن النبي ﷺ عن الشفاعة، فيمن أخرجهم الله من النار بشفاعته ﷺ، حين يقول الله تعالى: فرغت شفاعة الملائكة والنبيين وبقيت شفاعتي، فيخرج من النار أقوامًا لم يعملوا حسنة قط، فيدخلون الجنة فيكون في أعناقهم سمات، ويسمون عتقاء الله ﷿. فما مدى صحة هذا الحديث؟ وما معناه؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الحديث متفق عليه بمعناه، يعني: أنه قد روى البخاري ومسلم معنى هذا الحديث، إلا أن فيه كلمة منكرة في هذا السياق الذي ذكره الأخ، وهي قوله: (فتبقى شفاعتي) . فإن هذه اللفظة منكرة، واللفظ الذي ورد في الصحيحين: (ولم يبق إلا أرحم الراحمين) . وإنما كانت اللفظة التي ذكرها السائل منكرة لأن قوله: (وتبقى شفاعتي) عند من يشفع؟ فالله ﷾ هو الذي يشفع إليه، وليس يشفع إلى أحد ﷾: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) .ومعنى هذا الحديث: أن الله ﷾ يأذن للرسل والملائكة والنبيين، وكذلك لصالح الخلق، أن يشفعوا في إخراج من شاء من أهل النار، فيخرج من أهل النار من شاء الله، حتى إذا لم يبق أحد تبلغه شفاعة هؤلاء، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين، أخرج الله ﷾ بهذه الرحمة من شاء، وجعل في رقابهم خواتم على أنهم عتقاء الله ﷾، فيدخلون الجنة، ومعنى قوله: (لم يعملوا حسنةً قط) أنهم ما عملوا أعمالًا صالحة، لكن الإيمان قد وقر في قلوبهم، فإما أن يكون هؤلاء قد ماتوا قبل التمكن من العمل، آمنوا ثم ماتوا قبل أن يتمكنوا من العمل، وحينئذ يصدق عليهم أنهم لم يعملوا خيرًا قط، وإما أن يكون هذا الحديث مقيدًا بمثل الأحاديث الدالة على أن بعض الأعمال الصالحة تركها كفر كالصلاة مثلًا، فإن من لم يصل فهو كافر ولو زعم أنه مؤمن بالله ورسوله، والكافر لا تنفعه شفاعة الشافعين يوم القيامة، وهو مخلد في النار أبد الآبدين والعياذ بالله. فالمهم أن هذا الحديث إما أن يكون في قوم آمنوا ولم يتمكنوا من العمل، فماتوا فور إيمانهم، فما عملوا خيرًا قط، وإما أن يكون هذا عامًّا، ولكنه يستثنى منه ما دلت النصوص الشرعية على أنه لابد أن يعمل كالصلاة، فإنه لابد أن يصلى الإنسان، فمن لم يصل فهو كافر، لا تنفعه الشفاعة ولا يخرج من النار. ***
الشياطين مخلوقة من نار، أي: نار السموم، وعدهم الله بنار الحميم، فكيف يكون عذابهم وهم خلقوا من نار هل النار التي سيعذبون بها غير التي نعرفها؟ فأجاب رحمه الله تعالى: النار التي يعذب بها الشياطين هي النار التي يعذب بها الكفار من بني آدم، ولا فرق بينهما، والإنسان إذا خلق من الشيء لا يلزم أن يكون هو الشيء، أرأيت نفسك أيها السائل: خلقت من طين، فهل أنت طين؟ من المعلوم أن الجواب: لا، ليس الإنسان بطين، هكذا الشياطين خلقت من نار ولكنها ليست نارًا، وإذا لم تكن نارًا فإنها أجسام لها خصائصها التي خصها الله بها، وإذا كان يوم القيامة فإنها تعذب بالنار. ***
القضاء والقدر
إبراهيم أبو حامد يقول: حدثونا عن القضاء والقدر، هل هما بمعنى واحد؟ فأجاب رحمه الله تعالى: القضاء والقدر إذا اجتمعا فلكل واحد معناه. وأما إذا أفرد أحدهما فإنه يشمل الآخر، فإذا قيل: قضاء وقدر، فالقضاء: ما قضاه الله تعالى في الأزل، وكتبه في اللوح المحفوظ. والقدر: ما قدره الله فوقع. فأما إذا قيل: قضاء فقط فإنه يشمل الأمرين جميعًا، أو قيل: قدر فقط فإنه يشمل الأمرين جميعًا. ***
هل القضاء والقدر بمعنى واحد؟ وما معناهما؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم القضاء والقدر بمعنى واحد إذا أفرد أحدهما عن الآخر، فيقال مثلًا: يؤمن بقدر الله، أو: يؤمن بقضاء الله. وأما إذا جمعا فالقضاء: ما كتبه الله في الأزل، والقدر: ما قدر الله وجوده، أو بالعكس، يعني: أنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا. ***
يقول السائل: ما الفرق بين القضاء والقدر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هاتان الكلمتان مترادفتان إن تفرقتا، ومتباينتان إن اجتمعتا. فإذا قيل: القضاء بدون أن يقترن به القدر كان شاملًا للقضاء والقدر، وإذا قيل: القدر دون أن يقترن به القضاء كان شاملًا للقضاء والقدر أيضًا. وهذا كثير في اللغة العربية: أن تكون الكلمة لها معنى عام عند الانفراد، ومعنى خاص عند الاقتران. فإذا قيل: القضاء والقدر جميعًا صار القضاء: ما يقضي به الله ﷿ من أفعاله أو أفعال الخلق، والقدر: ما قدر الله تعالى في الأزل وكتبه في اللوح المحفوظ، وذلك لأن المقدور سبقه تقدير في الأزل، أي: كتابة بأنه سيقع، وقضاء من الله تعالى بوقوعه فعلًا. وإن شيءت فقل: الكتابة قدر والمشيئة قضاء، والله تعالى يكتب الشيء، بل كتب الشيء في اللوح المحفوظ، ثم يشاؤه ﷾ في الوقت الذي تقتضي فيه حكمته وجوده فيه، الثاني قضاء والأول قدر. فصارت هاتان الكلمتان إن انفردت إحداهما عن الأخرى شملت معنى الأخرى، وإن اجتمعتا صار لكل واحدة منهما- أي: من الكلمتين- معنى. ***
تقول السائلة أم محمد من القاهرة: يا فضيلة الشيخ ماذا يعني القضاء والقدر بالتفصيل؟ وفقكم الله فأجاب رحمه الله تعالى: القضاء هو القدر إذا ذكر وحده، والقدر هو القضاء إذا ذكر وحده. فإن اجتمعا وقيل: القضاء والقدر صار القضاء: ما يفعله الله ﷿، والقدر ما كتبه في الأزل. وقد ذكر العلماء ﵏ أن الإيمان بالقدر له مراتب: المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله ﷿، بأن يؤمن العبد بأن الله تعالى بكل شيء عليم، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه عالمٌ بما كان وما يكون، وأنه ما وقع شيء إلا بعلمه. والمرتبة الثانية: الإيمان بالكتابة، أي: إن الله كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة، فإن الله أول ما خلق القلم قال له: اكتب. قال: ربي وماذا أكتب؟ قال اكتب ما هو كائنٌ. فجرى في تلك الساعة بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة. ودليل هاتين المرتبتين قوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) . المرتبة الثالثة: الإيمان بمشيئة الله العامة، وأن كل شيءٍ واقع بمشيئته ﷾، لا فرق في ذلك بين ما يحصل من فعله جل وعلا، وما يحصل من أفعال مخلوقاته. أما دليل الأول- وهو: ما يحصل من فعله- فهو قول الله تعالى: (وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) . وأما الثاني- وهو: ما وقع من أفعال خلقه- فدليله قول الله ﵎: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) فكل شيء يقع في السماوات أو في الأرض فإنه واقعٌ بمشيئته ﵎. وأما المرتبة الرابعة فهي: الإيمان بخلق الله، وأن كل كائن فهو مخلوق لله ﷿، لا خالق غيره ولا رب سواه. ودليل هذا قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) . هذه المراتب الأربع هي مراتب الإيمان بالقضاء والقدر، ولا يتم الإيمان بالقدر إلا بتحقيق هذه المراتب الأربع ومن المعلوم أن الإيمان بالقدر هو أحد أركان الإيمان الستة التي أجاب بها نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جبريل حين سأله عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) . ***
عودة من جدة يقول: ما الفرق بين القضاء والقدر؟ أرجو الإفادة فأجاب رحمه الله تعالى: القضاء والقدر اسمان مترادفان إن تفرقا، يعني: أنهما إذا تفرقا فهما بمعنى واحد، وإن اجتمعا فالقضاء: ما يقضي به الله، أي يحكم به، أي: بوقوعه. والقدر: ما كتبه الله تعالى في الأزل. وليعلم أن القضاء ينقسم إلى قسمين: قضاء شرعي، وقضاء كوني. فالقضاء الشرعي: يتعلق بما أحبه الله ورضيه، مثل قوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) . والقضاء الكوني: يتعلق بما قدره الله سواء كان مما يرضاه أو مما لا يرضاه، ومنه قوله تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) . والإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة التي بينها رسول الله ﷺ حين سأله جبريل عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) . فحقيقته: أن تؤمن بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. فما قدره الله عليك فلا بد أن يقع مهما عملت من الأسباب، وما دفع الله عنك فلا يمكن أن يقع مهما كان من الأسباب. ولهذا كان المؤمنون يقولون: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت. ***
أحسن الله إليكم وبارك فيكم من مكة المكرمة السائل م. أ. يقول: ما حكم الإيمان بالقضاء والقدر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإيمان بالقضاء والقدر أحد أركان الإيمان الستة، كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جوابًا لجبريل عندما قال: أخبرني عن الإيمان. قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) . ولا يتم الإيمان بالقدر إلا إذا آمن الإنسان بأمورٍ أربعة: الأول: الإيمان بعلم الله تعالى، وأنه ﷾ محيطٌ بكل شيءٍ علمًا، لا يخفى عليه شيء الثاني: أن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى يوم القيامة. ودليل هذين الأمرين قول الله ﵎: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) . وقوله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) . الأمر الثالث: أن تؤمن بأن كل ما في الكون فهو كائن بمشيئة الله، لا يخرج عن مشيئته شيء، حتى أفعال العباد قد شاءها الله ﷿. قال الله تعالى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ العالمين) . وقال ﵎: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) . الأمر الرابع: أن تؤمن بأن الله تعالى خالق كل شيءٍ في السماوات والأرض، كما قال الله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)، حتى أعمال العبد مخلوقة لله تعالى؛ لقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) . ووجه كون فعل العبد مخلوقًا لله: أن فعل العبد واقعٌ بإرادة العبد وقدرة العبد، وإرادة العبد وقدرة العبد مخلوقتان لله ﷿، وخالق السبب التام خالقٌ للمسبب، فإذا كان فعل الإنسان ناتجًا عن إرادةٍ وقدرة وهما مخلوقتان لله؛ صار فعل العبد مخلوقًا لله ﷿. فلا بد في الإيمان بالقدر من الإيمان بهذه الأمور الأربعة: علم الله، كتابة كل شيء كائن إلى يوم القيامة في لوحٍ محفوظ،مشيئة الله،خلق الله. وفي هذا يقول الناظم: علمٌ كتابة مولانا مشيئته وخلقه وهو إيجادٌ وتكوين ***
هذا السائل من الرياض إبراهيم أبو حامد يقول: ما حكم الإيمان بالقدر؟ وكيف يكون؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإيمان بالقدر واجب، ومنزلته في الدين أنه أحد أركان الإيمان الستة؛ لأن جبريل ﵇ سأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) .والقدر هو: تقدير الله ﵎ في الأزل، أي تقديره ﵎ ما كان وما يكون، فإنه ﷾ (أول ما خلق القلم قال له: اكتب. قال: ربي وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) . فكل ما يقع في السماء والأرض من أفعال الله- كالمطر والنبات والحياة والموت- أو من أفعال العباد- كالاستقامة والانحراف- فإنه مكتوب، مكتوب في الأزل عند الله ﵎. فيجب علينا أن نؤمن بذلك: أن الله كتب مقادير كل شيء إلى يوم القيامة، وأن هذا المكتوب شامل لما يفعله ﵎ هو بنفسه، وما يفعله عباده. قال العلماء: وللإيمان بالقدر أربع مراتب: المرتبة الأولى: أن تؤمن بعلم الله تعالى الشامل العام للحاضر والمستقبل والماضي، وأن كل ذلك معلوم عند الله بعلمه الأزلي الأبدي، فلا يضل الرب ﷿ ولا ينسى. لما سأل فرعون موسى ﵊: (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى (٥١) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى) ﷾. فيجب أن نؤمن بعلم الله ﷿ أنه عالم بكل شيء جملة وتفصيلًا فالجملة مثل قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، والتفصيل مثل قوله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)، وكذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، وكذلك قوله تعالى: (علِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ)، (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ)، والأمثلة على هذا كثيرة، هذه هي المرتبة الأولى من مراتب الإيمان بالقدر. المرتبة الثانية: أن تؤمن بأن الله ﵎ كتب مقادير كل شيء إلى قيام الساعة، فكل شيء فهو مكتوب عند الله في لوح محفوظ لا يتبدل ولا يتغير. ودليل ذلك قوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) . والحديث الذي ذكرناه آنفًا: (أن الله أول ما خلق القلم قال له: اكتب. قال: ربي ماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) . المرتبة الثالثة: أن تؤمن بأن ما في الكون من حركة ولا سكون ولا إيجاد ولا إعدام إلا بمشيئة الله، يعني: إلا وقد شاءه الله، سواء كان من فعله ﵎ أم من أفعال خلقه. فحركات الإنسان وسكنات الإنسان، وطوله وقصره، وبياضه وسواده، ورضاه وغضبه، واستقامته وانحرافه، كل ذلك بمشيئة الله، لا يشذ عن مشيئة الله شيء، حتى الهدى والصلاح بمشيئة الله. دليل ذلك قول الله ﵎: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَو شَاءَ اللهُ ما اقتَتَلُوا وَلَكنَّ اللهَ يَفعَلُ مَا يُرِيدُ)، وقال الله تعالى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) . وأجمع المسلمون على هذه الكلمة العظيمة: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. أما المرتبة الرابعة فهي الخلق: أن تؤمن بأن الله ﵎ خالق كل شيء، كما قال الله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)، وقال تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) . وقد ذكر الله تعالى الخلق عامًا كما في هاتين الآيتين، وذكره خاصًا مثل قوله: (فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ)، وقوله: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) . فكل شيء سوى الله فهو مخلوق، خلقه الله ﷿، سواء في الأعيان أو في الأفعال أو في الأوصاف. فالآدمي له جثة، له جسد، من خلق هذا؟ الله ﷿، الآدمي طويل وقصير، وأبيض وأسود، من قدر هذا؟ الله ﷿، الآدمي له عمل وحركة، صالح أو غير صالح، من خلق هذا العمل؟ الله ﷿؛ لأن عمل الإنسان من صفات الإنسان، والإنسان مخلوق فصفاته مخلوقة. ودليل ذلك ما ذكرته الآن: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)، (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) . فيجب علينا أن نؤمن بالقدر على هذه المراتب الأربع: علم الله، كتابته في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء، مشيئة الله لكل موجود ومعدوم وحركة وسكون، خَلْقُ الله لكل موجود ومعدوم وحركة وسكون. فالمعدوم يوجده الله، والموجود يعدمه الله. وقد اختلف بنو آدم في القدر وتنازعوا فيه واختلفوا فيه، فمنهم الغالي ومنهم الجافي ومنهم الوسط. فالغالي في إثبات القدر قال: إن الإنسان مجبور على عمله، ليس له فيه اختيار، إن عمل صالحًا فإكراهًا عليه، إن عمل سيئًا فإكراهًا عليه، إن قام أو قعد فهو مكره مجبر؛ لأن الله تعالى شاء ذلك فيجب أن يكون. وآخرون قصروا في هذا قالوا: إن الله يشاء كل شيء، ويخلق كل شيء، إلا أفعال الإنسان، فليس له فيها تصرف، وهؤلاء قصروا في الربوبية. وتوسط آخرون فقالوا: الإنسان يفعل باختياره، ويفرق بين الفعل الذي يكره عليه والفعل الذي يختاره. وهذا هو الواقع: أنت تخرج إلى السوق باختيارك، ترجع منه باختيارك، تدخل المدرسة الفلانية باختيارك، تتركها باختيارك، تسافر باختيارك، تبقى في بلدك باختيارك. هذا أمر لا ينكر، ولا يشعر أحدٌ أبدًا أنه أكره على هذا الفعل. ولهذا لو أكره حقيقة سقط عنه الإثم، إن أكره على محرم أو على ترك واجب، حتى إن الله أسقط حكم الكفر عند الإكراه فقال: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) . ولو قلنا بأن الإنسان مكره لبطلت الشريعة كلها، وصار لا يحمد على فعل الخير ولا يذم على فعل الشر، فنحن نرد على هؤلاء الذين قالوا: إنه مجبر، بهذا. أما الذين قالوا: إنه مستقل، فنقول: سبحان الله! الإنسان في ملك، الله وكيف يكون في ملك الله ما لا يريد؟ الإنسان مخلوق لله، فكيف تكون أفعاله غير مخلوقة لله؟ هي مخلوقة لله، وهي في ملك الله، لكن قد يحتج العاصي بالقدر على المعصية، فإذا زنى أو سرق أو شرب الخمر قال: والله هذا بقدر الله. نقول: هل الله أجبرك؟ هل تعلم أن الله قدر عليك أن تزني أو تسرق أو تشرب الخمر؟ أنت لا تعلم، ونحن لا نعلم أن الله قدر أفعالنا أو أقوالنا حتى تقع، فإذا وقعت علمنا أنه أرادها، أما قبل أن تقع فليس عندنا علم بما قدر الله، كما قال تعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا) . فالعاصي حين أقدم على الفعل أقدم عليه باختياره، ولم يعلم أن الله قد كتبه له أو عليه إلا إذا وقع. ولهذا لا ترى أحدًا يعذر أحدًا إذا ضربه الضارب وقال المضروب للضارب: لم ضربتني؟ قال: والله هذا بقدر الله، لا تجد أحدًا يقبل هذه الحجة. يذكر عن أمير المؤمنين عمر ﵁ أنه رفع إليه سارق فأمر بقطع يده، فقال له: مهلًا يا أمير المؤمنين، والله ما سرقت هذا إلا بقدر الله. قال: ونحن لا نقطع يدك إلا بقدر الله. المهم أنه لا يمكن أن يحتج الإنسان بالقدر على ظلم الناس وعدوانه عليهم وإنك لتعجب من هذا العاصي الذي يعصي الله، ومعصيته لله ظلم لنفسه، ثم يحتج بقدر الله على ظلم نفسه، مع أنه لو ظلمه ظالم واحتج على ظلمه بأنه قدر الله ما قبل منه، لذلك لا عذر للعاصي بقدر الله على معصيته، ولهذا أبطل الله حجة الذين احتجوا بالقدر فقال: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ) قال تعالى: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) . وكونهم يذوقون بأس الله يدل على أنه لا حجة لهم؛ لأنه لو كان لهم حجة ما ذاقوا بأس الله. والحاصل أن الإنسان يجب عليه أن يؤمن بالقدر، وأن كل شيء فهو من الله، وأنه لا حجة للعاصي على معصيته بقدر الله. ولما حدث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصحابه فقال: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار. قالوا: يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) .إذًا نحن مأمورون بالعمل، وإذا عملنا ما يرضي الله يسر الله لنا. ثم تلا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) . فنقول: آمِنْ بالقدر واعمل بالشرع حتى يتم إيمانك. ومن الإيمان بالقدر الإيمان بما جاء مكروهًا للعبد، كالمصائب في بدنه، في أهله، في ماله، في أصحابه، في مجتمعه. لا يخلو الإنسان من مصيبة؛ لأن الله تعالى يبتلي بالنعم ويبتلي بالنقم. هذه المصائب إذا حصلت اِرضَ بها، اِرضَ بقضاء الله،فإن الله ﷾ أعلم بمصالحك. كم من إنسان أصيب بمصيبة فكانت المصيبة فتح باب لاهتدائه، فالمصائب صقل للقلوب، إذا أراد الله ﷾ هداية الإنسان، كما أنها بالعكس في أناس آخرين، قال الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) . يعني: إذا أوذي في دينه وضيق عليه في دينه جعلها كالعذاب، فارتد ونكص على عقبيه والعياذ بالله. فالمهم أن الإيمان بالقدر يهون عليك المصائب؛ لأنك تعلم أنها من عند الله، وأن الله مالك كل شيء، وأنت من جملة من يملكه الله ﷿، أنت عبد لله يفعل بك ما شاء فلا تجزع. قال الله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) . قال علقمة في معنى (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) قال: (إنه يعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم) . لو أن رجلًا أصابك بأذى دافعت عن نفسك ولم ترض، لكن إذا كان الذي أصابك من المصائب من عند الله فعليك أن ترضى؛ لأنه ربك مالكك يفعل بك ما شاء، فإذا صبرت واحتسبت الأجر من الله صارت تلك المصيبة رفعة في درجاتك وأجرًا وثوابًا: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) . ***
أبو هيثم من دمياط من جمهورية مصر العربية يقول: التسخط من المصائب والكوارث ما حكمه في الشرع؟ جزاكم الله خيرًا فأجاب رحمه الله تعالى: فإن من أصول الإيمان أن يؤمن الإنسان بالقدر خيره وشره، وأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأمر كله يرجع إلى الله ﷿، وأن لله الحكمة البالغة فيما أصاب العبد من خير أو شر. والمصائب على نوعين: النوع الأول: أن تكون تكفيرًا لسيئات وقعت من المرء وإصلاحًا لحاله، كما في قوله ﵎: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، وقوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) . والنوع الثاني: أن تكون المصائب ليست عقوبة لسيئات وقعت من المرء، ولكن لزيادة رفعة في درجاته، وليحصل على وصف الصبر الذي أثنى الله على القائمين به وقال: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) . ومن ذلك ما يقع للرسول ﷺ من المصائب التي تصيبه ﵊، حتى إنه ليوعك كما يوعك الرجلان منا- أي: في المرض- من أجل أن ينال أعلى مقامات الصبر صلوات الله وسلامه عليه، وقد نال ذلك صلوات الله وسلامه عليه: فهو أعلى الناس صبرًا على طاعة الله، وأعلى الناس صبرًا عن محارم الله، وأعلى الناس صبرًا على أقدار الله المؤلمة. وبناء على هذه المقدمة يجب على المرء أن يصبر لقضاء الله وقدره، وأن لا يتسخط؛ لأن السخط من قضاء الله وقدره نقصٌ في الإيمان بربوبيته ﵎، إذ مقتضى الربوبية المطلقة أن يفعل ما شاء. وانظر إلى الكرم والفضل: أنه ﷿ يفعل في عبده ما يشاء، ومع ذلك يثيبه على ما حصل من هذه المصائب إذا صبر واحتسب. قال بعض أهل العلم: وللناس في المصائب مقامات أربعة: التسخط، والصبر، والرضا، والشكر. أما التسخط فحرام، سواء كان في القلب أو في اللسان أو في الجوارح. فالتسخط في القلب: أن يرى أن الله تعالى ظلمه في هذه المصيبة، وأنه ليس أهلًا لأن يصاب، وهذا على خطر عظيم، كما قال الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) . وأما التسخط بالقول فأن يدعو بدعوى الجاهلية مثل: واثبوراه، واانقطاع ظهراه، وما أشبه ذلك من الكلمات النابية التي تنبئ عن سخط العبد وعدم رضاه بقضاء الله. وأما التسخط بالأفعال فكنتف الشعور، ولطم الخدود، وشق الجيوب. وقد تبرأ النبي ﷺ من فاعل هذا فقال: (ليس منا من شق الجيوب وضرب الخدود ودعا بدعوى الجاهلية) . فالتسخط هذا حرام ومن كبائر الذنوب، والتسخط القلبي أعظم أنواعه وأخطر أنواعه. المقام الثاني: مقام الصبر، وهو: حبس النفس عن التسخط. وهو ثقيل على النفس، لكنه واجب؛ لأنه إذا لم يصبر تسخط، والتسخط من كبائر الذنوب، فيكون الصبر واجبًا. ولقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لابنته- التي كان عندها طفل يجود بنفسه حضره الموت، فأرسلت إلى النبي ﷺ رسولًا تدعوه للحضور، فقال النبي ﷺ: (مرها فلتصبر ولتحتسب) . المقام الثالث: هو الرضا، يعني: يرضى العبد بما قدر له من هذه المصيبة رضًا تامًا. وقد اختلف العلماء في وجوبه، والصواب أنه ليس بواجب ولكنه سنة؛ لأنه متضمن للصبر وزيادة. والفرق بين الصبر والرضا: أن المرء يكون في الصبر كارهًا لما وقع، لا يحب أنه وقع، لكنه قد حبس نفسه عن التسخط؛ وأما الراضي فهو غير كاره لما وقع، بل المصيبة وعدمها عنده سواء بالنسبة لفعل الله؛ لأنه راضٍ رضًا تامًّا عن فعل الله، فهو يقول: أنا عبده وهو ربي، إن فعل بي ما يسرني فأنا عبده وله مني الشكر، وإن كانت الأخرى فأنا عبده وله مني الرضا والصبر. فالأحوال عنده متساوية. وربما ينظر إلى ذلك من منظار آخر، وهو أن يقول: إن هذه المصيبة إذا صبر عليها وكفر الله بها عنه وأثابه عليها صارت ثوابًا لا عقابًا، فيتساوى عنده الألم والثواب. وفي هذا ما يذكر عن رابعة العدوية- فيما أظن-: أنها أصيبت أصبعها ولم تتأثر بشيء، فقيل لها في ذلك فقالت: (إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها) . المقام الرابع: مقام الشكر: أن الإنسان يشكر الله ﷿ على هذه المصيبة. وهذا المقام أو الحال لا تحصل للإنسان عند أول صدمة؛ لأن مقتضى الطبيعة ينافي ذلك، لكن بالتأمل والتأني قد يشكر الإنسان ربه على هذه المصيبة، وذلك بأن يقدر المصيبة أعظم فيشكر الله تعالى أن أصيب بهذه التي هي أهون، أو يقدر أن ألم المصيبة ألم يزول بزوال الحياة إن بقي إلى الموت، أو يزول قبل الممات، والأجر والثواب الحاصل يبقى، فيشكر الله تعالى على ذلك. مثاله: رجل أصيب بحادث في سيارة فانكسرت رجله، هذه مصيبة، فيتأمل وينظر ويقول: أرأيت لو كان الانكسار في الظهر لكانت المصيبة أعظم، فهو يشكر الله ﷿ أن كانت المصيبة في الفخذ دون الظهر، ولو كانت في الساق لكانت أهون مما إذا كانت في الفخذ، وهلم جرًّا. ثم يقول أيضًا. هذه مصيبة إمَّا أن أشفى منها وأعود كما كنت في الدنيا قبل الموت، وإما أن أموت، فلها أجل محتوم مقدر، لكن الأجر الحاصل عليها هو ثواب الآخرة الباقية أبد الآبدين، فيشكر الله ﷿ على هذه المصيبة التي كانت سببًا لما هو أبقى وأفضل وأخير. إذًا فهمنا الآن أن الإنسان عند المصائب أربعة مقامات: الأول: التسخط، وهو حرام ومن كبائر الذنوب. والثاني: الصبر، وهو واجب. والثالث: الرضا، وهو سنة مستحب. والرابع: الشكر، وهو أعلى المقامات. ***
يقول السائل: البعض من المرضى يتذمر ويكثر من الشكوى ويتسخط مما فيه من مرض، فما نصيحتكم لأمثال هؤلاء وذلك بالاحتساب والصبر؟ جزاكم الله خيرًا فأجاب رحمه الله تعالى: نصيحتي لإخواني هؤلاء المرضى ومن أصابهم مصائب في أموالهم وأهليهم: أن يصبروا ويحتسبوا، ويعلموا أن هذه المصائب ابتلاءٌ من الله ﷾ واختبار، كما قال الله ﵎: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) . وإذا كان الله تعالى يبتلي العبد بالنعم ليختبره أيشكر أم يكفر، فكذلك يبتلي عبده بما يضاد ذلك ليبلوه أيصبر أم يجزع ويتسخط. ويعين المرء على الصبر على هذه الأمور أمور: الأمر الأول: الإيمان بأن الله ﷾ رب كل شيء ومليكه، وأن الخلق كلهم خلقه وعبيده، يتصرف فيهم كيف يشاء، لحكمةٍ قد نعلمها وقد لا نعلمها، فلا اعتراض عليه ﷾ فيما فعل في ملكه: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) . الثاني: أن يؤمن بأن هذه المصائب التي تصيبه تكفير لسيئاته، تحط عنه الخطايا ويغفر له بها الذنوب، كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ولقد أصيبت امرأةٌ من العابدات في أصبعها، ولكنها لم تتسخط ولم يظهر عليها أثر التشكي، فقيل لها في ذلك فقالت: (إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها) . ومن المعلوم أن الصبر درجة عالية لا تنال إلا بوجود شيء يصبر الإنسان عليه حتى يكون من الصابرين، و(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) . ثالثًا: أن يتسلى بما يصيب الناس سواه، فإنه ليس وحده الذي يصاب بهذه المصائب، بل في الناس من يصاب بأكثر من مصيبته. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله سلم- وهو أشرف الخلق عند الله- يصاب بالمصائب العظيمة، حتى إنه يوعك كما يوعك الرجلان منا، ومع ذلك يصبر ويحتسب. وفي التسلي بالغير تهوينٌ عن المصاعب. رابعًا: ان يحتسب الأجر على الله ﷿ بالصبر على هذه المصيبة، فإنه إذا احتسب الأجر على الله ﷿ بالصبر على هذه المصيبة فإنه- مع تكفير السيئات به- يرفع الله له بذلك الدرجات، بناءً على احتسابه الأجر على الله ﷾. ومن المعلوم أن كثيرًا من الناس منغمرٌ في سيئاته، فإذا جاءت مثل هذه المصائب: المرض، أو فقدان الأهل أو المال أو الأصدقاء، أو ما أشبه ذلك هان عليه الشيء بالنظر إلى ما له من الأجر والثواب على الصبر عليه، واحتساب الأجر من الله، وكلما عظم المصاب كثر الثواب. خامسًا: أن يعلم أن هذه المصائب من الأمراض وغيرها لن تدوم، فإن دوام الحال من المحال، بل ستزول إن عاجلًا وإن آجلا، ً لكن كلَّما ما امتدت ازداد الأجر والثواب. وينبغي في هذه الحال أن نتذكر قول الله ﵎: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)، وأن نتذكر قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا) سادسًا: أن يكون لديه أمل قوي في زوال هذه المصيبة، فإن فتح الآمال يوجب نشاط النفس وانشراح الصدر وطمأنينة القلب، وإن الإنسان كلما مضى عليه ساعة رأى أنه أقرب إلى الفرج وزوال هذه المصائب كان في ذلك منشطًا نفسه حتى ينسى ما حل به، ولا شك أن الإنسان الذي ينسى ما حل به أو يتناساه لا يحس به، فإن هذا أمرٌ مشاهد: إذا غفل الإنسان عما في نفسه من مرضٍ أو جرح أو غيره يجد نفسه نشيطًا وينسى ولا يحس بالألم، بخلاف ما إذا ركز شعوره على هذا المرض أو على هذا الألم فإنه سوف يزداد. وأضرب لذلك مثلًا بالعمال: تجد العامل في حال عمله ربما يسقط عليه حجرٌ يجرح قدمه، أو تصيبه زجاجة تجرح يده أو ما أشبه ذلك، وهو مستمرٌ في عمله ولا يحس بما أصابه، لكن إذا فرغ من عمله ثم توجهت نفسه إلى هذا الذي أصابه حينئذٍ يحس به. ولهذا لما شكي إلى الرسول ﷺ الوساوس التي يجدها الإنسان في نفسه قال ﵊: (إذا أحس بذلك فليستعذ بالله، أو: إذا وجد ذلك فليستعذ بالله ثم لينتهِ)، يعني: ليعرض عن هذا ويتغافل عنه فإنه يزول، وهذا شيء مشاهد ومجرب، ففي هذه الأمور الستة يحصل للمريض الطمأنينة والخير الكثير. الأمر السابع: أن يؤمن بأن الجزع والتسخط لا يزيل الشيء، بل يزيده شدة وحسرة في القلب، كما هو ألمٌ في الجسد. وبهذه المناسبة أود أن أبين أن الناس تجاه المصائب التي تقع بهم ينقسمون إلى أربعة أقسام: القسم الأول: من جزع وتسخط ولم يصبر، بل دعا بالويل والثبور، وشق الجيوب ولطم الخدود ونتف الشعور، وصار قلبه مملوءًا غيظًا على ربه ﷿، فهذا خاسرٌ في الدنيا والآخرة؛ لأن فعله هذا حرام، والألم لا يزول به، فيكون بذلك خسر الدنيا والآخرة، وربما يؤدي ذلك إلى الكفر بالله ﷿، كما قال الله ﵎: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) . الحال الثانية: الصبر، بمعنى أن هذا المصاب لا يحب أن تقع المصيبة، بل يكرهها ويحزن لها، لكنه يصبر: فيمنع قلبه عن التسخط، ولسانه عن الكلام، وجوارحه عن الفعال، ولكنه يتجرع مرارة الصبر ولا يحب أن ذلك وقع، فهذا أتى بالواجب وسلم ونجا. الحال الثالثة: أن يقابل هذه المصيبة بالرضا وانشراح الصدر وطمأنينة القلب، حتى كأنه لم يصب بها؛ لقوة رضاه بالله ﷿. فالفرق بينه وبين الأول الذي قبله: أن الأول عنده كراهة لما وقع ويتجرع مرارة الصبر عليه، أما هذا فلا، ليس عنده كراهة ولا في نفسه مرارة، يقول: أنا عبد والرب رب، ولم يقدر لي هذا إلا لحكمة، فيرضى تمامًا. وقد اختلف العلماء ﵏ في هذا الرضا: هل هو واجب أو مستحب؟ والصحيح أنه مستحب؛ لأنه صبرٌ وزيادة، والصبر سبق أنه واجب، وأما ما زاد على الصبر فإنه مستحب، فالراضي أكمل من الصابر. الحال الرابعة: الشكر لله ﷿ على ما حصل، فيشكر الله ﷾ على هذه المصيبة. ولكن قد يقول قائل: إن هذا أمرٌ لا يمكن بحسب الفطرة والطبيعة أن يشكر الإنسان ربه على مصيبة تقع عليه. فيقال: نعم، لو نظرنا إلى مطلق المصيبة لكانت الفطرة تأبى أن يشكر الله على ذلك، ولكن إذا نظر الإنسان إلى ما يترتب على هذه المصيبة: من مغفرة الذنوب، وتكفير السيئات، ورفعة الدرجات شكر الله ﷾ أن ادخر له من الأجر والثواب خيرًا مما جرى عليه من هذه المصيبة، فيكون بذلك شاكرًا لله ﷾. وقد كان من هدي النبي ﷺ أنه إذا أصابه ما يسره قال: (الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات)، وإذا أصابه خلاف ذلك قال: (الحمد لله على كل حال) . وهذا هو الذي ينبغي أن يقوله الإنسان. أما ما اشتهر على لسان كثيرٍ من الناس حيث يقول إذا أصيب بمصيبة: الحمد لله الذي لا يحمد على مكروهٍ سواه، فهي عبارةٌ بشعة، ولا ينبغي للإنسان أن يقولها؛ لأن هذا يعلن إعلانًا صريحًا بأنه كارهٌ لما قدر الله عليه، وفيه شيء من التسخط وإن كان غير صريح، ولهذا نقول: ينبغي لك أن تقول ما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول، وهو: (الحمد لله على كل حال) . وفي النهاية أوصي إخواني المرضى ومن أصيبوا بمصيبة أن يصبروا على ذلك، وأن يحتسبوا الأجر من الله ﷿، والله تعالى مع الصابرين، و: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) . ***
المستمعة من حفر الباطن تقول: هل يجوز للمسلم أن يتمنى الموت بعد أن يصطدم بأشياء وأمور لا تجوز في هذه الدنيا الفانية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا يجوز هذا، لا يجوز للإنسان أن يتمنى الموت لضرٍ نزل به، بل الواجب عليه أن يصبر ويحتسب ويكابد، ويستعين بالله ﷿ في درء هذه المحظورات أو المحرمات بنصح إخوانه وإرشادهم، ولعل بقاءه من أجل النصح والإرشاد والدعوة إلى الله خيرٌ من أن يموت وينقطع عمله، فإن الإنسان إذا مات انقطع عمله، وإذا بقي في الدنيا وهو مؤمن فإن أمره كله خير، كما قال النبي ﵊: (إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له) . وعلى الإنسان أن يصبر ويحتسب ويرضى بقضاء الله ﷾، ويعلم أن دوام الحال من المحال، وأن الأمور لا بد أن تنفرج، كما قال رسول الله ﷺ: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا) . ***
سائلة تقول: واجهت في حياتي عدة مشكلات جعلتني أكره الحياة، فكنت كلما تضطجرت توجهت إلى الله تعالى بأن يأخذ عمري بأقرب وقت، وهذه أمنيتي حتى الآن؛ لأنني لم أر حلًا لمشكلاتي سوى الموت هو وحده يخلصني من هذا العذاب، فهل هذا حرام علي؟ أرشدوني أفادكم الله فأجاب رحمه الله تعالى: الجواب: أن تمني الإنسان الموت لضر نزل به وقوع فيما نهى عنه رسول الله ﷺ، حيث قال ﵊: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنيًا فليقل: اللهم أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرًا لي) . فلا يحل لأحد نزل به ضر أو ضائقة أو مشكلة أن يتمنى الموت، بل عليه أن يصبر ويحتسب الأجر من الله ﷾، وينتظر الفرج منه؛ لقول النبي ﷺ: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا) . وليعلم المصاب بأي مصيبة أن هذه المصائب كفارة لما حصل له من الذنوب، فإنه لا يصيب المرء المؤمن هم ولاغم ولا أذى إلا كفر الله به عنه، حتى الشوكة يشاكها. ومع الصبر والاحتساب ينال منزلة الصابرين، تلك المنزلة العالية التي قال الله تعالى في أهلها: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) . وكون هذه المرأة لا ترى حلًا لمشكلاتها إلا بالموت أعتبر أن ذلك نظر مخطئ، فإن الموت لا تنحل به المشكلات بل ربما تزداد به المصائب، فكم من إنسان مات وهو مصاب بالمشكلات والأذايا، ولكنه كان مسرفًا على نفسه، لم يستعتب من ذنبه ولم يتب إلى الله ﷿، فكان في موته إسراع لعقوبته، ولو أنه بقي على الحياة ووفقه الله تعالى للتوبة والاستغفار والصبر وتحمل المشاق وانتظار الفرج لكان في ذلك خيرٌ كثير له. فعليك أيتها السائلة أن تصبري وتحتسبي وتنتظري الفرج من الله ﷿، فإن الله ﷾ يقول في كتابه: (فإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) . والنبي ﷺ يقول فيما صح عنه: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا) . والله المستعان. ***
من الخرج من نعجان خالد العثمان يقول: هل الإنسان مسير أم مخير؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لو أردت أن أقول لهذا السائل: هل أنت مسير حين ألقيت هذا السؤال أو ألقيته باختيارك؟ في علمي أنه سيقول: ألقيته باختياري. إذًا فالإنسان يفعل ما يفعله باختياره لا شك: فالإنسان يذهب ويرجع، ويصلى ويتوضأ، ويصوم ويزكي ويحج، ويبيع ويشتري، ويتزوج ويزوج، وكل ذلك باختياره، لا أحد يجبره على ذلك، ولهذا تجده يختار أحد شيئين على الآخر: يختار مثلًا أن يدخل في كلية الشريعة دون أن يدخل في كلية الهندسة مثلًا والجامعة واحدة، من الذي أجبره على هذا؟ هل أحد أجبره؟ هو باختياره في الواقع، ولولا أن الإنسان يفعل باختياره لكانت عقوبته على الذنوب ظلمًا والله ﷾ منزه عن الظلم، وما أكثر الآيات التي يضيف فيها الله تعالى الأعمال إلى الإنسان: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)، (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) . والآيات في هذا كثيرة، والعقل شاهد بهذا، ولا يمكن أن تستقيم قدم عاقل على القول بأن الإنسان مجبر أبدًا؛ لأن هذا يكذبه الحس فضلًا عن الشرع. ولكن يبقى النظر: هل هذا الاختيار مستقل عن إرادة الله؟ والجواب: لا، إنك ما أردت شيئًا إلا علمنا بأن الله قد أراده من قبل؛ لقول الله تعالى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ* وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) . فإذا أراد الإنسان أن يأكل فأكل علمنا أن الله تعالى قد أراد قبل إرادته أن يريد الأكل فيأكل، وإذا أراد الإنسان أن يبيع ويشتري واشترى وباع علمنا أن الله تعالى قد أراد ذلك، أي: أراد منه أن يريد ويبيع ويشتري، وهلم جرًّا فإرادة الله سابقة، وإرادة المخلوق هي اللاحقة المباشرة، ونحن لا نعلم أن الله قد أراد بنا شيئًا إلا حين يقع، ولهذا لا يكون في هذا القول الذي قلته الآن حجة على العاصي الذي يعصي الله ويقول: إن الله قد أراد ذلك. لأننا نقول له: ما الذي أعلمك أن الله أراد؟ أنت لا يمكن أن تعلم أن الله أراد إلا إذا فعلت، وفعلك واقع باختيارك لا شك، ولهذا لم نجد هذه الكلمة مسير أو مخير ما رأيتها في كلام السابقين الأولين أبدًا لكنها قالها بعض المحدثين، فسارت بين الناس لأنها كلمة رنانة، وإلا فمن المعلوم أن الإنسان مخير: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)، وكفر الإنسان باختياره وإيمانه باختياره، وليس المعنى بالاختيار يعني أنك إن شيءت فآمن وإن شيءت فاكفر، لا، المعنى: أن وقوع الكفر باختيارك ووقوع الإيمان باختيارك. وعلى هذا فنقول: الإنسان مخير، بمعنى: أنه يفعل الشيء باختياره، لكننا نعلم أنه إذا اختار شيئًا وفعله فهو بإرادة الله السابقة عليه. نعم هناك أشياء ليست باختيار الإنسان: لو سافر الإنسان مثلًا وأصابه حادث، هذا بغير اختياره، لو أن الإنسان عمل عملًا ناسيًا هذا بغير اختياره، ولهذا لا يؤاخذ الله على النسيان ولا على الخطأ ولا على فعل النائم؛ لأنه غير مختار. ***
علي السيد أحمد من الجزائر يقول: فضيلة الشيخ حصل بيني وبين صديق لي نقاش حول مسألة هل الإنسان مخير أم مسير، ولكن لم نصل إلى إجابة شافية. فأفيدونا بذلك مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإفادة في ذلك أن نقول للإنسان: ارجع إلى نفسك لا تسأل أحدًا غيرك: هل أنت تفعل ما تفعله مكرهًا عليه أم تفعل ما تفعله باختيارك؟ هل إذا توضأت في بيتك وخرجت إلى الصلاة وصلىت مع الجماعة هل أنت مكره على هذا أو فعلته باختيارك؟ هل أنت إذا خرجت إلى سوقك وفتحت متجرك وبعت واشتريت هل أنت مجبر على ذلك أو فاعله باختيارك؟ هل أنت إذا أردت أن تقرأ في مدرسة معينة ابتدائية أو متوسطة أو ثانوية أو جامعية أو أعلى من ذلك دراسات عليا هل أنت تفعل ذلك باختيارك أو تفعله مجبرًا على هذا؟ إني أتعجب أن يرد هذا السؤال من شخص يعلم نفسه ويعلم تصرفه ثم يقول: هو مسير أو مخير؟ كل يعلم الفرق بين ما يفعله الإنسان باختياره وإرادته وطوعه وبين ما يكره عليه. والمكره على الفعل لا ينسب إليه الفعل ولا يلحقه به إثم، كما قال الله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) . ولو كان الإنسان مكرهًا على عمله لكانت عقوبة العاصي ظلمًا؛ لأنه يقول: يا رب أنا مكره ليس لي اختيار. ولو كان الإنسان مجبرًا على عمله لكانت كتابة حسناته عبثًا؛ لأنه يثاب على شيء ليس من فعله ولا من اختياره. فعلى أخي السائل وغيره من المسلمين أن يفكروا في هذا الأمر، وأن يعلموا أنهم غير مجبرين على الفعل، بل هم يفعلون الشيء باختيارهم من غير أن يكرهوا عليه. ولكن فليعلم أن ما يقع منا من فعل فإنه بقضاء وقدر سابق من الله ﷿، وبمشيئة الله ﷾ واقع، فالقدر قدر الله ومشيئته لا يعلم تحققهما إلا بعد فعل العبد. هذا وقد ذكر علماء أهل السنة أن للقدر مراتب: أولها: العلم، بأن تؤمن بأن الله ﷾ عالم بكل شي جملة وتفصيلًا أزلًا وأبدًا، فلا يضل ربي ولا ينسى، ولا يخفى عليه شي في الأرض ولا في السماء. والثاني: الكتابة: أن تؤمن بأن الله تعالى قد كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى يوم القيامة. والثالث: المشيئة أن تؤمن بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما من شيء واقع في السماء والأرض إلا بمشيئة الله ﷾. والمرتبة الرابعة: الخلق: أن تؤمن بأن الله تعالى خالق كل شيء، وأنه ما من شيء في السماوات ولا في الأرض إلا الله خالقه جل وعلا. والإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة التي أجاب بها رسول الله صلى عليه وآله وسلم جبريل حين سأله عن الإيمان فقال النبي ﵌: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) . ***
هذا السائل من السودان يقول: فضيلة الشيخ ورد لفظ الهدى في القرآن الكريم كثيرًا، مثلًا في قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) . والأسئلة: هل الإنسان مخير أم مسير؟ وهل للإنسان إرادة أن يكون طيبًا أو خبيثا؟ ً أرجو بهذا توجيهًا مأجورين. فأجاب رحمه الله تعالى: هذا السؤال مهم جدًا، وذلك لأنه سأل عن الهداية المذكورة في قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) . وسأل: هل الإنسان مخير أو مسير؟ وهل له إرادة أن يفعل؟ أو لا يفعل والجواب على الأول: أن الهداية المذكورة في القرآن تنقسم إلى قسمين: هداية دلالة وبيان، وهداية توفيق وإرشاد. فأما الهداية الأولى فهي مثل الآية التي ساقها السائل، وهي قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) . يعني: إنا بينا للإنسان السبيل والطريق، سواءٌ كان شاكرًا أو كان كفورًا، فالكل بين له الحق، لكن من الناس من منّ الله عليه فشكر والتزم بالحق، ومن الناس من كان على خلاف ذلك. ومن أمثلة الهداية التي يراد بها الدلالة قوله ﵎ عن نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، أي: لتدل إلى الصراط المستقيم؛ لأن النبي ﷺ قد بيَّن وعلَّم أمته الصراط المستقيم، وترك أمته على محجةٍ بيضاء ليلها كنهارها. أما النوع الثاني من الهداية فهو هداية التوفيق والإرشاد، ومن أمثلتها قوله ﵎ لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) فالمراد بهذه الهداية هداية التوفيق، فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يملك أن يهدي أحدًا هداية توفيق يوفقه بها إلى الإيمان والعمل الصالح. وهذه الآية نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي دعاه النبي ﷺ إلى الهدى، ولكن لم يوفق لذلك، فأنزل الله هذه الآية تسليةً لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) . وقد يراد بالهداية الهدايتان جميعًا، أي: هداية العلم والبيان، وهداية التوفيق والإرشاد، ومن ذلك قوله ﵎ في سورة الفاتحة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) فإن هذه الآية تشمل هداية العلم والبيان، وهداية التوفيق والإرشاد. والقارئ إذا قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) . يريد بذلك المعنيين جميعًا: يريد أن يعلمه الله ﷿، ويريد أن يوفقه الله تعالى لسلوك الحق. هذا هو الجواب عن الجزء الأول في سؤاله. أما الجزء الثاني، وهو: هل الإنسان مسير أو مخير؟ وهل له إرادة أو ليس له إرادة؟ فنقول: الإنسان مخير إن شاء آمن وإن شاء كفر، بمعنى: أن له الاختيار وإن كان ليس سواء: لا يستوي الكفر والإيمان، لكن له اختيار أن يختار الإيمان أو أن يختار الكفر، وهذا أمرٌ مشاهدٌ معلوم: فليس أحدٌ أجبر الكافر على أن يكفر، وليس أحدٌ أجبر المؤمن على أن يؤمن، بل الكافر كفر باختياره، والمؤمن آمن باختياره. كما أن الإنسان يخرج من بيته باختياره، ويرجع إليه باختياره، وكما أن الإنسان يدخل المدرسة الفلانية باختياره، ويدخل الجامعة الفلانية باختياره، وكما أن الإنسان يسافر باختياره إلى مكة أو إلى المدينة أو ما أشبه ذلك، وهذا أمرٌ لا إشكال فيه ولا جدال فيه، ولا يمكن أن يجادل فيه إلا مكابر. نعم هناك أشياء لا يمكن أن تكون باختيار الإنسان:كحوادث تحدث للإنسان: من انقلاب سيارة، أو صدام، أو سقوط بيتٍ عليه، أو احتراق، أو ما أشبه هذا، هذا لا شك أن لا اختيار للإنسان فيه، بل هو قضاءٌ وقدر ممن له الأمر. ولهذا عاقب الله ﷾ الكافرين على كفرهم؛ لأنهم كفروا باختيارهم، ولو كان بغير اختيارٍ منهم ما عوقبوا. ألا ترى أن الإنسان إذا أكره على الفعل ولو كان كفرًا، أو على القول ولو كان كفرًا فإنه لا يعاقب عليه؛ لأنه بغير اختيارٍ منه؟ ألا ترى أن النائم قد يتكلم وهو نائم بالكفر، وقد يرى نفسه ساجدًا لصنم وهو نائم ولا يؤاخذ بهذا؛ لأن ذلك بغير اختياره؟ فالشيء الذي لا اختيار للإنسان فيه لا يعاقب عليه، فإذا عاقب الله الإنسان على فعله السيئ دل ذلك على أنه عوقب بحقٍ وعدل؛ لأنه فعل السيئ باختياره. وأما توهم بعض الناس أن الإنسان مسير لا مخير من كون الله ﷾ قد قضى ما أراد في علمه الأزلي بأن هذا الإنسان من أهل الشقاء وهذا الإنسان من أهل السعادة؛ فإن هذا لا حجة فيه، وذلك لأن الإنسان ليس عنده علمٌ بما قدر الله ﷾، إذ إن هذا سرٌ مكتوم لا يعلمه الخلق، فلا تعلم نفسٌ ماذا تكسب غدًا، وهو حين يقدم على المخالفة بترك الواجب أو فعل المحرم يقدم على غير أساس وعلى غير علم؛ لأنه لا يعلم ماذا كتب عليه إلا إذا وقع منه فعلًا، فالإنسان الذي يصلى لا يعلم أن الله كتب له أن يصلى إلا إذا صلى، والإنسان السارق لا يعلم أن الله كتب عليه أن يسرق إلا إذا سرق وهو لم يجبر على السرقة، ولم يجبر المصلى على الصلاة بل صلى باختياره، والسارق سرق باختياره. ولما حدث النبي ﷺ أصحابه بأنه (ما من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار قالوا: يا رسول الله ألا ندع العمل ونتكل؟ قال لا، اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له) . فأمر بالعمل، والعمل اختياري وليس اضطراريًا ولا إجباريًا، فإذا كان يقول ﵊: (اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له) نقول للإنسان: اعمل يا أخي صالحًا حتى يتبين أنك ميسر لعمل أهل السعادة، وكلٌ بلا شك إن شاء عمل عملًا صالحًا وإن شاء عمل عملًا سيئًا. ولا يجوز للإنسان أن يحتج بالقدر على الشرع فيعصي الله ويقول: هذا أمرٌ مكتوب علي، يترك الصلاة مع الجماعة ويقول: هذا أمر مكتوب علي، يشرب الخمر ويقول: هذا أمر كتب علي، يطلق نظره في النساء الأجنبيات ويقول: هذا أمرٌ مكتوبٌ علي. ما الذي أعلمك أنه مكتوبٌ عليك فعملته أنت؟ لم تعلم أنه كتب إلا بعد أن تعمل، لماذا لم تقدر أن الله كتبك من أهل السعادة فتعمل بعمل أهل السعادة؟ وأما قول السائل: هل للإنسان إرادة؟ نقول: نعم له إرادة بلا شك، قال الله ﵎: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ)، وقال تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)، وقال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) . والآيات في هذا معروفة، وكذلك الأحاديث معروفة في أن الإنسان يعمل باختيار وإرادة. ولهذا إذا وقع العمل الذي فيه المخالفة من غير إرادة ولا اختيار عفي عنه، قال الله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) فقال الله: قد فعلت. وقال تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) . وهذا أمرٌ ولله الحمد ظاهر ولا إشكال فيه إلا على سبيل المنازعة والمخاصمة، والمنازعة والمخاصمة منهيٌ عنهما إذا لم يكن المقصود بذلك الوصول إلى الحق. وقد خرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات يوم على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، فتأثر من ذلك ﵊؛ لأن هذا النزاع لا يؤدي إلى شيء إلا إلى خصومة وتطاول كلام وغير ذلك، وإلا فالأمر واضح ولله الحمد. ***
من الرياض طالب في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية يقول: سؤالي هو أنه وقع بيني وبين أخي خلافٌ عقائدي حيث قلت له: إن الإنسان مسير وليس مخيرًا. فقال: هذا ليس بصحيح، بل الإنسان مسير ومخير أيضا. ً وطال الجدال، فما هو القول الفصل في هذه المسألة؟ وجزيتم خيرًا. فأجاب رحمه الله تعالى: القول الفصل في هذه المسألة أن الإنسان مخير، وأن له اختيارًا كما يريد، كما قال الله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ) . وقال ﷿: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) . وهذا أمرٌ معلوم بالضرورة: فأنت الآن عندما قدمت لنا هذا الكتاب هل قدمته على وجه الإكراه، وأنك تشعر بأن أحدًا أكرهك على تقديمه، أو أنك قدمته على سبيل الاختيار، فأخذت الورقة وكتبت وأرسلت الخطاب أو أرسلت الكتاب؟ لا شك في أن هذا هو الواقع. ولكننا نقول: كل ما نقوم به من الأفعال فإنه مكتوبٌ عند الله ﷿ معلومٌ عنده، أما بالنسبة لنا فإننا لا نعلم ما كتب عند الله إلا بعد أن يقع، ولكننا مأمورون بأن نسعى إلى فعل الخير، وأن نهرب عن فعل الشر، وليس في هذا إشكالٌ أبدًا: نجد الطلبة يتجهون إلى الكلية مثلًا أو إلى الجامعة، فمنهم من يختار كلية الشريعة، ومنهم من يختار كلية أصول الدين، ومنهم من يختار كلية السنة، ومنهم من يختار كلية اللغة، ومنهم من يختار كلية الطب. المهم أن كلًا منهم يختار شيئًا، ولا يرى أن أحدًا يكرهه على هذا الاختيار، كيف نقول: مسير ومخير؟ لو كان الإنسان مجبرًا على عمله لفاتت الحكمة من الشرائع، ولكان تعذيب الإنسان على معصيته ظلمًا، والله ﷿ منزهٌ عن الظلم بلا شك، فالإنسان يفعل باختياره بلا شك، لكن إذا فعل فإنه يجب عليه أن يؤمن بأن هذا الشيء مقدر عليه من قبل، لكنه لم يعلم بأنه مقدر إلا بعد وقوعه. ولهذا لما قال النبي ﷺ: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار) قالوا: يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ قال: (اعملوا) فأثبت لهم عملًا مرادًا (فكلٌ ميسرٌ لما خلق له): أما أهل السعادة، فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) فالصواب مع أخيك أن الإنسان مسيرٌ مخير، ومعنى مخير: أن له الاختيار فيما يفعل ويذر، لكن هذا الذي اختاره أمرٌ مكتوبٌ عند الله، وهو لا يعلم ما كتبه الله عليه إلا بعد أن يقع، فيعرف أن هذا مكتوب، وإذا ترك الشيء علم أنه ليس بمكتوب. ***
السائل محمد من مكة المكرمة يقول: هل الإنسان مسير أم مخير؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الجواب أن أقول له: اسأل نفسك: هل أنت حينما كتبت هذه الورقة وفيها السؤال هل أنت فعلت ذلك باختيارك أو أن أحدًا أجبرك؟ إنني أجزم جزمًا أنه سيقول: كتبتها باختياري. ولكن ليعلم أن الله ﷾ هو الذي خلق في الإنسان الإرادة، الله تعالى خلق الإنسان وأودع فيه أمرين كلاهما سبب الوجود، الأمر الأول: الإرادة، فالله تعالى جعل الإنسان مريدا. ً والأمر الثاني: القدرة، جعله الله تعالى قادرًا. فإذا فعل شيئًا فإنما يفعله بإرادته وقدرته، والذي خلق فيه الإرادة هو الله ﷿، وكذلك الذي خلق فيه القدرة هو الله ﷿. وهذه الكلمة: مخير ومسير هي كلمة حادثة لا أعلمها في كلام السابقين، وعلى هذا فنقول: إن الإنسان مخير يفعل الشيء باختياره وإرادته، ولكن هذا الاختيار والإرادة كلاهما مخلوقان لله ﷿. ***
مجموعة من السائلات يقلن: يا فضيلة الشيخ نحن السائلات من المدرسة الثانوية بجدة لنا هذا السؤال: هل يؤاخذ الإنسان ويعاقب على الأخطاء والمعاصي وقد قدرها الله ﷿ عليه في اللوح المحفوظ؟ نرجو بهذا إفادة مأجورين فأجاب رحمه الله تعالى: نعم، المعاصي يعاقب عليها الإنسان، إلا إذا كانت دون الشرك، فإنها داخلةٌ تحت مشيئة الله ﷿. وهذه المعاصي لا شك أنها واقعة بعلم الله ومشيئة الله، وأنها مكتوبة على العبد في اللوح المحفوظ، ومكتوبة على العبد وهو في بطن أمه، ولكن هذه الكتابة ليست معلومة حتى يكون الإنسان بنى عمله عليها، لو كان يعلمها فبنى عمله عليها لقلنا: إن له حجة، لكنه لم يعلمها، فمن يعلم أن الله تعالى قدر له أن يعصي الله وهو لم يعصه حتى الآن؟ (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا) . ولهذا يكون إقدام العاصي على المعصية إقدامًا بلا علمٍ أن الله قدرها عليه حتى تقع منه، والحجة لا تكون حجة حتى تكون سابقة على العمل الذي احتج بها عليه. ولهذا قال بعض العلماء: إن القدر سرٌ مكتوم، لا يعلم حتى يقع. وهذا صحيح: من يعلم أن الله قدر أن ينزل المطر غدًا، حتى ينزل غدًا فنعلم أن الله قدره؟ من يعلم أن فلانًا يعصي الله غدًا، حتى يعصي الله هذا الرجل فنعلم أن الله قدره؟ ولهذا لا حجة للإنسان العاصي بقدر الله على شرع الله، فالشرع لا يحتج عليه بالقدر أبدًا، ولهذا قال الله تعالى مبطلًا هذه الدعوى، أي: دعوى القدر: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) ولو كانت الحجة صحيحة لم يستحقوا أن يذوقوا بأس الله. وقال الله تعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) ولو كان القدر حجة لم يرفعها إرسال الرسل. ولما أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه ما من أحدٍ إلا وكتب مقعده من الجنة أو من النار. قالوا: يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل؟ قال: اعملوا فكلٌ ميسرٌ لما خلق له. ثم قرأ ﷺ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) . فنحن نقول للإنسان: القدر علمه عند الله ﷿، وهو سرٌ مكتوم، وأنت مأمورٌ بأن تعمل العمل الصالح، وأن تتجنب العمل السيئ، فقم بما أمرت به: اعمل عملًا صالحًا، واجتنب العمل السيئ، وهذا هو المطلوب منك، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. ***
هل يكتب الله ﷿ طريقة الموت على الإنسان، أي: كيف يموت بمرض أم حادث؟ أرجو بهذا إفادة فأجاب رحمه الله تعالى: نعم، يكتب الله ذلك كله، وما من شيء في السماوات ولا في الأرض إلا وهو مكتوب عند الله، قال الله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) . وكل شيء فإنه مكتوب عند الله ﷿، حتى الشوكة تصيب الإنسان هي مكتوبة عند الله. ***
من أريتيريا عثمان محمد عبد الله يسأل ويقول بأنه دخل في عدة طرق من الطرق المتعددة وخرج منها. سؤاله يقول: هل ما ضاع من عمري في هذه الفترة والسيئات التي وقعت فيها محسوبة عليّ أم تنفى عني بتوبتي؟ ثانيًا يقول: وهل كل ما حصل عليّ في هذه الطرق الباطلة قبل هذا كان مكتوبًا علي؟ إن كان مكتوبًا عليّ من الأزل وكان الله عالمًا بهذا؟ نرجو بهذا إفادة فأجاب رحمه الله تعالى: قبل الإجابة على هذا السؤال أحب أن أهنىء الأخ الذي منّ الله عليه بالاستقامة ولزوم الصراط المستقيم، بعد أن كان منحرفًا في متاهات البدع والضلال، فإن هذا من نعم الله، بل هو أكبر نعمة ينعم الله بها على العبد: أن يتوب الله عليه فيتوب إلى ربه، ويقلع عن غيه إلى رشده، يقول الله ﷿ ممتنًّا على المؤمنين بمثل ذلك: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) . ويقول تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) . ويقول جل وعلا: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) . فالهداية للإيمان من أكبر النعم بل هي أكبر نعمة أنعم الله بها على العبد، فأسأل الله أن يثبتني وإخواني المسلمين على دينه المستقيم، إنه جواد كريم. أما بالنسبة للجواب على سؤاله فإني أقول له: إذا تاب الإنسان من أي ذنب كان فإن الله يتوب عليه، ويمحو عنه سيئاته؛ لأن الإسلام يهدم ما قبله، والتوبة تجُّب ما قبلها. قال الله ﷿: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) . وقال تعالى: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) . وقال تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) . والنصوص في هذا كثيرة من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ كلها تدل على أن الله إذا منّ على العبد بالتوبة النصوح فإن الله يتوب عليه ويبدل سيئاته حسنات، إذا تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا فكل ما جرى عليك من اعتناق الطرق والمذاهب الهدامة والزيغ والضلال فإنه يمحى برجوعك إلى الحق. وأما الفقرة الثانية في السؤال، وهي: أن هذا الذي عمله هل كان مكتوبًا عليه في الأزل، وبعلم من الله ﷿؟ فنقول: نعم، هو مكتوب عليه في الأزل، مكتوب عليه العمل السيئ السابق، ومكتوب له التوبة الأخيرة التي منّ الله بها عليه، وكل ذلك بعلم من الله ﷾، يقول الله ﷿: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) ويقول جل ذكره: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) . فعلم الله ﷾ محيط بكل شيء جملة وتفصيلًا، وهذا أمر متفق عليه بين علماء المسلمين والحمد لله، وهو إحدى مراتب الإيمان بالقضاء والقدر، فإن الإيمان بالقضاء والقدر مراتب أربع: الأولى: الإيمان بعلم الله المحيط بكل شيء جملة وتفصيلًا، بمعنى: أن تؤمن بأن الله تعالى عالم بكل شيء جملة وتفصيلًا ما كان وما لم يكن. والمرتبة الثانية: أن تؤمن بأن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة، فإن الله ﷾ يقول: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)، (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب. قال وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) . أما المرتبة الثالثة فهي: الإيمان بعموم مشيئة الله، فهي أن تؤمن بأن كل ما في الكون فهو واقع بمشيئة الله، لا يخرج عن مشيئته شيء لا من فعله ولا من فعل عباده، والنصوص في هذا كثيرة، ومنها قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) . فبين الله ﷿ أن اقتتال هؤلاء المختلفين كان بمشيئته. وقال ﷾: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) . وأجمع المسلمون على هذه الكلمة العظيمة: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. فما في الكون شيء يحدث عدمًاَ أو وجودًا إلا وهو بمشيئة الله ﷾. أما المرتبة الرابعة فهي: الإيمان بعموم خلق الله، أي: أن تؤمن بأن كل ما في الكون فهو مخلوق لله ﷿ في أعيانه وفي أوصافه، كما قال الله تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) . وقال تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) . حتى العبد مخلوق لله تعالى بعينه وشخصه، وبأوصافه وقواه الظاهرة والباطنة، وبما ينشأ عن تلك القوى، فأفعال العبد مثلًا مخلوقة لله، باعتبار أن هذه الأفعال ناشيءة عن قدرة في العبد وإرادة، والقدرة والإرادة من صفات العبد، والعبد مخلوق لله، فأوصافه كذلك مخلوقة له أي لله. فكما أن الأوصاف الخَلْقية الظاهرة مخلوقة لله، فكذلك الأوصاف الخُلُقية والفكرية الباطنة مخلوقة لله كذلك. وهذه المراتب الأربع يؤمن بها أهل السنة والجماعة جميعها، فعلينا أن نؤمن بها ونصدق، لكن مع ذلك نعلم علم اليقين أن للإنسان إرادة وقدرة، فهو يريد الشيء فعلًا وتركًا أي: يريد أن يفعل فيفعل إذا كان له قدرة، ويريد أن يترك فيترك، ولكن خالق القدرة وخالق الإرادة هو الله ﷿، فهو يُنْسَبْ- أي: فعل العبد- إلى الله تعالى خلقًا وإرادة، وإلى العبد فعلًا وكسبًا، مع أنه داخل تحت إرادة العبد وقدرته، فلولا أن الله تعالى أقدر العبد على الفعل ما فعل؛ لعجزه عنه، ولولا أن الله خلق فيه الإرادة ما فعل؛ لعدم وجود الإرادة. ***
يقول السائل: هل الكفار مكتوب لهم من الأزل أنهم كفار؟ ولماذا يعذبون في المكتوب قديمًا إذا كان كل شيء يجري على ما سبق في الأزل؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نقول: نعم الكفار كذلك مكتوب عملهم في الأزل، ويكتب كذلك عمل الإنسان عند تكوينه في بطن أمه، كما دل على ذلك الحديث الصحيح لابن مسعود قال: حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد) .فأعمال الكفار مكتوبة عند الله ﷿، والشقي شقي عند الله ﷿ في الأزل، والسعيد سعيد عند الله في الأزل. ولكن يقول قائل- كما أورد هذا السائل-: كيف يعذبون وقد كتب الله عليهم ذلك في الأزل؟ فنقول: إنهم يعذبون لأنهم قد قامت عليهم الحجة، وبين لهم الطريق: فأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وبين الهدى من الضلال، ورغبوا في سلوك طريق الهدى، وحذروا من سلوك طريق الضلال، ولهم عقول ولهم إرادات ولهم اختيارات. ولهذا نجد هؤلاء الكفار وغيرهم أيضًا يسعون إلى مصالح الدنيا بإرادة واختيار، ولا تجد أحدًا منهم يسعى إلى شيء يضره في دنياه ويقول: إن هذا مكتوب عليّ، أبدًا، كل يسعى إلى ما فيه المنفعة، فكان عليهم أن يسعوا أيضًا لما فيه منفعتهم في أمور دينهم، كما يسعون لما فيه المنفعة في أمور دنياهم، ولا فرق بينهما، بل إن بيان الخير والشر في أمور الدين في الكتب المنزلة على الرسل عليهم الصلاة والسلام أكثر وأعظم من بيان الأمور الضارة في أمور الدنيا، فكان عليهم أن يسلكوا الطرق التي فيها نجاتهم والتي فيها سعادتهم، دون أن يسلكوا الطرق التي فيها هلاكهم وشقاؤهم. نقول: إن هذا الكافر حين أقدم على الكفر لا يشعر أن أحدًاَ أكرهه، وإنه فعل ذلك بإرادته واختياره، فهل كان حين إقدامه على هذا الكفر هل كان عالمًا بما كتب الله له؟ والجواب: لا، لأنا نحن لا نعلم بأن الشيء قد كتب إلا بعد أن يقع، أما قبل أن يقع فإننا لا نعلم ماذا كتب؛ لأنه من علم الغيب. فنقول لهذا الكافر: لماذا لم تقدر أن الله ﷾ كتب لك السعادة وتؤمن؟ فأنت الآن قبل أن تقع في الكفر أمامك شيئان: هداية وضلال، فلماذا لا تسلك طريق الهداية مقدرًا أن الله تعالى كتبه لك؟ لماذا تسلك طريق الضلال ثم بعد أن تسلكه تحتج بأن الله تعالى كتبه؟ نقول لك: قبل أن تدخل في هذا الطريق هل عندك علم أنه مكتوب عليك؟ سيقول: لا، ولا يمكن أن يقول: نعم، فإذا قال: لا، قلنا: إذًا لماذا لم تسلك طريق الهداية وتقدر أن الله تعالى كتب لك ذلك؟ ولهذا يقول الله ﷿: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، ويقول ﷿: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) . ولما أخبر النبي ﵊ أصحابه بأنه (ما من أحدٍ إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار. قالوا: يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ قال: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له) . ثم قرأ قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) . هذا جوابنا على هذا السؤال الذي أورده هذا السائل، وما أكثر من يحتج به من أهل الضلال، وهو عجب منهم؛ لأنهم لا يحتجون بمثل هذه الحجة على مسائل الدنيا أبدًا، بل تجدهم يسوقون في مسائل الدنيا ما هو أنفع لهم، ولا يمكن لأحد أن يقال له: هذا الطريق الذي أمامك طريق وعر صعب فيه لصوص وفيه سباع، وهذا الطريق الثاني طريق سهل آمن لا يمكن لأحد أن يسلك الطريق الأول ويدع الطريق الثاني، مع أن هذا نظير الطريقين: طريق النار وطريق الجنة، فالرسول بين طريق الجنة وقال: هو هذا، وبين طريق النار وقال: هو هذا، وحذر من الثاني ورغب في الأول، ومع ذلك فإن هؤلاء العصاة يحتجون بقضاء الله وقدره- وهم لا يعلمونه- على معاصيهم. ***
عوض عبد الوهاب يقول: هل الرزق والزواج مكتوب في اللوح المحفوظ؟ وهل مكتوب مثلًا أتزوج فلانة بعينها مسبقًا؟ وهل الرزق محدد مهما كد الشخص وتعب؟ وما الدليل على ذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: كل شيء يجري منذ أن خلق الله القلم إلى يوم القيامة فإنه مكتوب، مكتوب في اللوح المحفوظ؛ لأن الله ﷾ (أول ما خلق القلم قال له: اكتب. قال ربي وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) . وثبت عن النبي ﷺ أن الجنين في بطن أمه إذا مضى أربعة أشهر بعث الله إليه ملكًا ينفخ فيه الروح، ويكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد. والرزق أيضًا مكتوب لا يزيد ولا ينقص، ولكن الله ﷾ قد جعل له أسبابًاَ يزيد بها وينقص، فمن الأسباب: أن يعمل الإنسان بطلب الرزق، كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) . ومن الأسباب أيضًا صلة الرحم من بر الوالدين وصلة القرابات، فإن النبي ﷺ قال: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) . ومن الأسباب تقوى الله ﷿، كما قال الله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) . ولا تقل: إن الرزق مكتوب ومحدود ولن أفعل الأسباب التي توصل إليه، فإن هذا من العجز، والكياسة والحزم أن تسعى لرزقك، ولما ينفعك في دينك ودنياك. قال النبي ﵊: (الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني) . ***
يقول السائل: إذا كان قضاء الله وقدره سابقًا على الإنسان بالسعادة أو الشقاوة فما حكم تركه الأخذ بالأسباب والعمل؟ فأجاب رحمه الله تعالى: حكم ترك الأسباب والعمل سفه؛ لأن الله ﷾ يقدر الأشياء بأسبابها، فلحكمته جل وعلا صار لكل شيء سببٌ كل شيء يكون فإنه لابد له من سبب، إما معلوم لنا وإما مجهول لنا. وقد بين الله لنا أسباب السعادة وأسباب الشقاوة، وأمرنا بأن نعمل في أسباب السعادة، فقال جل وعلا: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) . ولما أخبر النبي ﵊ أصحابه أنه ما من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، قالوا: أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: (اعملوا فكل ميسر له لما خلق له) . ثم قرأ هذه الآية: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) . فهذا ما دل عليه الشرع: أنه لابد من الأخذ بالأسباب، وكذلك دل عليه العقل: فإن الإنسان لو قال: أنا لا أتزوج، ولكن إن كان الله قد كتب لي أولادًا فسيأتون، لعدَّه الناس من أسفه السفهاء. وكذلك لو قال: أنا لن أسعى لطلب الرزق، ولو قدر الله ﷾ لي أن أشبع وأن أروى فسأشبع وأروى، لعد ذلك من أسفه السفه. فلابد من فعل الأسباب، ولا يتم التوكل ولا الاعتماد إلا بامتثال أمر الله ﷿ بفعل الأسباب النافعة التي تؤدي إلى المقصود. ***
هذه الرسالة وردتنا من المستمع، يقول الباحث عن الحقيقة من الجمهورية العراقية مدينة كركوك يقول في رسالته: هناك نوعان من الحياة: الحياة السعيدة، ولا أقصد السعادة بالمال والجاه، وإنما أقصد تلك السعادة التي تأتي من النفس، أي أن يكون الإنسان مرتاحًا من الناحية النفسية. ثانيا: ً الحياة الذليلة، وأقصد به الذل النفسي، أي أن يكون الإنسان ذليلًا من الناحية النفسية. والسؤال: لماذا يخلق الإنسان ذليلًا في أمة الإسلام، حيث قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، وذكر عدة آيات منها قوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) وعدة آيات يقول: هل نستطيع أن نعتبر أن الذين خلقهم الله أذلاء من الناحية النفسية لم تشملهم هذه الرحمة الواسعة، ولا تزال قلوبهم ونفوسهم تعيش في الظلمات ولم تر النور، ونعتبر هذا ظلمًا لهم من الله ﷾؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا السؤال الذي سأل عنه الأخ يتعلق بمسألة عظيمة وهي مسألة القضاء والقدر التي ينقسم الناس فيها إلى قسمين: منهم من وفق للاستقامة، ومنهم من وفق للضلالة. وهذا هو محط الإشكال عند كثير من الناس: كيف يكون هذا ضالًا وكيف يكون هذا مهتديًا؟ ولكننا ننبه على نقطة مهمة في هذا الباب، وهي: أن من كان ضالًا فإن سبب ضلاله هو نفسه؛ لقول الله تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)، ولقوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) . ولقول النبي ﷺ حين حدث أصحابه: (مامن أحد إلاوقد كتب مقعده من الجنة والنار. فقالوا: أفلا نتكل يا رسول الله على الكتاب ونترك العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) . ثم تلا هذه الآية: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) . وعلى هذا فنقول: هؤلاء الذين وصفهم السائل بأنهم أذلاء إنما أذلتهم المعصية ولم يكتب لهم الهدى بسبب أنهم هم الذين تسببوا للضلالة، حيث لم تكن إرادتهم صادقة في طلب الحق والوصول إليه وفي العمل به بعد وضوحه وبيانه، ولو أنهم كانوا أحسنوا النية وصدقوا العزيمة لوفقوا للحق؛ لأن الحق بين ميسر: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) . فالذي أنصح به هذا الأخ ومن على شاكلته وممن أشكل عليهم هذا الأمر أن يرجعوا إلى أنفسهم أولًا ويحسنوا نيتهم ويصححوا عزيمتهم، حتى تكون النية سليمة والعزيمة صادقة في طلب الحق، وحينئذ فأنا ضامن أن يوفقوا له؛ لأن الله ﷾ هو الذي وعد بذلك: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) . وتأمل أن الآية جاءت بالسين الدالة على قرب مدخولها وعلى تحقق مدخولها أيضًا، لأن السين كما هو معلوم تدل على هذين المعنيين: قرب مدخولها وتحققه ولكن البلاء من أنفسنا. وأتلو الآن أيضًا قول الله ﵎: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)، فإن هذا النسيان يشمل الذهول الذي هو ذهول القلب عن المعلوم، النسيان هو: ذهول القلب عن المعلوم، وكذلك النسيان الذي بمعنى الترك، فهم تسلب علومهم ولا يوفقون إلى العمل الصالح بسبب نقض الميثاق. فضيلة الشيخ: لكن هؤلاء أذلتهم المعصية، وأيضًا ذكرتم الآية الأخيرة والتي نزلت فيما أعتقد في بني يهود الذين قال الله تعالى فيهم: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) نجد الآن من الذين ينتسبون إلى الأمة الإسلامية أذل من الذين جاهروا بالكفر وانتهجوا هذا المنهج؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم صحيح مثل هذا، وذلك أن الحق عليهم في الاستقامة أوكد من الحق على أولئك، ومعلوم أن من تدنس بالأرجاس وهو من أهل الولاية أشد ممن تدنس بها وليس من أهل الولاية، فإن حق الله على المسلمين أعظم من حقه على أولئك الكافرين، ولهذا يلزمون بشرائع الإسلام، فإنه إذا تمرد كان أشد وأعظم، ولهذا إذا تمت النعمة على العبد صارت مخالفته أشد وأعظم. ومن ذلك ما ورد عن النبي ﷺ في الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ومنهم: الأشيمط الزاني؛ لأنه لا داعي له للزنى، وهو إلى الاتعاظ والبعد عن هذا أولى، فلذلك عظم إثمه. فهؤلاء الأذلة من المسلمين لأنهم يجب عليهم من حق الله ﷾ والاستقامة أكثر مما يجب على أولئك، ولهذا كانت مخالفتهم أعظم من مخالفة أولئك، وكان الذل إليهم أقرب. وقد مثل بعض العلماء شبيه هذه المسألة بحاشية الملك والبعيدين عنه، فقال: إن مخالفة حاشية الملك للملك أشد وأعظم وقعًا من مخالفة الأباعد، هكذا المسلمون: مخالفاتهم تكون أعظم من غيرهم، فلذلك كان جزاؤهم أشد من غيرهم. ***
يقول السائل: هل الإصابة بالعين حقيقة؟ نرجو توضيح ذلك، وكيف نعالج هذه الإصابة بالآيات القرآنية؟ وما هذه الآيات؟ وفقكم الله فأجاب رحمه الله تعالى: الإصابة بالعين حقيقة دل عليها القرآن والسنة: أما القرآن فإنه قد ذهب بعض المفسرين إلى أن معنى قول الله تعالى: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) أن المراد بها العين، وكذلك أيضًا قول الله تعالى: (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) ذهب كثير من أهل العلم أن المراد بها العين. وأما السنة فقد ثبت ذلك عن النبي ﷺ حينما قال: (العين حق، ولو سبق القدر شيء لسبقته العين) . فهذا نص صريح، ثم إن الواقع يشهد لذلك أيضًا، ولا حاجة إلى سرد الوقائع المعلومة لنا في هذا المقام، لكنها معلومة عند جميع الناس. وخير وقاية منها نوعان: أحدهما وقاية دافعة، والثاني وقاية رافعة. أما الوقاية الدافعة فهو: أن الإنسان يستعمل الأوراد الواقية من العين وغيرها، مثل آية الكرسي، حيث قال الرسول ﵊ فيها: (من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح) . ومثل ألا يظهر لمن اتُهم بالعين بمظهر يُخشى منه أن يثير هذا العائن. وأما الأسباب الرافعة فمنها: أن يؤمر العائن بالاغتسال، ويؤخذ ما تناثر من الأعضاء، أو بالوضوء ويؤخذ ما تناثر من أعضائه، فيُصب على رأس المصاب وعلى ظهره، ويشرب منه، وحينئذ تزول العين بإذن الله ﵎. فضيلة الشيخ: هو يسأل عن آيات قرآنية، هل هناك آيات قرآنية خاصة يرقى بها من أصابته العين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا أعرف في هذا شيئًا، ولكن كما قلت: آية الكرسي واقية، نعم وينبغي قبل أن نختم الجواب ينبغي لمن عرف من نفسه أنه عائن ينبغي أن يكثر التبريك إذا رأى ما يسره، فيقول إذا رأى ما يسره: تبارك الله ما شاء الله، وما أشبه هذا؛ لأن ذلك من أسباب الوقاية. ***
العين حق فكيف يتقي الإنسان من العين يا فضيلة الشيخ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: العين حق ولا شك فيها، ولكن للعين أشياء تقي منها دافعة ورافعة. أما الأشياء الدافعة: فأن يكثر الإنسان من الأوراد التي جاءت بها السنة، مثل قراءة آية الكرسي، والآيتين من آخر سورة البقرة، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس. ومنها: إذا رأى أحدًا يخاف عينه يقول: اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم. ومنها: إذا كان الإنسان من الذين يؤذون الناس بعينهم، أي: إذا كان عائنًا، فإنه إذا رأى ما يعجبه يبرك عليه فيقول: تبارك الله عليك، وما أشبه ذلك. أما معالجة العين بعد وقوعها- وهو دفعها- فله أسباب، منها: القراءة على الشخص المصاب بالعين، ومنها: أن يؤمر العائن بأن يتوضأ، ويؤخذ مما يتناثر من وضوئه، فيصب على المصاب، ويشرب منه، فإن هذا من أسباب ارتفاع أثر العين عن المصاب. ***
يقول السائل: ما العلاج الشرعي للمصاب بالعين؟ وبعض الناس يكون عنده وسواس ويخشى الإصابة بالعين، ودائمًا يطلب من الناس أن يذكروا الله، فهل عمله هذا صحيح؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إنه من الواضح جدًا في عهدنا القريب أن الناس كثر فيهم الأوهام والوساوس، فإذا أصيبوا بشيءٍ عادي قالوا: هذا جن، أو: هذه عين، أو: هذا سحر. ونحن لا ننكر أن الجن قد يسلط على الإنسي ويتلبس به، ولا ننكر أن الإنسان قد يصاب بالعين، ولا ننكر أن الإنسان يسحر. ولكننا نريد أن لا يكون هذا وهمًا بين الناس، فإذا قدر أن أحدًا أصيب بذلك- نسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين العافية- فإنه يبحث عن العلاج، علاج السحر نقضه، علاج السحر أن ينقض: بأن يعثر عليه ثم يتلف. علاج العين أن يطلب من العائن أن يغتسل، ويؤخذ الماء الذي يتناثر من غسله ويعطى المريض شربًا ورشًا على بدنه، وهذا من العلاج. علاج الجن قراءة الآيات التي يطرد بها الجن، مثل آية الكرسي، قل أعوذ برب الفلق، قل أعوذ برب الناس، ومثل بعض آيات سورة الجن، مع الاستعانة بالله ﷿، والتوكل عليه، والاعتماد عليه، والاعتقاد أن كلامه جل وعلا شفاء لما في الصدور. نسأل الله لنا ولإخواننا السلامة من شر أنفسنا ومن شر ما خلق. ***
يقول السائل: هل هناك رقية شرعية تعمل لمن أصيب بالعين؟ وهل يجوز التداوي من العين بطرق أخرى يعملها بعض الناس وهم يزعمون بأنها تشفي؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإصابة بالعين دواؤها أن يؤمر العائن بأن يغتسل، وما تناقط من الماء الذي اغتسل به يستشفي به المصاب، أو يتوضأ ويغسل مغابنه، وما تناثر منه يؤخذ إلى المصاب بالعين ويستشفي به. هذا المعروف، فإذا فعله الإنسان فإنه بإذن الله يبرأ من إصابة العين. ***
ما هو العلاج الشرعي لمن أصيب بالعين يا فضيلة الشيخ؟ أفيدونا بهذا جزاكم الله خيرًا فأجاب رحمه الله تعالى: العلاج الشرعي كثرة القراءة على المصاب، قراءة القرآن والآيات التي فيها ذكر الشفاء بالقرآن، فيقرأ مثلًا الفاتحة وآية الكرسي، (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، ويقرأ مثل قوله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ)، إلى غير ذلك من الأدعية المناسبة. هذا إذا كان لا يعرف الذي أصابه بالعين، أما إذا كان يعرفه فليفعل ما أمر به النبي صلى الله عليه العائن: أن يغتسل أو يتوضأ، ويؤخذ الماء الذي يتناثر منه، ويسقى المريض، أو يصب على رأسه وعلى ظهره حتى يشفى. وقد كان بعض الناس يتهم بأنه أصاب أخاه بالعين إما لكلمةٍ قالها أو قرينةٍ تدل على ذلك، فيأتي إليه المصاب أو أهله يطلبون منه أن يستغسل بالوضوء أو بالغسل، فينفر منهم ويسبهم ويشتمهم ويأبى أن يطيع، وهذا خطأ؛ لأنه ربما يكون الأمر واقعًا، فإن كان واقعًا حصل دفع الأذية التي حصلت منه بفعله بنفسه، وإن لم يكن واقعًا فإنه لا يضره؛ لأنه إذا لم يشف المريض بذلك علم أنه لم يصبه بالعين، وإذا شفي بذلك علم أنه أصابه وسلم من أذية أخيه ومن العقوبة التي تترتب على ذلك إذا كان هو الذي أصابه، وهذا لا يضره. لكن بعض الناس- والعياذ بالله- تأخذه العزة بالإثم ويأبى يقول: أنا عائن؟! أنا نحوت؟! كما باللغة العامية وما أشبه ذلك، وهذا خطأ، انفع أخاك: إن كانت العين منك فتكون قد تخلصت منها وشفى الله صاحبك، وإن لم تكن منك فإنه لا يضرك، يعني: إذا لم تكن منك لم ينفعه ما أخذ منك، وحينئذٍ يعرف أنك بريء من العين. ***
يقول السائل: ما صحة الحديث (العين حق)؟ وإن كان كذلك فما هو العلاج الذي يسلكه المؤمن لاتقاء العين؟ وكيف تصيب العين الإنسان؟ وإن كان هناك علاج فما هي الطريقة في نظركم؟ مشكورين فأجاب رحمه الله تعالى: نعم الحديث صحيح، والعين حق، والواقع يشهد بذلك، والعين عبارة عن صدور شيء من نفس حاسد يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، فهو- أي: العائن- شرير لا يريد من الناس أن يتمتعوا بنعم الله، فإذا رأى في شخص نعمة من نعم الله عليه فإن هذا الحسد الكامن في نفسه ينطلق حتى يصيب ذلك المتنعم بنعم الله ﷿. والطريق إلى الخلاص من العين بالنسبة للعائن: أن يبرك على من رآه متنعمًا الله فيقول: اللهم بارك على فلان، وما أشبهها من الكلمات التي تطمئن نفسه، وتكبت ما فيها من حسد. وأما بالنسبة للرجل الخائف من العين فإن العلاج لذلك: أن يكثر من قراءة الأوراد صباحًا ومساء، كآية الكرسي، وسورة الإخلاص، وسورة قل أعوذ برب الفلق، قل أعوذ برب الناس، وغيرها مما جاءت به السنة. هذا علاج للوقاية منها قبل الإصابة، أما بعد أن يصاب بها فإنه يؤخذ من وضوء العائن أو مما يغتسل به من الماء، يؤخذ منه فيصب على المصاب بالعين، أو يحثو منه، فإذا فعل ذلك فإنه يبرأ منها بإذن الله. فيؤمر العائن بأن يتوضأ أو يغتسل، ويؤخذ ما تناثر من مائه ويصب على المصاب، أو يحثو منه، أو يجمع بين الأمرين، وبذلك يزول أثر العين. فضيلة الشيخ: الغبطة هل تدخل في الحسد؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الغبطة لا تدخل في الحسد؛ لأن الحاسد يتمنى زوال نعمة الله على غيره، والغابط يغبط هذا الرجل بنعمة الله عليه ولكنه لا يتمنى زوالها. ***
يقول السائل: ما هو السر في قول: ما شاء الله تبارك الله عند رؤية ما يعجبك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: السر في ذلك ألا يقع من هذا المشاهد عين تصيب المشهود؛ لأن النفوس قد يقع منها ما لا يجوز، فإذا رأى الإنسان ما يعجبه وخاف من حسد العين فإنه يقول: ما شاء الله تبارك الله، حتى لا يصاب المشهود بالعين، وكذلك إذا رأى الإنسان ما يعجبه في ماله فليقل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله؛ لِئَلاَّ يعجب بنفسه وتزهو به نفسه في هذا المال الذي أعجبه، فإذا قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فقد وكل الأمر إلى أهله ﵎. ***
الكفر والتكفير
يقول السائل: ما هي نواقض الإسلام سواء كانت قولية أوعملية أواعتقادية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نواقض الإسلام: كل ما خالف الإسلام فهو مناقض له، لكن المناقضة تنقسم إلى قسمين: مناقضة جزئية، ومناقضة كلية. فما أطلق الشارع عليه الكفر نظرنا: إن كان هذا يناقض الإسلام مناقضة كلية حسب القرائن المقترنة بهذا الإطلاق فهو كفر أكبر مخرج عن الملة، وإن كان يناقض الإسلام في هذه المسألة الجزئية فليس مناقضًا على وجه الإطلاق. فقول الرسول ﵊: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) إذا نظرنا إلى قوله: (قتاله كفر) فيقول قائل: من قاتل المسلم فهو كافر كفرًا مخرجًا عن الملة، لكننا عند التأمل نجد أن الرسول ﵊ قال: (قتاله كفر) أي: إن القتال من الكفر، وليس هو الكفر الأكبر، ويؤيد هذا قوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) فجعل الله الطوائف الثلاث كلها إخوة: المقاتلة الباغية، والأخرى المدافعة، وكذلك المصلحة: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) . فيكون هذا الناقض ليس ناقضًا بالكلية، بل في الإنسان خصلة من خصال الكفر، وليس هو الكفر المطلق. وإذا نظرنا إلى قول النبي ﷺ: (بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة)، وقوله: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، علمنا بأن الكفر هنا الكفر الأكبر المناقض للإسلام مناقضة كلية، وذلك لوجود: بين الرجل وبين الشرك والكفر، والبينية تقتضي أن يكون كل طرف منفصلًا بائنًا عن الطرف الآخر، لا يجتمع معه في شيء؛ لوجود الحد الفاصل الذي دلت عليه البينية: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة. وكذلك قوله: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، يعني: العهد الذي بين المسلمين والكفار هو الصلاة، فمن صلى فهو مؤمن، ومن لم يصل فهو كافر، والبينية تقتضي الانفصال التام. فالحاصل: أن نواقض الإسلام تنقسم إلى قسمين: نواقض كبرى، وهي التي يخرج بها الإنسان من الإسلام، والنواقض الصغرى، وهي التي لا تخرجه من الإسلام، ولكنها تكون خصلة من خصال الكفر. ***
يقول السائل: أرجو من فضيلتكم أن تذكروا لي بعض الأمور التي تخرج من الملة، سواء كانت هذه أقوالًا أو أعمالًا أو اعتقادًا، بحيث أعبد الله على بصيرة. كما أرجو من فضيلتكم أن تذكروا لي بعض الكتب المتخصصة بأمور التوحيد؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا يمكن أن نحصر الأشياء التي تخرج من الملة؛ لأنها كثيرة الأفراد، لكن يمكن أن نذكر قاعدة، وهي: أن الذي يخرج من الملة هو يدور على أمرين: إما الإنكار، وإما الاستكبار. يعني: إما أن ينكر الإنسان شيئًا أخبر الله به ورسوله فيكذبه، أو ينكر حكمًا من أحكام الشريعة الظاهرة التي أجمع المسلمون عليها. أو الاستكبار، وهو: أن يقر بذلك لكن لا يعبد الله. فتارك الصلاة مثلًا كافر مع أنه يؤمن بالله ويؤمن بالشريعة ولا يكذب بها، ولكنه استكبر فلم يصل، ولا يلزم أن يكون تارك الصلاة يقول: إنه مستكبر، ليس بلازم، بل إذا تركها متهاونًا بلا عذر، ولا جهل منه إذا كان بعيدًا عن المدن الإسلامية فإنه في الحقيقة مستكبر. فجميع أنواع الردة تعود إلى هذا: إلى الإنكار أو الاستكبار، لكن التفاصيل كثيرة جدًا، ويمكن أن ترجع إلى ما ذكره الفقهاء ﵏ في باب أحكام المرتد. أما أحسن كتاب في التوحيد: فمن أحسن الكتب كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ﵀، كتاب جامع بين الدلائل والمسائل. ومن أحسن الكتب في العقيدة: العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ثم إذا ترقى الإنسان شيئًا فالعقيدة التدمرية، ثم إذا ترقى الإنسان أكثر فالكتب المطولة، مثل مختصر الصواعق المرسلة الذي أصله لابن القيم ﵀ وغير ذلك. والمرجع الأصل والأول هو كتاب الله ﷿، وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ***
يقول السائل: ما هي نواقض الإسلام؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما بالنسبة لسؤاله عن نواقض الإسلام فنواقض الإسلام بمعناها الإجمالي: كل ما أوجب الردة فهو ناقضٌ للإسلام، يعني: كل شيء من قولٍ أو فعل أو عقيدة يكون به الإنسان مرتدًا فهو ناقضٌ للإسلام، وهو لا يحصر في الواقع، يعني: أفراده لا تحصر لا بعشرة ولا بعشرين ولا بأكثر، لكن الضابط: أن كل ما كان مقتضيًا للردة فهو من نواقض الإسلام. فمثلًا: كفر الجحود أن يجحد ما يجب الإيمان به، مثل أن يجحد- والعياذ بالله- وجود الله، أو الملائكة، أو الرسل، أو الكتب، أو اليوم الآخر، أو القدر خيره وشره، فقد أتى ناقضًا من نواقض الإسلام. لو جحد وجوب الصلاة، أو وجوب الزكاة، أو وجوب الصيام، أو وجوب الحج، أو أنكر تحريم الزنى، أو تحريم الخمر، أو ما أشبه ذلك من المحرمات الظاهرة المجمع عليها، فهذا ناقضٌ من نواقض الإسلام. كذلك من نواقض الإسلام الاستهزاء: لو استهزأ بالله أو آياته أو رسوله فهذا ناقضٌ من نواقض الإسلام، قال الله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) . كذلك لو استكبر عما يكون الاستكبار عنه ردة، كما لو ترك الصلاة وصار لا يصلى لا في بيته ولا مع الجماعة فهذا ناقضٌ من نواقض الإسلام، كذلك لو اعتقد في الله ما لا يليق بالله فهو مرتد. والحاصل: أن نواقض الإسلام لا تحصر بعدد، وإنما تذكر بحد، وهو: كل ما أوجب الردة- أي: كل ما كان ردة- فهو ناقضٌ من نواقض الإسلام، سواءٌ كان ذلك في العقيدة أو في القول أو الفعل. ***
عبد الرؤوف عبد الله من المدينة المنورة يقول: ما هي الأشياء التي تحبط العمل؟ وهل تحبط جميع الأعمال منذ التكليف؟ نرجو بهذا إفادة جزاكم الله خيرًا فأجاب رحمه الله تعالى: محبطات الأعمال تنقسم إلى قسمين: قسمٌ عام، وقسمٌ خاص يبطل كل عملٍ بعينه. فأما القسم العام المبطل لجميع الأعمال فهو الردة، فإذا ارتد الإنسان- والعياذ بالله- عن دين الله ومات على الكفر يحبط جميع عمله؛ لقوله تعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) . أما إذا ارتد ثم منَّ الله عليه فرجع إلى الإسلام فإن عمله لا يحبط، ولهذا يسأل كثيرٌ من الناس يقول عن نفسه: إنه حج الفريضة، وهو يصلى كما يصلى الناس، وقائمٌ بشعائر الإسلام، ثم أتاه وقت ارتد فيه عن الإسلام فترك الصلاة، ثم منَّ الله عليه برجوعه إلى الإسلام فأقام الصلاة وقام بشعائر الإسلام، فيسأل: هل بطل حجه الذي كان قبل ردته فوجب عليه أن يعيده أم لا؟ فنقول: لا، لم يبطل حجك، وليس عليك إعادته؛ لأن الله تعالى اشترط لحبوط العمل بالردة أن يموت الإنسان على الردة، هذا المبطل العام الذي يبطل جميع العبادات. أما المبطلات الخاصة فهي تختص في كل عملٍ بحسبه: فالوضوء مثلًا يبطله الحدث، والصلاة يبطلها ما تبطل به كالضحك والكلام وشبهه، والصدقة يبطلها المن والأذى، والصوم يبطله الأكل والشرب، والحج يفسده الجماع قبل التحلل الأول. فالمهم: أن محبط الأعمال الخاص كثيرٌ لا حصر له، ويختلف باختلاف العبادات التي أبطلها. ***
هل ينطبق على هذا المرتد بعد توبته قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)، (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، وقوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) إلى آخر الآيات التي تتحدث عن التوبة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم، نعم ينطبق عليه ذلك، فإذا تاب ورجع إلى الله ﷿ فإنه يكون مؤمنًا ومع المؤمنين؛ لقوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) . ***
هل الكافر تنطبق عليه نفس أحكام التشريع الإسلامي من حيث المعاملات؟ وأقصد المرتد بترك الصلاة وسب الدين، أم أنه يعاد أولًا إلى الطريق المستقيم حتى يخضع كيانه لتشريعه السامي؟ فأجاب رحمه الله تعالى: المرتد ليس كالكافر الأصلى، ولا يعامل معاملة الكافر الأصلى، بل هو أشد منه؛ لقول النبي ﵊: (من بدل دينه فاقتلوه) . فالمرتد بأي نوع من أنواع الردة لا يعامل كما يعامل الكافر الأصلى، بل إنه يلزم بالرجوع إلى الإسلام، فإن أسلم فذاك، وإن لم يسلم فإنه يقتل كفرًا، ولا يدفن مع المسلمين ولا يصلى عليه. وعلى هذا فنقول: إن هذا المرتد لا يمكن أن يعيش، بل إنه إما أن يعيش مسلمًا، وإما أن يقتل. ***
ماذا تعني كلمة الإلحاد؟ وهل هناك فرق بين الملحد والكافر الذي كان مسلمًا أو هو كافر بأصله كاليهودي والنصراني؟ فأجاب رحمه الله تعالى: كلمة الإلحاد لها معنى لغوي ولها معنى عرفي، أما معناها اللغوي فهو الميل عن طاعة الله ﷾ بمعصيته، إما بترك الواجب وإما بفعل محرم؛ لقوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) . وعلى هذا فكل عاصٍ لله ﷾ يكون ملحدًا، ولكن الإلحاد ينقسم إلى قسمين: قسم مخرج عن الملة، وهو: ما أوجب الكفر، وقسم لا يخرج من الملة، وهو: ما أوجب الفسوق. وأما المعنى العرفي، فالمعنى العرفي أن الإلحاد هو: إنكار الألوهية، يعني: إنكار وجود الله- والعياذ بالله- أو ارتداد المسلم. هذا هو الذي أعرفه من معنى الإلحاد في العرف، وعلى هذا فاليهود والنصارى في العرف لا يعتبرون ملحدين، ولكن هذا العرف ليس بصحيح؛ لأن العرف إذا خالف الشرع وجب إلغاؤه وطرحه. والصواب: أن كل من خالف الإسلام ولم يكن مسلمًا فهو ملحد، سواء انتسب إلى دين أم لم ينتسب، وسواء أقر بوجود الخالق أم لم يقر به، فكل من كان كافرًا كفرًا أصلىًا أو كان مرتدًا فإنه يكون ملحدًا؛ لأنه- والعياذ بالله- الكفر وإن كان دركات بعضها أسفل من بعض، لكنه كله ملة واحدة باعتبار أنه خروج عن الإسلام. ***
ما معنى الإلحاد؟ وكيف يكون الشخص ملحدًا في أسماء الله وصفاته؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإلحاد في اللغة هو الميل، ومنه سمي الحفر في طرف القبر لحدًا لأنه مائل إلى جهة منه. أما في الاصطلاح فهو: الميل عن ما يجب اعتقاده أو عمله. وهذا تعريف عام: كل من مال عن ما يجب اعتقاده وعمله فهو ملحد، لكن الإلحاد نوعان: إلحاد أكبر وإلحاد أصغر. فالإلحاد التام الذي هو الميل عن الإسلام كله إلحاد أكبر مخرج عن الملة، كإلحاد الشيوعيين والمشركين ومن ضاهاهم، وإلحاد أصغر لا يخرج من الملة، كالإلحاد في بعض الأعمال، كقوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) أي بمعصية صغرى، والكبرى أشد وأعظم. أما الإلحاد في أسماء الله وصفاته فإنه ينقسم إلى أقسام: القسم الأول: أن ينكرها إنكارًا كليًّا؟، فينكر الأسماء والصفات، ويدعي أن هذه الأسماء والصفات للمخلوقات وليست للخالق، كما يفعله غلاة المعطلة من القرامطة والباطنية ونحوهم. الثاني: إلحاد في الأسماء فقط، بأن يثبتها لله ﷿ لكن ينفي ما دلت عليه من الصفات، مثل أن يقول: إن الله سميع ولا سمع له، بصير ولا بصر له، عليم ولا علم له، وما أشبه ذلك فهذا أثبت الأسماء ولكن لم يثبت ما دلت عليه من الصفات. ومن الإلحاد في الأسماء أن يثبت الأسماء لكن يجعلها دالة على التمثيل، فيقول: إن لله تعالى أسماء يثبت ما دلت عليه من الصفات على وجه المماثلة، ويقول: إن لله تعالى علمًا لكن علمه مماثل لعلم المخلوق. وكذلك من يمثل في الصفات وهو ملحد فيها، كالذي يقول: إن لله تعالى وجهًا لكنه مماثل لأوجه المخلوقين وما أشبه ذلك، فالتمثيل في الأسماء والصفات هذا من الإلحاد. ومن الإلحاد أيضًا أن نسمي الله بما لم يسمِّ به نفسه، فيسميه الصانع والساخر وما أشبه ذلك، فيثبت لله تعالى أسماء من عنده فإن هذا إلحاد، وذلك لأن الواجب في أسماء الله أن يقتصر فيها على ما ورد. ومن الإلحاد أن يثبت لله تعالى بعض الصفات دون بعض، بأن يثبت لله تعالى من الصفات ما يزعم أن العقل دل عليها، وينفي من الصفات ما يزعم أن العقل لا يدل عليها، فإنّ هذا من الإلحاد والتعطيل، والإيمان ببعض الكتاب دون بعض. من الناس من يؤمن بأن الله تعالى حي عليم قادر سميع بصير مريد متكلم لكنه لا يثبت بقية الصفات، فلا يثبت أنه حكيم، ولا يثبت أنه رحيم، ويقول: إن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد بدون حكمة، ويقول أيضًا: إن الله تعالى ليس له رحمة، لكن رحمته هي إحسانه إلى الخلق أو إرادة إحسانه إليهم، وما أشبه ذلك، هذا نوع من الإلحاد في أسماء الله وصفاته. ومن الإلحاد في أسماء الله أن يسمي بها الأصنام ويشتق للأصنام أسماء من أسماء الله، كقولهم: اللات والعزى، أخذوا الأول من الله وهو اسم من أسماء الله جل وعلا، وأخذوا الثاني من العزيز وهو اسم من أسماء الله تعالى. ***
إبراهيم أبو حامد يقول: ما حكم من كذب بالبعث بعد الموت؟ فأجاب رحمه الله تعالى: كافر، إذا كذب إنسان بالبعث بعد الموت فإنه كافر خارج عن الإسلام؛ لقول الله ﵎: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)، ولأن المكذب بالبعث مكذب لله ورسوله وإجماع المسلمين، ورجل هذا شأنه لا شك في كفره، فإذا رأينا أحدًا يكذب بالبعث فالواجب علينا نصيحته بقدر الإمكان، إن من قال هذا فلا شك في كفره وارتداده، وينصح، فإن لم يتب وجب رفعه إلى الجهات المسؤولة، والجهات المسؤولة تنفذ فيه أحكام الردة، حتى لو سولت له نفسه أنه يتدين بدين مقبول فإنه خاسر. هذا كلام ربنا الخالق المنزل للشرائع؛ لأن الله تعالى أخذ العهد والميثاق على النبيين عمومًا أن يؤمنوا بمحمد ﵊، كما قال ﷿: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي) يعني عهدي (قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)، فاستشهد بعضهم على بعض وشهد جلَّ وعلا بأنه إذا جاءهم رسول مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه، ومن الرسول المصدق لما معهم؟ هو محمد ﵊، فإذا كان هذا مأخوذًا على رسلهم فإنهم إن كانوا مؤمنين برسلهم حقًا أخذوا به تبعًا لرسلهم، وها هو عيسى ﵊ آخر أنبياء بني إسرائيل وليس بينه وبين محمد رسول قال لبني إسرائيل: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) هذا الرسول السابق (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي) الرسول اللاحق (اسْمُهُ أَحْمَدُ) والتبشير بالرسول يعني يجب اتباعه لأنه لو لم يجب اتباعه؛ لم يكن في بشارته به فائدة (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ) أي هذا الرسول المبشر به لما جاءهم (بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) . ولقد شهد علماء اليهود والنصارى على أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو الذي بشرت به الأنبياء وهو (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) . النجاشي لما ذكروا له قصة الوحي ورآهم يفعلون تلك الأفعال آمن وشهد بأن الرسول حق، وهو من أئمة النصارى. عبد الله بن سلام ﵁ من أحبار اليهود شهد للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأنه رسول الله حقًا، لكن أهل الكتاب كما قال الله عنهم: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقّ) . فالخلاصة: أنني أنصح وأحذر إخواني المسلمين من هذا الرأي القبيح المنكر وهو ما يسمى بتوحيد الأديان، فإن هذا أمر لا يمكن إطلاقًا، كيف توحد الأديان ودين منها حق ودين منسوخ؟ هذا غير ممكن إلا أن يمكن الجمع بين النار والماء، فلا ينخدع المسلمون بهذه الدعوى الباطلة المنكرة القبيحة المنافية للإسلام. ***
المستمع هادي ناصر يقول في هذا السؤال: فضيلة الشيخ أنكر ذوو العقول الضعيفة قضية البعث فما ردكم عليهم؟ وهل يجوز أن نهجرهم بعد أن بينا لهم الحكم والأدلة؟ نرجو التوضيح مأجورين إنكار البعث كفر مخرجٌ عن الملة؛ لأنه تكذيبٌ لله ورسوله وإجماع المسلمين، قال الله ﵎: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ) يعني تبعثون (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) . فمن أنكر البعث فهو كافر خارجٌ عن الدين الإسلامي بإجماع المسلمين، فيستتاب فإن تاب وأقر بالبعث إقرارًا صادقًا يقر به ظاهرًا وباطنًا- يعني: ظاهرًا مع الناس وباطنًا فيما بينه وبين نفسه ومع أهله- فهو من نعمة الله عليه، ويكون رجوعًا للإسلام بعد الكفر، وإن أبى وأصر على إنكاره وجب قتله، وإذا قتل في هذه الحال فإنه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين ولا يدعى له بالرحمة، فهذا حكم من أنكر البعث. ثم إن إنكار البعث- مع كونه كفرًا وتكذيبًا لله ورسوله وإجماع المسلمين- هو نقصٌ في العقل، إذ كيف يخلق الله هذه الخليقة، ويرسل إليها الرسل، وينزل من أجلها الكتب، ويأمر بجهاد من عارض شرعه، ثم تكون النتيجة أن تكون هذه الخليقة ترابًا لا يبعثون ولا يحاسبون ولا يجازون؟ لو وقع هذا لكان من أسفه السفه، فكيف ينسب إلى رب العالمين الذي هو أحكم الحاكمين؟ فالكتاب والسنة وإجماع المسلمين والعقل السليم كلها توجب أن يكون للناس بعثٌ يجازون فيه على أعمالهم، ولهذا نقول: من أنكر البعث فهو كافر، وهو ضالٌ في دينه سفيهٌ في عقله، والواجب على ولي الأمر أن يقتله إذا لم يتب ويقر بالبعث. ***
محمد أحمد من البحرين يقول: فضيلة الشيخ أسأل عن رجلٍ إذا ذكرته في أمور الآخرة مثل البعث والجنة والنار يكذب بها ويقول: نحن إذا متنا نصير ترابًا ولا نبعث. وأنا لا أدري هل يقول هذا الكلام اعتقادًا منه أو مازحا، ً علمًا بأنه يصلى. فأجاب رحمه الله تعالى: نعم إذا قال هذا فإنه كافر، قال الله ﵎: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) . وقد ذكر العلماء ﵏ أن من تكلم بكلمة الكفر فهو كافر، سواءٌ كان جادًا أم مازحًا. فعلى هذا الرجل أن يتوب إلى الله، وأن يؤمن بالبعث، وأن يسأل الله تعالى الثبات على ذلك، وأن يسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلبه بعد إذ هداه، فإن القلوب بيد الله بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. نسأل الله للجميع الثبات على الحق والوفاة عليه، إنه على كل شيءٍ قدير. ***
بماذا نحكم على من أنكر المعراج أو أوّل في تفسيره له؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نحكم على من أنكر المعراج: بأنه إن كان قد تبين له الحق وعلم ما جاء به من النصوص من السنة الصريحة ومن ظاهر القرآن الكريم فإنه يكون بذلك كافرًا؛ لأنه يكون مكذبًا لله ورسوله. وإن كان لديه شبهات في هذا الأمر فإنه يجب أن ترفع عنه الشبهة حتى يتبين له الحق، ثم إذا أصر بعد زوال الشبهة حكم بكفره أيضًا؛ لأن المعراج حق ثابت أشار الله تعالى إليه في قوله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (٦) وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى (٧) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) إلى أن قال ﷾: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) . وأما الإسراء فهو أيضًا ثابت بنص القرآن في قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى) . وقد تضافرت الأحاديث الكثيرة في قصة المعراج وأنه حق ثابت، ولهذا أدخله كثير من أهل العلم في كتب العقائد وجعله من عقيدة أهل السنة والجماعة. ولكن بهذه المناسبة أود أن أبين أن المعراج دخل فيه أشياء كذب وموضوعة على الرسول ﵊، مثل الكتاب الذي ينسب إلى ابن عباس ﵄ في روايته، وهو كتاب متداول عند بعض الناس، فيه أشياء منكرة موضوعة لا تصح عن النبي ﷺ، فعلى الإنسان أن يكون محترزًا منه مبتعدًا عنه. ***
يقول السائل: الذي لا يصلى ولا يزكي هل يعتبر كافرًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إن كان مراد السائل الذي لا يصلى ولا يزكي أي إنه جمع بين ترك الصلاة وترك الزكاة فنعم فهو كافر، فإن الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة ﵃ قد دلت على أن تارك الصلاة كافر كفرًا أكبر مخرجًا عن الملة. وإن كان مراده لا يصلى ولا يزكي أي إنه يترك الصلاة مع كونه يزكي، أو يترك الزكاة مع كونه يصلى فهذا فيه تفصيل: فإن كان مراده أنه يترك الصلاة ويزكي فنقول له: إنه إذا ترك الصلاة وزكى فهو كافر كفرًا مخرجًا عن الملة ولا ينفعه إيتاء الزكاة؛ لأنه كافر، قال الله تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) . وإن كان قصده أنه ترك الزكاة مع الصلاة، أي إنه يصلى ولكنه لا يزكي فالصحيح أنه لا يخرج من الإسلام، لكنه قد فعل كبيرة من كبائر الذنوب، قال الله ﵎: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) . وقال الله ﵎: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) . وقال ﵊: (من آتاه الله مالًا فلم يؤد زكاته مُثِّلَ له يوم القيامة شجاعًا أقرع - أي حية عظيمة قرعاء - ليس على رأسها زغب لكثرة سمها قد تمزق شعرها يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - فيقول: أنا مالك أنا كنزك) . وأخبر ﷺ أنه (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت صفائح من نار وأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) . وهذا أيضًا وعيد شديد عظيم، لكنه لا يكفر؛ لقوله في هذا الحديث: (ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)، وذلك لأنه لو كان كافرًا لم يكن له سبيل إلى الجنة، ولأن عبد الله بن شقيق ﵀ وهو من التابعين المعروفين (قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) . والخلاصة في الجواب على سؤال الرجل: أن من لا يصلى ولا يزكي كافر مرتد عن الإسلام؛ لأنه لا يصلى، وعدم زكاته يكون ظلمًا على ظلم، وإن كان لا يزكي ولكنه يصلى فقد أتى كبيرة عظيمة لكنه ليس بكافر. ***
يقول السائل: إننا نرى إذا أقبل شهر رمضان المبارك نرى البعض من الناس يهرعون إلى الصلاة حتى يصوموا شهر رمضان،وإذا انقضى رمضان نراهم يتركون الصلاة ولا يصلون إلا في شهر رمضان، ويعللون ذلك ويقولون: نحن نصلى في هذا الشهر حتى يقبل صومنا. هل يقبل منهم مثل هذا الصيام؟ وهل تقبل الصلاة في هذا الشهر، مع العلم بأنهم لا يقضون ما فاتهم من صلاة؟ أفيدونا أفادكم الله فأجاب رحمه الله تعالى: أما إذا كانوا يفعلون ذلك معتقدين أنه لا صلاة واجبة إلا في رمضان فهؤلاء كفار كفر اعتقاد كفرًا مخرجًا عن الملة؛ لأن من أنكر وجوب شيء من الصلوات الخمس وهو في بلاد المسلمين فإنه يكون كافرًا؛ لأن الأمة كلها مجمعة على وجوب الصلوات الخمس، فلا عذر لأحد في تركها لتأويل أو غير تأويل. وأما إذا كان فعلهم هذا ليس عن اعتقاد، أي: إنهم يعتقدون وجوب الصلوات الخمس، لكنهم يتهاونون بها، ولا يفعلون ذلك إلا في رمضان، فأنا أتوقف في كفر هؤلاء. ***
من العراق محافظة بابل أ. ف. ي. د. تقول: يزورنا في البيت من الأقارب من لا يصلون ولا يؤدون الواجبات ويشركون بالله- والعياذ بالله- ومنهم من يقول لي: ندعو الأولياء والصالحين. عجزت من نصحهم هل يجوز مجالستهم؟ وعندما أتحدث عن الدين يضحكون مني ويسخرون ويهزؤون ويقولون لي: هذه عابدة اتركوها، وعندما يقولون هذا أتضايق كثيرًا وأقول: يسامحهم الله. وعندما أقول لوالدتي: يا أماه لا تشركي بالله لا تعيرني أي اهتمام، وإذا استمعت إلى برنامجكم نور على الدرب تقول: بأنك لن تدخلي الجنة على عملك هذا، وإذا استمررت على سماع هذا البرنامج أو غيره من البرامج الدينية فسوف تصابين بالجنون. وأقول لها: إنني لست مجنونة ولكن الله هداني. ماذا أفعل لكي أرضي الله ﷾ ثم أرضي أمي والناس؟ نصيحتكم يا شيخ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نصيحتنا أولًا نوجهها إلى هؤلاء الجماعة الذين وصفتهم بأنهم لا يصلون وبأنهم يشركون بالله ويسخرون من الدين ومن يتمسك به، فإن نصيحتي لهؤلاء أن يتقوا الله ﷿ في أنفسهم، وأن يعلموا أن دين الله حق، وهو الذي بعث به محمد ﷺ، وأن أركانه: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام. فعليهم أن يتوبوا إلى الله ﷿ من هذا الكفر والشرك البالغ غايته، وعليك أيضًا أن تحرصي على مناصحتهم ما أمكن، ولا تيأسي من صلاحهم، فإن الله ﷾ مقلب القلوب، فربما مع كثرة البيان والنصح والإرشاد يهديهم الله ﷿. وإذا تعذر إصلاحهم فإن الواجب هجرهم والبعد عنهم وعدم الجلوس إليهم؛ لأنهم حينئذ مرتدون عن دين الإسلام والعياذ بالله. وأما قول بعضهم لك: إنك إذا استمعت إلى برنامج نور على الدرب أو غيره من الكلمات النافعة تصابين بالجنون، فإن هذا خطأ منهم خطأ عظيم، وهو كقول المكذبين للرسل: إنهم- أي الرسل- مجانين وكهان وشعراء وما أشبه ذلك من الكلمات المشوهة التي يقصد بها التنفير عن الحق وأهل الحق، فاستمري أنت على هداية الله ﷿، وعلى الاستماع لكل ما ينفع، وعلى القيام بطاعة الله ﷾، واعلمي أن العاقبة للمتقين. ***
يقول السائل: هل يعتبر التحاكم إلى غير شرع الله كفرًا مع العلم بأنه يعتقد اعتقادًا منافيًا للشك بأن أحكام الشريعة الإسلامية هي أفضل من الأحكام الوضعية؟ نرجو بهذا التوجيه مأجورين فأجاب رحمه الله تعالى: الجواب على هذا السؤال يتبين بالآتي: أولًا: أن الله ﷾ إنما خلق الخلق لعبادته، خلق الجن والإنس ليعبدوه، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) . وعبادة الله ﷾ هي التذلل له حبًا وتعظيمًا بإقامة شرائعه القلبية واللفظية والعملية. ثانيًا: يقول الله ﷿: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) . فلا حاكم بين العباد إلا الله ﷾، ولا يحل لأحد أن يفصل هذه القضية عما وجهنا الله فيه نحوها: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله لا إلى غيره. ثالثًا: يقول الله ﷿: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) . فتأمل هذه الآية الكريمة تجد أن طاعة ولاة الأمور تابعة لطاعة الله ورسوله وليست مستقلة، ولهذا قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) ولم يقل: أطيعوا أولي، الأمر وهذا يدل دلالة ظاهرة على أن طاعة ولاة الأمور تابعة لطاعة الله ولا يمكن أن تكون مستقلة، كما أن الله تعالى يقول: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) . لم يقل: ردوه إلى القانون الفلاني أو القانون الفلاني أو الرأي الفلاني أو النظرية الفلانية أو ما أشبه ذلك، بل لا مرد إلا إلى الله ورسوله، إلى الله إلى كتابه وإلى رسوله إلى سنته ﷺ، فإن كان حيًا فإليه نفسه، وإن كان ميتًا فإلى ما حفظ من سنته ﷺ. رابعًا: قال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) . فأقسم الله ﷾ بربوبيته لرسوله محمد ﷺ، وهي ربوبيةٌ خاصة لا تساويها أي ربوبية بالنسبة للعباد؛ لأنه كلما كان الإنسان أعبد لله كانت ربوبيه الله له أخص، ومن المعلوم أن نبينا محمدًا ﷺ أعبد الناس لله، وعلى هذا فإن الله أقسم بهذه الربوبية الخاصة المضافة إلى رسول الله ﷺ أنه لا يؤمن أحد إلا بهذه الشروط: الشرط الأول: (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) لا يحكموا غيرك. الشرط الثاني: (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ) بل تتسع صدورهم لذلك وتنشرح صدورهم به، فلا يجدوا حرجًا وضيقًا مما قضيت. والثالث: (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) ينقادوا انقيادًا تامًا، وبهذا أكد الفعل بالمصدر بقوله: (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) إذا عرفت هذه الأمور الأربعة تبين لك أن خروج الإنسان عن التحاكم إلى الله ورسوله خلاف ما خلق الله العباد من أجله، وخلاف ما أرشد الله أن يكون التحاكم إليه، وخلاف ما جعل الله تعالى لولاة الأمور من الطاعة، وخلاف تحكيم الرسول ﵊. ولهذا قال الله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) . ***
يقول السائل: أسأل عن الآية الكريمة في قوله ﵎: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) على من تنطبق هذه الآية الكريمة مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذه الآية قيل: إنها نزلت في اليهود، واستدل هؤلاء بأنها كانت في سياق توبيخ اليهود، قال الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) . وقيل: إنها عامة لليهود وغيرهم، وهو الصحيح؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ولكن ما نوع هذا الكفر؟ قال بعضهم: إنه كفر دون كفر. ويروى هذا عن ابن عباس ﵄، وهو كقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، وهذا كفر دون كفر، بدليل قول الله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. ِإنمَّاَ المؤمنونَ ِإخوةٌ) . فجعل الله تعالى الطائفتين المقتتلتين إخوة للطائفة الثالثة المصلحة، وهذا قتال مؤمن لمؤمن، فهو كفر، لكنه كفر دون كفر. وقيل: إن هذا- يعني قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) - ينطبق على رجل حكم بغير ما أنزل الله بدون تأويل مع علمه بحكم الله ﷿، لكنه حكم بغير ما أنزل الله معتقدًا أنه مثل ما أنزل الله أو خير منه، وهذا كفر؛ لأنه استبدل بدين الله غيره. ***
يقول السائل: ما حكم سب الدين الإسلامي؟ فأجاب رحمه الله تعالى: سب الدين الإسلامي كفر؛ لأن سب الدين الإسلامي سب للرسول ﵊ ولله ﷾، إذ إن الدين الإسلامي هو الدين الذي بعث الله به رسوله، وهو الذي رضيه لعباده دينًا، فإذا سبه المرء فقد سب الله ﷾ وطعن في حكمته واختياره، وكذلك سبّ الرسول ﷺ؛ لأنه صاحب الرسالة وصاحب هذا الدين، فهو كفر والعياذ بالله. ***
حسن سعيد سوداني ومقيم بالعراق يقول في رسالته: ما حكم الشرع في نظركم في رجل سب الدين بحالة غضب؟ هل عليه كفارة؟ وما شرط التوبة من هذا العمل؟ حيث إنني سمعت من أهل العلم يقولون بأنك خرجت عن الإسلام بقولك هذا، وأيضًا يقولون بأن زوجتك حرمت عليك. أفيدونا بهذا الموضوع فأجاب رحمه الله تعالى: الجواب: الحكم فيمن سب الدين، الدين الإسلامي أنه يكفر، فإن سب الدين والاستهزاء به ردة عن الإسلام، وكفر بالله ﷿ وبدينه، وقد حكى الله تعالى عن قوم استهزؤوا بدين الإسلام حكى الله عنهم أنهم كانوا يقولون: إنما كنا نخوض ونلعب، فبين الله ﷿ أن خوضهم هذا ولعبهم استهزاء بالله وآياته ورسوله وأنهم كفروا به، فقال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) فالاستهزاء بدين الله أو سب دين الله أو سب الله ورسوله أو الاستهزاء بهما كفر مخرج عن الملة، ومع ذلك فإن هناك مجالًا للتوبة منه؛ لقول الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) . فإذا تاب الإنسان من أي ردة كانت توبة نصوحًا استوفت شروط التوبة الخمسة فإن الله تعالى يقبل توبته. وشروط التوبة الخمسة هي: الإخلاص لله بتوبته، بأن لا يكون الحامل له على التوبة رياء أو سمعة أو خوفًا من المخلوق، أو رجاء لأمر يناله من الدنيا، فإذا أخلص توبته لله وصار الحامل له عليها تقوى الله ﷿ والخوف من عقابه ورجاء ثوابه فقد أخلص لله تعالى فيها. والشرط الثاني: أن يندم على ما فعل من الذنب، بحيث يجد في نفسه حسرة وحزنًا على ما مضى، ويراه أمرًا كبيرًا يوجب عليه أن يتخلص منه. والأمر الثالث أو الشرط الثالث: أن يقلع عن الذنب وعن الإصرار عليه، فإن كان ذنبه ترك واجب قام بفعله وتداركه إن أمكن، وإن كان ذنبه بفعل محرم أقلع عنه وابتعد عنه، ومن ذلك إذا كان الذنب يتعلق بمخلوقين فإنه يؤدي إليهم حقوقهم أو يستحلهم منها. الشرط الرابع: العزم على أن لا يعود في المستقبل، بأن يكون في قلبه عزم مؤكد أن لا يعود إلى هذه المعصية التي تاب منها. والشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقت القبول، فإن كانت بعد فوات وقت القبول لم تقبل. وفوات وقت القبول عام وخاص: أما العام فإنه طلوع الشمس من مغربها، فالتوبة بعده أي بعد طلوع الشمس من مغربها لا تقبل؛ لقول الله تعالى: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) . وأما الخاص فهو حضور الأجل، فإذا حضر الأجل فإن التوبة لا تنفع؛ لقول الله تعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) . أقول: إن الإنسان إذا تاب من أي ذنب ولو كان ذلك سب الدين فإن توبته تقبل إذا استوفت الشروط التي ذكرناها، ولكن ليعلم أن الكلمة قد تكون كفرًا وردة ولكن المتكلم بها قد لا يكفر بها لوجود مانع يمنع من الحكم بكفره، فهذا الرجل الذي ذكر عن نفسه أنه سب الدين في حال غضب نقول له: إن كان غضبك شديدًا بحيث لا تدري ما تقول ولا تدري حينئذ أنت في سماء أم في أرض، وتكلمت بكلام لا تستحضره ولا تعرفه، فإن هذا الكلام لا حكم له، ولا يحكم عليك بالردة؛ لأنه كلام حصل عن غير إرادة وقصد، وكل كلام حصل عن غير إرادة وقصد فإن الله ﷾ لا يؤاخذ به، يقول الله تعالى في الأيمان: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) . ويقول تعالى في آية أخرى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) . فإذا كان هذا المتكلم بكلمة الكفر في غضب شديد لا يدري ما يقول ولا يعلم ماذا خرج منه، فإنه لا حكم لكلامه، ولا يحكم بردته حينئذ، وإذا لم يحكم بالردة فإن الزوجة لا ينفسخ نكاحها منه، بل هي باقية في عصمته، ولكن ينبغي للإنسان إذا أحس بالغضب أن يحرص على مداواة هذا الغضب بما أوصى به النبي ﷺ حين سأله رجل فقال: يا رسول الله أوصني. فقال: (لا تغضب) فردد مرارًا قال: (لا تغضب) . فْليُحكِم الضبط على نفسه، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا كان قائمًا فليجلس، وإذا كان جالسًا فليضطجع، وإذا اشتد به الغضب فليتوضأ، فإن هذه الأمور تذهب عنه غضبه، وما أكثر الذين ندموا ندمًا عظيمًا على تنفيذ ما اقتضاه غضبهم ولكن بعد فوات الأوان. ***
يقول: إذا صدر من المسلم سبٌ للدين ليس عامدًا بل سبق لسان ومن قبيل ما يسمى باللغو فهل يؤاخذ على ذلك أم يدخل تحت قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم)؟ وإن لم يكن داخلًا فما معنى هذه الآية إذًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: من سب دين الإسلام فهو كافر، سواءٌ كان جادًا أو مازحًا، حتى وإن كان يزعم أنه مؤمن فليس بمؤمن، وكيف يكون مؤمنًا بالله ﷿ وبكتابه وبدينه وبرسوله وهو يسب الدين؟ كيف يكون مؤمنًا وهو يسب دينًا قال الله فيه: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)؟ وقال الله تعالى فيه: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)؟ وقال الله فيه: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ)؟ كيف يكون مؤمنًا من سب هذا الدين ولو كان مازحًا؟ إذا كان قد قصد الكلام فإن من سب دين الإسلام جادًا أو مازحًا فإنه كافرٌ كفرًا مخرجًا عن الملة، عليه أن يتوب إلى الله ﷿. وسب الدين مازحًا أشد من سبه جادًا وأعظم، ذلك لأن من سب شيئًا جادًا وكان هذا السب واقعًا على هذا الشيء فإنه قد لا يكون عند الناس مثل الذي سبه مازحًا مستهزئًا وإن كان فيه هذا الشيء، والدين الإسلامي والحمد لله دينٌ كامل كما قال الله ﷿: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) . وهو أعظم منةٍ منَّ الله بها على عباده كما قال: (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) . فإذا سبه أحد ولو مازحًا فإنه يكفر، فعليه أن يتوب إلى الله ويقلع عما صنع، وأن يعظم دين الله ﷿ في قلبه حتى يدين الله به وينقاد لله بالعمل بما جاء في هذا الدين. أما شيءٌ سبق على لسانه بأن كان يريد أن يمدح الدين فقال كلمة سبٍ بدون قصد بل سبقًا على اللسان فهذا لا يكفر؛ لأنه ما قصد السب، بخلاف الذي يقصده وهو يمزح فإن هنا قصدًا وقع في قلبه فصار له حكم الجاد، أما هذا الذي ما قصد ولكن سبق على اللسان فإن هذا لا يضر، ولهذا ثبت في الصحيح في قصة (الرجل الذي كان في فلاةٍ فأضاع راحلته وعليها طعامه وشرابه فلم يجدها، ثم نام تحت شجرةٍ ينتظر الموت فإذا بناقته على رأسه، فأخذ بزمامها وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح) فلم يؤاخذ؛ لأن هذا القول الذي صدر منه غير مقصودٍ له، بل سبق على لسانه فأخطأ من شدة الفرح، فمثل هذا لا يضر الإنسان، لا يضر الإنسان لأنه ما قصده، فيجب أن نعرف الفرق بين قصد الكلام وعدم قصد الكلام، ليس بين قصد السب وعدم قصده؛ لأن هنا ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: أن يقصد الكلام والسب، وهذا فعل الجاد، كما يصنع أعداء الإسلام بسب الإسلام. الثاني: أن يقصد الكلام دون السب، بمعنى يقصد ما يدل على السب لكنه مازحٌ غير جاد، فهذا حكمه كالأول: يكون كافرًا؛ لأنه استهزاء وسخرية. المرتبة الثالثة: أن لا يقصد الكلام ولا السب، وإنما يسبق لسانه فيتكلم بما يدل على السب دون قصدٍ إطلاقًا، لا قصد الكلام ولا قصد السب، فهذا هو الذي لا يؤاخذ به، وعليه يتنزل قوله تعالى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) فإنه هو قول الرجل في عرض حديثه: لا والله وبلى والله، يعني ما قصد، فهذا لا يعتبر له حكم اليمين المنعقدة، فكل شيء يجري على لسان الإنسان بدون قصد فإنه لا يعتبر له حكم. وقد يقال: إن الإنسان قد قال في حديثه: لا والله وبلى والله إنه قصد اللفظ لكن ما قصد عقد اليمين، فإذا كان هذا فإنه يفرق بين حكم اليمين وبين الكفر، فالكفر ولو كان غير قاصدٍ للسب يكفر ما دام قصد الكلام واللفظ. ***
ما حكم من يسب الدين أي يشتم الإنسان بلعن دينه؟ وماذا عليه إن كان متزوجًا؟ وإذا سألته عن ذلك يقول: هذا لغو ولم أقصد سب الدين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم سب الدين كفر ولعن الدين كفرٌ أيضًا؛ لأن سب الشيء ولعنه يدل على بغضه وكراهته، وقد قال الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) . وإحباط الأعمال لا يكون إلا بالردة؛ لقوله تعالى (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) . فالمهم أن هذا الذي يسب الدين لا شك في كفره، وكونه يدعي أنه مستهزئ وأنه لاعب وأنه ما قصد هذا لا ينفي كفره، كما قال الله تعالى عن المنافقين: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) . ثم نقول له: إذا كنت صادقًا في أنك تمزح أو أنت هازل لست بجاد فارجع الآن وتب إلى الله، فإذا تبت قبلنا توبتك، تب إلى الله وقل: أستغفر الله مما جرى، وارجع إلى ربك، وإذا تبت ولو من الردة فإنك مقبول التوبة. ***
تقول السائلة من الجزائر: يا شيخ هل سب الدين في حالة الغضب من الكفر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما إذا كان الغضب شديدًا بحيث لا يملك الإنسان نفسه فإنه لا يخرج بذلك من الدين؛ لأنه لا يعي ما يقول، وأما إذا كان يملك نفسه فسب الدين كفر وردة، فيجب عليه أن يتوب إلى الله ﷿ وأن يجدد إسلامه. ***
هناك بعض الشباب يمزح ويقول كلامًا على الله وعلى رسوله من أجل أن يضحك زملاءه، وحينما ننصحه يقول: أنا أمزح. فبماذا تردون عليه؟ وهل إذا كان مازحًا يجوز له أن يمزح بكلام عن الدين أو الله أو الرسول أو المؤمنين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إن هذا العمل وهو الاستهزاء بالله أو برسوله أو كتابه أو دينه ولو كان على سبيل المزح ولو كان على سبيل إضحاك القوم نقول: إن هذا كفر ونفاق، وهو نفس الذي وقع في عهد النبي ﷺ في الذين قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنًا ولا أجبن عند اللقاء. يعنون رسول الله ﷺ وأصحابه، فنزلت فيهم هذه الآية: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) لأنهم جاؤوا إلى النبي ﵊ يقولون: يا رسول الله إنما كنا نتحدث حديثًا لنقطع به عناء الطريق، فكان رسول الله ﷺ يقول لهم ما أمره الله به: (أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) . فجانب الربوبية والرسالة والوحي والدين جانب محترم لا يجوز لأحد أن يعبث فيه، لا باستهزاء ولا بإضحاك ولا بسخرية، فإن فعل فإنه كافر؛ لأنه يدل على استهانته بالله ﷿ وكتبه ورسله وشرعه، وعلى هذا الرجل أن يتوب إلى الله ﷿ مما صنع؛ لأن هذا من النفاق، فعليه أن يتوب إلى الله ويستغفر ويصلح عمله ويجعل في قلبه خشية الله ﷿ وتعظيمه وخوفه ومحبته. ***
يقول السائل: ما حكم من يستهزئ بالحجاب ولا يأمر أهله به؟ فنرجو منكم التوجيه والنصح مأجورين فأجاب رحمه الله تعالى: الحجاب هو عبارة عن ستر الوجه وما تكون به الفتنة من بقية الأعضاء، هذا هو الحجاب الشرعي، خلافًا لما يظنه بعض الناس من أن الحجاب الشرعي أن تستر المرأة كل بدنها إلا الوجه والكفين، وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على أنه لا يجوز للمرأة أن تكشف وجهها لغير زوجها ومحارمها، ولنا في ذلك رسالة أسميناها الحجاب، ولغيرنا في ذلك أيضًا رسائل، وقد ألفت في هذا مؤلفات كثيرة والحمد لله. ومن استهزأ بالحجاب فإن كان قصده الاستهزاء به كشرعيةٍ وسنةٍ من سنن الرسول ﵊ فإنه على خطرٍ عظيم، ويخشى أن يكون هذا ردةً عن دين الله؛ لأن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر، كما قال الله ﵎: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) . وأما إن كان يستهزئ به لا على أنه شريعة لكن على أنه قول اختاره من يفعله ويتحجب فهذا لا يكفر، لكنه أخطأ خطأً عظيمًا؛ لأن الاستهزاء بقول غيرك من أهل العلم وإن كنت عالمًا لا يحل، ما دامت المسألة مبنية على الاجتهاد، فإنه ليس اجتهادك أولى بالصواب من اجتهاد الآخر، وليس اجتهاده أولى بالصواب من اجتهادك، والصواب من اجتهاديكما ما وافق الكتاب والسنة، ونحن نعلم أن الخير كل الخير بستر الوجه عن الرجال الأجانب، بقطع النظر عن دلالة الكتاب والسنة والنظر الصحيح على وجوب ستر الوجه، لكن هو من الناحية العقلية أن ستره لا شك أحفظ للمرأة وأبعد للفتنة، والإنسان العاقل إذا رأى ما وقعت فيه المجتمعات التي لا تستر الوجه من الشر يعرف أن الخير كل الخير في ستر الوجه، وأنه واجبٌ عقلًا وإن قدر أنه ليس فيه أدلةٌ شرعيةٌ تدل على الوجوب، مع أن فيه أدلةً شرعيةً تدل على الوجوب لا شك عندنا في ذلك. وانظر إلى تلك المجتمعات: هل اقتصر نساؤها على كشف الوجه فقط والكفين فقط؟ لا، كشفوا الوجوه والنحور والشعور والأذرعة والأقدام والسيقان، وحصل بذلك شرٌ كثير، لكن انظر إلى المرأة المختمرة المغطية لوجهها تجد أنها في سلامة وفي أمان وفي حشمة ووقار، لا يطمع فيها الطامعون ولا يحوم حولها السافلون، واختر لنفسك ما شيءت. ونصيحتي لهذا الرجل أن يتوب إلى الله ﷿ مما صنع، وأن يلزم أهله من بنات وأخوات وزوجات بما تدل عليه الأدلة الشرعية من ستر الوجه، حتى تسلم نساؤه ويسلم دينه، ويكون قد رعاهن حق الرعاية، فإن الإنسان مسؤولٌ عن أهله يوم القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (الرجل راعٍ في أهله ومسؤولٌ عن رعيته) . ***
ما حكم الاستهزاء بالملتزمين؟ هل هو كفر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إن كان هذا الاستهزاء بما التزموا به فهذا كفر، يعني: لو استهزأ بالصلاة التي التزموا بها أو الشرائع التي التزموا بها فهذا كفر لا شك فيه، وأما إذا استهزأ بالرجل نفسه فهذا لا يصل إلى حد الكفر، لكنه لا شك أنه آثم باستهزائه برجل ممن تمسكوا بدينهم. ***
يقول السائل: ما حكم من يستعمل ألفاظًا غير لائقة في القرآن أو عبارات أو جملًا وهذا من باب المزاح، كذكر كلمة من القرآن وربطها بكلمةٍ عامية، فما رأيكم بما يفعل في ذلك مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الكفر لا فرق فيه بين المازح والجاد، فمتى أتى الإنسان بما يوجب الكفر فهو كافر والعياذ بالله، ومن أعظم ذلك أن يأتي بشيء يفيد السخرية بالقرآن أو الاستهزاء بالقرآن، فإن هذا كفر نسأل الله العافية، كما قال الله ﷿ في المنافقين الذين كانوا يقولون: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنًا ولا أجبن عند اللقاء، يعنون بذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه. فأنزل الله فيهم: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) . فمن أتى بكلمة الكفر فهو كافر، سواءٌ أتى بها جادًا أم لاعبًا مازحًا أم غير مازح، فعلى من فعل ذلك أن يتوب لله ﷿ وأن يعتبر نفسه داخلًا في دين الإسلام بعد أن خرج منه، ويجب على المؤمن أن يعظم كلام الله ﷿، وأن يعظم كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما عليه أن يعظم الله ﷾ وأن يعظم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما يليق به ولا يكون غلوًا فيه. وأما السخرية بالقرآن وربط الكلمات القرآنية وهي كلام رب العالمين بكلامٍ عاميٍ مسخرة فهذا أمرٌ خطيرٌ جدًّا نسأل الله العافية، قد يخرج به الإنسان من الإسلام وهو لا يشعر. ***
سالم سليم من شمال سيناء يقول: عندنا جماعة يقولون بأن الله في كل مكان بذاته. ونقول لهم: إن الأمر ليس كذلك، إن الله في السماء. ونقول لهم: الرحمن على العرش استوى. ولم يقتنعوا بقولنا، ومصرون على ما هم عليه. السؤال: هل هم كفار؟ وهل يلحق بهم من اتبعهم وهم على جهل؟ أم ماذا يقال عنهم؟ أنا قرأت في بعض الكتب بأن شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ يقول: أنا لو قلت بمقالتكم كنت كافرًا، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال. فما القول الصحيح في هؤلاء مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: القول الصحيح في هذا ما قاله شيخ الإسلام ﵀ إذا كانوا جهالًا فإنهم لا يكفرون، وأما إذا كانوا عالمين بأن الله في السماء ولكنهم استكبروا وأبوا إلا أن يقولوا: إنه في الأرض فهم كفار، ولا يخفى أنه يلزم على هذا القول لوازم باطلة جدًا جدًا؛ لأنك إذا قلت: إن الله في كل مكان لزم من هذا أن يكون في المراحيض والعياذ بالله والحشوش والمواضئ والأماكن القذرة ومن يصف ربه بهذا؟ لا يمكن لمؤمن أن يصف ربه بهذا أبدًا. وأما ما يوجد من بعض الناس في هذه المسألة الواجب أن يجادل بالتي هي أحسن كما قال الله ﷿: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) . ***
إبراهيم أبو حامد يقول: فضيلة الشيخ ما هو خطر النفاق على العبد المسلم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: النفاق نفاقان: نفاق أكبر مخرج عن الملة، ونفاق أصغر لا يخرج من الملة. أما الأول فهو: إظهار الإيمان وإبطان الكفر- والعياذ بالله- كالذي حصل في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأشار الله إليه في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) . فهؤلاء يظهرون أنهم مسلمون: فيصلون مع الناس، وربما يتصدقون، ويذكرون الله، ولكنهم لا يذكرون الله إلا قليلًا، ويقرون بالرسالة ولكنهم كاذبون، يقول الله ﵎ فيهم: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) . هذا النفاق والعياذ بالله نفاق أكبر صاحبه في الدرك الأسفل من النار. واختلف العلماء ﵏ هل يكون له توبة أو لا؟ فمن العلماء من قال: إنه لا توبة له، وذلك لأنه لو قلنا بأنه يتوب فإنه لا يبدو من إيمانه إلا ما أظهره لسانه، وهو يظهر الإيمان من قبل. ولكن الصحيح أن إيمانه مقبول إذا تبين من تصرفاته أنه غير منهجه الأول، وأنه تاب توبة نصوحًا، ويدل لذلك قول الله ﵎: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) . أما النوع الثاني من النفاق فهو: النفاق الأصغر الذي لا يخرج من الإيمان، مثل قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) . وقال: (أربع من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كان فيه واحد منها كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها) . فهذا نفاق أصغر لا يخرج من الملة، لكنه يخشى أن يتدرج بصاحبه حتى يصل إلى النفاق الأكبر. وإنني بهذه المناسبة أحث إخواني على الصدق في المقال، والوفاء بالوعد، وأداء الأمانة على الوجه الأكمل. أما الأول- وهو: الصدق في المقال- فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حث عليه ورغب فيه وحذر من الكذب، فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا. وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا) . وأما الوفاء بالوعد فإن الله ﷾ مدح الموفين بعهدهم إذا عاهدوا. وأما أداء الأمانة فإن النصوص دلت على وجوب أداء الأمانة، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) . وكذلك أوصيهم بالقيام بما أوجب الله عليهم من أداء الواجبات: سواء كان ذلك بين الزوجين، أو بين المتعاملين، أو بين العامل المستأجر ومن استأجره، أو غير ذلك من المعاملات، حتى يسلم الإنسان من أن يتصف بشيء من صفات النفاق. ***
هل الفاسق هو صاحب كبائر الذنوب؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يقول العلماء ﵏ إن الفاسق هو من أتى كبيرة ولم يتب منها، أو أصر على صغيرة. وعللوا ذلك بأن الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة، ولعل دليلهم في ذلك قول الله ﵎: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فحكم الله بفسق القذفة مع أنهم لم يفعلوا مكفرًا ولكنهم فعلوا كبيرة من كبائر الذنوب. ***
يقول السائل: من هو الفاسق في الشريعة الإسلامية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الفاسق هو الخارج عن طاعة الله ورسوله، وهو نوعان: فسق أكبر وهو الكفر، وفسق دون ذلك. مثال الأكبر قول الله ﵎ في سورة ألم تنزيل السجدة: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) . هذا الفسق بمعنى الكفر فسق آخر دون ذلك لا يصل إلى الكفر ومثله قوله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) . فذكر الكفر وحده والفسوق وحده والعصيان الذي هو دون الفسوق وحده. وقول الفقهاء ﵏ في كتبهم: لا تقبل شهادة الفاسق، يعنون بذلك الفسق الذي دون الكفر. ***
السائل يقول: سمعت وقرأت قصيدة البردة، والذي أعرفه أن مؤلف هذه القصيدة عالم، فهل تضر في عقيدته؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إني سأتلو من هذه البردة ما يتبين به حال ناظمها: كان يقول مادحًا للنبي ﷺ: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن آخذًا يوم المعاد يدي عفوًا وإلا فقل يا زلة القدم فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم هل يمكن لمؤمن أن يقول موجهًا الخطاب إلى رسول الله ﷺ: مالي من ألوذ به سواك إذا حلت الحوادث؟ لا يمكن لمؤمن أن يقول هذا ورسول الله ﷺ لا يمكن أن يرضى بهذا أبدًا، إذا كان النبي صلى الله عليه وعلى آله سلم أنكر على الرجل الذي قال له: ما شاء الله وشيءت، فقال: (أجعلتني لله ندًّا بل ما شاء الله وحده) فكيف يمكن أن يقال: إنه يرضى أن يوجه إليه الخطاب بأنه ما لأحد سواه عند حلول الحوادث العامة، فضلًا عن الخاصة؟ هل يمكن لمؤمن أن يقول موجهًا الخطاب للرسول ﷺ: إن لم تكن آخذًا يوم المعاد يدي عفوا وإلا فقل يا زلة القدم؟ ويجعل العفو والانتقام بيد الرسول ﵊؟ هل يمكن لمؤمن أن يقول هذا؟ إن هذا لا يملكه إلا الله رب العالمين. هل يمكن لمؤمن أن يقول: فإن من جودك الدنيا وضرتها، الدنيا ما نعيش فيه وضرتها الآخرة، فإذا كانت الدنيا والآخرة من جود الرسول ﵊ وليست كل جوده بل هي من جوده فما الذي بقي لله؟ إن مضمون هذا القول: لم يبقَ لله شيء لا دنيا ولا أخرى، فهل يرضى مؤمن بذلك أن يقول: إن الدنيا والآخرة من جود الرسول ﵊، وإن الله جل وعلا ليس له فيها شيء؟ وهل يمكن لعاقل أن يتصور أن الرسول ﵊ الذي جاء بتحقيق التوحيد يرضى أن يوصف بأن من جوده الدنيا وضرتها؟ هل يمكن لمؤمن أن يرضى فيقول يخاطب النبي صلى الله وسلم: ومن علومك علم اللوح والقلم؟ من علومه وليست كل علومه علم اللوح والقلم، هل يمكن لمؤمن أن يقول ذلك والله تعالى يقول لنبيه: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)؟ فأمر الله ﷿ أن يعلن للملأ إلى يوم القيامة أنه ليس عنده خزائن الله ولا يعلم الغيب ولا يدعي أنه ملك وأنه ﷺ عابد لله تابع لما أوحى الله إليه (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) . فهل يمكن لمن قرأ هذه الآية وأمثالها أن يقول: إن الرسول يعلم الغيب، وإن من علومه علم اللوح والقلم؟ كل هذه القضايا كفر مخرج عن الملة، وإن كنا لا نقول عن الرجل نفسه إنه كافر- أعني: عن البوصيري- لأننا لا نعلم ما الذي حمله على هذا، لكنا نقول: هذه المقالات كفر، ومن اعتقدها فهو كافر، نقول ذلك على سبيل العموم. ولهذا نحن نرى أنه يجب على المؤمنين تجنب قراءة هذه المنظومة؛ لما فيها من الأمور الشركية العظيمة، وإن كان فيها أبيات معانيها جيدة وصحيحة، فالحق مقبول ممن جاء به أيًا كان، والباطل مردود ممن جاء به أيًّا كان. ***
من السودان السائل فرح يقول في هذا السؤال: ما حكم من يطوف بالقبة أو الضريح وهو جاهل الحكم، هل يكون مشركًا شركًا أكبر يخلد في النار؟ وماذا يجب عليه؟ جزاكم الله خيرًا فأجاب رحمه الله تعالى: الطواف بالقبور والأبنية المبنية عليها ينقسم إلى قسمين: القسم الأول أن يطوف لا لعبادة صاحب القبر ولا لدعائه والاستغاثة به، ولكن عادة اعتادها فصار يفعلها، أو كان يظن أن هذا مما يقرب إلى الله ﷿، فهذا ليس بمشرك ولكنه مبتدع، ويمكن أن نسمي بدعته هذه شركًا أصغر؛ لأنه وسيلة إلى الشرك الأكبر. أما إن كان يطوف بالقبر أو بالبناية عليه تعبدًا وتقربًا وتعظيمًا لصاحب القبر، أو كان يطوف به ذلك ويدعو صاحب القبر ويستغيث به فإن هذا مشرك شركًا أكبر مخرجًا عن الملة، يستحق عليه قول الله ﵎: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) . ***
من كان ينطبق عليه حكم الكفر هل يجوز مناداته بالكفر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الأولى أن لا ينادى بالكفر؛ لأن هذا يوجب الفتنة والشر، لكن يقال: أنت إذا لم تتب إلى الله فإنك كافر، يبين له هذا الكلام، وأما مناداته بياكافر وما أشبه ذلك مما يثير الفتنة فهذا لا أراه. والحمد لله مادمنا في غنىً عن هذا الأمر وبإمكاننا أن نمسكه ونقول له: إن هذا الأمر كفر وارجع إلى ربك وارجع إلى دينك وننصحه. ***
يقول السائل: قلت لأخي: يا كافر لأنه لا يصلى أثناء شجارٍ وقع بيني وبينه، فما حكم ذلك مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الذي لا يصلى كافر كفرًا مخرجًا عن الملة، فإذا مات على الكفر وإذا كان يوم القيامة صار مع فرعون وقارون وهامان وأبي بن خلف. ولكن لا يقال للشخص المعين: يا كافر حتى تقام عليه الحجة، ويتبين له أن فعله كفر، وهذا الذي حصل بينه وبين أخيه شجار وقال له: يا كافر لأنه لا يصلى نقول له: إن هذا لا ينبغي منك، ولكن عندما تحادثه وتتكلم معه كلامًا عاديًا بين له أن ترك الصلاة كفر، وأنه إن أصر على ذلك فهو كافر، وأما أن تصفه بالكفر حين المنابزة والمخاصمة فهذا أمرٌ لا ينبغي منك. وخلاصة القول: أن تارك الصلاة كافرٌ كفرًا مخرجًا عن الملة، وأنه إن مات على ذلك فإنه ليس من المؤمنين، ويحشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف، ولكن لا ينبغي لنا عند المنابزة أن نصفه بالكفر فنقول: يا كافر، بل نبين له في الكلام العادي أن ترك الصلاة كفر، وأنه إذا أصر على تركها فهو كافر، لعل الله يهديه ويرجع إلى دينه. ***
من المستمع عبد الحميد البربري مصري ومقيم في الرياض يقول في رسالته: هل المسيحي يعد في عداد الكفرة، علمًا بأنه من أهل الكتاب، ومن هم أهل الكتاب؟ أفيدونا بارك الله فيكم فأجاب رحمه الله تعالى: أهل الكتاب هم اليهود والنصارى الذين تسموا بالمسيحيين، هؤلاء هم أهل الكتاب، وإنما سموا أهل كتاب لأن الله تعالى أنزل كتبًا على رسله: فأنزل على موسى ﵊ التوارة التي يدين بها اليهود، وأنزل على عيسى ﵊ الإنجيل الذي يدين به النصارى. والذين يسمون أنفسهم الآن بالمسيحيين ودين اليهود منسوخ بدين النصارى، أي: إنه يجب على اليهود أن يتبعوا النصارى في دينهم حين كان دين النصارى قائمًا، ودين النصارى وغيره من الأديان نسخ بدين الإسلام الذي بعث به النبي ﷺ، فكان دين الإسلام ناسخًا لجميع الأديان، فلا دين مقبول عند الله إلا الإسلام، قال الله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام) وهذه الصيغة تقتضي الحصر وأنه لا دين عند الله سوى الإسلام. وقال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) . وهذا دليل على أن جميع الأديان غير الإسلام غير مقبولة عند الله، وأن أصحابها في الآخرة خاسرون لا حظ لهم فيها في الآخرة، وهذا لا يكون إلا للكافرين. وعلى هذا فإن النصارى واليهود كلهم ليسوا على دين مقبول عند الله، وإذا كانوا ليسوا على دين مقبول عند الله كانوا كفارًا، ويزول كفرهم بالإيمان بالنبي ﷺ واتباعه، وهم إذا آمنوا بالنبي ﷺ فإن هذا هو مقتضى ما تدل عليه كتبهم، كما قال الله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) . فدلت هاتان الآيتان على أن النبي ﷺ معروف في التوراة والإنجيل، وأنه يجب عليهم الإيمان به واتباعه، وقد قال عيسى بن مريم ﵊ لقومه: (يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) . فبشارة عيسى عليه الصلاةوالسلام بالنبي محمد ﷺ تدل على أنه يجب على أتباعه أن يتبعوه، ولو لم يكن الأمر كذلك ما كان لبشارته به فائدة، بل إن الإنسان لا يبشر إلا بما يعود إليه بالخير، فكل من كفر بالنبي محمد ﷺ من اليهود والنصارى وغيرهم فإنه كافر بالله؛ لأن الله تعالى أمر جميع العباد أن يؤمنوا به وبرسوله النبي الأمي، وبين أن هذا هو سبيل الفلاح والهدى والرشاد، وأن ما سوى ذلك فإنه ضلال نسأل الله العافية والهداية. ***
وردتنا من منطقة خريسان من الجمهورية العراقية محافظة ديانا بهز أو قرية أبو خميس بعث بها المرسل أخوكم في الإسلام علوان منصور جسام القريشي يقول: بسم الله الرحمن الرحيم أصحاب الفضيلة العلماء المحترمين قال الله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ)، وقال: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ) . فهل معظم سكان البشرية غير المسلمين هم في الآخرة مطرودون من رحمة الله، حتى ولو كانوا ينتمون إلى أديان سماوية أخرى مثل الديانة اليهودية والمسيحية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: فإن خير الكلام وأصدقه وأحكمه كلام الله ﷿، والسائل قد صدر سؤاله بكلامٍ محكمٍ صدق وهو قوله تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) . فهذه الآية فيها عموم في قوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ) فإن من شرطية وأسماء الشرط للعموم، وكذلك قوله: (دِينًا) نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم، يعني: أي دين، فأي إنسانٍ يبتغي أي دينٍ من الأديان غير الإسلام فإنه لا يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، والإسلام هو ما بعث الله به محمدًا ﷺ؛ لأن الإسلام عند الله ما بعث به رسله، ومن المعلوم أن محمدًا ﷺ خاتم الرسل كلهم، وأنه هو الذي جاء بالإسلام، وأن ما سوى ذلك فهو كفر، وعلى هذا فكل من دان بغير الإسلام- سواءٌ دان بكتابٍ سماويٍ نسخ، أو اتبع رسولًا نسخت رسالته، كاليهود والنصارى، أو لم يكن على دينٍ سماوي- فكل هؤلاء أعمالهم حابطة وسعيهم ضائع، وهم في الآخرة من الخاسرين. ولا تستغرب أيها السائل أن يكون عامة البشر من أهل هذا الوصف، فإنه قد ثبت في الصحيح: (إن الله ﵎ يقول يوم القيامة: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك. فيقول أخرجْ من ذريتك بعثًا إلى النار. فيقول: يا ربي وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون) . يعني في الألف واحد من أهل الجنة والباقون كلهم من أهل النار، فعلى هذا فلا يبقى في المسألة شكٌ ولا ارتياب بأن كل من ليس على دين الإسلام الذي بعث الله به محمدًا ﷺ فإنهم خاسرون، خاسرون دنياهم وآخرتهم، وأنهم يوم القيامة في نار جهنم خالدون، ثم إنه ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهوديٌ ولا نصرانيٌ ثم لا يتبع ما جئت به إلا كان من أهل النار) . فضيلة الشيخ: لكن هل هذا الواحد الذي يؤخذ من الألف في كل يوم وفي كل أسبوع وفي كل سنة أم أنه يزيد وينقص تبعًا للعصور وتبع قوة المسلمين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أنت إذا عرفت النسبة ليس هو بالنسبة يعني لأمة محمدٍ فقط، بالنسبة لكل بني آدم، كل بني آدم من أولهم إلى آخرهم ما يدخل الجنة منهم إلا واحدٌ في الألف، هذا الواحد قد يكون غالبهم من هذه الأمة وهو الأظهر؛ لأن أكثر الأمم اتباعًا هم أمة محمد ﷺ، هم أكثر الأمم اتباعًا للوحي وقبولًا له، فعلى هذا تكون هذه النسبة واحدٌ من الألف أكثرها من هذه الأمة ولله الحمد. ***
يوجد عندنا بعض الناس يزعمون أنهم فقهاء، ليسوا فقهاء علمًا، بل يزعمون أنهم يضرون وينفعون من يشاؤون، بحجة أن لهم شرهة يصيبون بها من يريدون، ويكررون هذا القول في كثير من المناسبات فهل ذلك صحيح أم خرافات جاهلية؟ وكيف نتخلص من ذلك؟ علمًا بأن بعض الناس يصدقونهم فيما يقولون مثل كبار السن والجهال؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هؤلاء الذين يدعون أنهم ينفعون أو يضرون هؤلاء كذبة، لا يجوز لأحد أن يصدقهم ولا أن يسألهم عن هذه الأشياء، ويجب على من علم بهم أن يبلغ أمرهم إلى ولاة الأمور ليتخذوا اللازم، فلا أحد يملك النفع والضرر إلا الله وحده لا شريك له، حتى النبي ﷺ قال الله له: (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) . وأمره الله أن يقول: (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ) . ومن زعم أن أحدًا يملك الضرر أو النفع بغير أسباب حسية معلومة فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ لأنه مكذب لله تعالى ولرسوله ﷺ. وإني أقول لهؤلاء الذين يتوهمون صدق ما قاله هؤلاء الدجاجلة أقول لهم: اثبتوا على إيمانكم ودينكم، واعلموا أنه لا يملك أحد الضرر والنفع إلا الله وحده لا شريك له. وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال لابن عباس قال له: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) . وفي القرآن الكريم لما ذكر الله السحرة قال: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) . فالمهم أن هؤلاء كذبة فيما يدعون من كونهم يملكون النفع والضرر، فإن ذلك إلى الله وحده لا شريك له، وعليهم أن يتوبوا إلى الله من هذا العمل، وأن يعترفوا بقصورهم وبتقصيرهم، وأنهم ضعفاء أمام قدرة الله، وأنهم لا يملكون دفع الضرر عن أنفسهم هم فضلًا عن غيرهم، كما لا يملكون لأنفسهم جلب نفع فضلًا عن جلبه لغيرهم إلا ما شاء الله ﷾، وعلى من حولهم ممن يتوهمون صدقهم أن يتوبوا إلى الله تعالى في تصديقهم، وأن يعلموا أنهم كذبة، ولا حق لهم ولا حظ لهم أيضًا في مثل هذه الأمور. ***
جزاكم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء يا شيخ محمد حفظكم الله هذا السائل يقول: لقد خاب وتاه الكثير من الشباب في مسألة العذر بالجهل، متى يعذر الجاهل بجهله؟ ودلونا على مراجع في هذه المسألة التي أثيرت، وهل وقع خلاف قديم بين السلف؟ وهل هو معتبر أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: العذر للجهل ثابت بالقرآن وثابت بالسنة أيضًا، وهو مقتضى حكمة الله ﷿ ورحمته، يقول الله ﵎: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) . ويقول الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) إِلَى قوله: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) . ويقول الله ﵎ (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) . ويقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) . والآيات في هذا عديدة، كلها تدل على أنه لا كفر إلا بعد علم، وهذا مقتضى حكمة الله ورحمته، إذ إن الجاهل معذور، وكيف يؤاخذه الله ﷿ وهو أرحم الراحمين، وهو أرحم بالعبد من الوالدة بولدها- على شيء لم يعلمه؟ فمن شرط التكفير بما يكفر من قول أو عمل أن يكون عن علم، وأن يكون عن قصد أيضًا، فلو لم يقصده الإنسان بل سبق لسانه إليه لشدة غضب أو لشدة فرح أو لتأويل تأوله فإنه لا يكون كافرًا عند الله ﷿. يدل لهذا أن النبي ﷺ قال: (لله أشد فرحًا بتوبة عبده من أحدكم كان في فلاة من الأرض ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فأضلها- أي: ضاعت منه- فطلبها فلم يجدها، فاضطجع تحت شجرة ينتظر الموت وهو آيس منها، فإذا براحلته عنده فأخذ بخطامها وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) . وهذا خطأ عظيم هو في نفسه كفر، لكن الرجل ما قصده، لكن لشدة الفرح سبق لسانه إلى هذا، ولم يكن بذلك كافرًا؛ لأنه لم يقصد ما يقول. وكذلك أخبر النبي ﵊ (عن رجل كان مسرفًا على نفسه، وخاف من الله تعالى أن يعاقبه، فأمر أهله إذا مات أن يحرقوه ويذروه في اليم، ظنًّا منه أنه يتغيب عن عذاب الله، ولكن الله تعالى جمعه بعده وسأله: لم فعل هذا؟ قال: يا ربي خوفًا منك. فغفر الله له)، مع أنه كان شاكًّا في قدرة الله، والشك في قدرة الله كفر، لكنه متأول وجاهل فعفا الله عنه. وليعلم أن مسألة التكفير أصلها وشروطها لا يأخذها الإنسان من عقله وفكره وذوقه فيكفر من شاء ويعصم من شاء، الأمر في التكفير وعدم التكفير إلى الله ﷿، كما أن الحكم بالوجوب أو التحريم أو التحليل إلى الله وحده، كما قال تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) . فالأمر في التكفير والعصمة إلى الله ﵎، وأعني بالعصمة: يعني الإسلام الذي يعصم الإنسان به دمه وماله، هو إلى الله، إلى الله وحده، فلا يجوز إطلاق الكفر على شخص لم تثبت في حقه شروط التكفير. وقد ثبت عن النبي ﵊ (أن من دعا رجلًا بالكفر أو قال: يا عدو الله، وليس كذلك فإنه يعود هذا الكلام على قائله) يكون هو الكافر وهو عدو الله. فليحذر الإنسان من إطلاق التكفير على من لم يكفره الله ورسوله، وليحذر من إطلاق عداوة الله على من لم يكن عدوًّا لله ورسوله، وليحبس لسانه فإن اللسان آفة الآفات. ولهذا لما حدث النبي ﷺ معاذ بن جبل بما حدثه به عن الإسلام قال له ﵊: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قال: بلى يا رسول الله. فأمسك النبي ﷺ بلسان نفسه وقال: كف عليك هذا، كف عليك هذا) . يعني: لا تطلقه، احبسه قيده. فقال: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ يعني: هل نحن مؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال النبي ﷺ: (ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم- أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم)؟ ولهذا يجب على الإنسان أن يكف لسانه عن ما حرم الله، وأن لا يقول إذا قال إلا خيرًا؛ لقول النبي ﷺ: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت) . والخلاصة: أن مسألة التكفير والعصمة ليست إلينا، بل هي إلى الله ورسوله، فمن كفره الله ورسوله فهو كافر، ومن لم يكفره الله ورسوله فليس بكافر، حتى وإن عظمت ذنوبه في مفهومنا وفي أذواقنا، الأمر ليس إلينا، الأمر في هذه الأمور إلى الله ورسوله. ولا بد للتكفير من شروط معلومة عند أهل العلم، ومن أوسع ما قرأت في هذا ما كتبه شيخ الإسلام رحمه في فتاويه وفي كتبه المستقلة، فأنصح السائل وغير السائل أن يرجع إلى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه- وأقولها شهادة عند الله- أوفى ما رأيت كلامًا في هذه المسألة العظيمة. ***
متى يعذر الإنسان بالجهل ومتى لا يعذر به، من ناحية العقيدة والأحكام الفقهية؟ مأجورين فأجاب رحمه الله تعالى: هذا السؤال سؤال مهم سؤال عظيم لا يتسع المقام لذكر التفصيل فيه؛ لأنه يحتاج إلى كلام كثير قد يستوعب هذه الحلقة كلها وزيادة، ولكن على سبيل الإجمال لدينا آيات من القرآن وأحاديث عن رسول الله ﷺ تدل على أن الإنسان معذور بالجهل في كل شيء، لكن قد يكون مقصرًا في طلب العلم فلا يعذر، وقد تبلغه الحجة ولكنه يستكبر ويستنكر فلا يعذر في هذه الحال، ومن الآيات الدالة على أن الإنسان معذور بالجهل قوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) فقال الله تعالى: (قد فعلت) . وقال الله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) . وقال الله تبارك تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) . وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) . وقال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) . وقال الله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) . وقال الله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) . والآيات في هذا المعنى عديدة، وكذلك في السنة، فقد روي عن النبي ﵌ أنه قال: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) . ولكن قد يكون الإنسان مقصرًا بطلب العلم، بحيث يتيسر له العلم ولكنه لا يهتم به ولا يلتفت إليه، وقد يكون الإنسان مستكبرًا عما بلغه من الحق، فيبين له الحق ولكنه يقول: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) . كما يوجد من كثير من العامة المعظمين لكبرائهم من أمراء أو علماء أو غير ذلك، يستنكفون عن الحق إذا دعوا إليه، وهؤلاء ليسوا بمعذورين، فالمسألة مسألة خطيرة عظيمة يجب التأني فيها والتريث، وربما نقول: لا يقضى فيها قضاءً عامًّا بل ينظر إلى كل قضية بعينها، فقد نحكم على شخص بكفره مع جهله وقد لا نحكم عليه، والناس يختلفون في مدى غايتهم في الجهل: منهم الجاهل مطلقًا جهلًا مطبقًا لا يدري عن شيء كأنه بهيمة، ومنهم من عنده فطنة وحركة فكر لكنه عنده استكبار عن الحق، ومنهم من هو بين ذلك. فعلى كل حال الجواب على وجه عام فيه نظر، ولكن تذكر قواعد وتطبق كل حال على ما تقتضيه هذه الحال. ***
أسأل وأنا أعتقد بأن علي إثمًا في هذا السؤال، وهو: أن لدينا ناسًا يقولون: إن عبد الله أبا محمد ﷺ هو في النار، وناس يقولون: لا بل هو في الجنة؛ لأنه أبو نبي، أفيدونا جزاكم الله خيرًا، وهل عليّ إثم في هذا السؤال، وإذا كان علي إثم فهل له كفارة؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا ودمتم فأجاب رحمه الله تعالى: أولًا ليس عليك إثم في هذا السؤال، لكن هذا السؤال ليس من الأسئلة التي يستحسن أن يسأل عنها؛ لأنه لا فائدة منها إطلاقًا، ولكن بعد السؤال عنها لابد من الجواب فيقال: إن أبا النبي ﷺ مات على الكفر وهو في النار، كما ثبت في الصحيح (أن رجلًا جاء إلى النبي ﵊ فقال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: أبوك في النار، فلما انصرف دعاه النبي ﵊ فقال له: أبي وأبوك في النار) . وهذا نص في الحديث عن النبي ﷺ، وعلى هذا فيكون أبو النبي ﷺ كغيره من الكفار فيكون في النار، والأخ السائل يقول: إن بعض الناس يقولون: ليس في النار؛ لأنه أبو نبي، وهذا لا يمنع إذا كان أبا نبي أن يكون في النار، فهذا آزر أبو إبراهيم كان كافرًا وكان في النار، ولهذا لما استغفر إبراهيم لأبيه قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) . ***
السحر
ما حكم فعل السحر وتعلمه؟ فأجاب رحمه الله تعالى: السحر نوعان: نوع يكون كفرًا، ونوع يكون فسقًا. فالسحر الذي يكون بالاستعانة بالشياطين والأرواح الخبيثة هذا كفر؛ لقول الله ﵎: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) . والنوع الثاني يكون فسقًا، وهو السحر بالأعشاب ونحوها مما يضر المسحور، فهذا عدوان وفسق، لكن لا يصل بصاحبه إلى حد الكفر. وأيًا كان الساحر فإنه يجب قتله؛ لقول النبي ﷺ: (حد الساحرضربة بالسيف) . ولأن عدوانه وضرره عظيم على الأمة. ثم إن كان كافرًا- أي: إن كان سحره مكفرًا- فإنه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين، وإن كان غير مكفر فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن مع المسلمين. ***
حصل خلافٌ حول وجود السحر حقيقةً وأن الرسول ﷺ قد سحر، فهم ينكرون ذلك محتجين بقوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) . فما هو الحق في هذا؟ وكيف نفسر هذه الآية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الحق في هذا أن السحر ثابتٌ ولا مرية فيه وهو حقيقة، وذلك بدلالة القرآن والسنة. أما القرآن فإن الله ذكر عن سحرة فرعون الذين ألقوا حبالهم وعصيهم وسحروا أعين الناس واسترهبوهم حتى إن موسى ﵊ كان يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، وحتى أوجس في نفسه خيفة، فأمره الله تعالى أن يلقي بعصاه فألقاها فإذا هي ثعبانٌ مبين تلقف ما يأفكون، وهذا أمرٌ لا إشكال فيه. وأما أن الرسول ﵊ سحر فإنه حق، فقد ثبت عن النبي ﵊ أنه سحر من حديث عائشة وغيرها، وأنه كان يخيل إليه أنه أتى الشيء وهو لم يأته، ولكن الله تعالى أنزل عليه سورتي: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، فشفاه الله تعالى بهما. وأما قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فلا ينافي هذا، هذا إن كانت الآية لم تنزل بعد، وأنا الآن ما يحضرني هل هذه الآية قبل سحره أو بعده، والظاهر لي أنها بعد السحر، وإذا كانت بعد السحر فلا إشكال فيها. ***
ما حكم الذهاب للسحرة والدجالين والكهنة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الذهاب إلى هؤلاء محرم، ولا يحل الذهاب إليهم، ولا خير فيهم، وقد قال الله ﵎: (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) . والكهنة كذابون؛ لأنهم لهم عملاء من الجن يسترقون السمع ويخبرونهم، ثم يكذبون مع ما أخبروا به من أخبار السماء، يكذبون كذبات كثيرة مائة كذبة أو أكثر أو أقل، فهم كذبة لا يجوز الذهاب إليهم. وقد قال النبي ﷺ: (من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) . وإنما كان ذلك كفرًا لأنه تكذيب لقول الله تعالى: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) . ***
المستمعة م. ع. من سوريا بعثت برسالة تقول فيها: فضيلة الشيخ هل يؤثر السحر لدرجة أنه يوقف مشروع الزواج؟ وإذا كان هذا التأثير صحيحًا فهل له علاج من الكتاب والسنة دون الذهاب للدجالين والمشعوذين؟ نرجو التوجيه مأجورين فأجاب رحمه الله تعالى: الجواب على هذا السؤال: أن السحر بلا شك يؤثر تأثيرًا مباشرًا بدليل القرآن والواقع، أما القرآن فقد قال الله تعالى: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) . وقوله تعالى في قصة موسى ﵊: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) . وأما الواقع فشاهدٌ بذلك، فإن السحر يؤثر في المسحور، يؤثر في عقله وفي بدنه وفي فكره وفي اتجاهه. والسحر من كبائر الذنوب، بل شعبةٌ منه تكون من الكفر المخرج من الملة، وعلى هذا فالواجب على المسلمين البعد عن السحر والحذر منه اتقاءً لعقاب الله ورحمةً بعباد الله. وأما العلاج بالنسبة للمسحور فيكون بقراءة القرآن: يقرأ على المصاب بالآيات بآيات الحماية، مثل: آية الكرسي، قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، وغيرها من الآيات التي فيها الحماية من شر الخلق. أو يؤتى بماء فيدق سبع ورقات من ورق السدر وتوضع في هذا الماء، ويقرأ فيه أو ينفث فيه بمثل قوله تعالى: (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ) وغيرها من الآيات التي تفيد بطلان السحر، ويسقى المريض المصاب بالسحر. وكذلك يمكن أن يعالج المريض بالسحر بالأدوية المباحة المتخذة من الأشجار أو غيرها. وكذلك يعالج السحر بحل السحر، بأن يوصل إلى المكان الذي فيه السحر، وتؤخذ الوسيلة التي جعل فيها السحر فتنقض وتحرق، وما أشبه ذلك من أنواع الحلول المباحة. وأما الذهاب إلى السحرة لحل السحر: فإن كان ذلك لضرورة فقد اختلف العلماء في جوازه، فمنهم من أجاز ذلك وقال: إن الضرورة تبيح المحرم، ولا شك أن المصاب بالسحر إذا نقض سحره يزول ضرره، فما كان وسيلة لأمرٍ نافع بدون أن يتضمن ضررًا في الدين فإنه لا بأس به؛ لقوله تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ)، وقد ذهب إلى هذا بعض التابعين ومنهم من منع الذهاب إلى السحرة لحل السحر، واستدل بأن النبي ﷺ سئل عن النشرة فقال: (هي من عمل الشيطان)، وبأنه إذا فتح الباب للناس صار وسيلةً لإغراء السحرة واتفاقهم على هذا العمل، فأحدهم يسحر والثاني يحل السحر، وما يحصل من المكاسب تكون بينهما؛ لأنه من المعلوم أن المصاب بالسحر سوف يبذل الشيء الكثير لأجل التخلص منه، وفي هذا مفسدةٌ عظيمة. والحقيقة أننا إذا نظرنا إلى الضرورة الشخصية المعينة مِلْنا إلى الإباحة، أي: إباحة حل السحر بالسحر للضرورة، كما ذهب إلى ذلك من ذهب من السلف والخلف. وإذا نظرنا إلى المصلحة العامة مِلْنا إلى القول بالمنع، لا سيما وأنه مؤيدٌ بالحديث الذي أشرنا إليه: أن النبي ﷺ سئل عن النشرة فقال: (هي من عمل الشيطان)، والمسألة عندي فيها توقف. والعلم عند الله. ***
بارك الله فيكم تقول بأن لها ابنة متزوجة، وهذه الابنة تكره زوجها وزوجها يحبها، وهي الآن حامل وعند أهلها، وهي تكره أن ترى هذا الزوج، ويقال بأن هناك كاتبًا يكتب كتابًا يسمى بالعطف أن يجعل الزوجة تحب زوجها، فهل هذا العمل جائز؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا يجوز للمرأة أن تعمل عملًا يكون به عطف الزوج عليها، ولا يجوز للزوج أن يعمل عملًا يكون به عطف الزوجة عليه؛ لأن هذا نوع من السحر، ولكن الطريق إلى ذلك أن تسأل الله ﷿ دائمًا أن يحبب زوجها إليها وأن يؤلف بينهما، وتقرأ من القرآن ما يعينها على التحول من الكراهية إلى المحبة، وتستعين بأهل الخير والصلاح أن يقرؤوا عليها لتحويل بغضها إلى محبة. هذا ما أراه واجبًا عليها، ونسأل الله تعالى أن يؤلف بينها وبين زوجها وأن يبارك لهما وعليهما وأن يجمع بينهما في الخير. ***
ما حكم الإسلام في نظركم في الشخص الذي يستخدم شيئًا من السحر لكي يوفق بين زوجين أو اثنين متنافرين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا أيضًا محرم ولا يجوز، وهذا يسمى بالعقد، وما يحصل به التفريق يسمى بالصرف، وهو أيضًا محرم، وقد يكون كفرًا وشركًا. ***
هل الساحر كافر؟ وما هو الدليل؟ وهل تجوز الصلاة خلفه؟ ماذا علي أن افعل إذا صلىت خلف مثل هذا الإمام في الوقت الذي لا أعلم أنه ساحر؟ هل صلاتي السابقة تكون باطلة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: السحر نوعان: نوع كفر، ونوع عدوان وظلم. أما الكفر فهو الذي يكون متلقىً من الشياطين، فالذي يتلقى من الشياطين هذا كفر، ودليل ذلك قوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) . وهذا النوع من السحر كفر مخرج عن الملة يقتل متعاطيه، واختلف العلماء ﵏ لو تاب هذا الساحر هل تقبل توبته؟ فقال بعض أهل العلم: إنها تقبل توبته؛ لعموم قوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) فإذا تاب هذا الساحر وأقلع عن تعاطي السحر فما الذي يمنع من قبول توبته، والله ﷿ يقول: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)؟ لكن إذا كان قد تسبب في سحره في قتل أحد من الناس أو عدوانٍ عليه فيما دون القتل فإنه يضمن لحق الآدمي، فإن كان بقتل قتل قصاصًا، وإن كان بتمريض نظر في أمره، وإن كان بإفساد مال ضمن هذا المال. النوع الثاني من السحر سحر لا يكون بأمر الشياطين، لكنه بأدوية وعقاقير وأشياء حسية، فهذا النوع لا يُكفِّر ولكن يجب أن يقتل فاعله درءًا لفساده وإفساده. ***
ما هي الحصون والوقاية من السحر ليتقي الإنسان شرها؟ وما حكم عمل السحر وحكم الذين يذهبون إلى السحرة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا السؤال يتضمن ثلاث مسائل: الأولى الوقاية من السحر، والوقاية من السحر تكون بقراءة الأوراد التي وردت عن النبي ﷺ، مثل: آية الكرسي، والآيتين الأخيرتين من سورة البقرة، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، يقرؤها الإنسان وهو موقن بأنها حماية له، فإن من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح، ومن قرأ الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة في ليلة كفتاه، وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس فيهما الاستعاذة من السحرة: (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) . فينبغي للإنسان أن يستعمل هذه الأوراد الواردة عن النبي ﷺ في كل يوم وليلة لتقيه من شر أهل الحسد ومن شر السحر. أما المسألة الثانية فهي: عمل السحر، وعمل السحر إن كان بواسطة الاستعانة بالشياطين فإنه كفر، بدليل قوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) . أما إذا كان السحر بالأدوية وما أشبهها مما لا يكون استعاذة بالشياطين فإنه لا يصل إلى حد الكفر، ولكن يجب على ولي الأمر أن يقوم بما يجب عليه من الحيلولة دون هؤلاء. وأما المسألة الثالثة فهي: الذهاب إلى السحرة، ونقول في الجواب عنها: إنه لا يجوز للإنسان أن يذهب إلى الساحر من أجل أن ينقض السحر؛ لأن هذا يؤدي إلى مفاسد كثيرة، منها إعزاز هؤلاء السحرة وكثرتهم؛ لأنه من المعلوم أن النفوس مجبولة على حب المال، وأن الإنسان إذا كان يأخذ أموالًا ربما تكون أموالًا طائلة على نقض السحر فإن ذلك إغراء للناس بتعلم السحر من أجل نقضه، فيحصل في هذا ضرر كبير وابتزاز لأموال الناس، وهنا نقول: إن في الأدوية المباحة والأدعية الواردة عن النبي ﷺ والآيات القرآنية ما يغني عن هذا بإذن الله. ***
سمعت في برنامجكم أنه يمكن التداوي من السحر بتلاوة الآيات القرآنية وبعض الأدوية الحلال، فهل هناك آيات خاصة تقرأ لمثل هذه الحالة أو هناك أدعية خاصة لهذا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم الآيات الخاصة بهذا مثل: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)؛ لأنه ما تعوذ أحد بمثلهما. والأدعية الخاصة بأن يدعو الإنسان ربه بالشفاء: اللهم اشفني من هذا الداء، أو كذلك يدعو له من يقرأ عليه بمثل هذا الدعاء المناسب. ***
بالنسبة للسحر هناك من يربط بين الزوج أي يمتنع عن الاجتماع مع زوجته، فكيف يصرف الإنسان هذا السحر بدون أن يذهب إلى ساحر أو دجال أو مشعوذ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يصرف هذا السحر باللجوء إلى الله ﷿ ودعائه وقراءة سورة الإخلاص وسورة الفلق وسورة الناس، فإنه ما تعوذ متعوذ بمثلهما، أي: بمثل سورتي الفلق والناس، ويكرر هذا، ولا حرج أن يذهب إلى رجل صالح يقرأ عليه ويدعو له. ***
امرأة قيل لها: إنك معمول لك سحر ويحتاج إلى فك، ولكن ادفعي مبلغ أربعة آلاف ريال وأنا أفكك من هذا السحر، فما هو الحل في ذلك وفقكم الله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الحل في هذا أن نقول: إن حل السحر ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون بوسائل محرمة، كأن يُحل بالسحر، مثلما يستعمله بعض البادية من صب الرصاص في الماء على رأس المسحور حتى يعلم بذلك من سحره، فهذا لا يجوز. فإذا كان حل السحر بوسائل محرمة فإن ذلك حرامٌ ولا يجوز؛ لأن النبي ﷺ سئل عن النشرة فقال: (هي من عمل الشيطان) رواه أبو داود بسندٍ جيد. والقسم الثاني: أن يكون حل السحر بالطرق المباحة كالأدعية والقراءة على المريض والأدوية المباحة، فهذا لا بأس به ولا حرج. ***
المستمع م. ع. ي. من العراق محافظة ذي قار يقول: السؤال حول موضوع أو ظاهرة تعرف بالدروشة، يقوم بها بعض الناس الذين يدعون بأن نسلهم يرجع إلى الرسول ﷺ، حيث يقوم هؤلاء بإيذاء أنفسهم وضربها بالأسلحة النارية والجارحة وأمام جمعٍ من الناس دون أن يصيبهم أي أذى أو خروج دم من أجسامهم. فهل هذه كرامةٌ أم هو سحرٌ؟ أم إن هناك حديثًا قدسيًا شريفًا أو نصًا قرآنيًا يثبت ذلك؟ وهل هذه الظاهرة موجودةٌ في الأقطار الإسلامية الأخرى؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا السؤال حقيقة هو نفسه دروشة. وهؤلاء الدراويش الذين يعنيهم أولًا لا تقبل دعواهم أنهم ينتسبون إلى النبي ﷺ إلا ببينة تاريخية تثبت ذلك، ولو قبلنا هذه الدعوى لادعاها رجالٌ كثير، فدعواهم أنهم من نسل الرسول ﵊ غير مقبولة حتى يثبتوا ذلك بالطرق الصحيحة التي يثبت بها مثل هذا الأمر. وأما كونهم يضربون أنفسهم بالحديد أو غير الحديد ولا يتأثرون بذلك فإن هذا لا يدل على صدقهم ولا على أنهم من أولياء الله ولا على أن هذا كرامةٌ لهم، وإنما هذا من أنواع السحر الذي يسحرون به أعين الناس، والسحر يكون في مثل هذا وغيره، فإن موسى ﵊ لما ألقى سحرة فرعون ألقوا حبالهم وعصيهم صارت من سحرهم يخيل إليه أنها تسعى وأنها حياتٌ وأفاعٍ، وكما قال الله ﷿: (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) فهذا الذي يفعلونه لا شك أنه نوعٌ من أنواع السحر وأنه ليس بكرامة. واعلم أيها السائل أن الكرامة لا تكون إلا لأولياء الله ﷿، وأولياؤه هم الذين استقاموا على دينه، وهم من وصفهم الله في قوله: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) . وليس كل من ادعى الولاية يكون وليًا، وإلا لكان كل أحدٍ يدعيها، ولكن يوزن هذا المدعي للولاية يوزن بعمله إن كان عمله مبنيًا على الإيمان والتقوى فإنه ولي، لكن مجرد ادعائه أنه من أولياء الله هذا ليس من تقوى الله ﷿؛ لأن الله تعالى يقول: (فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) . فإذا ادعى أنه من أولياء الله فقد زكى نفسه وحينئذٍ يكون واقعًا في معصية الله، فيما نهى الله عنه، وهذا ينافي التقوى، وعلى هذا فإن أولياء الله لا يزكون أنفسهم بمثل هذه الشهادة، وإنما هم يؤمنون بالله ويتقونه ويقومون بطاعته على الوجه الأكمل، ولا يغرون الناس ويخدعونهم بهذه الدعوى حتى يضلوهم عن سبيل الله. ***
ماذا يعمل الإنسان الذي قد كتب له سحر ومتضرر من جراء ذلك؟ وما العمل مفصلًا للذي قد عمل له عقدة أيضًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: السحر من كبائر الذنوب، ومنه ما يكون كفرًا، قال الله ﷿: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) لم يكن له خلاق أي نصيب في الآخرة، فهذا هو الكافر بل في الآية السابقة يقول الملكان: (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) . فلا يحل لأحد أن يتعاطى السحر؛ لأنه إما كبيرة وإما كفر على حسب التفصيل الذي ذكره أهل العلم، وأما النشرة وهي حل السحر عن المسحور: فإن كانت من القرآن والأدوية المباحة فإن هذا لا بأس به، وإن كانت بسحر فإن هذا قد اختلف فيه أهل العلم، فمنهم من جوز حل السحر بسحر للضرورة، ومنهم من منع ذلك، والأقرب المنع، وأنه لا يحل حل السحر بالسحر؛ لأننا لو قلنا بذلك لانفتح علينا باب تعلم السحر، وصار كثير من الناس يتعلمون بحجة أنهم يريدون أن يحلوا السحر من المسحور، وهذا باب يفتح شرًّا كبيرًا على المسلمين، وفي الأدعية المشروعة والقراءات المشروعة والأدوية المباحة ما يغني عن ذلك لو اعتمد على الله ﷿ وتوكل عليه. ***
هذه السائلة ع. أ. م. من الأردن تقول: فضيلة الشيخ ما هو العلاج الشرعي للسحر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: العلاج الشرعي للسحر هو الرقية بكتاب الله ﷿، بأن يقرأ على المصاب: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، وكذلك الآيات التي فيها بيان أن الله تعالى يبطل السحر مثل: (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)، ومثل قوله: (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) . وكذلك ما جاءت به السنة من الأدعية التي يستشفى بها من المرض. هذا إذا لم يمكن الاطلاع على محل السحر، فإن أمكن فإنه إذا اطلع عليه ينقض. ونسأل الله السلامة. ***
ما هو العلاج الشرعي للسحر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: العلاج الشرعي يكون بالآيات القرآنية كالفاتحة والمعوذتين، وما جاءت به السنة من الأدعية، وكذلك بالأدعية المباحة التي يدعو بها الإنسان ربه، هذا هو العلاج الشرعي للسحر. ***
أنا شاب مسلم وعلى علم اليقين أن السحر حرام، ومع هذا فإني أجد في هذه الأيام أناسًا كثيرين يتعرضون لنوبات مرضية ويترددون على عدة أطباء ولم يفدهم أي علاج، بينما يذهبون في النهاية إلى أحد المنجمين السحرة فيتبين أنهم مسحورون من قبل أناس آخرين، فيشفيهم من آلامهم بطريقته الخاصة، أي: باستعمال بعض الكتب. أفيدوني في ذلك أثابكم الله فأجاب رحمه الله تعالى: ما ذكره السائل معناه النُشرة وهي حل السحر عن المسحور، والأصح فيها أنها تنقسم إلى قسمين: أحدهما: أن تكون بالقرآن والأدعية الشرعية والأدوية المباحة فهذه لا بأس بها؛ لما فيها من مصلحة وعدم المفسدة، بل ربما تكون مطلوبة؛ لأنها مصلحةٌ بلا مضرة. وأما إذا كانت النشرة بشيءٍ محرم كنقض السحر بسحرٍ مثله فهذا موضع خلافٍ بين أهل العلم، فمن العلماء من أجازه للضرورة، ومنهم من منعه؛ لأن النبي ﷺ سئل عن النشرة فقال: (هي من عمل الشيطان) رواه أبو داود بإسناد جيد وعلى هذا يكون حل السحر بالسحر محرمًا، وعلى المرء أن يلجأ إلى الله ﷾ بالدعاء والتضرع لإزالة ضرره، والله سبحانه يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) . ويقول تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) . ***
المستمع رمز لاسمه بالأحرف ز. ل. م. ع. من جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية يقول: عندي صديق سُحرت زوجته من قبل أناس أعداء له ولأهله، وحاول أن يعالجها بشتى الطرق مثل الكي وغيره ولكن دون فائدة، ودلنا رجل على إنسان يعالج السحر بالسحر، فهل عليه إثم لأنه يستخدم السحر في نفع الناس من السحرة الآخرين، ولم يضر به أحدًا وهل على صديقي هذا إثم لأنه ذهب إلى هذا الساحر لعلاج زوجته مما أصابها من السحر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: قبل الإجابة على هذا السؤال أود أن أبين أن السحر من أكبر المحرمات، بل هو من الكفر إذا كان الساحر يستعين بالأحوال الشيطانية على سحره أو يتوصل به إلى الشرك، وقد قال الله ﵎: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُواْ اَلشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) . فهذا دليل على أن تعلم السحر كفر، السحر متلقى من الشياطين، وعلى هذا فيجب الحذر منه والبعد عنه، حتى لا يقع الإنسان في الكفر المخرج عن الملة والعياذ بالله. وأما حل السحر عن المسحور فإنه ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون بالأدعية والأدوية المباحة وبالقرآن، فهذا جائز لا بأس به، ومن أحسن ما يقرأ به على المسحور: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، فإنه ما تعوذ متعوذ بمثلهما. وتارة يكون حل السحر بسحر، وهذا مختلف فيه سلفًا وخلفًا، فمن العلماء من رخص فيه لما فيه من إزالة الشر عن هذا المسحور، ومنهم من منعه وقال: إنه لا يحل السحر إلا ساحر، وهذا أحسن؛ لأن النبي ﷺ سئل عن النشرة فقال: (هي من عمل الشيطان)، وعمل الشيطان هو ما كان بالسحر، أما ما كان بالقرآن أو بالأدعية المباحة فإن هذا لا بأس به ولا حرج فيه. وعلى من ابتلي بهذا الأمر أن يصبر وأن يكثر من القراءة والأدعية المباحة حتى يشفيه الله تعالى من ذلك. فضيلة الشيخ: الشخص الذي يستخدم السحر أو يزاول السحر ماذا عليه؟ فأجاب رحمه الله تعالى: سبق أن قلنا: إذا كان سحره بواسطة الشياطين أو لا يتوصل إليه إلا بالشرك فإن هذا شرك مخرج عن الملة. فضيلة الشيخ: والتصديق به؟ فأجاب رحمه الله تعالى: التصديق بالسحر نوعان: أحدهما: أن يصدق بأثره أن له تأثيرًا، وهذا لا بأس به؛ لأن هذا هو الواقع. والثاني: أن يصدق به إقرارًا، أي: مقرًا له وراضيًا به، فهذا محرم ولا يجوز. ***
يقول المستمع: إنني أعلم أن الذهاب إلى الكهنة والسحرة حرام شرعًا، فماذا يفعل من ابتلي بالسحر أي عمل له سحر وسبب له تعبًا وإعياءً؟ فهل يجوز له أن يذهب إلى السحرة لفك السحر؟ أم أن هناك آيات معينة في فك السحر أو التحصن من السحرة؟ وماذا يفعل هذا الشخص تجاه هذا الساحر خاصةً إذا كان يسكن بجواره؟ هل يتركه أم ينتقم منه؟ ماذا يفعل؟ أفيدونا مأجورين فأجاب رحمه الله تعالى: حل السحر يكون بأمرين: الأمر الأول: القراءات والتعوذات الشرعية، واللجوء إلى الله ﷾، وكثرة الدعاء والإلحاح فيه، وهذا لا شك أنه جائز، ومن أحسن ما يستعاذ به سورة الفلق وسورة الناس: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ) الآيات. فإذا داوم الإنسان على هذا فإنه يشفى بإذن الله ﷿. وأما النوع الثاني من الدواء مما يحل به السحر فهو: أن يحل بسحرٍ مثله، وهذا فيه خلافٌ بين أهل العلم، فمن أهل العلم من أجازه ومنهم من لم يجزه، والأقرب أنه لا يجوز؛ لأن النبي ﷺ سئل عن النشرة فقال: (هي من عمل الشيطان)، وإذا كانت من عمل الشيطان فإنه لا يجوز لنا أن نفعلها؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) . وأما ما ذكره عن جاره الذي يقول: إنه ساحر، فعليه أن يقوم بنصيحته ويخوفه من الله ﷿، ويبين له أن السحر كفرٌ وردة، وأن فيه أذيةً للمسلمين، فإن انتهى ومنَّ الله عليه بالهداية فهذا هو المطلوب، وإلا وجب أن يرفع إلى ولاة الأمور، ليقوموا بما يلزم نحو هذا الساحر. ***
هل يجوز الذهاب إلى السحرة لفك السحر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: سئل النبي ﷺ عن النشرة فقال: (هي من عمل الشيطان) . وقسم العلماء ﵏ النشرة إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون نشرة بالأدعية أو بالرقى من القرآن والسنة، أو باستعمال مأكول أو مشروب مباح، فهذه جائزة ولا بأس بها. والثاني: أن تكون بالسحر، بمعنى: أن نفك السحر بسحر، فهذه هي التي أرادها النبي ﵊ في قوله: (هي من عمل الشيطان) . ***
أبو هبة من المغرب يقول: اضطر شخص إلى أن يذهب إلى أحد السحرة ليفك عن ابنه سحرًا فهل يجوز له ذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: السحر لا شك أنه داء عضال، وأنه جناية من الساحر عظيمة، والساحر الذي يستعين بالأرواح الشيطانية أو بالشياطين أو بالجن كافر- والعياذ بالله -كفرًا مخرجًا عن الملة وإن صام وصلى؛ لقول الله ﵎: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) . فالساحر الذي يستعين بالشياطين والأرواح الشيطانية والجن كافر عليه أن يتوب إلى الله وأن يرجع إليه، وأن يقلع عن ما يفعل. أما المسحور فقد ابتلي ببلية ابتلاه الله بها على يد هذا الساحر، وله أن يسعى بقدر ما يستطيع لفك السحر عنه، وأحسن ما يكون في فك السحر كتاب الله ﷿ والآيات القرآنية التي جاءت بفك السحر، مثل: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، وقل هو الله أحد، وآية الكرسي، والآيتين في آخر سورة البقرة. فإذا قرأها قارئ مخلص مؤمن بها وكان المصاب بالسحر متقبلًا لها معتقدًا نفعها فإنها تنفعه بإذن الله ﷿، ويوجد ولله الحمد من يقوم بهذا بكثرة، وفي هذا غنى عن الذهاب إلى السحرة. نسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين السلامة من الآفات، وأن يقينا شر عباده. ***
إذا سحر أحدهم يذهبون إلى شيخ كما يسمي نفسه، ويكتب لهم ورقة فيها آيات من القرآن، ثم يحرقها في النار، ويجعلها تحت الشخص المسحور، حتى إذا اشتم رائحة الدخان نطق باسم من سحره، فيقول: سحرني فلان بن فلان ويذكر السبب الذي سحره من أجله. وقد أحدثت هذه الحالة الكثير من المشاكلات حتى وصل بعضها إلى السلطات، فما الحكم في هذا العمل من الفاعل والمفعول له؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الحكم أن هذا لا يجوز، لو كان هذا الرجل الشيخ يكتب القرآن ويعطيه المريض فيشربه لكان هذا مما ورد عن السلف وكان هذا جائزًا وتأثيره ظاهر، أما كونه يكتب الآيات ثم يحرقها حتى يشم هذا المسحور دخانها فأخشى أن يكون هذا الإحراق امتهانًا للقرآن أمام الشياطين التي تريد من بني آدم أن يمتهن كتاب الله ﷿ حسًا ومعنى، وإلا فلا وجه للإحراق؛ لكونه يشم دخان هذا الورق الذي احترق، فالذي أرى في هذه الحال أنه لا يجوز أن يذهب إلى هذا الرجل ويؤخذ منه هذا الدواء، وأن يستعين المسحور بالأدوية الحسية الطبيعية المعروف تأثيرها، وبالدعاء، وبالآيات القرآنية، ومنها: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، فإن هاتين السورتين ما تعوذ متعوذ بمثلهما. ***
من السودان الطيب م. م. يقول: ما حكم الشرع في نظركم فضيلة الشيخ فيمن يترددون على الكهان والسحرة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: رأينا أن هذا لا يجوز؛ لأن النبي ﷺ قال: (من أتى عرافًا فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يومًا، أو قال: أربعين ليلة) . وهذا الأسلوب من أساليب التحريم؛ لأن منع قبول صلاته أربعين ليلة يدل على أنه أتى إثمًا، وكذلك من أتى كاهنًا، فإن إتيان الكاهن من جنس إتيان العراف، على أن بعض أهل العلم يقولون: إن العراف اسم لكل من يدعي معرفة الأمور عن طريق الغيب. فإن أتى كاهنًا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ، وذلك لأنه إذا سأله عن أمر من أمور الغيب فصدقه به، فقد كذّب قول الله تعالى: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّه) . فلا أحد يعلم المستقبل أبدًا، ومن ادعى علمه فقد كذب هذه الآية. ***
ف. ع. البارقي تقول: فضيلة الشيخ ما حكم الشرع في نظركم في رجلٍ يقول مثل هذا القول: لولا تحزين الناس لأخبرت كل إنسان باليوم الذي يموت فيه هذا الرجل. تقول: بأن والدي يصدق هذا الرجل ويقول بأنه عالم ولم يأتِ بعده أعلم منه، علمًا بأن هذا الرجل قد مات، ولكن والدي لم ينس هذا الرجل، فما حكم الشرع في نظركم في هذا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أقول: إنه إذا صدق هذا الرجل فقد كفر بما أنزل على محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأنه صدق بأمرٍ يناقض قول الله تعالى: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ) . ومعلومٌ أن وقت موت الإنسان غيبي لا يعلمه إلا الله ﷿، فمن ادعى علمه فهو كاذب، فالرجل الذي يدعي أنه يعلم متى يموت الناس كاذبٌ بلا شك، ومن يصدقه كافرٌ؛ لقوله تعالى: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ) . فنصيحتي لوالدك أن يتوب إلى الله ﷿ من تصديق هذا الرجل، وأن يعتقد أنه رجلٌ كذاب خرافي، لا يجوز أن يصدق بما يدعيه من علم الغيب. ***
المستمع أحمد الرفاعي له سؤال يقول فيه بالنسبة للشعوذة والدجل توجدان رغم ثقافة المواطنين بكثرة، وما زال الناس يرزحون تحت وطأتها، والإيمان بها عند ضعاف العقول. هل من نصيحة أو توجيه حول هذا السؤال؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم النصيحة هو أن نلتزم بما دلت عليه السنة النبوية التي صدرت عن أنصح الخلق للخلق وأعلم الخلق بما ينفع الخلق محمد ﷺ، وقد نهى النبي ﷺ عن الكهانة وحذر من إتيان الكهان وقال: (من أتى عرافًا فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يومًا، ومن أتى كاهنًا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ .ونهى عن الطيرة، وهي: التشاؤم بمرئي أو مسموع أو زمان أو مكان. ونهى عن السحر وقال: (ليس منا من تكهن أوتكهن له، أو سحر أو سحر له) . كل هذا من أجل أن يسير الناس في حياتهم على حياة الجد وعدم التعلق بالمخلوقين، وأن يكلوا أمرهم إلى الله ﷿، وأن يكون تعلقهم به وحده حتى يكونوا في سيرهم راشدين مرشدين. والله الموفق. ***
المستمع نشوان حميد من العراق نينوى يقول: ماذا يعني تحضير الأرواح؟ وهل هذا موجود حقيقة أم خرافة؟ حيث يقال: إن هناك أشخاصًا يحضرون أرواح الأموات ويلتقون معهم ويكلمونهم، فهل هذا صحيح؟ ويقال: إنه توجد كتب عن تحضير الأرواح، فما رأيكم؟ وما حكم ممارسة مثل هذا العمل؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا التحضير لأرواح الموتى لا يصح ولا يمكن أن يكون ثابتًا، وإذا قدر أن أحدًا زعم أنه حضر روح فلان وخاطبها وخاطبته فإن هذا شيطان يخاطبه بصوت ذلك الميت، فإن الأرواح بعد الموت محفوظة، كما قال الله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة.حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) . أي: لا يفرطون في حفظ هذه الروح. ثم إن الأرواح تكون بعد الموت في مقرها، ولا يمكن أن تحضر إلى الدنيا بأي حال من الأحوال. وتعاطي مثل هذا العمل محرم؛ لما فيه من الكذب والدجل وغش الناس وأكل المال بالباطل، فالواجب الحذر منه والتحذير أيضًا؛ لما فيه من المفاسد الكثيرة العظيمة. ***
رسالة من الأخوين يونس ومحمد ابني صالح بن سالم التوبي من سلطنة عمان يقولان: نحن نعلم علم اليقين أن الإسلام حرم الشعوذة وحاربها، ولكن يحدث أحيانًا أن يصاب شخص ما بأحد الأمراض فيراجع كل الأطباء المختصين بذلك المرض ولكن دون جدوى، وأخيرًا يقال له: إننا لم نعرف هذا الداء من قبل وليس عندنا له دواء، إلى أن يزداد عليه المرض أكثر فأكثر، وأخيرًا يقرر أن يذهب لأحد المنجمين مع أنه يعلم أن ذلك حرام، ففعلًا ذهب وما هي إلا أيام حتى بَرَأَ بحمد الله. فما رأيكم في مثل هذه الأحوال؟ فأجاب رحمه الله تعالى: رأينا في هذه الأحوال أن السائل حكم على نفسه بأنه فعل محرمًا؛ لأنه ذكر أنه يعلم أنه حرام، وأن الإتيان إلى الكهان والمنجمين محرم، وإذا كان محرمًا فإنه لا يجوز للإنسان أن يذهب إليهم؛ لأن الله تعالى لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها، والواجب على هذا الذي فعل ما فعل، الواجب عليه أن يتوب إلى الله ﷾ من هذا العمل، وأن يكثر من الاستغفار والتوبة والعمل الصالح لعل الله ﷾ أن يعفو عنه. ومن أصيب بمثل هذه الأمور فإن له طريقًا مفيدًا جدًا بل هو أفيد الأشياء لمن وفق له، وهو: القراءة على هذا المصاب بالآيات القرآنية، وبما صح عن النبي ﷺ من الأحاديث النبوية التي يستشفى بها، ففيها الشفاء وفيها الكفاية وفيها العافية. ***
أسمع كثيرًا عندنا بوجود كنوز مدفونة وموضوعة قديمًا في باطن الأرض وعليها رصد من الجن، ولكي يستخرجوا هذا الكنز يذهب العارفون لأماكنها للشيخ الفلاني وعنده علم كافٍ بعلم استخراج الكنز وعلم التعامل مع الجن، فيقرؤون عليه نوعًا من آيات القرآن الكريم والطلاسم ويقال بأنهم فعلًا يستخرجونها ويظهرونها ويقدرون على هزيمة الجن، هل هذا العمل جائز أم شعوذة؟ أرجو بهذا إفادة فأجاب رحمه الله تعالى: هذا العمل ليس بجائز، فإن هذه الطلاسم التي يحضرون بها الجن ويستخدمونهم بها لا تخلو من شرك في الغالب، والشرك أمره خطير، قال الله تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) . والذي يذهب إليهم يغريهم ويغرهم، يغريهم بأنفسهم وأنهم على حق ويغرهم بما يعطيهم من الأموال. فالواجب مقاطعة هؤلاء وأن يدع الإنسان الذهاب إليهم، وأن يحذر إخوانه المسلمين من الذهاب إليهم، والغالب من أمثال هؤلاء أنهم يلعبون على الناس ويبتزون أموالهم بغير حق ويقولون القول تخرصًا، ثم إن وافق أخذوا ينشرونه بين الناس ويقولون: نحن قلنا وصار كذا نحن قلنا وصار كذا، وإن لم يوافق ادعوا دعاوي باطلة أنها هي التي منعت هذا الشيء. وإني أوجه النصيحة بهذه المناسبة إلى من ابتلوا بهذا الأمر وأقول لهم: احذروا بأن تمتطوا الكذب على الناس والشرك بالله وأخذ أموال الناس بالباطل، فإن أمد الدنيا قريب والحساب يوم القيامة عسير، وعليكم أن تتوبوا إلى الله تعالى من هذا العمل وأن تصححوا أعمالكم وتطيبوا أموالكم. والله الموفق. ***
رسالة وردتنا من شخص من اليمن وهو مقيم بالسعودية في الدمام يقول المرسل محمد بن علي الجبلي: في مدينة عمران باليمن امرأة تدعى السندية لها عشرون عاما ً تسلب أموال الناس، ويقصدها الكثير من الجهال يسألونها عن المغتربين ما بهم ومتى يأتون؟ ويقصدها المرضى للشفاء. وإذا حضروا عندها جاءت بغطاء ووضعته على نفسها ثم تقول بصوت متغير: فلان يأتي بعد كذا يوم أو شهر أو لا يأتي، والمريض فلان يشفى وهذا حرز له أو لا يفيد معه الحرز، وتخبر النساء عن ما يكنه لهن الأزواج، حتى إن زوجتي ذهبت لها وقالت لها: إن زوجك يفكر في الزواج فأرسلت لي زوجتي ورقة تطلب طلاقها، فأرسلتها لها وفيها الخلوع بالثلاث هل هذا الطلاق صحيح أم باطل؟ علمًا أن له ستة شهور ولا أعلم ما السبب. وهذه المرأة تدعي أن معها أشرافًا يخبرونها، وكثيرًا ما تقول للرجال: إن لزوجاتكم رجالًا غيركم لتوقع بين الزوجات وأزواجهن. فهل في الجن أشراف يعلمون الغيب؟ أفيدونا بدقة عن هذا الموضوع. فأجاب رحمه الله تعالى: هذه المرأة من الكهان؛ لأنها تدعي أنها تعلم عن المستقبل، وكل من يدعي أنه يعلم المستقبل فإنه كاهن كاذب لا يجوز الإتيان إليه ولا يجوز تصديقه، بل إن تصديقه تكذيب للقرآن، فإن الله تعالى يقول: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) . والغيب ما غاب عن الإنسان من الأمور المستقبلة فلا يعلمه إلا الله ﷿، وهذه المرأة التي تدعيه هي أيضًا مكذبةٌ للقرآن، فيجب على ولاة الأمور أن يمنعوا مثل هذه الأمور في بلادهم، حتى لا يوقعوا الناس فيما يخالف عقيدتهم وفيما يكذب كلام الله ورسوله ﷺ، أما ما تدعيه هذه المرأة من علم الغيب فإنه لا يجوز تصديقه أبدًا، وإذا قدر أن ما تخبر به يقع منه شيء فإنما ذلك عن مصادفة أو عن أمر استمع من السماع وتضيف هي إليه عدة كذبات لتموه على باطلها. وأما بالنسبة لما تدعيه من مكالمة الأشراف من الجن لها فهذا أيضًا دعوى كاذبة؛ لأن الكاهن بجميع ما يقول وجميع ما يذكر من مؤثرات لكهانته يجب تكذيبه، والجن لا يعلم الغيب بنص القرآن، يقول الله تعالى: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ "يعني: سليمان" مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ "يعني: عصاه" فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) . فلا أحد يعلم الغيب لا من الجن ولا من الملائكة ولا من الإنس: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ) . وقال ﷾: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) . وأما بالنسبة لقوله: إنه خالع زوجته ثلاثًا فهذه مسألة الطلاق الثلاث، وإذا كان يريد الرجوع إلى زوجته فإنه موضع خلاف بين أهل العلم، هل له أن يراجعها إذا لم يسبق له طلقتان على هذه المرأة أو ليس له أن يراجعها؟ والراجح أنه يجوز له أن يراجعها إذا لم يسبق له طلقتان على ه
مجدي عبد الغني محاسب بالعراق محافظة صلاح الدين يقول: إلى فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين نرى في الآونة الأخيرة ما شاع عن حقيقة تحديد نوع المولود ذكر أم أنثى، وبهذا نسأل توصل علماء الطب في أمريكا واليابان إلى ذلك، فهل هذا حرام؟ وما علاقة الآية الكريمة التي يقول الله فيها ﷿ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً * ألم يك نطفة من مني يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا السؤال الذي ذكره السائل يحتمل أن يريد بقوله: نوع الذكورة والأنوثة، أي: العلم بأن هذا ذكر أو أنثى. ويحتمل أن يكون مراده تحديد نوع الذكورة والأنوثة، أي: العلم بأن هذا ذكر وأنثى، أن يجعلوا هذه الأنثى ذكرًا، أو أن يجعلوا الذكر أنثى. أما الأول- وهو: العلم بأن الجنين ذكر أو أنثى- فهذا كما قاله السائل، قد اشتهر أنهم يعلمون ذلك، وهذا العلم لا ينافي ما جاءت به النصوص من كون الله ﷾ يعلم ما في الأرحام، فإن الله تعالى يعلم ما في الأرحام بلا شك، ولا ينافي علمه بذلك أن يكون أحدٌ من خلقه يعلمه، فالله يعلم وكذلك غيره يعلم. لكن المعلوم الذي يتعلق بالجنين ينقسم إلى قسمين: قسم محسوس يمكن للخلق أن يعلموا به، كالذكورة والأنوثة، والكبر والصغر، واللون، وما أشبه ذلك، فهذا يكون معلومًا عند الله ﷿، ويكون معلومًا عند من يتوصل إلى علمه بالوسائل الحديثة، ولا منافاة بين الأمرين. وأما المعلوم الثاني للجنين فهو المعلوم الذي ليس بمحسوس يدرك، وهو علم ماذا سيكون مآل هذا الجنين: هل يخرج حيًا أو ميتًا؟ وإذا خرج حيًا هل يبقى طويلًا في الدنيا أو لا؟ وإذا بقي فهل يكون عمله صالحًا أم سيئا؟ ً وإذا بقي أيضًا فهل يكون رزقه واسعًا أو ضيقًا؟ وما أشبه ذلك من المعلومات الخفية التي ليست بحسية، فهذا النوع من العلوم المتعلقة بالجنين هذا لا يعلمه إلا الله، ولا يستطيع أحد أن يعلمه، ومن ادعى علمه فهو كاذب، ومن صدقه في ذلك فقد كذب قول الله ﷿: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّه) . أما الاحتمال الثاني ما يحمله سؤال السائل أنهم توصلوا إلى أن يجعلوا الذكر أنثى أو الأنثى ذكرًا، فهذا لا يمكن؛ لأن هذا يتعلق بخلق الله ﷿، وهو الذي بيده التذكير والتأنيث، فلا يمكن لأحد من المخلوقين أن يجعل ما قدره الله ذكرًا أنثى، ولا يمكن أن يجعل ما قدره الله أنثى ذكرًا، يقول الله ﷿: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) . وكذلك الآية التي ساقها السائل: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (٣٧) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى) . فالذي أقوله الآن: إن هذا أمر غير ممكن، وكما أنهم لا يستطيعون أن يجعلوا الذكر المولود أنثى والأنثى المولودة ذكرًا، فكذلك لا يمكنهم أن يجعلوا الجنين الذي قدره الله ذكرًا أن يجعلوه أنثى أو العكس، هذا ما أعتقده في هذه المسألة. ***
أبو صالح يقول: هل صحيح أن للأرض حركتين أم لا؟ وهل في ذلك آيات تدل على ذلك أم العكس؟ ثم أفيدوني أين توجد الجنة والنار؟ وهل هناك آيات دالة على ذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إن البحث في هذا من فضول العلم، وليس من الأمور العقدية التي يجب على الإنسان أن يحققها ويعمل بما تقتضيه الأدلة، ولهذا لم يبين هذا الأمر في القرآن الكريم على وجهٍ صريح لا يحتمل الجدل، فمن الناس من يقول: إن للأرض حركتين: حركة تختلف بها الفصول، وحركة أخرى يختلف بها الليل والنهار، ويقول: إن قول الله تعالى: (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) يدل على ذلك، ووجه الدلالة عنده أن نفي المَيَدان دليلٌ على أصل الحركة، إذ لو لم يكن أصل الحركة موجودًا لكان نفي الميدان لغوًا من القول لا فائدة منه، ويقول: إن هذا دالٌ على كمال قدرة الله، أن تكون هذه الأرض- وهي هذا الجرم الكبير- تتحرك بدون أن تميد بالناس وتضطرب، مع أن الله ﷿ إذا شاء حركها فحصلت الزلازل والخسوفات. ومن العلماء من يقول: الأرض لا تتحرك، بل هي ثابتة؛ لقوله ﵎: (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ) أي: تضطرب. ولقوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) . ولأن الله تعالى جعل الأرض قرارًا يقر الناس عليه، وهذا ينافي أن تكون لها حركة. وأيًا كان هذا أو هذا فإن إشغال النفس بمثل ذلك ليس فيه كبير فائدة، فيقال: إن كانت تتحرك وهي في هذا القرار التام فهذا دليلٌ على تمام قدرة الله ﷿، وإن كانت لا تتحرك فالله تعالى هو الذي خلقها وجعلها ساكنةً لا تتحرك، لكن الشيء الذي أرى أنه لا بد منه هو أن نعتقد أن الشمس هي التي تدور على الأرض، وهي التي يكون بها اختلاف الليل والنهار؛ لأن الله تعالى أضاف الطلوع والغروب إلى الشمس، فقال ﷿: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ) . فهذه أربعة أفعال أضيفت كلها إلى الشمس: إذا طلعت، وإذا غربت، تزاور، تقرض، كلها أفعال أضيفت إلى الشمس، والأصل أن الفعل لا يضاف إلا إلى فاعله أو من قام به، أي: من قام به هذا الفعل، فلا يقال: مات زيدٌ ويراد مات عمرو، ولا يقال: قام زيدٌ ويراد قام عمرو، فإذا قال الله: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ) فليس المعنى أن الأرض دارت حتى رأينا الشمس؛ لأنه لو كانت الأرض هي التي تدور وطلوع الشمس يختلف باختلاف الدوران ما قيل: إن الشمس طلعت، بل يقال: نحن طلعنا على الشمس، أو: الأرض طلعت على الشمس. وكذلك قال الله ﵎ في قصة سليمان: (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ) أي: الشمس (بالْحِجَابِ) ولم يقل: حتى توارى عنها بالحجاب. وقال النبي ﵊ لأبي ذر عند غروب الشمس: (أتدري أين تذهب)؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: (فإنها تذهب فتسجد تحت العرش) . فأضاف الذهاب إلى الشمس. فظاهر القرآن والسنة أن اختلاف الليل والنهار يكون بدوران الشمس على الأرض، وهذا هو الذي يجب أن نعتقده، ما لم يوجد دليلٌ حسيٌ قاطع يسوغ لنا أن نصرف النصوص عن ظواهرها إلى ما يوافق هذا النص القاطع، وذلك لأن الأصل في أخبار الله ورسوله أن تكون على ظاهرها، حتى يقوم دليل قاطع على صرفها عن ظاهرها؛ لأننا يوم القيامة سنسأل عما تقتضيه هذه النصوص بحسب الظاهر، والواجب علينا أن نعتقد ظاهرها، إلا إذا وجد دليلٌ قاطع يسوغ لنا أن نصرفها عن هذا الظاهر، هذا هو الجواب عن السؤال الأول. وأما قوله: أفيدوني أين توجد الجنة والنار؟ فالجواب عليه أن نقول: الجنة في أعلى عليين، والنار في سجين، وسجين في الأرض السفلى، كما جاء في الحديث: (الميت إذا احتضر يقول الله تعالى: اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الأرض السفلى) . وأما الجنة فإنها فوق في أعلى عليين، وقد ثبت عن النبي ﵊ (أن عرش الرب جل وعلا هو سقف جنة الفردوس) . جعلنا الله تعالى من أهلها. ***
يا فضيلة الشيخ تعلمون وفقكم الله أن الملاحدة منذ زمن قديم يبثون شبهاتهم حول الإسلام، ويدعون لأفكارهم الفاسدة، ومن تلك الأفكار أن الكون أوجد نفسه، ثم ما زال يتطور حتى كان كما هو عليه الآن، واستدلوا على هذا بالميكروبات والطفيليات التي تتكون في الأشياء المتعفنة من غير أصل لها، فبماذا نرد على هذه الطائفة لدحض حجتهم الزائفة وشبهاتهم الباطلة؟ جزاكم الله خيرًا فأجاب رحمه الله تعالى: نرد على هؤلاء بما ذكره الله تعالى في سورة الطور: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون َ* أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) . فنسألهم أولًا: هل هم موجودون بعد العدم، أو موجودون في الأزل وإلى الأبد؟ والجواب بلا شك أن يقولوا: نحن موجودون بعد العدم، كما قال الله تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) . فإذا قالوا: نحن موجودون بعد العدم، قلنا: من أوجدكم؟ أوجدكم أبوكم أو أمكم أو وجدتم هكذا بلا موجد؟ سيقولون: لم يوجدنا أبونا ولا أمنا؛ لأن الله تعالى يقول: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُون * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشيءكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ) . إذا قالوا: وجدنا من غير موجد، نقول: هذا مستحيل في العقل؛ لأنه ما من حادث إلا وله محدث، وحينئذٍ يتعين أن يكون حدوثهم بمحدث، وهو الله ﷿ الواجب الوجود. وكذلك يقال في السماوات والأرض: نقول: من أوجد السماوات والأرض؟ هو الله ﷿، لكن السماوات والأرض كانت ماءً تحت العرش، كما قال الله ﵎: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) . فخلق الله ﷿ السماوات والأرض من هذا الماء، قال الله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) أي: فصلنا ما بينهما (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) . فهذا جواب على هؤلاء الملاحدة، فإن أَبَوا إلا ما كانوا عليه فهم مكابرون، ويحق عليهم قول الله تعالى في آل فرعون: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) . ***
الخير أحمد سوداني مقيم بالعراق يقول في رسالته: عرفنا من القرآن الكريم أن الله ﷾ (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) . ولكن أريد أن أعرف منكم ما البعد بين كل سماء؟ وهل هناك سمك لكل سماء؟ أفيدونا بذلك مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الجواب على ذلك أن السماوات كما ذكر السائل سبع، جعلهنّ الله تعالى طباقًا، وجعل بينهن مسافات، ويدل لذلك حديث المعراج الثابت في الصحيحين وغيرهما: (أن جبريل ﵊ جعل يعرج بالنبي ﷺ من سماء إلى سماء، ويستفتح عند دخول كل سماء، حتى انتهى به إلى السماء السابعة، وبلغ ﷺ موضعًا سمع فيه صريف الأقلام، ووصل إلى سدرة المنتهى) . وكذلك الأَرَاضون هي سبع، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) . والمثلية هنا ليست في الصفة؛ لأن ذلك من المعلوم بالضرورة، ولكنها مثلية في العدد، ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين في قول الرسول ﵊: (من اقتطع شبرًاَ من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) . وهذا يدل على أن الأرضين متطابقة أيضًا، وأن بعضها تحت بعض.وأما بُعْد ما بين كل سماء والأخرى: فقد ورد في ذلك حديث عن رسول الله ﷺ: (أن بعد ما بين سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وأن كثافة كل سماء مسيرة خمسمائة عام) . والعلم عند الله ﵎. ***
الشهادتان
السائلة من الأردن تقول يا فضيلة الشيخ محمد ما هي شروط لا إله إلا الله وضحها لنا يا شيخ فأجاب رحمه الله تعالى: لا تحتاج إلى شروط توضح واضحة بنفسها لا إله إلا الله يعني لا معبود حق إلا الله يجب أن يشهد الإنسان بذلك بقلبه ولسانه وجوارحه. فبقلبه يعتقد اعتقادًا جازمًا أنه لا معبود حق إلا الله، وأن جميع ما يعبد من دون الله فهو باطل، كما قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (الحج: ٦٢) . ثانيًا: أن يقول ذلك بلسانه ما دام قادرًا على النطق؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (حتى يشهدوا ألا إله إلا الله) . فلابد من النطق لمن كان قادرًا عليه، أما الأخرس فيكتفى باعتقاد قلبه. ثالثا: ً لابد من تحقيق هذه الكلمة، وذلك بالعمل بمقتضاها، بأن لا يعبد إلا الله، وأن لا يصرف شيئًا من أنواع العبادة لغير الله، فمن أشرك بالله ولو شركًا أصغر فإنه لم يحقق معنى قول: لا إله إلا الله، ومن تابع غير الرسول ﵊ مع مخالفته للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه لم يحقق معنى لا إله إلا الله، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يكتفي بقول: لا إله إلا الله، حتى فيما يظن الإنسان أنه قالها غير مخلص بها، لحق أسامة بن زيد بن حارثة رجلًا مشركًا، فلما أدركه قال الرجل: لا إله إلا الله، فظن أسامة أنه قال ذلك خوفًا من القتل، فقتله، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال لأسامة: (أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله)؟ قال يا رسول الله إنما قالها تعوذًا! فجعل يكرر الرسول ﷺ ويقول: (ما تفعل بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة)؟ يقول: حتى تمنيت أنني لم أكن أسلمت من قبل. فلهذا نقول: لابد من النطق بها باللسان، والعمل بمقتضاها بالأركان، والاعتقاد بمعناها ومدلولها في الجنان، أي: في القلب. ***
السائل من السودان ع. أحمد يقول في هذا السؤال: ما هي شروط كلمة التوحيد لا إله إلا الله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: كلمة التوحيد لا إله إلا الله أولًا لا بد أن نعرف ما معناها؟ معناها: لا معبود حقٌ إلا الله، هذا معناها، فكل ما عبد من دون الله من ملكٍ ونبيٍ ووليٍ وشجرٍ وحجر وشمسٍ وقمر فهو باطل؛ لقوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) . هذا معنى هذه الكلمة العظيمة، وهي مبنية على ركنين: نفي وإثبات، نفي الألوهية عما سوى الله، وإثباتها لله، وبهذا يتحقق التوحيد، أي: باجتماع النفي والإثبات يتحقق التوحيد، ووجه ذلك أن النفي المحض الذي لا يقترن بإثبات نفيٌ محض فهو عدم وأن الإثبات المحض الذي لا يقترن بالنفي إثباتٌ لا يمنع المشاركة، فلا يتحقق التوحيد إلا بإثبات ونفي: نفي الحكم عما سوى من أثبت له، وإثباته لمن أثبت له، وهذان الركنان هما الأصل. أما شروطها: فلا بد أن تكون صادرةً عن يقين وعلم، يقين لا شك معه، وعلمٍ لا جهل معه، ولا بد لها من شروطٍ لاستمرارها: كالعمل بمقتضاها حسب ما تقتضيه الشريعة، وأما مجرد القول باللسان بدون اعتقادٍ وإيقان فإن ذلك لا ينفع، فنشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. ***
كيف يكون المسلم محققًا لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قولًا وعملًا واعتقادًا بحيث يضمن لنفسه النجاة من الخلود في النار؟ وجهونا في ضوء هذا السؤال؟ فأجاب رحمه الله تعالى: تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله: أن يفهم الإنسان معناها أولًا ثم يعمل بمقتضى هذا العلم، فمعنى لا إله إلا الله: لا معبود حق إلا الله، وليس معناها لا إله موجود إلا الله، بل المعنى: لا إله حق إلا الله؛ لأن من المخلوق ما عبد من دون الله وسمي إلهًا، كما قال تعالى: (فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) . وقال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) . وقال المشركون: (أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا) . لكن هذه الآلهة ليست حقًّا، بل هي باطل؛ لقول الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) . وإذا كان لا معبود حق إلا الله وجب على الإنسان أن يجعل العبادة كلها عقيدة وقولًا وعملًا لله تعالى وحده، وإذا كان هذا معنى لا إله إلا الله فلا يمكن أن يحققها الإنسان حتى يعمل بمقتضاها، بمعنى: أن لا يعبد إلا الله، فلا يتذلل ولا يخضع لأحد على وجه التعبد والتقرب والإنابة إلا لله ﷿، ومقتضى هذا أيضًا أن لا يعبد الله إلا بما شرع؛ لأن الله هو الإله الحق، وما سواه فهو الباطل، وعلى هذا فلا يعبد الله إلا بما شرع على أيدي الرسل عليهم الصلاة والسلام. ولا بد أيضًا لتحقيق شهادة أن لا اله إلا الله من أن يكفر بما سوى الله ﷿ من الآلهة، حتى يتحقق له الاستمساك بالعروة الوثقى قال الله تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) . وقال الله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) . فلابد لتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله من اجتناب الطاغوت، وهو: كل ما عبد من دون الله ﷿، أو تحكم إليه من دون الله. ***
أحسن الله إليكم هناك من يقول بأن شروط لا إله إلا الله السبعة أو الثمانية التي وضعت لا يصح أن نسميها شروطًا؛ لأن التعريف ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود. يقول: فبهذه الشروط تلزم كل إنسان، ومتى اختل واحد من هذه الشروط اختلت هذه الشروط وقيل بأن الأصح أن يقال: من لوازم لا إله إلا الله؛ لأن اللازم ليس مثل الشروط، فما رأيكم في ذلك مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: رأينا في هذا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين أعظم بيان ﷺ، سأله أبو هريرة ﵁: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: (من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه) . فإذا قال الإنسان: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه، وقام بلوازم هذه الشهادة العظيمة فإنه مسلم، وأما من قالها غير مخلص في قلبه،كالمنافقين الذين يقولونها اتقاءً ورياءً فإنها لا تنفعه، ومن قالها ولم يلتزم ببعض الشرائع فإن قوله إياها ناقص بلا شك؛ لأن تركه بعض شرائع الإسلام يضعف توحيده، وربما ينتفي عنه التوحيد كله، حسب ما تقتضيه الأدلة الشرعية. ***
المستمع سيد عباس مصري يقول: فضيلة الشيخ هل الكبار الذين يجهلون معنى كلمة التوحيد لا إله إلا الله مسلمون؟ وماهي شروط كلمة التوحيد وواجباتها؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الذين يقولون: لا إله إلا الله يجب أن يعرفوا معناها، وأنه لا معبود حق إلا الله، وأن كل ما يعبد من دون الله فهو باطل؛ لقول الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) . وشروط قول: لا إله إلا الله: أن يقولها الإنسان بلسانه نطقًا لا بقلبه، وأن يقولها طائعًا مختارًا. ويشترط أيضًا أن يقوم بما تقتضيه هذه الكلمة العظيمة ومن أهم ما يقوم به الصلاة لأن من ترك الصلاة فهو كافر ولو قال لا إله إلا الله ثم إن هذة الكلمة إذا قالها الإنسان وهو يفهم معناها فإنها تستلزم أن يقوم بطاعة الله ﷿؛ لأن معنى لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله، وهذا يقتضي أن يعبد هذا الإله الحق على الوجه الذي أمر به: مخلصًا له الدين، متبعًا لخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ***
هذه رسالة وصلت من عبد الله أحمد يقول: في كلمة الإخلاص شروط وأركان، فإذا لم يأت بها المسلم كاملًا فهل يكون قد أدى حقيقتها؟ أرجو الإفادة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: كلمة الإخلاص هي قول لا إله إلا الله. ولا يكفي أن يقولها الإنسان بلسانه؛ لأن المنافقين يقولون ذلك بألسنتهم كما قال الله تعالى: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) . ولكن لا بد من أن يكون الإنسان معتقدًا لمعناها في قلبه، مؤمنًا بها، قائمًاَ بما تقتضيه هذه الكلمة العظيمة، وهو: التعبد لله وحده لا شريك له، بحيث لا يشرك معه في عبادته ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلًا، ولا سلطانًا حاكمًا، ولا غير ذلك من مخلوقات الله ﷿، كما قال الله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) . ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية بالتكفير في أمور تقع ممن قال: لا إله إلا الله، مثل كفر تارك الصلاة، فإن من ترك الصلاة كسلًا وتهاونًا يكفر، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وكلام الصحابة ﵃، والمعنى الصحيح بل والنظر الصحيح. وهذه مناسبة لما وعدنا به سابقًا من أننا سنتكلم بإسهاب عن حكم تارك الصلاة، حيث بينا فيما سبق أن كفر تارك الصلاة تهاونًا وكسلًا هومقتضى دلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والنظر الصحيح، وأن ما خالف ذلك لا يخلو من واحد من أمور خمسة: إما ألا يكون فيه دلالة أصلًا، وإما أن يكون وقع من قوم معذورين بجهلهم، وإما أن يكون مقيدًا بقيد يمتنع معه أن يترك الصلاة، وإما أن يكون ضعيفًا، وإما أن يكون عامًا لكنه مخصوص بأدلة تكفير تارك الصلاة. وبينا أيضًا فيما سبق بأن المراد بترك الصلاة تركها بالكلية، وأما من كان يصلى ويخلي، أي: إنه يصلى أحيانًا ويدع أحيانًا فإنه لا يكفر. نحن الآن نسوق ما تيسر لنا من الأدلة الدالة على كفر تارك الصلاة: فمن ذلك قوله ﵎ عن المشركين: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) . فإن هذه الآية الكريمة شرطت لثبوت الأخوة في الدين من المشركين ثلاثة شروط: الشرط الأول: أن يتوبوا من الشرك، والشرط الثاني: أن يقيموا الصلاة، والشرط الثالث: أن يؤتوا الزكاة. ومن المعلوم أن ما رُتب على شرط فإنه يتخلف بتخلف هذا الشرط، فإذا لم يتوبوا ولم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة فليسوا إخوانًا لنا في الدين، ولا تنتفي الأخوة الدينية إلا بكفر مخرج عن الإيمان، أما مجرد المعاصي- وإن عظمت، إذا لم تصل إلى حد الكفر- فإنها لا تخرج الإنسان من الإيمان، ودليل ذلك- أي: دليل أن المعاصي لا تخرج من الإيمان وإن عظمت- قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) . فجعل الله القاتل والمقتول أخوين، مع أن القاتل أتى ذنبًا عظيمًا، توعد الله عليه بوعيد شديد في قوله: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) . وقال الله ﷿: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) . فأثبت الله الأخوة بين الطائفتين المقتتلتين وبين الطائفة المصلحة بينهما، مع أن قتال المؤمن من أعظم الذنوب. فإذا تبين أن الأخوة الإيمانية لا تنتفي بكبائر الذنوب التي دون الكفر، فإن انتفاءها يدل على أن من حصل منه ما يوجب هذا الانتفاء، دليل على أنه كافر. فإن قال قائل: ما تقولون فيمن تاب من الشرك وأقام الصلاة ولم يؤت الزكاة؟ أتكفرونه كما تقتضيه الآية أم لا تكفرونه؟ قلنا لا نكفره؛ لأن لدينا منطوقًا يدل على أنه ليس بكافر، والمنطوق عند العلماء مقدم على المفهوم، هذا المنطوق ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله: إما إلى الجنة، وإما إلى النار) . فإن هذا الحديث يدل على أن من لم يؤد الزكاة لا يكفر؛ لأن قوله: (ثم يرى سبيله: إما إلى النار أو الجنة) دليل على أنه قد يدخل الجنة، ولا يمكن أن يدخل الجنة مع كفره، وعلى هذا فيبقى القيد في التوبة من الشرك وإقام الصلاة قيدًا معتبرًا لا معارض له، بخلاف قوله: (وآتوا الزكاة)، فإن مفهومه عورض بمنطوق الحديث الذي ذكرت، فحينئذٍ لا يكون ترك الزكاة والبخل بها مكفرًا مخرجًا عن الإسلام، على أن من العلماء من قال: إن تارك الزكاة الذي لا يؤديها كافر، وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل، ولكن الذي تقتضيه الأدلة أنه لا يكفر، ونحن بحول الله لا نعدو ما دلت الأدلة عليه سلبًا ولا إيجابا. ً وأما دلالة السنة على كفر تارك الصلاة: ففيما رواه مسلم عن جابر ﵁ أن النبي ﷺ قال: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) . فجعل ترك الصلاة هو الحد الفاصل بين الكفر وبين الإيمان، أو بين الشرك وبين الإيمان ومن المعلوم أن الحد فاصل بين محدودين لا يدخل أحدهما في الآخر، ويدل لهذا أن لفظ الحديث: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) . فقال: (والكفر) . ولم يقل ﷺ: ترك الصلاة كفر، حتى يمكن أن يحمل على كفر دون كفر، ولكنه عرفه بأل، الدالة على حقيقة الكفر، وقد أشار إلى هذا الفرق شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم. أما الحديث الثاني فهو ما رواه أهل السنن عن بريدة بن الحصيب ﵁ أن النبي ﷺ قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) . فجعل النبي ﷺ الحد الفاصل بين المسلمين والكفار هو الصلاة، ومن المعلوم أن الحد يخرج كل محدود عن دخوله في الآخر. أما كلام الصحابة ﵃: فقد حكى إجماعهم على كفر تارك الصلاة عبد الله بن شقيق ﵀، وهو تابعي مشهور قال: (كان أصحاب رسول الله ﷺ لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) . وقد حكى إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة إسحاق بن راهويه الإمام المشهور، وحكاه غيره أيضًا. وأما النظر الصحيح الذي يقتضي أن تارك الصلاة كافر كفرًا أكبر مخرجًا عن الملة: فإنه لا يمكن لمؤمن- بل لا يمكن لمن في قلبه أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان- أن يعلم شأن الصلاة وعظمها ومنزلتها عند الله ﷿ ثم يحافظ على تركها، هذا من المحال أن يكون في قلبه شيء من الإيمان، وعلى هذا نقول: إن من كان في قلبه أدنى مثقال حبة من خردل إيمان لا يمكن أن يترك الصلاة تركًا مطلقًا وهو يعلم ما لها من المنزلة العظيمة في دين الإسلام. وأما الأدلة التي استدل بها من قال: إنه لا يكفر، فقد أشرنا إلى أنها لا تخلو من واحد من خمسة أمور، كما صدرنا ذلك في كلامنا هذا. وإذا تبين قيام الدليل السالم عن المعارض المقاوم فإنه يجب الأخذ بمقتضاه، وإننا حين نحكم بالكفر على من دلت الأدلة على كفره لم نتجاوز ولم نتعد؛ لأن الحكم بالتكفير أو عدم التكفير إلى الله ﷿، كما أن الحكم بالتحليل والتحريم والإيجاب والاستحباب إلى الله ﷿، ولا لوم على الإنسان إذا أخذ بما تقتضيه الأدلة من أي حكم من الأحكام، وعلى كل مؤمن أن يأخذ بما تقتضيه الأدلة من أي وصف كان، ولأي موصوف كان، وألا يجعل النزاع سببًا موجبًا للتخلي عن مدلول الكتاب والسنة وغيرهما من الأدلة؛ لقول الله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) . وقال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) . فإن قال قائل: إذا قلت بتكفير تارك الصلاة حصل في ذلك ارتباك وتشويش وتكفير لكثير من الناس؟ فالجواب عن ذلك أن نقول: إننا إذا قلنا بمقتضى الأدلة الشرعية فإنه لن يكون من جراء ذلك إلا ما فيه الخير والصلاح؛ لأن الناس إذا علموا أن ترك الصلاة كفر مخرج عن الملة وردَّة كبرى، فإنهم لن يتجرؤوا على ترك الصلاة، بل سيكون ذلك حافزًا لهم على القيام بها على الوجه المطلوب منهم، ولكننا إذا قلنا: إنه ليس بكفر وإنما هو فسق، فإنهم يتهاونون بها أكثر مما قلنا لهم ذلك: إنه كفر، ونحن لا نقول: إنه كفر، من أجل أن نحث الناس على فعل الصلاة، ولكننا نقول: إنه كفر، من أجل دلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة على ذلك. وأما قول هذا القائل الذي يقول: إنك إذا حكمت بكفر تارك الصلاة فإنك بهذا توقع الإرباك والتذبذب، وتخرج كثيرًا من الناس عن الملة الإسلامية، أقول: ما قول هذا القائل إلا كقول من قال: إنك إذا قطعت يد السارق أصبح نصف الشعب مقطوعًا؛ لأننا نقول لهذا: إنك إذا قطعت يد السارق فسيقل السراق قلة كبيرة؛ لأن السارق إذا علم أن يده ستقطع فإنه لن يقدم على السرقة، وما مثل هذا وهذا إلا كمثل من يقول: إنك إذا قتلت القاتل المستحق للقتل قصاصًا فإنك تضيف إلى قتل الأول قتل رجل آخر، وهذا يضاعف عدد المقتولين، فإننا نقول: إن هذه القولة قولة باطلة، أبطلها الله في قوله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) . فإن القاتل إذا علم أنه إذا قتل عمدًا سيقتل لن يقدم على القتل، فحينئذٍ يقل القتل عمدًا وعدوانًا. والمهم كل المهم أنه يجب على الإنسان العالم المتقي لله ﷿ أن يكون متمشيًا مع الدليل حيث ما كان إيجابًا وسلبًا، وإصلاح الحال على الرب ﷿ الذي شرع هذا الذي أقدم عليه المفتي والحاكم، والله ﷿ لم يشرع لعباده إلا ما فيه صلاحهم وسعادتهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة، لا يمكن أبدًا أن يشرع لعباده ما فيه مفسدة راجحة على مصلحة، كما قال الله تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) . وأنت إذا حكمت الناس بمقتضى شريعة الله لا بمقتضى واقعهم فإن الواقع سوف يتغير، حتى يتحول إلى مراد الله ﷿ في عباده فيما شرعه لهم. فضيلة الشيخ: يقول: في كلمة الإخلاص شروط وأركان، فإذا لم يأت بها المسلم كاملةً فهل يكون قد أدى حقيقتها؟ فأجاب رحمه الله تعالى: قلنا: إنه لا يؤدي حقيقتها إذا لم يأت بشروطها ومقتضياتها اللازمة، فإنه ليس المراد من كلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله أن يقولها بلسانه، بل لا بد أن يقولها بلسانه معتقدًا مدلولها بقلبه، قائمًا بما تقتضيه من واجبات وشروط وأركان. ***
السائل أحمد صالح يقول: هل من قال: لا إله إلا الله، بدون أن يعمل أي عمل يدخل الجنة؟ أي: قالها بلسانه؛ لأنه يوجد حديث فيما معناه يقول: (وعزتي وجلالي لأُخْرِجَنَّ من النار كل من قال: لا إله إلا الله) . والله أعلم، ولكم جزيل الشكر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: كلمة لا إله إلا الله كلمة عظيمة، لو وزنت بها السماوات والأرض لرجحت بهن. ومعناها: لا معبود حق إلا الله، فكل ما يعبد من دون الله فهو باطل؛ لقول الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) . والعبادة لا تختص بالركوع أو السجود، يعني: أن الإنسان قد يعبد غير الله دون أن يركع له ويسجد، ولكن يقدم محبته على محبة الله، وتعظيمه على تعظيم الله، ويكون قوله أعظم في قلبه من قول الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعطَ سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) . فَجَعَلَ للدينار عبدًا، وللدرهم عبدًا، وللخميلة عبدًا، وللخميصة عبدًا، الخميلة: الفراش، والخميصة: الكساء، مع أن هؤلاء لا يعبدون الدرهم والدينار، لا يركعون له ولا يسجدون له، لكنهم يعظمونه أكثر من تعظيم الله ﷿، وإلى هذا يشير قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) . فهذه الكلمة كلمة عظيمة، فيها البراءة من كل شرك، وإخلاص الألوهية والعبادة لله ﷿، فلو قالها بلسانه وقلبه فهو الذي قالها حقًا، ولهذا قال أبو هريرة: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: (من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه) . وقال في حديث عتبان بن مالك- أعني: النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال-: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله)، فلا بد من الإخلاص. وأمَّا مَنْ قالها بلسانه دون أن يوقن بها قلبه فإنها لا تنفعه؛ لأن المنافقين يذكرون الله ويقولون: لا إله إلا الله، كما قال تعالى: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) . ويشهدون للنبي ﷺ بالرسالة، كما قال تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) . فلن تنفعهم شهادة أن لا إله إلا الله ولا شهادة أن محمدًا رسول الله؛ لأنهم لم يقولوا ذلك عن قلب وإخلاص. فمن قال هذه الكلمة دون إخلاص فإنها لا تنفعه، ولا تزيده من الله تعالى إلا بعدًا. فنسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين الإيقان بها والعمل بمقتضاها، إنه على كل شيء قدير. ***
هذا المستمع سيد محمد من جمهورية مصر العربية يقول: يوجد بعض الرجال يقولون لنا: قولوا: لا إله إلا الله تدخل الجنة، فإن رسول الله ﷺ يقول: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، قولًا بلا عمل فقط، فهل هم على صواب؟ أفيدونا وانصحونا بهذا مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: ليسوا على صواب، فإن المراد بقول: لا إله إلا الله، أن يقولها الإنسان بلسانه، معتقدًا مدلولها بقلبه، عاملًا بمقتضاها. ولهذا لو قال الإنسان: لا إله إلا الله، وجحد ولو حرفًا واحدًا من القرآن كان كافرًا، ولم تنفعه لا إله إلا الله. ومن قال: لا إله إلا الله، وترك الصلاة مثلًا كان كافرًا، ولم تنفعه لا إله إلا الله، لكن من قال: لا إله إلا الله، وكانت آخر كلامه، فإنه سيقولها مخلصًا لله بها وهو في هذه الحال، لا يستطيع أن يعمل أكثر من ذلك فتكون مدخلة له الجنة. ***
الذي ينطق بالشهادة قبل موته هل يدخل في قول الرسول ﷺ: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إذا قال: لا إله إلا الله، عند موته موقنًا بها قلبه فإنه يدخل في الحديث، ولكن ليعلم أن النصوص العامة فيما يدخل الجنة أو يدخل النار لا تطبق على شخصٍ بعينه إلا بدليل، فمثلًا: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) . إذا علمنا أن هذا الرجل كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله فنحن نقول: يرجى أن يكون من أهل الجنة، فالمعين لا تجزم له وإنما قل: يرجى إذا كان في خير، أو يخشى إذا كان في شر؛ لأنه يفرق بين العموم والخصوص، نحن نشهد ونعلم ونوقن بأن كل مؤمنٍ في الجنة، فهل نشهد لكل مؤمن بعينه أنه في الجنة؟ فالجواب: لا، لكننا إذا علمنا أنه مؤمن نرجو له أن يكون داخلًا في الجنة، نؤمن بأن الله تعالى يحب المؤمنين ويحب المحسنين، فلو رأينا رجلًا يحسن ورأينا رجلًا مؤمنًا يقوم بالواجبات ويترك المحرمات فهل نشهد أن الله يحبه؟ فالجواب: لا؛ لأن التعيين غير التعميم، ولكن نقول: نشهد لكل مؤمن أن الله يحبه، ونرجو أن يكون هذا الرجل بعينه ممن يحبه الله ﷿. وقد أشار البخاري ﵀ في صحيحه إلى نحو هذا فقال: (بابٌ: لا يقال فلان شهيد) . وإن كان قتل في سبيل الله فلا تقل: إنه شهيد، واستدل لذلك بقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما من مكلومٍ يكلم في سبيل الله- والله أعلم بمن يكلم في سبيله- إلا إذا كان يوم القيامة جاء وجرحه يثعب دمًا، اللون لون الدم، والريح ريح المسك) . فقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (والله أعلم بمن يكلم في سبيله) إشارة إلى أنك لا تشهد للشخص المعين، بل قل: الله أعلم. وخطب أمير المؤمنين عمر ﵁ فقال: إنكم تقولون: فلان شهيد فلان شهيد، وما أدراك لعله فعل كذا وكذا؟ ولكن قولوا: من مات في سبيل الله أو قتل فهو شهيد، ففرق ﵁ بين التعيين والتعميم. ***
ع. أ. ك.، يقول: أخبركم أني قرأت في كتاب رياض الصالحين عن الإمام المحدث الحافظ محيي الدين أبي زكريا بن شرف النووي أحاديث كثيرة، ومنها يقول: قال رسول الله ﷺ: (من قال في آخر حياته- يعني: عند موته، من قال-: لا إله إلا الله دخل الجنة) . (ومن مات له ثلاثة أولاد أو أقل قبل البلوغ دخل الجنة) . (ومن كان له أربع بنات ورباهن على تربية الإسلام دخل الجنة) . (ومن مات له ولد في السن الصغير وقال: الحمد لله عند موته بني له بيت في الجنة) . وقال رسول الله ﷺ: (من صام يومًا في سبيل الله إلا أبعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا)، وقال رسول الله ﷺ في باب يقال له: باب الريان: (يدخل منه الصائمون) . فإذا كان ذلك من الأحاديث الصحيحة، فما بال آكل الربا والزاني والقاتل والسارق والكذاب؟ أفتوني بهذه المسألة؛ لأنني في حيرة جزاكم الله عني خير الجزاء؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا السؤال مهم، وهو موضع إشكال كما ذكره الأخ الكاتب؛ لأن ما ذكره من الأحاديث التي ترتب دخول الجنة على هذه الأعمال يعارضها أحاديث كثيرة تدل على دخول النار لمن عمل أعمالًا أخرى، مع قيام صاحبها بهذه الأعمال الموجبة لدخول الجنة، فجوابنا على هذا وأمثاله من الأحاديث، بل من النصوص، سواء من القرآن أو من السنة أن يقال: إن ذكر بعض الأعمال التي تكون سببًا لدخول الجنة ما هو إلا ذكر للسبب، وكذلك ذكر بعض الأحاديث التي ذكر فيها أن بعض الأعمال سبب لدخول النار ما هو إلا ذكر للسبب فقط، ومن المعلوم أن الأحكام لا تتم إلا بتوفر أسبابها وشروطها وانتفاء موانعها، فهذه الأعمال المذكورة هي سبب لدخول الجنة، لكن هذا السبب قد يكون له موانع، فمثلًا: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) . هذا إذا قالها على سبيل اليقين والصدق، فإذا قالها على سبيل النفاق- وهو بعيد أن يقولها على سبيل النفاق في هذه الحال- فإنها لا تنفعه،وهكذا: (من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحلم كانوا سترًا له من النار) . هذا سبب من الأسباب، من أسباب وقاية النار، لكن قد يكون هناك موانع تمنع نفوذ هذا السبب، وهي الأعمال التي تكون سببًا لدخول النار، وإن هذه الموانع وتلك الأسباب تتعارضان، ويكون الحكم لأقواهما، فالقاعدة إذًا أن ما ذكر من الأعمال مرتبًا عليه دخول الجنة ليس على إطلاقه، بل هو مقيد بالنصوص الأخرى التي تفيد أن هذا لابد له من انتفاء الموانع، فلنضرب مثلًا أن رجلًا من الناس كافر ومات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحلم وصبر، فهل نقول: إن هذا الكافر يدخل الجنة ولا يدخل النار؟ فالجواب لا، كذلك أيضًا في آكل الربا، وكذلك في آكل مال اليتيم، وكذلك في قتل النفس وغيرها، مما وردت فيه العقوبة بالنار، هذا أيضًا مقيد بما إذا لم يوجد أسباب أو موانع قوية تمنع من نفوذ هذا الوعيد، فإذا وجدت موانع تمنع من نفوذ هذا الوعيد فإنها تمنع منه؛ لأن القاعدة كما أسلفنا هي: أن الأمور لا تتم إلا بتوفر أسبابها وشروطها، وانتفاء موانعها. ***
العبادة
السائلة ن ع من جمهورية مصر العربية وتقيم الآن في المملكة تقول هذه السائلة بأنه كانت لي أمنية أرجو أن تتحقق من الله ﷿، وقد نذرت لها العديد من النذور لتتحقق، وكنت أذهب إلى مساجد أولياء الله الصالحين وأنذر هناك، كذلك وبعد تحقق هذه الأمنية قمت بالوفاء بما أتذكر من هذه النذور، ولكن كان هناك العديد من النذور نسيتها نظرًا لطول المدة على هذه النذور، فأرجو من فضيلتكم توضيح هل تسقط هذه النذور التي نسيتها أم ماذا أفعل؟ جزاكم الله خيرًا فأجاب رحمه الله تعالى: نقول في الجواب على هذا السؤال المهم: أولا: ً كونها تنذر لله ﷿ ليحصل مقصودها هذا خطأ عظيم؛ لأن النبي ﷺ نهى عن النذر وقال: (إنه لا يأتي بخير) . فليس النذر هو الذي يجلب الخير للإنسان، ولا النذر هو الذي يدفع الشر، إذا قضى الله قضاءً فلا مرد له لا بالنذر ولا غيره، ولهذا جاء في حديث آخر: (أن النذر لا يرد القضاء) . فإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يظن الظان إذا نذر شيئًا وحصل مقصوده أن هذا من أجل النذر؛ لأن النذر مكروه منهي عنه، والمكروه لا يكون وسيلة إلى الله ﷿، وكيف تتوسل إلى الله بما نهى عنه رسول الله؟ هذا فيه مضادة؟ إنما يتوسل الإنسان إلى الله بما يحب- أي: بما يحبه الله ﷿ حتى يحصل للمتوسل ما يحب. ثانيًا: كونها تذهب إلى مساجد الأولياء والصالحين، أفهم من هذا أن هناك مساجد مبنية على قبور الأولياء والصالحين، وهذه المساجد التي تبنى على قبور الأولياء والصالحين ليست مكان عبادة ولا قربة، والصلاة فيها لا تصح، ويجب أن تهدم؛ لأن النبي ﷺ نهى عن البناء على القبور وقال: (لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) . والواجب على ولاة الأمور في البلاد التي فيها مساجد مبنية على القبور، الواجب أن يهدموها إذا كانوا ناصحين لله ورسوله وكتابه والمسلمين، أما إذا كانت المساجد سابقة على القبور ودفن الميت في المسجد؛ فإن الواجب نبشه؛ لأن المسجد لم يبنَ على أنه مقبرة، بني للصلاة والذكر وقراءة القرآن، فالواجب نبش هذا القبر، وإخراج الميت منه، ودفنه مع الناس، ولا يجوز إقرار القبر في المسجد. فإن قال قائل: كيف تقول هذا وقبر النبي ﷺ في مسجده؟ الآن المسجد محيط به من كل جانب ومازال المسلمون يشاهدون هذا؟ فالجواب: أن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، وقبر النبي ﵊ لم يبن عليه المسجد، ولم يدفن الرسول في المسجد، فالنبي ﷺ لم يدفن في المسجد، والمسجد لم يبن على قبره، المسجد كان قديمًا بناه الرسول ﵊ من حين قدم المدينة مهاجرًا، والنبي ﷺ لم يقبر فيه، وإنما قبر في بيته في حجرة عائشة ﵂، ثم لما احتاج المسلمون إلى توسعة المسجد وسعوه، فدخلت فيه بيوت أزواج النبي ﷺ، وكان من جملتها بيت عائشة، لكنه بيت مستقل، لم ينو المسلمون حين وسعوا المسجد أن يكون من المسجد، فهو حجرة في مسجد، قائمة قبل بناء المسجد-أعني: الزيادة في المسجد-ثم إنه زيد فيه أن طوق بثلاثة جدران، فهو بناء مستقل سابق على هذه الزيادة، وحين زادوها كانوا يعتقدون أن هذا بناء منفصل عن المسجد متميز بجدرانه، فليس مثل الذي يؤتى بالميت ويدفن في جانب المسجد، أو يبنى المسجد على القبر، وحينئذٍ لا حجة فيه لأصحاب المساجد التي بنيت على القبور أو التي قبر فيها الأموات إطلاقًا، وما الاحتجاج بهذا إلا شبهة يلقيها أهل الأهواء على البسطاء من الناس؛ ليتخذوا منها وسيلة إلى تبرير مواقفهم في المساجد المبنية على قبورهم، وما أكثر الأمور المتشابهات-بل التي يجعلها ملبسوها متشابهات-من أجل أن يضلوا بها عباد الله، هاتان مسألتان مهمتان في الجواب على هذا السؤال. أما المسألة الثالثة، وهي: أنها لا تعلم أن النذور التي نذرت قد وفت بها جميعا، فلا يجب عليها إلا ما علمته؛ لأن الأصل براءة الذمة، فما علمته من النذور وجب عليها الوفاء به، وما لم تعلمه فإنه لا يجب عليها؛ لأن الأصل براءة الذمة إلا بيقين. ولكنني أكرر النهي عن النذر، سواء كان نذرًا مطلقًا أو معلقًا بشرط، أكرر ذلك لأن النبي ﷺ نهى عن النذر وقال: (إنه لا يأتي بخير) . هكذا كلام الرسول ﵊: لا يأتي بخير، لا يرد قضاءً، ولا يرفع بلاءً، وإنما يكلف الإنسان، ويلزمه ما ليس بلازم له، وما هو بعافية منه، سواء كان هذا النذر معلقًا بشرط، مثل أن يقول: إن شفى الله مريضي فلله علي كذا وكذا، أو غير معلق مثل أن يقول: لله علي نذر أن أصوم من كل شهر عشرة أيام مثلًا، فالبعد البعد عن النذر، نسأل الله السلامة. ***
هذه سائلة من الدمام تقول: فضيلة الشيخ كيف يكون المؤمن بين الرجاء والخوف؟ وإذا كان عند الإنسان خوف كثير، وأنا أعلم بأن فضل الله ﷿ على عباده كبير، وأن رحمته سبقت غضبه، فأنا دائمًا خائفة جدًّا لتقصيري، وأسأل الله ﷿ أن يمن علينا وعليكم بعفوه وفضله، وجهونا في ضوء هذا السؤال؟ فأجاب رحمه الله تعالى: المؤمن يجب أن يسير إلى الله ﵎ بين الخوف والرجاء كجناحي طائر، قال الإمام أحمد ﵀: ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحدًا، فأيهما غلب هلك صاحبه. فالإنسان إذا رأى ذنوبه وما حصل منه من التقصير في حقوق الله ﷿ وحقوق العباد خاف، وإذا تأمل فضل الله تعالى وسعة رحمته وعفوه طمع ورجع، وعليه فينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحدًا؛ لأنه إن غلب عليه الرجاء يخشى عليه من الأمن من مكر الله، وإن غلب عليه الخوف خشي عليه أن يقنط من رحمة الله، وكلاهما محظور، وقد قال الله تعالى عن أوليائه وأنبيائه: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) . ومن العلماء من قال: إن فعل الطاعات فليغلب جانب الرجاء والقبول، وأن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملًا؛ وإن فعل المحرمات غلب الخوف، وخاف أن تناله سيئاته بعقوبات حاضرة ومستقبلة. وقال آخرون من أهل العلم: ينبغي في حال الصحة أن يغلب جانب الخوف؛ ليحمله ذلك على فعل الواجبات وترك المحرمات، وفي حال المرض المدنف الذي يخشى أن يلاقي ربه به يغلب جانب الرجاء، من أجل أن يموت وهو يحسن الظن بالله ﷿. وعلى كل حال يجب على الإنسان أن لا يستولي عليه الخوف حتى يقنط من رحمة الله، أو الرجاء حتى يأمن من مكر الله، وليكن سائرًا إلى ربه بين هذا وهذا. ***
السائلة ن ع غ تقول: اشرحوا لنا حسن الظن بالله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: حسن الظن بالله أن الإنسان إذا عمل عملًا صالحًا يحسن الظن بربه أنه سيقبل منه، إذا دعا الله ﷿ يحسن الظن بالله أنه سيقبل منه دعاءه ويستجيب له إذا أذنب ذنبًا ثم تاب إلى الله ورجع من ذلك الذنب يحسن الظن بالله أنه سيقبل توبته، إذا أجرى الله تعالى في الكون مصائب يحسن الظن بالله، وأنه جل وعلا إنما أحدث هذه المصائب لحكم عظيمة بالغة، يحسن الظن بالله في كل ما يقدره الله ﷿ في هذا الكون، وفي كل ما شرعه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأنه خير ومصلحة للخلق، وإن كان بعض الناس لا يدرك هذه المصلحة، ولا يدرك تلك الحكمة مما شرع، ولكن علينا جميعًا التسليم بقضاء الله تعالى شرعًا وقدرًا، وأن نحسن به الظن؛ لأنه ﷾ أهل الثناء والمجد. ***
بارك الله فيكم هذا السائل من جمهورية مصر العربية يقول: ما حقيقة التوكل على الله؟ أرجو بهذا إفادة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: حقيقة التوكل على الله ﷿ تفويض أمرك إلى الله، كما قال الله تعالى عن مؤمن آل فرعون: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) . أن يفوض الإنسان أمره إلى الله، ويصدق في الاعتماد عليه في جلب المنافع ودفع المضار، ويثق في الله ﷿ وبوعده، ويفعل الأسباب الشرعية والحسية التي أمر الله بها، هذا هو التوكل. وأنت إذا اعتمدت على ربك على هذا الوصف فإن الله تعالى حسبك وكافيك؛ لقول الله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) . ونحن نقر بذلك-أي: بالتوكل على الله، أو بما يتضمنه- في كل صلاة، نحن نقول في كل صلاة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) . والاستعانة تستلزم تفويض الأمر إلى الله ﷿، وأنه ليس لنا حول ولا قوة ولا قدرة على العبادة إلا بمعونة الله، ولكن لا بد من فعل الأسباب الموصلة إلى المقصود، شرعيةً كانت أم حسية. فمن قال: أنا أعتمد على الله وأتوكل عليه في حصول الولد، ولم يتزوج كان كاذبًا في توكله، لا بد أن يتزوج، والزواج هو الوسيلة الشرعية لحصول الولد. ومن قال: أنا أعتمد على الله، وألقى نفسه في النار، أو ألقى نفسه في اليم وهو لا يعرف السباحة، نقول: أنت كاذب، لا بد أن تفعل الأسباب الواقية من النار أو من الغرق. ولهذا كان سيد المتوكلين محمدٌ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كان يأخذ بالأسباب الحسية مع صدق توكله على الله، فكان ﵊ في الحرب يلبس الدرع، والدرع عبارة عن درع من حديد يقي السهام والحراب، وربما لبس درعين زيادةً في الوقاية، كما فعل ذلك يوم أحد. فلا بد من فعل الأسباب النافعة، شرعية كانت أم قدرية حسية، من أجل أن يحصل لك المقصود في اعتمادك على الله ﷿. ***
كيف يكون الإنسان متوكلًا على الله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يكون الإنسان متوكلًا على الله بأن يصدق الاعتماد على ربه ﷿، حيث يعلم أنه ﷾ هو الذي بيده الخير، وهو الذي يدبر الأمور، ولقد قال النبي ﷺ لعبد الله بن عباس: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) . فبهذه العقيدة يكون الإنسان معتمدًا على ربه جل وعلا، لا يلتفت إلى من سواه. ولكن حقيقة التوكل لا تنافي فعل الأسباب التي جعلها الله تعالى سببًا، بل إن فعل الأسباب التي جعلها الله تعالى سببًا، هو من تمام التوكل، سواء كانت شرعية أم حسية ومن تمام الإيمان بحكمة الله ﷿؛ لأن الله تعالى قد جعل لكل شيء سببًا. وهذا النبي ﷺ وهو سيد المتوكلين- كان يلبس الدروع في الحرب، ويتوقى البرد، ويأكل ويشرب لإبقاء حياته ونمو جسمه، وفي أحد ظاهر بين درعين- أي: لبس درعين- فهؤلاء الذين يزعمون أن حقيقة التوكل بترك الأسباب والاعتماد على الله ﷿ هم في الواقع مخطئون، فإن الذي أمر بالتوكل عليه له الحكمة البالغة في تقديره وفي شرعه، قد جعل للأمور سببًا تحصل به، ولهذا لو قال قائل: أنا سأتوكل على الله تعالى في حصول الرزق، وسأبقى في بيتي لا أبحث عن الرزق. قلنا إن هذا ليس بصحيح، وليس توكلًا حقيقيًّا، فإن الذي أمرك بالتوكل عليه هو الذي قال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) . ولو قال قائل: أنا سأتوكل في حصول الولد أو في حصول الزوجة، ولم يشرع في طلب الزوجة وخطبتها، لعده الناس سفيهًا، ولكان فعله هذا منافيًا لما تقتضيه حكمة الله ﷿. ولو أن أحدًا أكل السم وقال: إني أتوكل على الله تعالى في أن لا يضرني هذا السم، لكان هذا غير متوكل حقيقة؛ لأن الذي أمرنا بالتوكل عليه ﷾ هو الذي قال لنا: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) . والمهم أن فعل الأسباب التي جعلها الله تعالى أسبابًا لا ينافي كمال التوكل، بل هو من كماله، وأن التعرض للمهلكات لا يعد هذا من توكل الإنسان على الله، بل هو خلاف ما أمر الله ﷿ به. ***
هذا سؤال بعث به كل من الأخ سليمان ومحمد من حضرموت قال أهل العلم: إن الدعاء ينقسم إلى قسمين: دعاء عبادة ودعاء مسألة، ماذا يقصد بكل منهما؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يريد العلماء ﵏ بتقسيم الدعاء إلى قسمين: دعاء مسألة ودعاء عبادة، ما ذكره الله تعالى في قوله: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) . فدعاء المسألة: أن تسأل الله تعالى حاجاتك، بأن تقول: رب اغفر لي وارحمني وارزقني وعافني واجبرني وما أشبه ذلك. ودعاء العبادة: أن تتعبد لله ﵎ بما شرع، تصلى وتزكي وتصوم وتحج وتفعل الخير؛ لأن هذا الذي يتعبد لله ما قصد إلا رضوان الله وثوابه، فهو داع لله تعالى بلسان الحال له لا بلسان المقال. على أن بعض هذه العبادات التي يتعبد بها تتضمن دعاء المسألة، كالصلاة مثلًا، ففي الصلاة يقول المصلى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) وهذا دعاء مسألة. ويقول: رب اغفر لي وهذا دعاء مسألة، ويقول: السلام عليك أيها النبي، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، اللهم صل على محمد، اللهم بارك على محمد، أعوذ بالله من عذاب جهنم، وهذا كله دعاء مسألة. فالفرق بينهما إذًا: أن دعاء المسألة أن يسأل الله تعالى شيئًا مباشرة، سواء سأله حصول مطلوب أو سأله النجاة من مرهوب. ودعاء العبادة أن يتعبد لله تعالى بما شرع، رجاء ثوابه جل وعلا، وخوفًا من عقابه، هذا هو معنى تقسيم أهل العلم ﵏. وقد علمنا أن الدعاء نفسه عبادة، كما تدل عليه الآية التي تلوتها، وهي قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) ولم يقل: عن دعائي، وهذا يدل على أن الدعاء عبادة. وقال الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) . ودعاء الله تعالى بأسمائه الحسنى يتضمن سؤاله بها، مثل: يا غفور اغفر لي، يا رحيم ارحمني، ويتضمن التعبد لله تعالى بمقتضاه: فإذا علمنا أنه غفور عملنا ما يكون سببًا للمغفرة، علمنا أنه رحيم عملنا ما يكون سببًا للرحمة، وإذا علمنا أنه رزاق عملنا ما يكون سببًا للرزق، وهلم جرًّا. ***
هل من دعوة الأمة إلى سؤال الله ﷿ والتعلق به دون التعلق بغيره؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم وسنقول لإخواننا: إن الذي يجب أن يوجه إليه الدعاء وأن توجه إليه الاستعاذة هو الله ﷿، وهو المعين، وهو المجيب، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، قال الله ﵎: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) وفي قراءة: (سَيَقُولُونَ اللهُ) . وقال تبارك تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) . وقال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) . وقال الله تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (٥) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) . فالدعاء لله وحده، والاستعاذة بالله وحده، والملك لله وحده، فهو أهل الدعاء، وأهل الاستعاذة، وهو أهل الفضل والإحسان. ***
يقول: مجموعة من الناس طلبوا مني أن أشتري لهم من الأماكن المقدسة حاجات، مثل سجادة وكفن وحناء ومصحف؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما السجادات: فإن كانوا أوصوك بها لأن السجادات تتوفر في ذلك المكان أكثر من غيره، وقد تكون أرخص، فلا حرج؛ وأما إذا كان الاعتقاد أن السجادات التي تُشترى من هناك لها مزية على غيرها في الفضل، فليس بصحيح، ولا تشترِيها لهم بناءً على هذا الاعتقاد. وأما الكفن أيضًا: فإنه ليس بمشروع أن يشتري الإنسان كفنه من تلك المواضع، ولا أن يغسله بماء زمزم؛ لأن ذلك ليس واردًا عن النبي ﵊ ولا عن أصحابه، وإنما يتبرك بالكفن فيما ورد به النص، وهو ما ثبت به الحديث عن النبي ﷺ أنه أهديت إليه جبة، فسأله إياها رجل من الصحابة، فلاذ الناس به وقالوا: كيف تسأل النبي ﷺ ذلك، وقد علمت أنه لا يرد سائلًا؟ فقال: إني أريد أن تكون كفني، فصارت كفنه، وكذلك أيضًا طلب عبد الله بن عبد الله بن أبي من النبي ﷺ أن يكفن أباه عبد الله بن أبي بقميص الرسول ﵊ ففعل، فهذه الأكفان التي كانت من لباس الرسول ﵊ لا بأس أن يتبرك بها الإنسان، وأما كونها من مكة أو من المدينة فهذا لا أصل للتبرك به. ***
بعض المشايخ يعالجون المرضى بالآيات القرآنية، ما مدى صحة هذا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لاشك أن الله تعالى جعل هذا القرآن شفاءً لما في الصدور، وشفاء لما في الأجسام أيضًا: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) . (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) . وقد قال الرسول ﵊ كما في حديث أبي سعيد: أنهم قرؤوا على لديغ سورة الفاتحة، قرؤوها عليه سبع مرات، فقام كأنما نشط من عقال، فقال النبي ﵊ لما رجعوا إليه وأخبروه، قال-: (ما يدريك أنها رقية)؟ فأثبت النبي ﵊ أن الفاتحة رقية؛ لأنه يرقي بها المريض، أي يقرأ عليه. فالقرآن كله خير وكله بركة، ولا شك أنه مؤثر، ولكن يجب أن نعرف كما يقال: السيف بضاربه، لا بد لتأثير القرآن من ثلاثة أمور: أولًا: إيمان القارىء بتأثيره، وثانيًا: إيمان المقروء عليه بتأثيره، وثالثًا: أن يكون ما قرأ به مما تشهد الأدلة له بالتأثير. فإذا كان كذلك فإنه مؤثر بإذن الله، أما إذا نقص واحد من هذه الأمور الثلاثة، مثل: أن يقرأ على سبيل التجربة، يقول: أجرب أشوف ينفع أم لا؟ فإن ذلك لا ينفع؛ لأن الواجب على المؤمن أن يؤمن بتأثيره، وكذلك أيضًا لو كان المريض عنده شك في ذلك، وليس عنده إيمان بتأثير القرآن، فإن ذلك لا ينفعه أيضًا؛ لأن المحل غير قابل حينئذ، وكذلك أيضًا لو قرأ آيات لم تشهد الأدلة لها بالتأثير، فهذا أيضًا قد لا يؤثر، وليس معنى ذلك أنه نقص في القرآن الكريم، ولكنه خطأ في استعمال أو قراءة ما تبقى قراءته من الآيات أو السور. ***
بارك الله فيكم من السودان سائل يقول أسأل عن الرقية الشرعية وغير الشرعية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الرقية الشرعية ما جاءت به السنة مثل (اللهم رب الناس اذهب البأس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقمًا) وغير الشرعية هي البدعية أو الشركية فما كان بدعة أو شركًا فإن الرقية به محرمة ولا تزيد الإنسان إلا ضررا ومرضًا وإن قدر أنه شفي بها فهو لم يشفَ بها في الواقع وإنما كان الشفاء عندها لا بها امتحانًا من الله ﷾ لهذا الرجل الذي رقى بالشرك أو بالبدع وأما الأدعية المباحة التي ليست ببدعة فالرقية بها جائزة فتبين بهذا أن الرقى أربعة أقسام ما جاءت به السنة فالرقية به مشروعة مستحبة وما كان شركًا أو كان بدعة فالرقية به محرمة وما كان دعاءً مباحًا لا شرك فيه ولا بدعة لكنه ليس مما ورد عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فالرقية به جائزة ولهذا قال النبي ﵊ في الرقى (لابأس بها ما لم تكن شركًا) . ***
ماحكم القراءة في الماء ثم الوضوء بهذا الماء؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا بأس أن يقرأ في الماء ويتوضأ به المريض ليستشفي به وهذا وإن كنت لا أعلم أنه واردٌ عن السلف لكن قد يقول قائل إنه يدخل في عموم الآية الكريمة (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) وخيرٌ من ذلك أن يقرأ المريض على نفسه بآيات من القرآن أو يقرأ عليه أحدٌ من أهله أو من أصحابه بما يراه مناسبًا. ***
المستمع الذي رمز لاسمه بـ: ي وس م سوريا درعاء الحائرة يقول في رسالته فضيلة الشيخ هل يجوز التداوي ببعض آيات القرآن الكريم؟ وإن كان كذلك فكيف تتم هذه المداواة؟ وما هي الطريقة؟ وهل التداوي بالقرآن لكافة أنواع الأمراض، أم لمرض معين؟ وإن كان كذلك فما هو؟ أرشدونا بارك الله فيكم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم يجوز التداوي بالقرآن العظيم؛ لأن الله ﷿ يقول: (وَنُنَزِّلُ مِن الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) . وكان النبي ﷺ يقرأ المعوذتين يتعوذ بهما، وقال: (ما تعوذ متعوذ بمثلهما) . فيقرأ على المريض الآيات المناسبة لمرضه، مثل أن يقرأ لتسكين المرض والألم: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) . ويقرأ: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)، أو نحو ذلك من الآيات المناسبة. وكذلك يقرأ الفاتحة، فإن النبي ﷺ ذكر أنها رقية يرقى بها المريض واللديغ، وينتفع بها بإذن الله، لكن يجب أن نعلم أن القرآن نفسه شفاء ودواء، ولكنه بحسب القارىء وبحسب المقروء عليه؛ لأنه لا بد من أهلية الفاعل وقابلية المحل، وإلا لم تتم المسألة: فالفاعل لا بد أن يكون أهلًا للفعل، والمحل لابد أن يكون قابلًا له، فلو أن أحدًا من الناس قرأ بالقرآن وهو غافل أو شاك في منفعته فإن المريض لا ينتفع بذلك، وكذلك لو قرأ القرآن على المريض والمريض شاك في منفعته فإنه لا ينتفع به، فلا بد من الإيمان من القارىء والمقروء عليه بأن ذلك نافع، فإذا فعل هذا مع الإيمان من كلٍ من القارىء والمقروء عليه انتفع به. ***
بارك الله فيكم ما هي الأدعية التي تقال في الرقية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الأدعية التي تقال في الرقية أهمها وأعظمها قراءة سورة الفاتحة، فإن قراءة سورة الفاتحة على المريض من أسباب شفائه، كما قال النبي ﷺ: (وما يدريك أنها رقية)؟ ومن ذلك ما جاءت به السنة، مثل قوله: (باسم الله أرقيك، من كل داء يؤذيك، من شر كل عين حاسد الله يشفيك) . ومثل قوله: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض، أنت رب الطيبين، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجَع أو على هذا الوجِع) . ومثل قوله: (اللهم رب الناس، أذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا) . والأحاديث في هذا معروفة، يمكن للسائل أن يرجع إليها في كتاب الوابل الصيب من الكلم الطيب لابن القيم، أو في كتاب الأذكار للنووي، أو غيرهما مما كتبه أهل العلم في هذا الباب. ***
بينما كنت جالسًا في مصلى المسجد أقرأ القرآن دخلت علي امرأة ومعها فتاة بالغة، وطلبت مني أن أقرأ على الفتاة آيات من القرآن؛ لأنها كانت تعاني من حالة نفسية، فقرأت قدر خمسين آية من سورة البقرة، وبعد أن انتهيت من القراءة قمت بمسح رأس ووجه الفتاة، وطلبت منها أن تنظر في المصحف. فهل أنا آثم على ما فعلت؟ علمًا بأني ما أردت من ذلك إلا الخير والثواب وقصد الشفاء إن شاء الله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما قراءتك على الفتاة فإن هذا لا بأس به، ولكن في هذه الحال يجب أن تكون ساترة لما يجب ستره من الوجه وغيره، وأما مسحك رأسها ووجهها بعد قراءتك فلا أرى له وجهًا، ولا ينبغي ذلك منك، بل يحرم عليك أن تمس بشرة امرأة أجنبية منك، ليست زوجة وليس بينك وبينها محرمية، فعليك أن تتوب إلى الله من هذا الأمر، وأن لا تعود إليه. أما القراءة على النساء والرجال مع مراعاة التحفظ الواجب فإن هذا لا بأس به، وهو من الإحسان، بشرط أن لا يكون هناك فتنة. ***
المستمع يحيى أبو خالد يقول: ما صحة هذا الحديث المروي عن الرسول ﷺ أنه (إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما فقرأ: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الناس، وقل أعوذ برب الفلق، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده) ويفعل ذلك ثلاث مرات، وما كيفية النفث؟ أرجو الإفادة والتوضيح بارك الله فيكم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الحديث صحيح أنه كان ﵊ إذا أوى إلى فراشه فعل ما ذكره السائل، لكن السائل بدأ بقل أعوذ برب الناس قبل قل أعوذ برب الفلق، والترتيب الصحيح أن نقول: قل أعوذ برب الفلق قبل قل أعوذ برب الناس، نفث: نفخ مع ريق خفيف، والحكمة من ذلك أن هذا الريق تأثر بقراءة هذه السورالكريمة، فإذا كان متأثرًا به ومسحه على وجهه ورأسه وبسط عن جسده كان في ذلك خيرٌ وبركة وحماية ووقاية للإنسان في منامه. ***
السائلة مريم تقول: فضيلة الشيخ هل هناك آيات واردة تقرأ بغرض تسهيل الولادة بالنسبة للمرأة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا أعلم في ذلك شيئًا عن السنة، لكن إذا قرأ الإنسان على الحامل التي أخذها الطلق ما يدل على التيسير، مثل: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) . ويتحدث عن الحمل والوضع، كقوله تعالى: (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِه) . ومثل قوله تعالى: (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا (١) وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا) . فإن هذا نافع ومجرب بإذن الله، والقرآن كله شفاء، إذا كان القارىء والمقروء عليه مؤمنَين بأثره وتأثيره فإنه لابد أن يكون له أثر، فإن الله ﷾ يقول: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا) . وهذه الآية عامة: شفاء ورحمة يشمل شفاء القلوب من أمراض الشبهات وأمراض الشهوات، وشفاء الأجسام من الأمراض المستصعبات. ***
بارك الله فيكم المستمع أبو عبد الله يقول: طلبت مني زوجتي أن أذهب بها إلى أحد الأشخاص الذين يرقون المرضى، إلا أني لم أتشجع لذلك مع علمي بجواز الرقية بشروطها، والسبب في ذلك هو أن كثيرًا من هؤلاء الذين يقرؤون جعلوا من عملهم وسيلة للتكسب، فينظرون ماذا يدفع لهم، وقد يطلبون مبلغًا معينا، ً فهل عملي في محله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أقول إن تأثير الإنسان في قراءته على حسب إخلاصه ونيته، والذي ينبغي للقراء الذين ينفع الله بهم أن يخلصوا النية لله ﷿، وأن ينووا بذلك- أي: بقراءتهم على المرضى- التقرب إلى الله، والإحسان إلى عباد الله، حتى ينفع الله بهم، ويجعل في قراءتهم خيرًا وبركة. ***
هذه رسالة وصلت من السائل أحمد بن صالح الطليان يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما حكم التفرغ للقراءة واتخاذها حرفة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. التفرغ للقراءة على المرضى من الخير والإحسان، إذا قصد الإنسان بذلك وجه الله ﷿، ونفع عباد الله، وتوجيههم إلى الرقى الشرعية التي جاءت في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وأما اتخاذ ذلك لجمع الأموال فإن هذه النية تنزع البركة من القراءة، وتوجب أن يكون القارىء عبدًا للدنيا: إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط. لذلك أنصح إخواني الذين يتفرغون للقراءة على المرضى أن يخلصوا النية لله ﷿، وألا يكون همهم المال، بل إن أعطوا أخذوا، وإن لم يعطوا لم يطلبوا، وبذلك تحصل البركة في قراءتهم على إخوانهم، هذا ما أقوله لإخواني القراء. ***
هل تجوز القراءة في الماء والنفث فيه؟ الشيخ: القراءة على المريض فعلها السلف ﵏، ولعل لها أصلًا من كون الرسول ﵊ عند النوم ينفث في يديه ويقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ثلاث مرات. ***
كيف يفعل الإنسان بالماء المقروء فيه بالقرآن إذا أراد أن يغتسل به؟ فأجاب رحمه الله تعالى: المعروف أن قراءة القرآن في الماء إنما يشربها المريض ولا يغتسل بها، وإذا كان المرض في الجلد- يعني: لا في داخل الجسم- فإنه يؤخذ من هذا الماء ويدهن به الجلد، يؤخذ بقطنة أو بمنديل ويدهن به الجلد المصاب، هذا المعروف، أما أن يغتسل به الإنسان غسلًا كاملًا فلا أصل له. ***
هل يجوز أن أستعمل الماء أو الزيت المقروء فيه أثناء العذر الشهري؟ وهل تجوز القراءة على الكريمات مثل الفازلين وغيره؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يجوز للمرأة الحائض أن تستعمل ما قرىء به من زيت أو ماء أو تمر أو خبز أو غيره، وتجوز القراءة في الأدهان جميعها، وفي الأطعمة التي يأكلها المريض، وفي الأشربة التي يشربها؛ لأن الله تعالى قال: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) . فإذا استعمل القرآن على وجه ظهرت فيه الفائدة والمصلحة وليس فيه إهانة للقرآن الكريم فلا بأس، وقولنا: ليس فيه إهانة للقرآن الكريم، احترازٌ من ما يوجد في بعض الأواني: يكتب في بعض الأواني آية الكرسي أو غيرها من القرآن، منقورًا نقرًا لا يزول بالغسل، وهذا لا شك أنه إهانة للقرآن، وأنه لا يجوز؛ لأن هذا الإناء مبتذل، وربما يلقى في الأرض، وربما يداس بالقدم خطأً أو عمدًا نسأل الله العافية، فلذلك لا يحل للإنسان أن يكتب شيئًا من القرآن على وجه محفور يبقى في الإناء؛ لما في ذلك من امتهان القرآن الكريم. ***
بارك الله فيكم ما حكم القراءة في الماء ثم يقوم الإنسان بشربه أو إعطائه للمريض ليشربه؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا ورد عن السلف الصالح ﵏ أنهم يقرؤون القرآن ويلفظون بريقهم ليشربه المريض، وقد جرب هذا ونفع، لكن إذا علم القارىء أن في فمه داء يمكن أن تنتقل الجراثيم بواسطة الريق إلى هذا الماء فيصاب به المريض فإنه لا يجوز له ذلك، خوفًا من وقوع الضرر على المريض، وفي هذه الحال يمكن أن يذهب الرجل بنفسه إلى المريض فيقرأ عليه. ***
هل ورد في سنة النبي الكريم ﷺ قراءة القرآن للمريض في الماء ثم شربه؟ أو قراءة القرآن في الزيت ثم الادهان به؟ أو قراءة القرآن في كأس مكتوبٍ فيه آية الكرسي ووضع ماء فيه ثم شرب الماء؟ لأن كثيرًا من الناس يفعلون ذلك، هل هذا جائز يا فضيلة الشيخ أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: قال الله ﷿: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) . وهذا الشفاء الذي أنزله الله ﷿ في هذا القرآن الكريم يشمل شفاء القلوب من أمراضها، وشفاء الأبدان من أمراضها أيضًا. ولهذا لما أخبر النبي ﷺ أبو سعيد أو غيره ممن معه في السرية التي بعثها رسول الله ﷺ، فاستضافوا قومًا من العرب فلم يضيفوهم، ثم إن سيد هؤلاء القوم لدغ، فطلبوا له قارئًا يقرأ من السرية التي بعثها رسول الله ﷺ، فجاؤوا إليهم وقالوا: هل منكم من راق؟ يعني: من قارئ قالوا: نعم ولكنكم لم تضيفونا، فلا نرقي لكم إلا بِجُعل. فجعلوا لهم شيئًا من الغنم، ثم ذهب قارئٌ منهم يقرأ على هذا اللديغ، فقرأ عليه بفاتحة الكتاب، فقام كأنما نشط من عقال، يعني: قام بسرعة طيبًا بريئًا، ثم أعطوهم الجُعل، ولكنهم توقفوا حتى يسألوا رسول الله ﷺ، فلما سألوا رسول الله ﷺ عن هذا قال: (خذوا، واضربوا لي معكم بسهم) . وقال للقارىء (وما يدريك أنها رقية)؟ يعني ما يعلمك أنها- أي: الفاتحة- رقية؟ وهكذا بعض الآيات الأخرى التي يسترقي بها الناس التي يقرأ بها الناس، على المرضى، كثير فيه فائدةٌ مجربة معروفة، فإذا قرأ القارىء على المريض بفاتحة الكتاب وبغيرها من الآيات المناسبة فإن هذا لا بأس به ولا حرج، وهو من الأمور المشروعة. وأما كتابة القرآن بالأوراق ثم توضع في الماء ويشرب الماء، أو على إناء ثم يوضع فيه الماء ويرج فيه ثم يشرب، أو النفث في الماء بالقرآن ثم يشرب، فهذا لا أعلم فيه سنة عن رسول الله ﷺ، ولكنه كان من عمل السلف، وهو أمرٌ مجرب، وحينئذٍ نقول: لا بأس به- أي: لا بأس أن يصنع هذا للمرضى لينتفعوا به- ولكن الذي يقرأ في الماء بالنفث أو التفل ينبغي له أن لا يفعل ذلك إذا كان يعلم أن به مرضًا يخشى منه على هذا المريض الذي قرىء له. ***
هل يمكن علاج الأمراض بالرقية؟ وهل هناك أحاديث واردة عن الرسول ﷺ في ذلك؟ وهل كتابة آية الكرسي وسورة يس أو الفاتحة في ورقة، ثم نقوم بوضعها في ماء ونشرب ذلك الماء، هل هذا من السنة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم الأمراض قد تشفى بقراءة القرآن، وهذا أمرٌ واقع شهدت به السنة، وجرت عليه التجارب، فإن النبي ﷺ بعث رهطًا في سرية، فنزلوا على قوم، ولكن القوم الذين نزلوا عليهم لم يضيفوهم، فقعدوا ناحية، ثم إن الله ﷾ سلط على سيدهم حيةً فلدغته، فجاؤوا إلى هؤلاء الرهط وقالوا: هل معكم من يرقي؟ قالوا: نعم. تقدم إليه رجل فقرأ عليه الفاتحة، فقام كأنما نشط من عقال، فلما وصلوا إلى رسول الله ﷺ وأخبروه قال له ﵊: (وما يدريك أنها رقية)؟ وقد قال الله ﷿: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا) . وأما ما ذكره السائل من كتابة بعض الآيات التي فيها الاستعاذة والاستجارة بالله ﷿، بأن توضع في ماء ويشرب، فهذا أيضًا قد جاء عن السلف الصالح، وهو مجربٌ ونافع. لكن ورد في سؤاله ذكر سورة يس، وهذا لا أعلم أن يس مما يرقى به، لكن يرقى بالفاتحة، بآية الكرسي، بالآيتين الأخيرتين في سورة البقرة، بقل هو الله أحد، بقل أعوذ برب الفلق، قل أعوذ برب الناس. ***
أسأل عن المحاية التي تكتب على اللوح من القرآن وتشرب من أجل الشفاء، أفيدوني في هذا السؤال جزاكم الله خيرًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: كان بعض السلف يكتب بالزعفران في الإناء أو نحوه، ثم يخض بالماء ويشربه المريض، ويحصل به الشفاء إن شاء الله، وهذا يدخل في عموم قول الله تبارك تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) . فإن قوله تعالى: (مَا هُوَ شِفَاءٌ) يعم الشفاء القلبي والبدني، أي: يعم الشفاء من الأمراض القلبية كالشك والشرك والعداوة للمؤمنين والبغضاء لهم وما أشبه ذلك، وكذلك من الأمراض الجسدية كالصداع والألم وما أشبه ذلك، فالقرآن كله خير، كله شفاء، فإذا استشفى به الإنسان على وجهٍ من الوجوه وانتفع به فهذا محل الغرض ***
هذه رسالة وصلتنا من حسين إسماعيل يعقوب من السودان يقول في رسالته: عندنا في السودان بعض من الناس يعرفون بالمشايخ، يكتبون المحايا للناس: إذا مرض الشخص أو أصابه سحر أو غير ذلك من الأمور الخرافية، ما حكم من يتعامل معهم وما حكم عملهم هذا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الجواب على ذلك هو أن الرقية على المريض المصاب بسحر أو بغيره من مرض لا بأس بها إذا كانت من القرآن أو من الأدعية المباحة، فقد ثبت أن النبي ﷺ كان يرقي أصحابه، ومن جملة ما يرقيهم به: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، أنت رب الطيبين، كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ) . ومن الأدعية المشروعة: (باسم الله أرقيك، من كل داء يؤذيك، من شر كل عين أو حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك) . ومنها: (أن يضع الإنسان يده على الألم الذي يؤلمه من بدنه فيقول: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) . إلى غير ذلك مما ذكره أهل العلم من الأحاديث الواردة عن النبي ﷺ. وأما كتابة الآيات أو الأذكار وتعليقها، فقد اختلف أهل العلم في ذلك، فمنهم من أجازه ومنهم من منعه، والأقرب المنع من ذلك؛ لأن هذا لم يرد عن النبي ﷺ، وإنما الوارد أن يقرأ على المريض، أما أن تعلق الآيات أو الأدعية على المريض في عنقه أو في يده، أو تحت وسادته وما أشبه ذلك، فإن ذلك من الأمور الممنوعة على القول الراجح؛ لعدم ورودها، وكل إنسان يجعل شيئًا من الأمور سببًا لأمر آخر بغير إذن من الشرع فإن عمله هذا يعد نوعًا من الشرك؛ لأنه إثبات سبب لم يجعله الله سببًا، هذا بقطع النظر عن حال هؤلاء المشايخ، فلا ندري لعل هؤلاء المشايخ من المشعوذين الذين يكتبون أشياء منكرة وأشياء محرمة، فإن ذلك لا شك في تحريمه، ولهذا قال أهل العلم: لا بأس بالرقى بشرط أن تكون معلومة مفهومة خالية من الشرك. ***
من السودان ومن مدينة أبو زيد وردتنا هذه الرسالة من مختار التجاني مهدي يقول في سؤاله: ما هو رأي الدين في كتابة آيات من القرآن في لوح من الخشب، ومحو هذه الآيات وتقديمها إلى المريض؟ وهل كان الرسول ﷺ يعمل ذلك أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا نحفظ عن النبي ﷺ أنه عمل مثل هذا، ولكن بعض السلف كانوا يفعلون ذلك، فإذا فعله الإنسان فلا حرج عليه، ولكن الأفضل من هذا والأولى أن يقرأ هو بنفسه على المريض ما وردت السنة به من الآيات والأحاديث، ومن ذلك مثلًا قراءة الفاتحة على المريض، فإنها من أبلغ الأدوية، وقد قال النبي ﵊: (وما يدريك أنها رقية)؟ وكذلك القراءة على المريض بقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، وكذلك ما جاءت به الأحاديث مثل: (اللهم رب الناس، أذهب البأس، واشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا) . ومثل: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض، أنت رب الطيبين، واغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنزل رحمة من رحمتك وشفاءً من شفائك على هذا الوجع) فيبرأ. (باسم الله أرقيك، من كل داء يؤذيك، من شر كل نفس أوعين حاسد الله يشفيك) . وغير ذلك مما جاءت به السنة، فإذا قرأ الإنسان هذه على المريض فهو أولى من كتابة آيات من القرآن تجعل في ماء يستشفي بها المريض. ***
أحمد ن. ن من الرياض: يعمل بعض الناس عملًا وهو: أنهم يكتبون بالقلم الحبر أو السائل البعض من الآيات القرآنية أو البعض من الأحاديث أو الأدعية على ورقة، ثم يضعونها بداخل كأس في إناء، ويعطون هذا الماء لأي شخص مريض أو تعبان لكي يشربه، الرجاء منكم توضيح هذا العمل هل هو جائز أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أولًا: يجب أن نعرف أن تلك الكتابة بهذا الحبر أو بالأقلام الناشفة على ورقة ثم توضع في إناء ويشربها المريض قد يكون في ذلك ضرر على المريض؛ لان تركيب هذا الحبر وهذه المادة الناشفة قد يكون فيه أشياء سامة تضر البدن، لكن العلماء ﵏ قالوا: إنه يكتب بالزعفران إما على ورقة ثم تلقى في الماء حتى يظهر أثر الزعفران على الماء، وإما في إناء نظيف يكتب فيه آيات من القرآن، ثم يصب فيه الماء ويمزج، ثم يشربه المريض، هذا الذي كان يفعله السلف الصالح، ولا بأس باستعماله، وقد جربه بعض الناس فانتفعوا به. وأما بالنسبة للأقلام وبالنسبة للحبر فلا ينبغي أبدًا أن يستعملها الإنسان في هذه المسألة؛ لأننا لا ندري ما هي مركبات هذا الحبر، سواء ناشفًا أو سائلًا. ***
هل تجوز الرقية بالنفث بالقرآن والأحاديث؟ حيث يرقي هذا الشخص الماء ثم يشربه المريض؟ فأجاب رحمه الله تعالى: فعل بعض السلف مثل هذا، أي إنه ينفث في الماء ثم يشربه المريض، وقد جرب ونفع، لكن كون القارىء يقرأ على المريض مباشرة أحسن وأفيد وأرجى للانتفاع، والمسلم إذا أتى إلى أخيه ورقاه فإنه على خير، قد يجعل الله الشفاء على يده فيكون محسنًا إلى هذا المريض إحسانًا بالغًا، ولكن ليعلم أن الراقي على المرضى لابد أن يعتقد أن هذه الرقية نافعة في حد ذاتها، بأنه لو قرأ وهو متشكك متردد فإنها لا تنفع، لابد أن يعتقد بأنها نافعة، ولابد للمرقي أن يعتقد أيضًا انتفاعه بها، فإن كان مترددًا شاكًّا فلا تنفعه؛ لأن كل سبب شرعي لابد أن يكون الفاعل له مؤمنًا بأنه سبب يؤدي إلى المقصود حتى ينفع الله به، وإنما أحث إخواني الذين نفع الله بقراءتهم على المرضى أن يبتعدوا عن الكلمات التي لا تعرف، والتي ليس فيها إلا أسجاع سمجة باردة، وأن يقتصروا على ما جاءت به السنة من الرقى، وأعظمه الرقية بالفاتحة، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال- في الذي رقى المريض بها فقام كأنما نشط من عقال، قال النبي ﷺ: (وما يدريك أنها رقية)؟ وهذا حث له ولغيره على أن يرقي بها المرضى. ***
ما الحكم في تعليق التمائم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: التمائم لا يخلو إما أن تكون من القرآن أو من غيره، فإن كانت من القرآن ففيها خلافٌ بين أهل العلم من السلف والخلف، فمن العلماء من يقول: إن تعليقها جائز ولا بأس به، وربما يستدل بقوله تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) ويجعل هذا من بركة القرآن أن الله تعالى يرفع به العين والشر ممن علقه. وقال بعض أهل العلم من السلف والخلف: إن تعليقه محرم، وذلك لأن مثل هذه الأمور لا يجوز إثباتها إلا بدليلٍ من الكتاب والسنة، وليس في الكتاب والسنة دليلٌ على أن تعليق القرآن يكون نافعًا لصاحبه، وإنما ينفع من يقرؤه، وقد قال الله تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْبَابِ) . فنيل البركة من القرآن إنما يكون على حسب ما جاءت به الشريعة، وهذا القول هو القول الراجح أنه لا يجوز أن تعلق التمائم من القرآن على الصدر، ولا أن تجعل تحت الوسادة وما أشبه ذلك، ومن أراد أن يستشفي بالقرآن فليستشفِ به على حسب ما جاءت به السنة وأما إذا كانت التمائم من غير القرآن من طلاسم لا يدرى ما معناه، أو كتابة كالنقوش لا تقرأ وما أشبهها فإنها محرمة، محرمة بلا شك، ولا يجوز للمرء أن يعلقها بأي وجهٍ من الوجوه؛ لأنها قد تكون أسماء شياطين، أو أسماء عفاريت من الجن أو ما أشبه ذلك، والشيء الذي لا تدري معناه لا يجوز لك أن تتناوله وتستعمله في مثل هذا الأمور. ***
حكم من يلبس الحجاب الذي يكتب فيه كلام الله،هل هذا حرام أم حلال؟ أفيدونا أفادكم الله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الحجاب يعني التميمة التي تعلق على الإنسان، أو يجعلها بعض الناس تحت الوسادة، أو يعلقها على الجدار، وقد اختلف العلماء ﵏ في تعليق التمائم إذا كانت من القرآن أو من الأذكار النبوية أو الأدعية المباحة، اختلفوا في هذا على قولين، فمنهم من منع ذلك؛ لعموم التحذير من التمائم، ومنهم من أجاز ذلك وأدخلها في عموم قوله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) . والاحتياط ألا يعلق هذا ولو كان من القرآن أو من الأدعية أو الأذكار الواردة. فأما إذا كانت التميمة لا يقرأ ما فيها فإن تعليقها حرام ولا يجوز، أو كان الذي فيها كتابة لا يعرف ما هي فإن تعليقها حرام ولا يجوز، أو كان ما فيها من أسماء الشياطين أو الجن أو ما أشبه ذلك فإن هذا حرام ولا يجوز. المهم أن التمائم تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما علم أنه من القرآن أو من الأذكار النبوية أو من الأدعية المباحة، فهذا محل خلاف بين العلماء، والاحتياط ألا يعلقها. والثاني: ما سوى ذلك، فتعليقه حرام على كل حال. ***
من مصر أأ يقول: في الحديث: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) . ما هي التولة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: التولة شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والزوج إلى امرأته، وقريب من ذلك ما يسمى عندنا بالدبلة، يقال: إن الزوج يكتب اسم امرأته في خاتمه، والزوجة تكتب اسم زوجها في خاتمها، ويدعون أنهما- أي: الزوجين- يحصل بفعلهما هذا الألفة بينهما، وأنه لو خلع هذه الدبلة أو خلعتها معناه الفراق. فإذا قال قائل: ما هي الوسيلة إلى أن يحب الرجل زوجته والمرأة زوجها؟ فنقول: الوسيلة إلى ذلك بينها الله بقوله: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) . عاشروهن بالمعروف، فإذا عاشر كل إنسان زوجته بالمعروف، وهي كذلك، حصلت المحبة والألفة والحياة الزوجية السعيدة. ***
ما حكم تعليق الأحجبة على أعضاء الجسد، وخاصة تلك الحجب التي بها آيات قرآنية أو أحاديث؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذه المسألة- أعني: تعليق الحجب أو التمائم- تنقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون المعلق من القرآن، والثاني: أن يكون من غير القرآن مما لا يعرف معناه. وأما الأول، وهو: تعليقها من القرآن، فقد اختلف في ذلك أهل العلم سلفًا وخلفًا، فمنهم من أجاز ذلك، ورأى أنه داخلٌ في قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ)، وأن من بركته أن يعلق ليدفع السوء. ومنهم من حرَّم فعل هذا وقال: إن تعليقها لم يثبت عن النبي ﵊ أنه سببٌ شرعيٌ يدفع به السوء أو يرفع به، والأصل في مثل هذه الأشياء التوقيف. وهذا هو القول الراجح، وأنه لا يجوز تعليق التمائم ولو من القرآن، ولا يجوز أن تجعل تحت وسادة المريض، أو تعلق في الجدران أو ما أشبه ذلك، وإنما يوضع المريض ويقرأ عليه مباشرةً، كما كان النبي ﵊ يفعل. وأما إذا كان المعلق من غير القرآن- وهو القسم الثاني مما لا يعرف معناه- فإنه لا يجوز بكل حال؛ لأنه لا يدرى ماذا يكتب، فإن بعض الناس يكتبون طلاسم وأشياء معقدة، حروفًا متداخلة ما تكاد تعرفها ولا تقرؤها، فهذا من البدع، وهو محرم لا يجوز بكل حال. ***
ماحكم وضع القرآن في السيارة حفظًا من العين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لايجوز هذا ولا ينفع؛ لأنه لم يرد عن النبي ﷺ ولا عن أصحابه أنه يتحصن بالقرآن على هذا الوجه، وما يتوهمه بعض الناس فهو لأنه تخيّل أنّ هذا نافع، فظن أنّ انتفاء الشر والعين عن سيارته بواسطة وضع المصحف فيها. ***
أحسن الله إليكم يا شيخ، امرأة كلما حملت تسقط، وذكر لها أحد الناس بعمل تمائم من القرآن وقد نفعت، وهي مترددة، فما الحكم في ذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: التمائم من القرآن- يعني: التي تعلق على العنق- اختلف فيها السلف والخلف، فمنهم من قال بجوازها، واستدل بعموم قوله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)، وقالوا: إن أي تجربة يكون فيها الشفاء وهي من القرآن الكريم فإنها داخلة في هذا العموم. ومنهم من قال: إن التمائم ممنوعة، سواء كانت من القرآن أو من غير القرآن، فهذا موضع خلاف بين أهل العلم ﵏. ***
السائلة من الأردن تقول: والدي يعلم بأن والدتي تستعمل أحجبة العرافين، لكنه لا يهتم بذلك بحجة أنه يقرأ المعوذات وآية الكرسي، وأنها لن تستطيع أن تؤثر عليه، علمًا بأن والدتي تستخدم هذه الأحجبة نظرًا للمشكلات بينها وبين أبي، فما الحكم في ذلك مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إذا كان الحجاب الذي يعلقه المريض من القرآن والأدعية المباحة فقد اختلف العلماء ﵏ في جواز تعليقه، فمنهم من منعه ومنهم من أجازه، أما إذا كان الحجاب قد كتب فيه ما لا يدرى عنه ولا عن معناه فإنه لا يجوز لبسه؛ لاحتمال أن يكون به أشياء شركية لا نعلم بها. ***
هذه رسالة وصلت من أحد الإخوة المستمعين من العراق رمز لاسمه بـ ن م ع يقول في رسالته: في بلدنا دارج وضع الحجاب، إما لغرض الحفظ من العين، أو للحماية من إطلاق الرصاص، أي: لا يصيب الشخص أيُّ أذى من إطلاق النار عليه بحمد الله ولبسه للحجاب، أو يوضع في غرض تهدئة الطفل الذي يبكي كثيرًا. ولكن رأيي- والله أعلم- هو أنه خرافة أو بدعة، وأستند على قوله تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ) . ولكن في بعض الأحيان بعض الناس يقولون: إن الحجاب الذي يحتوي على بعض آيات من القرآن أو أدعية من أدعية الرسول الكريم ﷺ عبارة عن رقية مكتوبة؛ لأن الرقى هي تؤدي إلى شفائها، فما رأي الشرع في نظركم في هذه المسألة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يريد السائل بالحجاب التميمة التي تعلق على الإنسان في عنقه، أو يجعلونها في جيبه، أو يجعلونها تحت وسادته إذا نام. وهذه التمائم تكون على وجهين: الوجه الأول: أن يكتب فيها ما لا يعلم ولا يدرى معناه، فإن هذه لا تحل ولا تجوز؛ لأنه لا يدرى ما الذي تشتمل عليه: أهو شرك، أم أسماء للشياطين، أو لمردة الجن، أو ما أشبه ذلك من الأشياء المحرمة؟ فهذه لا تجوز قطعًا. وأما الوجه الثاني: فهو التمائم التي يكتب فيها شيء من القرآن على وجه واضح بيِّن يقرأ، أو شيء من الأدعية الواردة عن النبي ﷺ، وهذه فيها خلاف بين العلماء، فمنهم من أجازها ومنهم من منعها، والصواب مع من منعها وأنها لا تجوز؛ لأن الاستشفاء بالقرآن إنما يجوز على الوجه الوارد عن النبي ﷺ، وذلك بقراءته على المريض مباشرة، وبعض السلف يجوِّز أن يكتب القرآن في إناء بزعفران أو نحوه، ويصب عليه الماء ويحرك حتى يصطبغ الماء بهذا اللون المكتوب به القرآن، ثم يشرب. وعلى هذا فنقول: إن تعليق التمائم واصطحابها في الجيب ووضعها تحت الوسادة لا يجوز مطلقًا، سواء كانت من القرآن أو غيره، ولكن يقرأ على المريض بالآيات التي يرقى بها للمرضى. وأما قول السائل: أرى أن هذا لا يفيد؛ لأن الله تعالى يقول: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ) . فإن الآية لا تدل على منع هذا الحجاب أو هذه التميمة إذا صح أنها سبب شرعي؛ لأن قوله تعالى: (فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ) يشمل ما كشفه الله ﷾ بسبب غير معلوم لنا، وما كشفه بسبب معلوم، لكن لا بد أن يكون هذا السبب معلومًا عن طريق الشرع، أو عن طريق الحس والتجربة. ***
من سوريا تقول: فضيلة الشيخ انتشرت عندنا ظاهرة الأحراز التي يعلقها الشباب والشابات على صدورهم، وهذه الأحراز مكتوبة من مشايخ يقولون بأنها تحفظ من العين. فما حكم الشرع في نظركم في مثل هذه؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الجواب على هذا السؤال: أنه يجب أن نعلم أن الأسباب التي تجلب الخير أو تدفع الشر لابد أن تكون متلقاة من الشرع؛ لأن مثل هذا الأمر- أعني: جلب الخير أو دفع الشر- لا يكون إلا بتقدير الله ﷿، فلابد أن نسلك الطريق الذي جعله الله ﷾ طريقًا يوصل إلى ذلك، أما مجرد الأوهام التي لا تبنى على أصل شرعي فإنها أوهام لا حقيقة، لها قد يتأثر الإنسان منها نفسيًا لاعتقاده فيها ما يعتقد، وإن كان في الحقيقة خلاف ذلك. وتعليق الأحراز على الصدور لا يخلو من حالين: الحال الأولى: أن تكون طلاسم أوحروف مقطعة لا يعلم لها معنى، فهذه محرمة بلا شك، وربما يكتب عليها أسماء الشياطين من الجن ولا يعلم حاملها ذلك، وعلى هذا فيكون تعليقها نوعًا من الشرك، وإذا اعتقد معلقها أنها تنفع أو تضر بدون قدر الله ﷿ كان مشركًا شركًا أكبر، وأما إذا كان يعتقد أن النافع والضار هو الله ولكن هي وسيلة، فهي شرك أصغر؛ لأن الله تعالى لم يجعل هذا سببًا يندفع به الشر أو يحصل به الخير. أما الثاني: فأن تكون هذه الأحراز مكتوبة بحروف معلومة من القرآن أو من صحيح السنة، فهذه موضع خلاف بين العلماء، فمنهم من يرى أنها لا بأس بها، مستدلًا بعموم قوله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) . ومنهم من يرى منعها وأنها من الشرك الأصغر، مستدلًا بعموم الأحاديث الدالة على أن التمائم شرك. والذي ينبغي للمؤمن أن يتجنبه، وذلك لأن أقل ما فيها أنه لم يرد فيها عن النبي ﵌ ما يدل على الجواز، والأصل في مثل هذه الأمور المنع حتى يقوم دليل على الجواز. ثم إن الإنسان إذا تعلق بها أعرض عن ما ينبغي أن يقوم به من الأوراد القولية التي جاءت بها الشريعة، مثل قوله ﵌ في آية الكرسي: (إن من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح) . وقوله في الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة: (من قرأهما في ليلة كفتاه) . وكذلك قوله في المعوذتين. المهم أن هذه الأحراز توجب غفلة الإنسان عن ما ينبغي أن يقوم به من الأوراد الشرعية القولية، وعلى هذا فإن نصيحتي لهؤلاء وأمثالهم أن يَدَعوا هذه الأحراز، وأن يقوموا بما جاءت به السنة من الأوراد القولية، إما من الكتاب وإما من السنة. ***
المستمع عودة بن مرعي من قباء شمال يقول: البعض من الناس يكتب سور القرآن الكريم ويعلق ذلك على الأطفال، مثل المعوذتين وسورة الإخلاص، يقصد بأنها تحميه من العين، وتجلب له النفع والهداية. فهل هذا عمل صحيح؟ أرجو بهذا إفادة مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: تعليق الآيات على صدور الصبيان منهيٌ عنه؛ لأنه داخلٌ في التمائم في عمومها، إذ إن الأحاديث الواردة في ذلك لم تستثن شيئًا مما يعلق، ثم إن فيه عرضة بامتهانه؛ لأن الصبي لا يحترز من وقوع الأذى على هذا الذي علق عليه من القرآن، وربما يتلطخ بشيء نجس، وربما يدخل به بيت الخلاء وما أشبه ذلك، فلهذا ينهى عن هذا العمل، ويقال: إذا أردت أن تعوذ أبناءك بشيء فعوذهم بالقراءة عليهم. ومن العلماء من رخص في تعليق المكتوب من القرآن على المريض للاستشفاء به. واستدل بعموم قوله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا) . والاحتياط أن لا يفعل ذلك، لا لدفع البلاء كما ذكره السائل، ولا لرفعه كما أشرنا إليه، وليكن مستعملًا لما جاءت به السنة من تعويذ الإنسان بالقراءة، والقراءة على المريض كذلك بما جاءت به السنة. ***
من العراق محافظة ديالي رمز لاسمه ب ي ي يقول: فضيلة الشيخ ما حكم من يقوم بالقراءة على الأطفال، وكتابة بعض الكلمات أو العبارات في أوراق وتسخيرها لهم، زعمًا منه أن في هذا شفاء لهم من الخوف أو غير ذلك مما يسمونه بهذه الأسماء؟ مع العلم بأن هذه العبارات قد تكون غير مفهومة، وأن هذا الرجل يأتيه الناس ويقولون: إن الله هو الشافي، وإن هذا سبب في الشفاء؟ فأجاب رحمه الله تعالى: تعليق التمائم، أو وضعها تحت وسادة الفراش، أو تعليقها في جدران الحجرة، أو ما أشبه ذلك، كله من البدع، بل مما نهي عنه: (فمن تعلق تميمة فلا أتم الله له) . والشفاء الذي يحصل بهذا ليس منها، بل هو فتنة حصل عندها لا بها. لكن اختلف السلف ﵏ فيما إذا كان المعلق من القرآن هل هو جائز أم لا؟ فكرهه ابن مسعود وجماعة، وهذا أقرب إلى الإخلاص والتوكل على الله ﷿، وأجازه آخرون. وأما ما ليس من القرآن فلا يجوز، لا سيما إذا كان فيه حروف لا يعرف معناها، فإنها قد تكون أسماء للشياطين وطلاسم سحرية، فلا يجوز اعتمادها، حتى لو حصل الشفاء عند استعمالها فإنه لم يحصل بها؛ لأنه لم يقم دليل على أنها سبب شرعي، ولا هي سبب حسي، لكن قد يبتلي الله ﷾ العبد ويفتنه، فيحصل مطلوبه بوسيلة محرمة. فليحذر العاقل اللبيب من هذه الأمور، وليستعن بالله ﷿، وليتوكل عليه. نعم لو وجدنا رجلًا صالحًا يقرأ على المريض بالقرآن الكريم وبالأحاديث النبوية فهذا لا بأس به، وهو من السنة أن يرقي الإنسان أخاه بالرقى المشروعة. ***
من الأردن تقول في هذا السؤال: أود أن أسأل عن الحجب، وهل يجوز إخراجها من مكانها؟ علمًا بأن أهلي قاموا في العام الماضي بالذهاب إلى إحدى النساء التي تعمل ذلك، وتقول بأنها أخرجته من مكانه، وتقوم هذه المرأة بإحضار ماء ويوضع في وسط هذه الحجب، ولكن المرأة تأخذ مبالغ كبيرة مقابل ذلك العمل، هل ينالنا العقاب جراء ذهابنا إلى هذه المرأة وتعاملنا معها؟ وما حكم الشرع في نظركم في هذا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الواقع أنني ما عرفت معنى الحجب بالضبط؛ لأن المعروف أن الحجب هي عبارة عن أوراق يكتب فيها أدعية وتعوذات وآيات قرآنية، يحملها الإنسان على صدره مربوطة في عنقه، يرى أنها تحجبه من الشر ومن الشياطين، وبعضهم يفعل ذلك إذا مرض، يرى أن الله يشفيه بها، هذا معنى الحجب التي نعرف، وأما ما يفيده ظاهر كلامها فكأنها تريد بذلك نقض السحر، ونقض السحر بالسحر ممنوع؛ لأن النبي ﷺ سئل عن النشرة فقال: هي من عمل الشيطان. لكن قد يكون هناك حالات خاصة ينظر فيها بعينها. ***
بارك الله فيكم هذا المستمع أبو عبد الله يقول في هذا السؤال: مرض أحد أقربائي، فطلبت مني والدتي أن أحضر لها عزائم من أحد الناس الذين يقرؤون على الناس، فطلب مني ذلك الرجل مبلغ ألف ريال مقابل هذه العزائم التي توضع عند رأس المريض، فما حكم هذه العزائم؟ وما حكم أخذ هذا الرجل هذا المبلغ الباهظ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما بالنسبة لهذه العزائم فإنه لا يجوز للإنسان أن يستعمل عزائم لا يدري ما هي حتى يعرف أنها من القرآن أو من السنة الصحيحة أو من الأدعية المباحة، فأما أن يأتي لأي شخص يجده يقرأ على الناس ويكتب لهم العزائم فيطلب منه ذلك فإن هذا لا يجوز. وأما وضعها عند الرأس فلا أصل له، ولم يفعله أحد من السلف، لكن رخص بعض السلف في العزائم إن كانت من القرآن أن يتقلدها الإنسان، أو أن يضعها في ماء ويشرب أثر المداد الذي يتحلل في هذا الماء، وأما وضعها عند الرأس أو تحت الوسادة فلا أصل له. وأما أخذ الأجرة والعوض على هذه العزائم: فالذي ينبغي للإنسان أن لا يفعل، وإن فعل فلا حرج؛ لأن النبي ﷺ، أجاز أخذ الأجرة على الرقية في قصة الصحابة الذين بعثهم النبي ﷺ، فاستضافوا قومًا فلم يضيفوهم، فسلط الله على حية فلدغ، ثم جاؤوا إلى الصحابة يطلبون منهم قارئًا، قالوا لا نقرأ عليكم إلا بكذا وكذا من الغنم. فأعطوهم من الغنم، وبلغ ذلك النبي ﷺ فأقره. وأما كون القارىء يأخذ أجرًا كثيرًا على عمل يسير: فإني أنصحه أن يتقي الله ﷿ في إخوانه، وألا يستغل ضرورتهم في ابتزاز أموالهم فليأخذ ما يرى أنه حق له، وأما ما زاد فليتورع عنه. ***
أحسن الله إليكم هذا سؤال من المستمعة فتاة من الأردن الزرقاء تقول: عمرها خمسة وعشرون عاما، ً فمنذ صغرها وهي تطلب للزواج ولا يحصل نصيب، لا يكون ذلك برفض منها ولكنها لا تدري ما هو السبب، فهي إنسانة طبيعية متوسطة الجمال، فقال الناس لأمها: إن ابنتك لها حجاب عن الزواج، ولكن أمها رفضت هذه الفكرة من الأصل؛ لأنها تخاف الله ولا تصدق بهذه الأشياء. وفي يوم من الأيام ذهبت الفتاة وحدها إلى امرأة يقال لها: شيخة، فقالت لها: إن لك عدة أعمال محجوبة، من ضمنها الزواج والوظيفة والقلق والكراهية وما إلى ذلك، وعملت لها عدة أشياء، منها ما يعلق على الصدر وعلى الكتف اليمين، ومنها ما يشرب ويرش، فبقيت تستعمل هذه الأشياء بالسر عن والدتها، ومضى شهر وشهران وأكثر ولم يطرق بابها أي خاطب. أما ما قالته لها بخصوص العمل فهي موظفة، أما ما تعانيه فهو صحيح: فهي تكره أن ترى الناس، بعد ذلك تغيرت وأصبحت حالتها أحسن، وذات مرة خطر ببالها أن تمزق هذا الحجاب الذي أعطته لها تلك المرأة، وعندما فتحته وجدت بداخله تكرارًا لأسماء الرسول والخلفاء وبعض الرسل وبعض الأسماء الغريبة، فحرقتها جميعا. ً فتسأل: هل صحيح أن الحجاب الذي يعمله المشعوذون يمنع الفتاة عن الزواج؟ وهل ما قامت به من تمزيقه حرام؟ مع العلم أن بعض ما أخبرتها به صحيح؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا سؤال يتلخص جوابه في شيئين: الشيء الأول: تعليق هذه الحجب، سواء كان لطالب الزواج، أم للبراءة من المرض الجسمي أو النفسي، هل هو جائز أو ليس بجائز؟ في هذا خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يرى أنه ليس بجائز على كل حال، وذلك لأنه لم يرد في كتاب الله ولا سنة رسول الله ﷺ أن تعليق مثل هذا يكون سببًا في إزالة ما يكره أو حصول ما هو محبوب، وإذا لم يثبت شرعًا فإنه لا يجوز إثبات كونه سببًا. ومن العلماء من يقول: إنه لا بأس به- أي: بتعليق الحجاب- لدفع ضرر أو حصول منفعة، لكن بشرط أن يكون من إنسان موثوق به، وأن يعلم ما كُتب فيه، وأن لا يكون هذا المكتوب مخالفًا لما جاء به الشرع، فإذا تمت هذه الشروط الثلاثة فهو جائز، وبعضهم يشترطون شرطًا رابعًا، وهو: أن يكون من القرآن خاصة. وعلى هذا القول الثاني يجوز التعليق بالشروط الأربعة، ولكن الذي أرى أنه لا يجوز مطلقًا؛ لأن تعليل من قال بعدم الجواز قوي، حيث إنه لم يثبت في كتاب الله ولا سنة رسوله ﷺ أن هذا من الأسباب النافعة، وكل شيء يثبت سببًا لشيء ولم يكن معلومًا بالشرع أو معلومًا بالحس فإنه لا يجوز إثباته. أما المسألة الثانية أو الشيء الثاني مما يتضمنه جوابنا هذا على سؤال المرأة: فإن هذا الذي عملته في هذا الحجاب تمزيقه من المعروف، وهو عمل طيب، بل يجب عليها إذا كانت لا تدري ما الذي فيه أن تكشف عنه، فإذا رأت فيه مثلما ذكرت أسماء الرسول ﷺ وأسماء الخلفاء وبعض الرسل فإنه لا يجوز تعليقه؛ لأن هذا شيء غير مؤكد، وإذا رأت فيه قرآنًا فإنه ينبني على الخلاف الذي ذكرناه قبل قليل والذي نرى أيضًا أنه لا يجوز تعليقه. فإذا كان قرآنًا فهناك طريقان: إما أن تدفنه في محل نظيف، وإما أن تحرقه وتدقه بعد إحراقه حتى يتلاشى نهائيًا. وبهذه المناسبة أود أن أحذر إخواننا من التردد على أولئك الناس الذين يكتبون هذه الأحراز وهذه الحجب، وحالهم لا تعلم لا من جهة الديانة ولا من جهة العلم؛ لأن هذه من الأمور الخطيرة، وكون الإنسان إذا فعلها يتأثر ويجد خفة قد لا يكون ذلك من جراء هذا العمل، قد يكون الله تعالى قد أذن ببرئه أو شفائه وصادف أن يكون عند هذا الشيء لا به، وأيضًا فإنه من المعلوم نفسيًا أن الإنسان إذا شعر بشيء منه نفسيًا فإنه يتأثر به جسمه، حتى إن الإنسان -كما هو مشاهد- إذا كان غافلًا عما به من مرض فإنه لا يحس به، فإذا التفت بفكره إليه أحس به هذا الرجل، يكون مشتغلًا بتحميل عفشه مثلًا فيجرحه مسمار أو زجاجة، تجده لا يحس بها حين اشتغاله بالعمل، فإذا تفرغ فإنه يحس به؛ لأنه جعل فكره إليه. والمهم أننا ننصح إخواننا عن هذه الطرق التي لا يعلم من سلكها، ولا يعلم ما فيها من مكتوب، والإنسان ينبغي له أن يعلق قلبه بالله ﷿، ويتبع ما جاء عن النبي ﷺ في الاستشفاء بالقرآن والدعاء. ***
من السودان المستمع إدريس يقول: يوجد في قريتنا مسجد، ولكن إمام المسجد يستعمل التراب من القبور، ويكتب التمائم والحروز، ويدعي بأنها تعالج المرضى وتفك من السحر والعين. هل تصح الصلاة خلف هذا الإمام المذكور؟ نرجو إفادة مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إنه لا شك أن خير الهدي هدي محمد ﷺ، وأن شر الأمور محدثاتها، كما كان النبي ﷺ يعلن ذلك في خطب الجمع. وأخذ التراب من القبور للاستشفاء به بدعة، وهو ضلال في دين الله وسفهٌ في العقل، فإن هذا التراب لم يحدث له أي شيء يجعله سببًا في شفاء المرضى من أجل دفن الميت في القبر، بل هذه التربة كسائر تراب الأرض، وليس لها مزيةٌ على غيرها، ومن تبرك بها أو استشفى بها فقد ابتدع وضل وسفه في عقله، وعليه أن يتوب إلى الله ﷿ من هذا العمل، وأن يعلم أن الشفاء من الله ﷿، وأنه لا شفاء بأي سببٍ من الأسباب إلا ما جعله الله سببًا، ولم يجعل الله تعالى أخذ التراب من القبور سببًا في شفاء المرضى. وأما القراءة على المرضى بآياتٍ من القرآن، أو بما جاءت به السنة عن رسول الله ﷺ: فإن هذا سببٌ شرعي يحصل به الشفاء بإذن الله، وقد صح أن سريةً في عهد النبي ﵊ نزلوا على قومٍ فاستضافوهم، فأبى القوم أن يضيفوهم، فقدر الله تعالى على سيدهم- أي: سيد القوم- أن لدغته حية، فأتوا إلى أصحاب رسول الله ﷺ وقالوا: هل عندكم من راقٍ؟ قالوا: نعم. قالوا إنه لدغ سيدهم، فيريدون أن يرقى عليه. فقالوا لا نرقي عليه إلا بكذا وكذا من الغنم. فأعطوهم إياها، فذهب أحد القوم من السرية إلى اللديغ، فجعل يقرأ عليه بفاتحة الكتاب، فقام هذا الملدوغ كأنما نشط من عقال، وبرأ بإذن الله بقراءة الرجل عليه سورة الفاتحة. وتأثير قراءة القرآن في المرضى أمرٌ لا ينكر، قال الله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا) . والشفاء هنا شامل الشفاء من أمراض القلوب وأمراض الأجسام، وهذا الإمام الذي ذكرت أنه يتبرك بتراب القبور ويستشفي بها يجب عليكم أن تنصحوه، وتبينوا له أن ذلك بدعةٌ وضلالٌ في دين الله وسفهٌ في العقول، وأن عليه أن يتوب إلى الله ﷿ من هذا العمل الذي كان يقوم به. وأما قراءته على المرضى بآياتٍ من القرآن وبما جاءت به السنة فإن هذا لا بأس به، بل هو أمرٌ مطلوب. وأما الصلاة خلفه: فالقول الراجح من أقوال أهل العلم أن الإنسان إذا لم يصل بعمله وبدعته إلى الكفر المخرج من الإسلام فإنه يصلى خلفه، وتصح الصلاة خلفه، إلا إذا كان في الصلاة خلفه فتنة، بحيث يفتتن به الناس ويتابعونه على بدعته، فحينئذٍ يحسن أن لا يصلى خلفه؛ لئلا يفتتن به الناس ويظنوا أنه على حق، حيث كان الناس يصلون وراءه، لا سيما إذا كان الذي يصلى وراءه ممن يشار إليهم بالفقه والعلم. ***
يقول الله تعالى في سورة البقرة: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) . ما معنى هذه الآية؟ وهل يدخل فيها من يكتبون الحجب من القرآن مقابل أجر نقدي يتقاضونه؟ فأجاب رحمه الله تعالى: معنى هذه الآية الكريمة أن الله ﷾ توعد أولئك الذين يفترون عليه كذبًا فيكتبون بأيديهم كلامًا ثم يقولون للناس: هذا من عند الله، من أجل أن ينالوا به حظًا من الدنيا، إما جاهًا أو رئاسة أو مالًا أو غير ذلك، ثم بين الله تعالى أن هذا الوعيد على الفعلين جميعًا: على كتابتهم الباطلة، وعلى كسبهم المحرم الناشيء عن هذه الكتابة الباطلة. أما الذين يكتبون الحجب- وهي: ما يعلق على المريض لشفائه من المرض، أو على الصحيح لوقايته من المرض -فإنه ينظر: هل تعليق هذه الحجب جائز أم لا؟ إذا كانت هذه الحجب لا يعلم ما كتب فيها، أو كتب فيها أشياء محرمة، كأسماء الشياطين والجن وما أشبه ذلك، فإن تعليقها لا يحل بكل حال. وأما إذا كانت هذه الحجب مكتوبة من القرآن والأحاديث النبوية ففي حلها قولان لأهل العلم، والراجح أنه لا يحل تعليقها، وذلك لأن التعبد لله ﷾ بما لم يشرعه الله بدعة، ولأن اعتقاد شيء من الأشياء سببًا لم يجعله الله سببًا نوع من الشرك. وعلى هذا فالقول الراجح أنه لا يجوز أن يعلق على المريض شيء، لا من القرآن ولا من غيره، ولا أن يعلق على الصحيح شيء، لا من القرآن ولا من غيره، وكذلك لو كتبت هذه الحجب ووضعت تحت وسادة مريض ونحو ذلك، فإنه لا يجوز. ***
المستمع سعيد عبد اللطيف صالح من اليمن لواء تعز يقول: نعلم أنه روي عن النبي ﷺ أنه صلى بأصحابه صلاة الصبح في الحديبية على إثر سماء نزلت في الليل، فلما سلم أقبل على أصحابه وقال لهم: أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (إنه قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فقد أصبح وهو مؤمن بي وكافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا، فهو مؤمن بالكوكب وكافر بي) . وفي هذا الزمن يقولون: إن الأمطار تتبخر، أو هي نتيجة تبخر البحار والمحيطات إلى غير ذلك، فمن اطلع على حقيقة ذلك؟ وهل هذا الاعتقاد جائز؟ وما الدليل من الكتاب والسنة على هذا القول؟ فأجاب رحمه الله تعالى: قول السائل: نعلم أنه روي عن النبي ﷺ، الصواب أن يقال: إنه ثبت عن النبي ﷺ؛ لأن قول: روي عن الرسول معناه تضعيف الحديث، والحديث ثابت، وهو أن الرسول ﵊ صلى بأصحابه صلاة الصبح على إثر مطر نزل، فلما أنهى صلاته أقبل عليهم وقال: (هل تدرون ماذا قال ربكم)؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) . من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فهو مؤمن بالله؛ لأنه اعترف لله بالفضل، وأن هذا المطر من آثار فضله ورحمته ﵎، وهذا هو الواجب على كل مسلم أن يضيف النعم إلى بارئها ومسديها وهو الله ﵎، ولا حرج أن يضيفها إلى سببها الثابت شرعًا أو حسًا إلا أنه إذا أضافها إلى سببها الثابت حسًا أو شرعًا، فإنه لا يضيفها إلى السبب مقرونًا مع الله ﷿ بالواو، وإنما يضيفها إلى سببها مقرونًا مع الله تعالى بثم، أو إلى سببها وحده. فلو أن شخصًا أنقذ غريقًا من غرق فهنا لا يخلو من حالات: الأولى: أن يقول: أنقذني الله تعالى على يد فلان، وهذا أفضل الأحوال. الثانية: أن يقول: أنقذني الله ثم فلان، وهذه جائزة، وهي دون الأولى. الثالثة: أن يقول: أنقذني فلان، ويعتقد أنه سبب محض، وأن الأمر كله إلى الله ﷿، وهذه جائزة، ويدل لجوازها أن النبي ﷺ لما أخبر عن عمه أبي طالب أنه كان في ضحضاح من نار، وعليه نعلان يغلي منهما دماغه- والعياذ بالله- قال النبي ﵊: (ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) . الرابعة: أن يقول: أنقذني الله وفلان، وهذا لا يجوز؛ لأنه أشرك سببًا مع الله بحرف يقتضي التسوية وهو الواو، ودليل ذلك أن النبي ﷺ قال له رجل: ما شاء الله وشيءت. فقال النبي ﷺ: (أجعلتني لله ندًا؟ بل ما شاء الله وحده) . فالمطر النازل لاشك أنه بفضل الله ورحمته وبتقديره ﷿ وقضائه، ولكن الله تعالى جعل له أسبابًا، كما أشار الله إليه بقوله: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا) . قال: (يُرْسِلُ) (فَتُثِيرُ) أضاف الإثارة إلى السحاب؛ لأنها سبب هذه الإثارة، فتثير سحابًا فيبسطه في السماء كيف يشاء، فلا بأس بإضافة الشيء إلى سببه مع اعتقاد أنه سبب محض، وأن خالق السبب هو الله ﷿. وأما قول الرسول ﵊ عن الله ﵎: (أن من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فهوكافر بي مؤمن بالكوكب، فهذا لأنهم أضافوا الشيء إلى سبب غير صحيح؛ لأن النوء ليس سببًا للمطر، فالنوء الذي هو الكوكب ليس هو الذي يجلب المطر، ولا علاقة له به، ولذلك أحيانًا تكثر الأمطار في نوء من الأنواء في سنة وتقل في سنة أخرى وتعدم في سنة ثالثة، وربما يكون العكس فالأنواء ليس لها تأثير في نزول المطر ولهذا كانت إضافة المطر إليها نوعًا من الشرك فإن اعتقد أن النوء يحدث المطر بنفسه بدون الله فذلك شرك في الربوبية، شرك أكبر مخرج عن الملة، فهذا وجه قوله ﵎ فيما رواه عنه نبيه محمد ﷺ: (من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) . وأما ما اشتهر من أن الأمطار تكون بسبب تبخر البحار ونحو ذلك: فهذا إن صح فإنه لا ينافي ما ذكره الله تعالى في القرآن، إذ من الجائز أن يكون هذا البخار تثيره الريح حتى يصعد في جو السماء، ثم يبسطه الله تعالى في السماء كيف يشاء، ثم ينزل به المطر، وهذه مسألة ترجع إلى أهل العلم بهذا الشأن، فإذا ثبت ذلك فإنا نقول: هذا البخار الذي تصاعد من البحار الذي خلقه هو الله، والذي جعله يتصاعد في الجو حتى يمطر هو الله ﷿، ولا ينافي ذلك ما جاء في القرآن إذا صح علميًا. والله أعلم. ***
وردتنا رسالة حول بعض الآبار يقول: إن بعض الناس يقومون بالذهاب إلى البئر التي تقع على طريق المدينة المنورة، ومثلها العين التي تقع في تهامة، لقصد طلب الشفاء من بعض الأمراض، والشافي هو الله ﷾، وأنه عند العودة من هناك يخبروننا بأنهم قد شُفي البعض منهم من بعض الأمراض التي بهم، مثل أمراض كثيرة والأمراض الصعبة، فما رأيكم في صحة ما يذكرون عند اعتقادهم بأن الاغتسال من ذلك الماء يشفي المرضى والله يحفظكم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: رأينا في هذا أنه إذا ثبت أن لهذا الماء تأثيرًا حسيًا في إزالة الأمراض فإنه لا بأس من قصده والاستشفاء به، وذلك لأن الطب على نوعين: أحدهما: ما ثبت به الشرع، فهذا مقبول بكل حال ولا يسأل عنه، إنَّما يسأل عن هل هذا الذي ثبت بالشرع أنه دواء هل يكون دواء لهذا المرض المعين؟ لأنه ليس كل ما كان دواء لمرض يكون دواء لكل مرض. القسم الثاني من أقسام الطب: شيء لم يثبت به الشرع لكنه ثبت بالتجارب، وهذا كثير جدًا من الأدوية المستعملة قديمًا وحديثًا، فإذا ثبت بالاستعمال والتجارب أن هذا له تأثير حسي في إزالة المرض فإنه لا بأس باستعماله، وكثير من الأدوية التي يتداوى بها الناس اليوم إنما عُلمت منافعها بالتجارب؛ لأنه لم ينزل فيها شرع. فالمهم أن ما أشار إليه السائل من هذه المياه، إذا ثبت بالتجارب أن لها تأثيرًا في بعض الأمراض، فإنه لا بأس بالاستشفاء بها والذهاب إليها. ***
الأخت سعدية كنجاري من الأفلاج تقول: أرى بعض الناس عندنا عندما يريدون الاحتفاظ بطعام إلى وقت آخر يضعون تمرة على غطاء الإناء الذي فيه الطعام، يزعمون أنها تحفظه من كل سوء كالحشرات ونحوها. فهل في فعلهم هذا ما يناقض التوحيد؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الفعل- وهو: وضع التمر على الطعام لئلا تصيبه الحشرات، هذا- لا أصل له، ولا أعلم له أصلًا من الشرع، ولا أصلًا من الواقع، فإن الحشرات تأتي إلى ما يلائمها، فمنها ما يلائمها التمر وتأتي حوله، بل تأكل منه أيضًا، ومنها ما يلائمها الدسم فتأتي إليه وتطعم منه، ولا أصل لهذا الذي يفعل. وإذا لم يكن له أصل من الشرع ولا من الواقع فإنه لا ينبغي للإنسان أن يفعله؛ لأنه مبني على مجرد أوهام وخيالات لا حقيقة لها. ***
هذه رسالة وردتنا من المرسل م. ن. العتيبي من نجد: في أيام التشريق ونحن نذهب من منى إلى الجمرات ونعود إليها نجد بعض الأفريقيين يجلسون على الطرقات، ويبيعون أكياسًا مثل الحبال، وهي من الجلد الملون، ومختومة من جميع أطرافها، وفيها شيء لا نعلمه، ويقولون: فيها شفاء من أمراض عدة وتقي الإنسان: فاللون الأسود عن الجان مثلًا، واللون الأحمر عن الجلجان، واللون الأصفر عن ذات الصفراء، واللون كذا يشفي من المرض كذا، ويقول: ضع هذا في حقيبتك أو في منزلك فيفيدك. فما حكم شراء مثل هذه الأمور؟ وما حكم بيعها؟ فأجاب رحمه الله تعالى: حكم شرائها لا يجوز، واعتقاد أن فيها هذا النفع الذي يقال لا يجوز أيضًا؛ لأن هذا لا دليل عليه، وأما بيعها فلا يجوز أيضًا، وينبغي لكم- بل يجب عليكم- إذا رأيتم مثل هذا أن تخبروا السلطات عن هذا الأمر، حتى يمنعوهم من أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن التكسب بمثل هذه الأمور من أكل أموال الناس بالباطل، والواجب منعه وتأديب فاعله. ***
بارك الله فيكم من ينبع المستمع رمز لاسمه بـ ف ج يقول في رسالته: نرى كثيرًا ما توضع لافتات ولوحات، سواء كانت من الورق أو القماش أو اللوحات الخشبية، ومكتوب عليها جميعًا آيات قرآنية، وتوضع على أبواب المساجد والعمائر والشوارع العامة، مما يعرض كلام الله ﷾ للإهانة لا سمح الله، بسبب سقوط هذه اللوحات على الطرق والمحلات القذرة. نرجو التوجيه من فضيلتكم بشأن هذا الموضوع المهم لحماية كلام الله من التعرض للخطأ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الأمر الذي أشار إليه السائل- وهو: تعليق الآيات القرآنية على الجدران وأبواب المساجد وما أشبهها- هو من الأمور المحدثة التي لم تكن معروفة في عهد السلف الصالح الذين هم خير القرون، كما ثبت عن النبي ﵊ أنه قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) . ولو كان هذا من الأمور المحبوبة لله ﷿ لشرعه الله تعالى على لسان رسوله ﷺ؛ لأن كل ما ينفع الناس في دينهم ودنياهم فهو مشروع على لسان الرسول ﷺ، ولو كان هذا من الخير لكان أولئك السلف الصالح أسبق إليه منا ومع هذا فإننا نقول لهؤلاء الذين يعلقون هذه الآيات: ماذا تقصدون من هذا التعليق؟ أتقصدون بذلك احترام كلام الله ﷿؟ فإن قالوا: نعم. قلنا: لسنا والله أشد احترامًا لكتاب الله ﷾ من أصحاب النبي ﷺ، ومع ذلك لم يعلقوا شيئًا من آيات الله على جدرانهم أو جدران مساجدهم. وإن قالوا: نريد بذلك التذكير والموعظة. قلنا: لننظر إلى الواقع، فهل أحد من الناس الذين يشاهدون هذه الآيات المعلقة يتعظ بما فيها؟ قد يكون ذلك ولكنه نادر جدًا، وأكثر ما يلفت النظر في هذه الآيات المكتوبة حسن الخط، أو ما يحيط بها من البراويز والزخارف، أو ما أشبه ذلك وهو نادر جدًا أن يرفع الإنسان رأسه إليها ليقرأها فيتعظ بما فيها. وإن قالوا: نريد التبرك بها. فيقال: ليس هذا طريق التبرك، والقرآن كله مبارك، لكنه بتلاوته وتفقد معانيه والعمل به، لا بأن يعلق على الجدران ويكون كالمتاحف. وإن قالوا: أردنا بذلك الحماية والوِرد. قلنا: ليس هذا طريق الحماية والوِرد، فإن الأوراد التي تكون من القرآن إنما تنفع صاحبها إذا قرأها، كما في قوله ﷺ فيمن قرأ آية الكرسي في ليلة: (لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح) . ومع هذا فإن بعض المجالس- أو كثيرًا من المجالس- التي تكتب فيها الآيات قد يكون فيها اللغو، بل قد يكون فيها الكلام المحرم، أو الأغاني المحرمة، وفي ذلك من امتهان القرآن المعنوي ما هو ظاهر. ثم إن الامتهان الحسي الذي أشار إليه السائل- بأن هذه الأوراق قد تتساقط في الأسواق وعلى القاذورات، وتوطأ بالأقدام- هو أمر آخر أيضًا مما ينبغي أن ينزه عنه، بل مما يجب أن ينزه عنه كلام الله ﷿. والخلاصة: أن تعليق هذه الآيات إلى الإثم أقرب منه إلى الأجر، وسلوك طريق السلامة أولى بالمؤمن وأجدر. على أنني أيضًا رأيت بعض الناس يكتب هذه الآيات بحروف أشبه ما تكون مزخرفة، حتى إني رأيت من كتب بعض الآيات على صورة طائر أو حيوان، أو رَجُلٍ جالسٍ جلوس التشهد في الصلاة أو ما أشبه ذلك، فيكتبون هذه الآيات على وجه محرم، على وجه التصوير الذي لعن النبي ﷺ فاعله. ثم إن العلماء ﵏ اختلفوا هل يجوز أن ترسم الآيات برسم على غير الرسم العثماني أو لا يجوز؟ اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: منهم من قال: يجوز مطلقًا أن ترسم على القاعدة المعروفة في كل زمان ومكان بحسبه، ما دامت بالحروف العربية. ومنهم من يقول: إنه لا يجوز مطلقًا، بل الواجب أن ترسم الآيات القرآنية بالرسم العثماني فقط. ومنهم من يقول: إنه يجوز أن ترسم بالقاعدة المعروفة في كل زمان ومكان بحسبه للصبيان؛ لتمرينهم على أن ينطقوا بالقرآن على الوجه السليم، بخلاف رسمه للعقلاء الكبار فيكون بالرسم العثماني. وأما أن يرسم على وجه الزركشة والنقوش، أو صور الحيوان، فلا شك في تحريمه، فعلى المؤمن أن يكون معظمًا لكتاب الله ﷿ محترمًا له، وإذا أراد أن يأتي بشيء على صورة زركشة ونقوش فليأتِ بألفاظ ُأخر من الحِكم المشهورة بين الناس وما أشبه ذلك، وأما أن يجعل ذلك في كتاب الله ﷿، فيتخذ الحروف القرآنية صورًا للنقوش والزخارف، أو ما هو أقبح من ذلك بأن يتخذها صورًا للحيوان أو للإنسان، فإن هذا قبيح محرم. والله المستعان. ***
هل يجوز تعليق بعضٍ من الآيات من القرآن الكريم في المنازل أو المكاتب؟ فأجاب رحمه الله تعالى: تعليق الآيات على الجدر ونحوها في المساجد والمساكن، والجواب على هذه الفقرة أنني لا أرى ذلك، أي: لا أرى أن الإنسان يعلق آيات من القرآن على الجدر، سواء في المساجد أو في البيوت؛ لأن هذا التعليق لا بد أن نسأل: ما الحامل على ذلك؟ إن قال: الحامل على ذلك التبرك بكلام الله ﷿. قلنا: إن التبرك بالقرآن الكريم على هذا الوجه ليس بصحيح؛ لأن هذا لم يرد عن النبي ﷺ ولا عن أصحابه أنهم كانوا يتبركون بالقرآن على هذا الوجه، وإذا لم يرد عنهم ذلك عُلِم أنه ليس من الشرع، وإذا لم يكن من الشرع فإنه لا يجوز للإنسان أن يتعبد به لله ﷿، أو أن يتبرك بالقرآن على هذا الوجه بدون مستندٍ شرعي. قد يقول: إنني أريد بذلك تذكير الجالسين بما تتضمنه هذه الآية من ترغيب أو ترهيب. فنقول: هذا التفكير وإن كان مقصودًا للواضع، لكنه في الحقيقة غير واقع وغير عملي، فما أكثر الآيات التي فيها ترغيب وترهيب، إذا وضعت فإن أكثر الحاضرين- إن لم يكن كلهم- لا ينتفع بذلك ولا يتعظ، قد يكون من المعلق قوله تعالى: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)، ويكون المجلس الذي فيه هذه الآية كله غيبة وكلام في أعراض الناس، فيكون هذا من باب المضادة لكلام الله ﷿. قد يقول: إني علقتها حماية لبيتي، فأنا أعلق آية الكرسي لتحفظ البيت من الشياطين؛ لأنه ثبت عن النبي ﷺ (أنه من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح) . فنقول: هذا أيضًا من البدع، فإن السلف لم يكونوا يحفظون بيوتهم بتعليق الآيات عليها، والنبي ﵊ يقول: (من قرأ آية الكرسي في ليلة)، والقراءة غير التعليق كما هو ظاهر، وبناء على هذه العلة التي يتعلل بها من يعلق الآية تجد كثيرًا من الناس يعتمد على هذا التعليق ولا يقرؤها بنفسه؛ لأنه يقول: قد كفيت بتعليق هذه الآية، فيفوت الإنسان خير كثير بناء على هذا العمل المبني على هذا الاعتقاد الذي لا أصل له. ونحن نقول: إن بعض الناس قد يعلقها- أي: الآيات- من باب التجميل، ولهذا تجدهم أحيانًا يعلقون آيات كتبت على غير الرسم العثماني، بل هي مخالفة له، وربما يكتبونها على الشكل الذي يوحي به معناها، وربما يكتبونها على صورة بيت أو قصر أو أعمدة وما أشبه ذلك، مما يدل على أنهم جعلوا كلام الله ﷿ مجرد نقوش وزخرفة، وهذا رأيته كثيرًا. فالذي أرى أنه لا ينبغي للإنسان أن يعلق شيئًا من كلام الله ﷿ على الجدر، فإن كلام الله أعلى وأسمى وأجل من أن يجعل وشيًا تحلى به الجدران، ولا يمكن أن يقاس هذا على شخص علق المصحف بوتد أو شبهه في الجدار، فإن هذا قياس مع الفارق العظيم: فالمصحف مغلف في جيبه أو بظرفه، ولم تبدُ حروفه ولا أسطره، ولا أحد يقول: إني علقت المصحف هنا لأتبرك به أو لأتعظ به، وإنما يقول: علقته هنا لرفعه عن الأرض، وحفظه عن الصبيان ونحو ذلك، وفرق بين البارز الظاهر المعلق أو المشمع على الجدار، وبين مصحف معلق مغلف جعل في فرجة أو علق بوتد أو شبهه، ولا ينطلي هذا القياس على أحد تأمل المسألة وتدبرها. ***
هذا السائل جاد الكريم محمد عبد المنان من السودان يقول: اعتاد بعض المزارعين عندنا حينما تثمر مزارعهم ويكثر ورود الطير عليها مما يتلف المحصول عليهم، اعتادوا أن يذهبوا إلى أحد أهل القرية ليعمل لهم ويكتب ورقة تحمي زراعتهم من الطير، بشرط أن يأخذ منهم ربع جوال من المحصول. فهل هذا العمل جائز شرعًا أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا العمل ليس بجائز شرعًا، وذلك لأنه لا يمكن أن تكون هذه الورقة تطرد الطيور عن المزارع، فإن هذا ليس معلومًا بالحس، وليس هو أيضًا معلومًا بالشرع، وكل سبب ليس معلومًا بالحس ولا بالشرع فإن اتخاذه محرم، فلا يجوز أن يعملوا هذا العمل، وإنما عليهم أن يكافحوا هذه الطيور التي تنقص محاصيلهم، يكافحوها بالوسائل المعتادة التي يعرفها الناس، دون هذه الأمور التي لا يعلم لها سبب حسي ولا شرعي. ***
السائل محمود يوسف يقول: ما المقصود بالتطير؟ وما حكمه؟ فأجاب رحمه الله تعالى: التطير هو التشاؤم بمرئي أو مسموع أو زمان أو مكان، وأصله من الطير، وكانت العرب في الجاهلية تتشاءم: يزجرون الطير، فإذا طار واتجه إلى جهةٍ ما، تطيروا، حتى إنه ربما كان إنسان قد ربط متاعه وأناخ راحلته يريد السفر، فيتطير، فإذا جنح الطير إلى جهةٍ ما ترك السفر وقال: هذا سفر شر. هذا هو الأصل في معنى التطير، ولهذا يجب على الإنسان إذا حدث في قلبه التشاؤم أن يتوكل على الله وأن يعتمد عليه، وأن لا يبالي بهذه الأوهام التي يجرها الشيطان إلى العبد ليكدر عليه صفوه، فقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر) . وقال: (ليس منا من تطير أو تطير له، أو سحر أو سحر له) . ***
كيف نوفق بين قوله ﷺ: (لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر) . وبين قوله: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: التوفيق بينهما أن قوله ﷺ: (لا عدوى،ولا طيرة) نفي لما كان يعتقده أهل الجاهلية بأن الأمراض تعدي بنفسها، بحيث ينتقل المرض من المريض إلى السليم بنفسه حتمًا، فنفى رسول الله ﷺ ذلك، وبين أن العدوى لا تكون إلاباذن الله ﷾، أي: إن هذا النفي يتضمن أن العدوى لا تكون إلا من الله ﷿، ولهذا أورد على النبي ﷺ لما حدث بهذا الحديث أن الرجل يأتي إبله السليمة بعير أجرب فتجرب الإبل، فقال النبي ﷺ ردًا على هذا الإيراد: (فمن أعدى الأول)؟ أي: من جعل في الأول المرض؟ هل هناك مريض أعداه؟ والجواب: لا، ولكن الذي جعل فيه المرض هو الله، فالذي جعل المرض ابتداءً في المريض الأول هو الذي يجعل المرض ثانية في المريض الثاني بواسطة العدوى. وعلى هذا فيكون معنى الحديث (لا عدوى) أي: بنفسها، ولكن ذلك بتقدير الله ﷿ الذي جعل لكل شيء سببًا، ومن أسباب المرض اختلاط المريض بالسليم، ولهذا قال: (فر من المجذوم فرارك من الأسد)؛ لأن اختلاطك به قد يكون سببًا للعدوى، فينتقل المرض من المجذوم إليك إذا اختلطت به، ولهذا قال: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) . فيكون الحديث الثاني فيه الأمر بتجنب أسباب المرض وهي مخالطة المريض، ولهذا جاء في الحديث: (لا يورد ممرض على مصح) . ***
هذا السائل يا فضيلة الشيخ يقول: بعض الشباب يسكنون معي، ودائمًا يمزحون ببعض الكلمات العفوية بالنسبة لهم، فيقول أحدهم للآخر مثلًا: إن المصالح اليوم كلها تعطلت في المكان الفلاني لأنك كنت متواجدًا فيه، وهذا لشؤم وجهك. ويضحكون لمثل هذا الأمر، حتى صار هذا ديدنهم في كل كلامهم، بل ويقولون: إن فلانًا مات لأنك ذهبت تزوره، فمات من شؤم وجهك، وهذه هي الكلمات التي يقولونها، فأرجو من فضيلة الشيخ الإجابة عن حكم هذا مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الكلام محرم؛ لأنه كذب ورجم بالغيب، ثم إنه قد يوجد عقيدة فاسدة بالتشاؤم من هذا الرجل، ثم إنه قد يوجد عداوة مستقبلًا؛ لأن كثرة المزاح في مثل هذه الأمور تؤثر على القلب وعلى النفس حتى يكون فيه عداوة وبغضاء، فنصيحتي لهؤلاء أن يتجنبوا مثل هذه الكلمات المبنية على الكذب، والتي تسبب ما لا ينبغي أن يكون. ***
هذه رسالة من الأخت. ع. م. ق. من السودان تقول: نحن نسكن في منزل منذ أربع سنوات، ومنذ نزلنا هذا المنزل ونحن نمر بحالات سيئة جدًّا: من مرض لأفراد الأسرة، ولما نملكه من بهائم، فلم تعد تتكاثر، فلا نسل منها ولا لبن فيها ولا فائدة، مما جعلنا نتشاءم من هذا المنزل، فهل يجوز لنا ذلك؟ وهل لو خرجنا منه وانتقلنا إلى منزل آخر لهذا السبب، هل نأثم بذلك أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: ربما يكون بعض المنازل، أو بعض المركبات، أو بعض الزوجات مشؤومًا، يجعل الله ﷾ بحكمته- مع مصاحبته إما ضررًا، أو فوات منفعة، أو نحو ذلك. وعلى هذا فلا بأس أن تبيعوا هذا البيت وتنتقلوا إلى بيت غيره، ولعل الله ﷾ أن يجعل لكم الخير فيما تنتقلون إليه. وقد ورد عن النبي صلى الله وسلم أنه قال: (الشؤم في ثلاث، وذكر منها الدار) . فضيلة الشيخ: ما هي الثلاث التي فيها الشؤم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هي الدار والمرأة والفرس، يعني: بعض المركبات قد يكون فيه شؤم، بعض الزوجات يكون فيه شؤم، بعض البيوت يكون فيه شؤم، فإذا رأيت ذلك فاعلم أنه بتقدير الله ﷿، وأن الله ﷾ بحكمته قدر ذلك لتنتقل إلى محل آخر. ***
بعض الناس إذا اشترى سيارة ثم حصل لها عدة صدمات قال: هذه السيارة منحوسة، فيقوم ببيعها فهل هذا من التشاؤم في محله؟ أرجو الإفادة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: صحيح أن بعض الناس يجد في بعض ماله من بركة فينتفع به كثيرًا ويوقى الآفات، سواء كان في السيارة أو في البيت أو في غير ذلك، وربما يجد منه خلاف هذا، ربما يكون هذا الشيء كثير الآفات مقلقًا له لا ينشرح صدره له، فإذا وجد ذلك في بعض ماله فلا حرج عليه أن يبيعه ليتخلص من آفاته، وكم من إنسان حصل له مثل هذا، أي: اشترى سيارة فصارت كثيرة الآفات من صدمات أو غيرها، فيبيعها ثم يشتري أخرى، فيجد منها الراحة والبركة وقلة الآفات، ولا يعد هذا من باب التشاؤم، بل هو من باب التخلص من آفات هذا الشيء وخسارته التي يخسرها عليه، ولا يعد هذا من باب التطير. ***
هذه الرسالة وردتنا من أحد السادة المستمعين من بلاد بني عمرو من قرية بران ع خ م يقول في رسالته: يوجد أناس في بلد غير بلدنا وقريتنا يتشاءمون برجل منهم، إذا قَبّلهم يقولون: يصيبهم مصيبة. فما حكم هؤلاء وفقكم الله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هؤلاء لا يجوز لهم هذا التشاؤم؛ لأن النبي ﷺ نهى عن الطيرة وقال: (ليس منا من تطير أو تُطِير له، أو سَحَر أو سُحِر له) . فلا يجوز لأحد أن يتشاءم بشخص، وهذا على عكس التفاؤل، فإن التفاؤل مطلوب، كون الإنسان يتفاءل يكون مطلوبًا في حقه، وأما التشاؤم الذي يُدخِل على الإنسان الحزن والهم والغم فإن ذلك ليس من أعمال المسلمين، فلا يجوز للمرء أن يتطير بأحد. *** الأسماء والصفات
أحسن الله إليكم يسأل عن مذهب أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات لله ﷿؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أهل السنة والجماعة- جعلنا الله منهم- أشد الناس تعظيمًا لله ﷿، وأشد الناس احترامًا لنصوص الكتاب والسنة، فلا يتجاوزون ما جاء به القرآن والحديث من صفات الله ﷿، فيثبتون لله تعالى ما أثبته الله لنفسه وإن حارت العقول فيه، وينفون ما نفى الله عن نفسه وإن توهمت العقول ثبوته. مثال ذلك: أن الله ﷿ فوق كل شيء أزلًا وأبدًا، وهو ﷾ له العلو المطلق في كل وقت وحين، فوق سماواته، فوق مخلوقاته، مستوٍ على عرشه، ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (أنه ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر)، فيأتي الشيطان للإنسان ويقول: كيف ينزل وعلوه لازم له؟ كيف ينزل؟ فنقول: هذا يحار فيه العقل، لكن يجب علينا أن نصدق ونقول: الله أعلم بكيفية هذا، نؤمن بأنه ينزل ولكن لا نعلم بالكيفية، عقولنا تحار ولكن يجب أن نقبل؛ لأن الله ليس كمثله شيء في جميع صفاته. ولهذا قال بعضهم: إن القرآن والسنة أتى بما تحار فيه العقول، لا بما تحيله العقول، فالواجب علينا في أسماء الله وصفاته تصديقها والإيمان بها، وأنها حق وإن حارت عقولنا في كيفيتها، فالجادة لأهل السنة والجماعة أن كل ما سمى الله به نفسه أو وصف به نفسه، سواء في القرآن أو في السنة، فإنه يجب الإيمان به وتصديقه. قوله تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) . يأتي الإنسانَ الشيطانُ فيقول: كيف يجيء؟ فنقول: يجيء على الكيفية التي أراد الله، الكيف مجهول، يجب عليك أن تؤمن بهذا حتى لو حار عقلك به، مأمور بأن تصدق على كل حال. ولذلك ضل قوم حكموا عقولهم في أسماء الله وصفاته، فأنكروا ما أثبته الله لنفسه، وحرفوا به نصوص الكتاب والسنة، فقالوا: إن معنى قوله تعالى: (استوى على العرش) أي: استولى على العرش. فسبحان الله! كيف يقول ﷿: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) . أفيمكن أن نقول: إنه قبل ذلك ليس مستوليًا عليه؟ هذا أمر ينكره العامي فضلًا عن طالب العلم، لكن إذا حكم الإنسان عقله في الأمور التي تتوقف على الخبر المحض ضل وزل. ولهذا ننصح إخواننا الذين يقولون: استوى بمعنى استولى، أن يتوبوا إلى الله ﷿، وأن يؤمنوا بأنه استوى على العرش، أي: علا عليه علوًّا خاصًّا يليق بجلاله وعظمته، وليعلموا أن الله سائلهم يوم القيامة عما اعتقدوا في ربهم ﷿، وهل اعتقدوا ذلك بناء على كتاب الله وسنة رسوله، أو بناء على ما تقتضيه أهواؤهم وعقولهم؟ إن نصيحتي لهؤلاء أن يتوبوا إلى الله، وأسأل الله أن يتوب عليهم ويوفقهم للحق، فليؤمنوا بما جاء في كتاب الله على مراد الله ﷿، وكذلك أيضًا من قالوا: إن الله ليس عاليًا بذاته فوق المخلوقات، وقالوا: لا يجوز أن نقول: إن الله فوق، فنقول: توبوا إلى ربكم، أنتم الآن تدعون الله وتجدون قلوبكم مرتفعة إلى فوق، وتمدون أيديكم أيضًا إلى فوق، دعوكم وفطرتكم فقط، واتركوا عنكم الأوهام والأشياء التي تضلكم، وإذا أنكرتم علو الله وقلتم: إنه بذاته في كل مكان، فكيف يليق هذا؟ أيليق أن يكون الله تعالى في حجرة ضيقة؟ ألا فليتق الله هؤلاء، وليتوبوا إلى الله من هذه العقيدة الفاسدة الباطلة، أخشى أن يموتوا فيلقوا ربهم على هذه العقيدة فيخسروا. ***
بارك الله فيكم من موريتانيا المستمع سعدي. أ. ن يقول: فضيلة الشيخ أريد أن أعرف الفرق بين أسماء الله وصفاته مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الفرق بين الاسم والصفة ظاهر، فإذا قلت مثلًا السميع، فالسميع اسم والصفة السمع، وإذا قلت: البصير فالبصير اسم والصفة البصر، وإذا قلت: العلي فالعلي اسم والعلو صفة، وإذا قلت: الحكيم فالحكيم اسم والحكمة صفة، وهلم جّرًا. فهذا هو الفرق: فالاسم ما تسمى الله به، والصفة ما اتصف الله به، وهي المعنى القائم بالله ﷿. وهناك صفات ليست صفات معانٍ مثل اليد، فلله تعالى يدان اثنتان، قال الله تعالى: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) . والعين، فلله تعالى عينان، كما قال النبي ﵊: (إن الدجال أعور، وإن ربكم ليس بأعور) . وما أشبه ذلك مما جاء في الكتاب والسنة، فهذه الصفات وأمثالها ليست صفات معانٍ ولكنها صفات مسماها بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء. ***
هذا السائل من جمهورية مصر العربية يقول: ما هو مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات؟ نرجو بهذا الإفادة جزاكم الله خيرًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: مذهب أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته أنهم يثبتون لله تعالى كل ما أثبته لنفسه من الأسماء، وكل ما أثبته لنفسه من الصفات، على وجه ليس فيه تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل. ولنضرب لهذا مثلًا: قال الله ﵎: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) . فيقول أهل السنة والجماعة: إن معنى الآية الكريمة أن الله استوى على العرش، أي: علا عليه، لكن كيف علا؟ الله أعلم، لا نكيف صفاته لكن نؤمن بمعناها، فنقول: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) أي: علا عليه علوًّا يليق بجلاله وعظمته، ويجتنبون طريق أهل البدع الذين يحرفون الكلم عن مواضعه فيقولون: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) أي: استولى. ولا شك أن هذا صرف للكلام عن ظاهره بلا دليل، ولا شك أيضًا أنه يستلزم لوازم باطلة؛ لأننا إذا قلنا: استوى بمعنى استولى، لزم أن يكون العرش قبل خلق السماوات والأرض ملكًا لغير الله، وأن الله استولى عليه بعد ذلك، ولزم أيضًا أن يقال: إنه يصح أن تقول: إن الله استوى على الأرض؛ لأنه مستولٍ عليها، وهذا أمر باطل. ومثال ثانٍ: قول الله ﵎: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ) . قال أهل التعطيل الذين يحرفون الكلم عن مواضعه: المراد بوجه الله ثوابه، وليس المراد به وجهه الذي هو صفة من صفاته ﷿، من صفاته الخبرية التي لا مدخل للعقل فيها وليست معنوية، بل هي صفة خبرية، نظيرها بالنسبة لنا بعض منا وجزء منا، فيقال: هذا خلاف ظاهر الآية الكريمة، وخلاف ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى من بعدهم، فوجهه الله تعالى هو وجهه، والثواب شيء آخر، ثم أين المقارنة: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦) وَيَبْقَى وَجْهُ) أين المقارنة بكون المراد العمل؟ فالآيات هذه لا تناسب ما قبلها حتى يقال: إنها من العمل، أي لا تناسب ما قبلها من حيث تفسيرها بالثواب. ومن ذلك أيضًا قول الله ﵎ لإبليس: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)؟ قالوا: المراد باليد هنا القدرة. فيقال: سبحان الله! كل البشر خلقهم الله بقدرته، ثم هل القدرة تتبعض وتتعدد؟ القدرة صفة واحدة، يستطيع بها القادر أن يفعل بلا عجز. وقس على هذا كثيرًا، فأهل السنة والجماعة يقولون: كل ما سمى الله به نفسه فالواجب علينا إثباته، وكل ما وصف الله به نفسه فالواجب علينا إثباته، لكن يجب أن يكون إثباتنا هذا منزهًا عن التمثيل وعن التكييف، بمعنى: أن نثبت لله هذه الصفة وننفي أن يكون مماثلًا للعباد في هذه الصفة، وكذلك نثبت هذه الصفة ولا نكيفها، لا نقول: كيفيتها كذا وكذا. ولهذا لما سأل الإمام مالكًا رجل فقال: يا أبا عبد الله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء، ثم قال: (يا هذا! الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) . فقال ﵀: الكيف غير معقول، يعني: لا يمكن أن ندركه بعقولنا، وإذا كنا لا ندركه بعقولنا لزم أن نعتمد في ذلك على النقل، ولم ينقل لا في القرآن ولا في السنة كيفية استواء الله ﵎ على عرشه، وعلى هذا فتكون كيفية الاستواء مجهولة، وليست معلومة لنا. ***
بارك الله فيكم من المغرب رسالة وصلت من المستمع أحمد يقول: ما هو منهج أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات؟ نرجو من فضيلة الشيخ إجابة مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا السؤال سؤال عظيم، ومنهج أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات منهج وسط بين أهل التعطيل وأهل التثميل: فأهل التمثيل قوم أكدوا لله الصفات، لكن بالغوا في إثباتها وغلوا في ذلك، وجعلوها من جنس صفات المخلوقين، فانحرفوا بذلك عن الصراط المستقيم؛ لأن الله ﷾ يقول في كتابه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) . ويقول جل ذكره: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) . ويقول ﷾: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) . ويقول ﷿: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) . والقسم الثاني معطلة: عطلوا الله ﷾ من صفاته التي أثبتها لنفسه، ونفوها عنه، وحرفوا من أجل ذلك نصوص الكتاب والسنة، وعطلوها من المراد بها بحجج هي شُبَه في الحقيقة وليست بحجج، حكموا في ذلك عقولهم، وجعلوا يثبتون لله ما اقتضت عقولهم إثباته، وينكرون ما لم تقضِ عقولهم إثباته، فظلموا في ذلك وصاروا هم الحاكمين على الله، وليس كتاب الله هو الحاكم بينهم، فأنكروا ما وصف الله به نفسه وقالوا: ليس لله وجه، ليس لله عين، وليس لله يد. وقالوا أيضًا. ليس لله فرح، وليس لله غضب، وليس لله عجب. وقالوا أيضًا: ليس لله فعل: لا استواء على العرش، ولا نزول إلى السماء الدنيا. بل بالغوا حتى قالوا: إن الله ليس عاليًا فوق خلقه، وإنما علوه علوُّ صفة وعلو معنوي، وليس علوًّا ذاتيًّا. وبالغ بعضهم فقالوا: إن الله ﷾ لا يقال: إنه فوق العالم، ولا تحت العالم، ولا يمين ولا شمال، ولا متصل ولا منفصل، وأتوا بأقوال يعجب منها المرء ويقول: كيف يكون هذا مقتضى العقول؟ أما أهل السنة والجماعة فإنهم يثبتون لله تعالى ما أثبته من الأسماء والصفات إثباتًا حقيقيًا، مع نفي المماثلة- أي: مماثلة المخلوقين- فيقولون: نثبت لله كل ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، أي: فيثبتون لله الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر، ويثبتون لله الأفعال المتعلقة بمشيئته: كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والإتيان للفصل بين العباد،؟ ويثبتون لله الفرح والضحك والعجب، ويثبتون لله الحكمة والرحمة، وغير ذلك مما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله ﵌، لكن من غير تحريف ولا تعطيل. ويقولون لهؤلاء الذين أنكروا ما أثبته لله لنفسه، وحكموا على الله بعقولهم، يقولون: إننا إذا سلمنا جدلًا أن ما نفيتموه لا يدل عليه العقل، فإنه قد دل عليه السمع، والسمع دليل شرعي نتفق وإياكم عليه، على أن الكتاب والسنة هما الدليلان بإثبات ما أثبته لنفسه، ونفي ما نفاه عن نفسه، وكونكم تقولون: إن إثبات شيء ما من هذه الصفات يقتضي التمثيل والتشبيه، نقول لكم: وأنتم حين أكدتموه يقتضي على قاعدتكم أنكم مشبهة ممثلة. فأي فرق بين من يقول: إن لله سمعًا وبصرًا، ومن يقول: إن لله رحمة وإن لله وجهًا، وإن الله استوى على العرش؟ إن كان ما أكدتموه لا يدخل في التمثيل فما أكدناه نحن لا يدخل في التمثيل، وإن كان ما أثبتناه يقتضي التمثيل فما أثبتموه يقتضي التمثيل، والتفريق بين هذا وهذا تحكُّم وتناقض، والواجب على المرء أن لا يتقدم بين يدي الله ورسوله لنفي ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله، أو إثبات مالم يثبته الله لنفسه ولا أثبته له رسوله، الواجب في هذا الأمر- يعني: في باب الأسماء والصفات- أن يتلقى من الكتاب والسنة؛ لأنه من الأمور التي لا مجال للعقل فيها، والعقل لا يدرك ما يجب لله من الأسماء والصفات أو يجوز أو يمتنع، وإن كان العقل قد يدرك من حيث الإجمال أن الله موصوف بصفات الكمال ولا بد، ولكن تفاصيل ذلك لا تعلم إلا عن طريق السمع. وخلاصة القول: أن مذهب أهل السنة والجماعة هو إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ونفي ما نفى الله عن نفسه من الصفات، والسكوت عما لم يرد به نفيٌ ولا إثبات؛ لأن هذا هو مقتضى السمع ومقتضى العقل، فنسأل الله تعالى أن يتوفانا على عقيدة أهل السنة والجماعة. ***
بارك الله فيكم هذه رسالة وصلت من سوداني يعمل بالرياض يقول: فضيلة الشيخ أريد أن أعرف مذهب أهل السنة والجماعة في الصفات مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: مذهب أهل السنة والجماعة في ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسول الله ﷺ قبول هذا الوصف، والإيمان به، واعتقاد أنه حق على حقيقته، إلا أنهم ينزهون الله تعالى عن أي نقص في هذه الصفة، أو عن مشابهة المخلوقين فيها. فيؤمنون مثلًا بقوة الله، ويؤمنون بأن هذه القوة لن يلحقها ضعف، ويؤمنون بأن هذه القوة لا تشبه قوى المخلوقين، مهما اجتمعوا وكثروا فإن قوتهم لن تكون مثل قوة الله ﷿. إن لله تعالى يدًا حقيقية، ويؤمنون بأن هذه اليد قوية عظيمة، قال الله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) . وقال تعالى: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) . ويؤمنون بأن هذه اليد لا تماثل أيدي المخلوقين؛ لقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) . فالقاعدة إذًا فيما جاء من صفات الله ﷿ في القرآن أو السنة: الإيمان بذلك، وقبوله، وتنزيه الله ﷾ عن أي نقص فيه، وتنزيه الله تعالى أن يكون مماثلًا للمخلوقين فيه، هذه هي السبيل التي درج عليها أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة وأئمتها، ولهذا كانوا يقولون في آيات الصفات وأحاديثها: أمروها كما جاءت دون كيف. وسئل الإمام مالك ﵀ عن الاستواء فقيل له: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استوى؟ فأطرق رأسه حتى تصبب منه العرق، ثم قال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) . قال الاستواء غير مجهول؛ لأنه معلوم في اللغة العربية أن معنى استوى على كذا أي علا. والكيف غير معقول، أي: غير مدرك بالعقل؛ لأنه فوق ما تتصوره عقولنا. والإيمان به واجب؛ لأن النص ورد به، فقد ذكر الله استواءه على عرشه في سبعة مواضع من كتابه. والسؤال عنه بدعة، أي: السؤال عن كيفيته بدعة لا عن معناه، فإنه لا حرج على الإنسان أن يسأل عن معنى آيات الصفات وأحاديثها؛ لأن هذا من الأمورالتي يمكن الوصول إليها، أما الكيفية فلا يجوز السؤال عنها؛ لأنها من الأمور التي لا يمكن الوصول إليها. ولم تكن من عادة السلف، ولهذا قال ﵀: السؤال عنه بدعة. وهكذا نقول في سائر الصفات: إنها معلومة المعنى مجهولة الكيفية، وإن الإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة. فنقول مثلًا في العين: إن معناها معلوم، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عن كيفيتها بدعة. وهكذا نقول في الوجه، وغير ذلك مما جاء في الكتاب والسنة من صفات الله: إنه معلوم المعنى، مجهول الكيفية. ***
السائل من السودان يقول في هذا السؤال: حدثونا عن مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات التي ذكرت في الكتاب والسنة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات التي ذكرت في الكتاب والسنة هو الكلمة المشهورة: أمروها كما جاءت بلا كيف، وأنه يجب الإيمان بها والتصديق، واعتقاد مقتضاها من غير تحريف ولا تعطيل، ولاتكييف ولا تمثيل، فلا يجوز أن يحرف الكلم عن مواضعه، فيقال مثلًا: المراد باليدين القوة أو القدرة أو النعمة، ولا يجوز أيضًا أن يحرف الوجه عن معناه فيقال: المراد بالوجه الثواب أو ما أشبه ذلك، ولا يجوز أيضًا أن يحرف استواء الله على العرش إلى استيلائه عليه فيقال: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) أي: استولى، ولا يجوز أن يحرف نزول الله إلى السماء الدنيا بنزول أمره أو نزول رحمته، أونزول ملك من ملائكته، ولا يجوز أن يحرف قوله تعالى: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) إلى أن المراد إتيان شيء من آياته، ولا يجوزأن يحرف قول الله ﵎: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) إلى أن المراد بذلك علمنا أو ما أشبه ذلك. المهم أن مذهب أهل السنة والجماعة هو إبقاء النصوص على ظاهرها اللائق بالله ﷿، كما أنه لا يجوز عندهم التمثيل، أي: أن تمثل هذه الصفات بصفات المخلوقين، فيقال مثلًا: إن وجه الله تعالى كوجوهنا، أو يده كأيدينا، أو عينه كأعيننا، أو نزوله كنزولنا، أو استواءه كاستوائنا، كل هذا محرم. فطريقتهم ما دل الكتاب والسنة والعقل على أنها حق، وذلك بإثباتها على ظاهرها، من غير تمثيل ولا تحريف. ***
يقول هذا السائل: يا فضيلة الشيخ ما مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات؟ وما معنى أمروها كما جاءت؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم مذهب أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات إثبات ما أثبته الله لنفسه في القرآن الكريم، أو صح عن النبي ﷺ في سنته المطهرة، فكل ما جاء في القرآن من أسماء الله وصفاته فهو حق، وكل ما جاء في السنة مما صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو حق، ويتبرؤون من أمورٍ أربعة: التمثيل، والتحريف، والتعطيل، والتكييف. فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، ولا يحرفون القرآن والسنة عن ظاهرهما بتأويلٍ ليس بسائغ، ولا يعطلون الله تعالى من صفاته التي أثبتها لنفسه، ولا يعطلون النصوص من دلالتها التي أراد الله بها، ولا يكيفون صفات الله بصفات خلقه، بل يؤمنون بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ولا يتعمقون في البحث عن أسماء الله وصفاته، بل يسكتون عما سكت الله عنه ورسوله، وعما سكت عنه الصحابة ﵃. ومعنى قولهم: أمروها كما جاءت بلا كيف، يعني أبقوا جلالتها على ما هي عليه، وأثبتوا ما دلت عليه من الإثبات، ولا تكيفوا صفات الله بصفات الخلق، أو تكيفوا صفات الله بصفةٍ تتخيلونها وإن خالفت صفة الخلق؛ لأن الله تعالى أخبرنا عن صفاته ولم يخبرنا عن كيفيتها. ***
جزاكم الله خيرًا أبو إبراهيم من دمياط من جمهورية مصر العربية يقول في هذا السؤال: سئل أحد السلف ﵃ عن الأسماء والصفات فقال: أمرُّوها كما جاءت. ما معنى ذلك؟ وهل هذا القول منسوب إلى أحد السلف؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا القول منسوب إلى عموم السلف، يقولون في آيات الصفات وأحاديثها: أمروها كما جاءت بلا كيف، فقولهم: أمروها كما جاءت يعني: لا تتعرضوا لها بتحريف، أي بتأويل يخرجها عن ظاهرها، ويتضمن هذا القول أيضًا إثبات معانيها، وأنه ليس المراد مجرد إثبات اللفظ؛ لأن نصوص الصفات في كتاب الله وسنة رسوله ألفاظ جاءت لإثبات معناها، لا أن نمرها على ألسنتنا دون أن نفهم المعنى، فكأنهم يقولون: أمروها على معناها المراد بها لا تغيروها. وقولهم: بلا كيف، أي: لا تكيفوها، وليس المعنى بلا اعتقاد كيفية لها؛ لأن لها كيفية ضرورة إثباتها، إذ لا يمكن إثبات شيء لا كيفية له، فيكون المعنى: بلا كيف، أي: بلا تكييف لها، لا تكيفوها، لا تقولوا: كيفية وجه الله كذا وكذا، ولا كيفية يديه كذا وكذا، ولا كيفية عينيه كذا وكذا، لأن الله تعالى أجل وأعظم من أن يدرك العباد كيفية صفاته. وفي هذا القول المشهور عن السلف رد على طائفتين منحرفتين: إحداهما: طائفة التعطيل، التي سلبت عن الله تعالى جميع معاني صفاته، وجعلتها ألفاظًا لا معنى لها، أو جعلت لها معاني مخالفة لظاهر اللفظ؛ لأن الذين لم يمروها على ما جاءت انقسموا إلى قسمين: قسم قالوا: لا معنى لها إطلاقًا، وليس علينا إلا إمرار لفظها دون التعرض لمعناها. وقسم آخر قالوا: نتعرض للمعنى، لكن حملوا المعنى على خلاف ظاهرها، وأثبتوا لها معاني من عند أنفسهم لا دليل عليها من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا من أقوال الخلفاء والصحابة. فالأول طائفة المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم من معطلي الصفات، والثانية طريقة الأشاعرة ومن سلك سبيلهم ممن حرفوا نصوص الصفات إلى معانٍ ابتكروها من عقولهم، ولم ينزل الله بها سلطانًا، ولم يثبتوا إلا ما زعموا أن العقل يدل عليه، كالصفات السبع التي أثبتتها طائفة الأشعرية، وأنكروا من الصفات ما العقل أدل عليه من دلالة العقل على هذه الصفات التي أثبتوها. على كل حال الجملة الأولى فيها رد على طائفتين: الأولى من عطلت المعاني مطلقًا، والثانية من أثبتت معاني لا دليل عليها، وربما تكون الطائفة الثانية أشد مخالفة من الطائفة الأولى؛ لأن الطائفة الأولى أمسكت وقالت: لا نثبت معنى، فنفت المعنى، وهذا نفي بلا علم بلا شك. والثانية نفت المعنى المراد وأثبتت معنى آخر لا يدل عليه اللفظ، فصار في ذلك جنايتان: الجناية الأولى: نفي المعنى الذي هو ظاهر اللفظ، والثانية: إثبات معنى لا يدل عليه اللفظ، نسأل الله الهداية للجميع. أما قولهم: بلا كيف، فهو رد على طائفة منحرفة على ضد الطائفتين المعطلتين، وهي طائفة الممثلة الذين قالوا: نثبت لله الصفات، ولكنها على مثل ما كان من صفات المخلوقين: فوجه الله تعالى- على زعمهم، تعالى الله عن قولهم- يكون على مثل أجمل وجه بشري، وهكذا بقية صفاته ﷿. وهؤلاء أيضًا خالفوا قول الله تعالى خبرًا: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) . وعصوا أمر الله تعالى نهيًا في قوله: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) . وخلاصة الجواب أن معنى قول السلف: أمروها كما جاءت: أثبتوا هذه الألفاظ مع معانيها التي دلت عليها، وهو ما يفهم من ظاهرها، على الوجه اللائق بالله ﷿. وقولهم: بلا كيف، رد على الممثلة، أي: لا تكيفوها، وليس المعنى لا تعتقدوا لها كيفية؛ لأن لها كيفية، مجرد القول بإثباتها يستلزم أن يكون لها كيفية، لكنها غير معلومة، ولهذا قال الإمام مالك ﵀ في استواء الله على عرشه: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) . ***
هذا السائل يقول: يا فضيلة الشيخ البعض من الدعاة يقولون بأنه لا ينبغي أن نعلِّم الناس مسائل توحيد الأسماء والصفات؛ لأنها من المتشابه، ولكن إذا حصل إشكال لهم في أي شيء منها- أي: من الصفات- بينا لهم ذلك، فما رأي فضيلتكم بارك الله فيكم وفي علمكم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أقول: إن الناس في هذا الباب- أي: في باب أسماء الله وصفاته- ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: طرفان ووسط. فطرفٌ يقول مثلما قال هذا السائل عن شخصٍ آخر أنه يقول: لا تبينوا أسماء الله وصفاته؛ لأنها من المتشابه، ولكن إذا سألوا فأجيبوهم. وقسمٌ آخر طرفٌ آخر يقول: بينوا للناس أسماء الله وصفاته، ثم ما يتفرع على هذه الأسماء والصفات من الإشكالات أوردوه عليهم، أو تعمقوا في جانب الإثبات واذكروا كل شيء، حتى إن بعضهم يقول مثلًا: كم أصابع الله؟ كيف استوى على العرش؟ هل لله أذن؟ وما أشبه ذلك من الأمور التي يجب الإعراض عنها؛ لأنها لم تذكر في الكتاب ولا في السنة، ولو كان ذكرها مما تتوقف عليه العقيدة الصحيحة لكان الله يبينها لعباده: إما في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. والقسم الثالث وسط يقول: علموا الناس ما يحتاجون إليه في هذا الباب، دون أن تتعمقوا وتتكلفوا ما لستم مكلفين به. وهذا القول هو الصحيح، هو الراجح، أن نعلم الناس ما يحتاجون إليه، إلى معرفته في هذا الباب، وأن لا نتكلف علم، ما ليس لنا به علم، بل نعرض عنه. فمثلًا: إذا شاع في الناس مذهبٌ يخالف مذهب السلف، فلا بد أن نبين للناس مذهب السلف في هذا الباب، لو شاع في الناس أن اليدين اللتين أثبتهما الله لنفسه هما النعم، يجب علينا أن نبين أن هذا خطأ، وأن اليدين صفتان لله ﷿، أثبتهما الله لنفسه، وبين جل وعلا أن يديه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، وأخبر النبي ﷺ (أن الله يبسط يده بالليل ليتوب المسيء بالنهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب المسيء بالليل) . وأخبر أن يد الله ملأى سحاء الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه، وأجمع سلف الأمة على أنهما يدان حقيقيتان ثابتتان لله على وجهٍ يليق به، لكن لا تماثلان أيدي المخلوقين، حتى يزول عن الناس الاعتقاد الذي ليس بصحيح، وهو أنهما النعمتان، هذا لا بد منه. لكن إذا كنا في قومٍ لم يطرأ على بالهم هذا الشيء، ولو دخلنا معهم في مسائل تفصيلية لحصل لهم ارتداد، أو لدخلوا في أمورٍ يتنطعون فيها، فهنا نأخذ بما جاء عن السلف، وخاصةً عن ابن مسعود ﵁ أنه قال: (إنك لن تحدث حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) . وقال عليٌ ﵁: (حدث الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله)؟ أما التعمق في الصفات، وطلب ما لا يمكن العلم به، فإن هذا من التكلف والبدعة، ولهذا لما قال رجلٌ للإمام مالك: يا أبا عبد الله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استوى؟ وكان هذا سؤالًا عظيمًا وقع موقعه في الإمام مالك ﵀، فأطرق برأسه وجعل يتصبب عرقًا، ثم رفع رأسه وقال: (يا هذا! الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) . يريد بذلك ﵀ أن الاستواء غير مجهول، معروف استوى على كذا يعني: علا عليه، قال الله تعالى: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) يعني: علوت عليه وركبت فيه. وقال تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) يعني: إذا علوتم عليه راكبين. فاستوى على العرش يعني: علا عليه علوًا يليق بجلاله وعظمته، هذا معنى قوله: الاستواء غير مجهول. والكيف غير معقول، لم يقل ﵀: الكيف غير موجود، بل قال: الكيف غير معقول، يعني: هناك كيفية استوى الله عليها لكن لا ندري، عقولنا لا تدرك ذلك، وشرعنا لم يأتِ بها، الكتاب والسنة ليس فيهما كيفية استواء الله على العرش، وعقولنا لا تدرك هذا، فانتفى عنها الدليلان العقلي والسمعي، فوجب السكوت، فإذا سئلنا: كيف استوى؟ قلنا: الله أعلم الإيمان به واجب أي بالاستواء واجبٌ على ما أراده الله ﷿ والسؤال عنه بدعة هذا محل الشاهد من كلامنا، هذا السؤال عن الكيفية بدعة، لماذا؟ لأن الصحابة- وهم أحرص منا على معرفة الله، وأحرص منا على العلم، وإذا سألوا سألوا من هو أعلم منا بالإجابة- لم يسألوا النبي ﷺ، لم يقولوا: يا رسول الله كيف استوى؟ مع أنهم يسألون عن أشياء أدق من هذا، لكنهم يعرفون ﵃ أن مثل هذه الأمور لا يمكن العلم بها، لذلك لم يسألوا، وإلا فهم يسألون عما هو أدق، كما سنبين إن شاء. الله أيضًا السؤال عنه بدعة: من سمات أهل البدع؛ لأن أهل البدع هم الذين يحرجون أهل السنة في ذكر الكيفية، يقولون: كيف استوى؟ كيف ينزل إلى السماء الدنيا؟ يحرجونهم ليقولوا: استوى على الكيفية الفلانية، أو ينكروا الاستواء، أو يقولوا: نزل على الكيفية الفلانية، أو ينكروا النزول، فهو من سمات أهل البدع، السؤال عن كيفية الصفات من سمات أهل البدع، ثم إن السؤال عن الكيفية- كيفية الصفات- من التنطع في دين الله، وقد قال النبي ﵊: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) . أو بما جاءت به النصوص من أمور الغيب، ولا تسأل عما وراء ما ذكر لك؛ لأنك لن تصل إلى شيء، وإذا سألت عما لم يذكر لك من أمور الغيب ربما تكون من الذين يسألون عن أشياء لا حاجة لهم بها، بل أنت منهم، وربما تقع في متاهات تعجز عن التخلص منها. وقولنا: إن الصحابة ﵃ يسألون عما دون ذلك، أستدل له بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذكر أن الدجال يخرج ويمكث في الأرض أربعين يومًا: اليوم الأول كسنة كاملة، يعني: اثني عشر شهرًا، واليوم الثاني كشهر، واليوم الثالث كأسبوع، وبقية أيامه كأيامنا. فالصحابة ﵃ لما قال: يوم كسنة، قالوا: يا رسول الله! هذا اليوم الذي كسنة تكفينا فيه صلاةُ يوم واحد؟ قال: (لا، اقدروا له قدره) . فتجدهم أنهم سألوا عن هذا لأنهم مكلفون بالصلوات الخمس في أوقاتها المعلومة، وهذا اليوم سيكون طويلًا، سيكون اثني عشر شهرًا، هل تكفي فيه خمس صلوات؟ لذلك سألوا، فإذا كانوا لم يسألوا الرسول ﵊ فيما يتعلق بصفات الله فإنهم خير سلفٍ لنا نقتدي بهم، ولا نسأل عن كيفية صفات الله، ولا نسأل أيضًا عما لم يبلغنا علمه من هذه الصفات ولا من غيرها من أمور الغيب، كل أمور الغيب الأدب فيها أن يقتصر الإنسان فيها على ما بلغه، وأن يسكت عما لم يبلغه لأنه لو كان في بيانه خيرٌ لبينه الله ورسوله. وأما قول السائل: لا تخبروا العوام بها؛ لأنها من المتشابه. فنقول له: يا أخي ماذا تريد بالمتشابه؟ إذا كانت صفات الله ﷿ وكانت نصوصه الواردة فيها من المتشابه فماذا يبقى بيانًا؟ آيات الصفات من أبين الآيات، أحاديث الصفات من أبين الأحاديث، وليس فيها ولله الحمد شك، كلها معناها معلوم، كلها معناها مفهوم بمقتضى اللسان العربي المبين الذي نزل به القرآن، وكيف ينزل الله علينا شيئًا يتعلق بأسمائه وصفاته ونحن نجهله ولا يمكننا الوصول إليه؟ هذا مستحيل فنقول: إن آيات الصفات وأحاديثها من المعلوم، وليست من المتشابه، فهل يشتبه على أحد قول الله ﵎: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) فلا يدري ما معنى خلق؟ هل يشتبه على أحد قول الله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) أن معناها نفي المماثلة وإثبات السمع والبصر؟ آيات الصفات وأحاديثها ليست من المتشابه، نعم إن أراد القائل بقوله: من المتشابه، يعني: من الذي يشتبه علينا إدراك كيفيته وحقيقته فهذا صحيح، نحن لا نعلم كيفية ما وصف الله به نفسه وكنهه، لكن معناه واضح، ولولا أن معناه واضح ما استطعنا أن ندعو الله بأسمائه، وقد قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) . فالمهم أن هذه الكلمة التي أطلقها بعض العلماء على آيات الصفات وأحاديثه وقال: إنها من المتشابه، نقول له: إن أردت أنها من المتشابه معنىً فلا، وإن أردت أنها من المتشابه حقيقةً وكنهًا، وأننا لا ندرك كيفيتها ولا حقيقة كنهها فهذا حق، وليس بغريبٍ أن نعلم معنى الشيء ولا ندرك حقيقته وكيفيته، نحن نعلم معنى الروح التي بين جنبينا، والتي إذا انسلت من الجسد مات الإنسان، نعم نعلم هذا، لكن هل ندرك حقيقتها وكيفيتها؟ لا أبدًا، نحن نعلم ما ذكر الله عن الجنة بأن فيها من كل فاكهةٍ زوجين ونخلًا ورمانًا وما أشبه ذلك، ولكن هل نحن ندرك حقيقة ذلك وكنهه؟ لا؛ لأن الله يقول: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) . ويقول الله ﷿ في الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر) . والمهم التنبيه على هذه العبارة المتداولة في كلمة المتشابه بالنسبة لأسماء الله وصفاته، حيث يتوصل بها أهل التعطيل إلى أن نسلك مسلكًا سيئًا في ذلك، بحيث نفوض العلم بمعنى أسماء الله وصفاته، كما زعم بعض المتأخرين أن مذهب السلف هو التفويض، أي: تفويض القول بأسماء الله وصفاته إلى الله، وألا نتكلم بشيءٍ من معناها، وهذا القول بالتفويض على هذا الوجه قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: (إنه من شر أقوال أهل البدع والإلحاد) . أما تفويض الحقيقة والكنه فهذا شيء لا بد منه، ولا يضرنا إذا كنا نعلم المعنى، ولكن لا نعلم الكنه والحقيقة التي عليها هذا المسمى والموصوف. ***
بارك الله فيكم فضيلة الشيخ المستمع أبو محمد يقول: هل من أسماء الله (الحق) ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم من أسماء الله تعالى الحق، قال الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ)، (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) . ولكن نسمع كثيرًا من الناس إذا أراد أن يستشهد بآية قال: قال الحق كذا وكذا، والأولى أن يعبر بما كان السلف يعبرون به فيقول: قال الله كذا، حتى كان النبي ﵊ إذا حدث عن الله ﷿ بحديث قال: قال الله تعالى. فالذي ينبغي لنا أن نتبع ما كان عليه سلفنا في مثل هذه الأمور، وإذا أردنا أن نستشهد بآية قلنا: قال الله تعالى كذا وكذا. ***
يقول السائل: هل الحنَّان، المنان،المحسن، من أسماء الله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الحنان لم يثبت أنها من أسماء الله، وأما المنان فثابت أنها من أسماء الله، والمحسن أيضًا من أسماء الله ﵎. ولهذا ما زال الناس يسمون عبد المحسن، عبد المنان، والعلماء يعلمون بذلك ولا ينكرونها. ***
أحسن الله إليكم هل الحفي من أسماء الله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هو في القرآن الكريم: (إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) . ولا أعلمها وردت مطلقة في أسماء الله ﷿، بل هي مقيدة، وبدلًا من أن يدعو الإنسان بقوله: يا حفي احتفِ بي، يقول: يا رحيم ارحمني، وإذا كان عن ذنب يقول: يا غفور اغفر لي، وما أشبه ذلك. ***
تقول السائلة: إن أسماء الله وصفاته على وزن فعيل من صيغ المبالغة، فهل هذا صحيح؟ وهل يصح القول بأن أسماء الله وصفاته من صيغ المبالغة؟ نرجو النصح والتوجيه في هذا مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أسماء الله تعالى وصفاته التي جاءت في القرآن وغير القرآن منها ما هو صفةٌ مشبهة- ويعني العلماء بالصفة المشبهة: الصفة اللازمة للموصوف التي لا ينفك عنها- وذلك مثل: العزيز، الحكيم، السميع، البصير، وما أشبهها، هذه صفةٌ مشبهة، بمعنى: أنها صفةٌ لازمة لا تنفك عن الله ﷿. ومن أسماء الله ما يكون صيغة مبالغة، ومعنى صيغة مبالغة أنها دالةٌ على الكثرة، وليس المعنى أنه مبالغٌ فيها دون إرادة الحقيقة، مثل: الرزاق، فإن الرزاق من أسماء الله ﷾، وجاء بهذه الصيغة للدلالة على كثرة من يرزقه الله ﷿، فإنه ما من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها، ولكثرة رزقه الذي يعطيه ﷾ لمن يشاء، كما قال الله ﷾: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) . ولعل الطالبة فهمت من قول المدرسة: صيغة مبالغة، أنها صيغةٌ مبالغٌ فيها ولا تعني الحقيقة، وليس هذا هو المراد، بل مراد العلماء من قولهم: صيغة مبالغة، أنها دالة على الكثرة، وبهذا التفصيل وبهذا الشرح لمعنى المبالغة يزول الإشكال. فإذا قلنا مثلًا: إن الرزاق من أسماء الله وهو صيغة مبالغة، فليس معناه أن الله ﷾ لا يرزق، بل معناه أنه كثير الرزق. ***
أبو منار يقول: فضيلة الشيخ ما المقصود من كلام الرسول ﷺ عندما قال: (إنما بعثت رحمة للعالمين)؟ وهل يجوز استنادًا لهذا القول أن نقول بأن محمدًا ﷺ رحيم أو كريم أو عليم أو حكيم، أو إلى ما هنالك من صفات الله عز جل؟ أفيدونا بما علمكم الله وجزاكم الله خيرًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما وصف النبي ﷺ بأنه رؤوف رحيم فهذا قد جاء في القرآن الكريم، لكنه مقيد بالمؤمنين، فقال الله ﷿: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) . وأما كونه رحمة فقد قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) . لكن ليس معنى الآية أنه هو الرحمة، بل معناه أن الله رحم به الخلق، يعني: ما أرسلناك إلا لنرحم الخلق بك، فإن النبي ﷺ هو الدال على الله ﷿، المبين شريعته، الداعي إليها، فكان بعثه وإرساله رحمة للعالمين في الدنيا والآخرة. وأما قول السائل: وغير ذلك من أوصاف الله وأسماء الله، فلا نقول به؛ لأن من أسماء الله وأوصافه ما يختص به ﷿: فالله هو الجبار، والمتكبر، والقدوس وما أشبه ذلك مما لا يصح أن يوصف به أحد سوى الله ﷿. ***
رسالة بعث بها المستمع محمد صالح عبد الله من حائل يقول: ما حكم التسمية بأسماء هي من أسماء الله أو صفاته، كمثل: رؤوف، وعزيز، وجبار، ونحو ذلك؟ هل تجوز مثل هذه التسمية، أم يجب تغييرها فيمن تسمى بها؟ فأجاب رحمه الله تعالى: التسمي بأسماء الله ﷿ يكون على وجهين: الوجه الأول: أن يحلى بأل، أو يقصد بالاسم ما دل عليه من صفة، ففي هذه الحال لا يسمى به غير الله، كما لو سميت أحدًا بالعزيز والسيد والحكيم وما أشبه ذلك، فإن هذا لا يسمى به غير الله؛ لأن أل هذه تدل على لمح الأصل، وهو المعنى الذي تضمنه هذا الاسم، وكذلك إذا قصد بالاسم وإن لم يكن محلًّى بأل، إذا قصد بالاسم معنى الصفة فإنه لا يسمى به، ولهذا غير النبي صلى الله وسلم كنية أبي الحكم التي تكنى بها؛ لأن أصحابه يتحاكمون إليه، فقال النبي ﵊: إن الله هو الحكم وإليه الحكم، ثم كناه بأكبر أبنائه شريح، كناه بأبي شريح، فدل ذلك على أنه إذا تسمى أحد باسم من أسماء الله ملاحظًا بذلك معنى الصفة التي تضمنها هذا الاسم فإنه يمنع؛ لأن هذه التسمية تكون مطابقة تمامًا لأسماء الله ﷾. أما الوجه الثاني: فهو أن يتسمى باسم غير محلًّى بأل، ولا مقصود به معنى الصفة، فهذا لا بأس به، مثل حكم وحكيم، ومن أسماء بعض الصحابة حكيم بن حزام الذي قال له النبي ﵊: (لا تبع ما ليس عندك) . وهذا دليل على أنه إذا لم يقصد بالاسم معنى الصفة فإنه لا بأس به، لكن في مثل جبار لا ينبغي أن يتسمى به وإن كان لم يلاحظ الصفة، وذلك لأنه قد يؤثر في نفس المسمى فيكون معه جبروت وعلو واستكبار على الخلق، فمثل هذه الأسماء التي قد تؤثر على صاحبها ينبغي للإنسان أن يتجنبها. والله أعلم. ***
بارك الله فيكم من الجزائر أبو بسام يقول: فضيلة الشيخ ما قول أهل السنة والجماعة في رؤية المسلم لربه ﷿ يوم القيامة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: قول أهل السنة والجماعة في رؤية الله ﷾ يوم القيامة ما قاله الله عن نفسه، وقاله عنه رسوله ﵌ فالله تعالى قال في كتابه: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذ) يعني: يوم القيامة (نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) ناضرة الأولى بمعنى حسنة، الثانية من النظر بالعين؛ لأنه أضاف النظر إلى الوجوه، فالوجوه محل العينين التين يكون بهما النظر، وهذا يدل على أن المراد نظر العين، ولو كان المراد نظر القلب وقوة اليقين لقال: قلوب يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة، ولكنه قال: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) . ومن ذلك قوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) . فالزيادة فسرها أعلم الخلق بمراد الله، رسول الله ﵌ بأنها النظر إلى وجه الله ﷿. ومن ذلك قوله تعالى في الفجار: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) . فحجب هؤلاء الفجار عن الله يومئذ- يعني: يوم القيامة- يدل على أن غيرهم ينظرون إلى الله ﷿، ولو كان غيرهم لا ينظر إلى الله لم يكن بينهم وبين الفجار فرق. ومن ذلك قوله ﵎: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) . فإن هذه الآية تدل على أن الله تعالى يرى بالأبصار، ودليل ذلك أنه نفى الإدراك، وهذا يدل على وجود أصل الرؤية، ولو كان أصل الرؤية غير ثابت ما صح أن ينفى الإدراك. ولا يصح أن يستدل بهذه الآية على امتناع رؤية الله ﷿؛ لأن الآية إنما نفت ما هو أخص من الرؤية، وهو الإدراك، ونفي الأخص يستلزم وجوب الأعم، وهو الرؤية، والله ﷿ يرى يوم القيامة ولكن الأبصار لا تدركه، هذا بالنسبة لما جاء في القرآن. أما السنة: فقد ثبت عن النبي ﷺ ثبوتًا متواترًا لا شك فيه إثبات رؤية الله ﷿ يوم القيامة، أي: إنه يرى ﷾. فمن ذلك قوله ﵌: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا) . والأحاديث في هذا متواترة، كما قال بعض العلماء في نظم شيء من المتواتر: مما تواتر حديث من كذب ومن بنى لله بيتًا واحتسب ورؤية شفاعة والحوض ومسح خفين وهذي بعض هذا هو قول أهل السنة والجماعة: أن الله ﷾ يرى يوم القيامة بالبصر رؤية حقيقية، لكنه مع هذه الرؤية لا يمكن إدراكه ﷿؛ لأنه أعظم من أن تدركه الحواس أو الأفهام أو الخواطر. ولكن يبقى النظر: متى تكون هذه الرؤية؟ نقول: هذه الرؤية تكون في عرصات القيامة- أي: قبل دخول الجنة- وتكون كذلك بعد دخول الجنة. يبقى نظرٌ آخر: هل يراه كل الناس في عرصات القيامة أم ماذا؟ نقول: أما الكفار الخلص فإنهم لا يرون الله ﷿؛ لقول الله تعالى: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) . وأما المنافقون فإنهم يرون الله في عرصات القيامة، ثم لا يرونه بعد ذلك، وهذا أعظم وأشد حسرة عليهم. وأما المؤمنون فإنهم يرون الله تعالى في عرصات القيامة، كما يرونه بعد دخول الجنة. أسأل الله تعالى أن يجعلني وإخواني السامعين ممن ينظر إلى الله ﷿، إنه على كل شيء قدير. ***
أحسن الله إليكم وبارك فيكم فضيلة الشيخ هذا السائل يقول: اختلاف السلف في العقيدة في مسألة رؤية النبي ﷺ لربه أم لا؟ نريد توجيهًا سديدًا في هذه المسألة مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: القول الراجح في هذه المسألة أن النبي ﷺ لم ير ربه؛ لأنه نفسه صلوات الله وسلامه عليه سئل: هل رأيت ربك؟ فقال: (نور أنَّى أراه)؟ وفي رواية: (رأيت نورًا) والله ﷿ قد احتجب عن عباده بحجب النور لا يمكن اختراقها، فإذا كان النبي ﷺ نفسه نفى أن يكون رأى الله، فلا يمكن بعد ذلك أن يدعي مدع أن النبي ﷺ رأى ربه. وما ذكر عن عبد الله بن عباس ﵄ أن النبي ﷺ رأى ربه، فقد قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: إن ابن عباس لم يصرح أن النبي ﷺ رأى ربه بعينه يقظة، وإن قوله- أي: ابن عباس- يعني: أنه رآه بفؤاده، وهو كناية عن العلم اليقيني الذي يكون في القلب حتى كأنه رآه بالعين. وما قاله شيخ الإسلام ﵀ هو الحق، ولن يتمكن أحد في الدنيا أن يرى ربه يقظة أبدًا. ولهذا لما قال موسى ﵊: (رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ) شوقًا إلى الله ﷿، قال الله له: (لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي) . فعلق الرب عزوجل على أمر مستحيل؛ لأنه يستحيل على الجبل أن يصمد على رؤية الله ﷿، وهو جبل أصم، حجر غليظ قاسٍ قال الله تعالى: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) . اندك الجبل أمام موسى يشاهده بعينه، فصعق ﵊ من هول ما رأى. (فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) فشكر الله له وقال: (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) . فالمهم أنه لا يمكن لأحد أن يرى الله ﵎ يقظة في الدنيا، ولن يستطيع أحد أن يَثْبُتَ لذلك. أما في الآخرة: فقد دل القرآن والسنة المتواترة وإجماع الصحابة ﵃ أن الله تعالى يرى في الآخرة رؤية حقيقة بالعين، قال الله ﵎: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إلى ربها ناظرة) . وهذا صريح بأن الإنسان يرى ربه بعينه، إذ إن ما تحصل به الرؤية هو العين، وهي موجودة في الوجه، لكن أضاف الله تعالى النظر إلى الوجه: لأن هذه النظرة إلى الرب ﷿ يحصل بها سرور في القلب ونورفي الوجه، حتى كأن الوجه كله ينظر إلى الله ﷿؛ لتأثره بهذه النظرة التي أسأل الله تعالى أن لا يحرمني وإخواني منها. ومن الأدلة على ذلك- على أن الله تعالى يرى في الآخرة- قول الله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) . فالحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله، كما فسرها بذلك أعلم الخلق بالله وآياته محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. واستدل العلماء بقوله تعالى في أهل الجنة: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) . وقالوا: إن هذا المزيد هو الزيادة التي ذكرت في الآية التي سقناها الآن، وهو النظر إلى وجه الله ﷿، واستدلوا أيضًا بقول الله ﵎ في الأبرار: (عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ) قالوا: إنهم ينظرون الله ﷿، وينظرون ما أعد الله لهم من النعيم؛ لقوله في الفجار: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) . فلما حجب الفجار في حال الغضب جعل النظر للأبرار في حال الرضا، فهذه أربع آيات من كتاب الله. أما السنة عن رسول الله ﷺ الذي هو أعلم الخلق بالله، وأشدهم تنزيهًا لله- فقد تواترت السنة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بثبوت رؤية الله تعالى في الجنة، حتى إن الرسول ﵊ قال ذلك بوجه صريح أصرح من الشمس في رابعة النهار، حيث قال: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته) . وقال: (إنكم سترون ربكم عيانًا، كما ترون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب) . وأما أقوال الصحابة: فقد أجمع الصحابة ﵃ على ثبوت رؤية الله تعالى في الآخرة، فما منهم أحد قال ولا بحرف واحد: إن الله تعالى لا يرى في الآخرة، وهذه أقوالهم مأثورة في كتب السنة، ما منهم أحد نفى أن يرى الله تعالى في الآخرة، بل كلهم مجمعون على هذا، حتى إن بعض أهل العلم قال: من أنكر رؤية الله تعالى في الآخرة فهو كافر؛ لوضوح الأدلة فيها وصراحتها، وإجماع الصحابة عليها، وإجماع الأئمة المتبوعين عليها، ولم يرد عن أحد منهم إنكارها. أسأل الله ﵎ لي ولإخواني النظر إلى وجه الله الكريم، وأسأل الله الهداية لمن أنكروا هذه الرؤية العظيمة التي هي ألذ ما يجده أهل الجنة في الجنة، والله على كل شيء قدير. ***
بارك الله فيكم هذه الرسالة من المستمع محمد طيب منظور أحمد من الباكستان يقول: ما هي أنواع الاستواء في لغة العرب؟ وكيف نثبت لله ﷾ صفة الاستواء؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الاستواء في اللغة العربية يأتي لازمًا، ويأتي متعديًا إلى المعمول بحرف الجر، ويأتي مقرونًا بواو المعية، فهذه ثلاثة وجوه للاستواء. أما الأول- وهو أن يأتي مطلقًا غير مقيد بالمعمول، ولا واو المعية-: فإنه يكون بمعنى الكمال، ومنه قوله تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى) أي: كمل، ومنه قول الناس في لغتهم العامية: استوى الطعام، أي كمل نضجه. والقسم الثاني أو الوجه الثاني: أن يأتي مقرونًا بواو المعية، فيكون بمعنى التساوي، كقولهم: استوى الماء والخشبة، أي: تساويا. والثالث يأتي معدًّى بحرف الجر، فإن عدي بعلى صار معناه العلو والاستقرار، وإن عدي بإلى فقد اختلف المفسرون فيه، فمنهم من يقول: إنه بمعنى الارتفاع والعلو، ومنهم من يقول: إنه بمعنى القصد والإرادة. مثال ماعُدِّيَ بعلى قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، وقوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، وقوله ذلك في سبعة مواضع في القرآن الكريم. ومثال المعدى بإلى قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ)، وقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) . ولذلك اختلف المفسرون في الاستواء، استوى هنا، فبعضهم قال: معناها علا إلى السماء، ومنهم من قال: معناها قصد وأراد، وعلى كل فاستواء الله على العرش من الصفات الثابتة التي يجب على المؤمن أن يؤمن بها، وهو أن الله تعالى استوى على عرشه، أي: علا عليه علوًّا خاصًّا ليس كعلوه على سائر المخلوقات، بل هو علو خاص بالعرش، كما قال تعالى: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ) . ولكن هذا الاستواء ليس معلومًا لنا في كيفيته؛ لأن كيفيته لا يمكن الإحاطة بها، ولم يخبرنا الله عنها ولا رسوله، ولهذا لما سئل الإمام مالك ﵀ عن قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استوى؟ فأطرق برأسه حتى علاه العرق، ثم قال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) . ونحن نعلم معنى الاستواء ونؤمن به ونقره، وهو أنه ﷾ علا على عرشه واستوى عليه، علوًّا واستقرارًا يليق به ﷾، ولكننا لا نعلم كيفية هذا الاستواء، فالواجب علينا أن نمسك عن الكيفية، وأن نؤمن بالمعنى. وأما قول من قال: إن معنى استوى على العرش أي: استولى عليه، فهذا قول لا يصح، وهو مخالف لما كان عليه السلف، ولما تدل عليه هذه الكلمة في اللغة العربية، فلا يعوَّل عليه، بل هو باطل، ولو كان معنى استوى استولى للزم أن يكون الله تعالى مستوليًا على شيء دون شيء، وهوسبحانه وتعالى مستولٍ على كل شيء، وللزم أن يكون العرش قبل هذا ليس ملكًا لله بل ملكًا لغيره، ثم استولى عليه من غيره، وهذه معان باطلة لا تليق بالله ﷾. ***
هذا مستمع من السودان يقول: هذا سؤالٌ يحيرني وأرجو الإفادة عليه، وهو: أن بعض الناس يقولون بأن الله فوق في السماء، وعندنا في السودان علماء التوحيد يقولون بأن الله كان ولا مكان، وهو منزهٌ عن الجهات الست، طبعًا شرق وغرب وشمال وجنوب فوق تحت، نرجو منكم التوجيه حول هذا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: علو الله ﷿ على خلقه ثابت بالكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، فأدلته متنوعة، كل الأدلة الممكنة في إثبات الشيء تدل على أن الله تعالى فوق عباده. أما من القرآن فأدلة ثبوت علو الله على خلقه كثيرةٌ جدًا متنوعة، مثل قوله تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)، (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ)، (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ)، (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرةً. وكذلك الآيات الدالة على أن الأشياء تصعد إليه، كما في قوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)، (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) . وكذلك الآيات الدالة على أن الشيء ينزل من عنده، كما قال الله تعالى: (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ)، والآيات في هذا كثيرة جدًا. وأما السنة فقد دلت بجميع أنواعها على علو الله، دلت بالقول والفعل والإقرار. فالنبي ﵊ يقول في سجوده: (سبحان ربي الأعلى)، وخطب الناس في يوم عرفة وقال: (هل بلغت؟ قالوا: نعم. فأشار إلى السماء يقول: اللهم اشهد)، وسأل جاريةً قال: (أين الله؟ قالت: في السماء قال: أعتقها فإنها مؤمنة) . فاجتمع من السنة القول والفعل والإقرار على علو الله ﷿، وأنه فوق كل شيء. وأما الإجماع: فقد أجمع الصحابة، وأئمة الهدى من بعدهم، على أن الله تعالى فوق كل شيء، ولم يرد عنهم حرفٌ واحد في نفي علو الله ﷿، بل كانوا مجمعين على أن الله تعالى فوق كل شيء. وأما العقل: فإن كل إنسان يعلم بعقله أن العلو صفة كمال، وأن الرب ﷿ له صفة الكمال المطلق، فإذا كان العلو صفة كمال فإن فوات العلو صفة نقص، والله ﷿ منزهٌ عن النقص، فوجب أن يثبت له العلو؛ لأنه صفة كمال. وأما الفطرة: فما من أحدٍ يقول: يا رب، إلا وجد من قلبه ضرورةً بطلب العلو، ولهذا يرفع يديه إلى السماء، واسألوا الذين يسألونه ويدعونه: أين يوجهون أيديهم؟ هل يوجهونها إلى الأرض أو إلى السماء؟ أو إلى اليمين أو إلى الشمال؟ إنهم يوجهونها جميعًا إلى السماء، وهذا أمرٌ فطري لا يختلف فيه اثنان، إلا من اجتالته الشياطين عن الفطرة، وأنكر هذا الأمر الذي فطر عليه الخلق. وإذا كان كذلك فإننا نقول: إن الله كان ﷿ كان ولم يكن شيء قبله، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، وكان عاليًا ﷿ قبل أن يخلق العرش، ولما خلق السماوات والأرض استوى على العرش، كما قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، فكان استواء الله على عرشه بعد خلقه. وهنا نقول: استواء الله على عرشه حين خلق السماوات والأرض تدل الآية الكريمة أنه لم يكن، أما قبل ذلك فالله أعلم، وأما بعد ذلك- أي: بعد خلق السماوات والأرض- فإن الآية تدل على أن الله استوى على عرشه. وأما قولهم: إن الله تعالى منزه عن الجهات الست، فهذا غاية التعطيل والعياذ بالله؛ لأنهم إذا قالوا: إن الله ليس فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف، فإن هذا هو العدم المحض والتعطيل المحض، أين يكون؟ وإذا قلنا: إن الله تعالى في جهة العلو، العلو الذي ليس فوقه شيء، فليس في هذا من نقصٍ في حق الله ﷿؛ لأن العلو على جميع المخلوقات ليس فيه شيء من المخلوقات يمكن أن نقول إنه محاذٍ لله ﷿، بل كل شيء من المخلوقات فإن الله ﷿ فوقه، ولا يحاذي الله ﷿ شيئًا من مخلوقاته، وعين النقص في إثبات مثل ذلك. وأين الوجود إذا قلنا: إن الله تعالى خالٍ من الجهات الست؟ نعم نقول: إنه لا يمكن لجهة أن تحيط بالله؛ لأن الله تعالى محيطٌ بكل شيء، ولا يحيط به شيء من مخلوقاته، فإذا كان فوق كل شيء فإن ما فوق الأشياء ليس أمرًا وجوديًا حتى نقول: إن هذا يقتضي أن يشارك المخلوق الخالق في علوه ﷿، والواجب على الإنسان أن يؤمن إيمانًا قطعيًا بأن الله تعالى فوق كل شيء، وأنه العلي الأعلى، وأنه ﷾ له العلو المطلق: علو الذات، وعلو الصفات، بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة على ذلك. ***
بارك الله فيكم هذا السائل تجاني إسماعيل سوداني ومقيم بالمملكة يقول: أستفسر عن الآيات الكريمة التالية، يقول تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) . والآية الأخرى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) . يقول: على حُسْنِ قول الناس منهم مَنْ يقول بأن الله موجود في السماء، والبعض يقول بأن الله موجود في كل مكان. اشرحوا لنا ذلك مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذه مسألة عظيمة مهمة، وذلك أن الله ﷾ وصف نفسه بأنه العلي، وأنه الأعلى، وأنه القاهر فوق عباده، وأن الأمور تتنزل من عنده وتعرج إليه، وأنه في السماء، وكل هذا يدل على علوه جل وعلا، وأنه فوق كل شيء. فأما قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) فالمراد بذلك الألوهية، لا ذات الرب ﷿، فقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) فالمراد بذلك أن ألوهيته ثابتة في السماء وفي الأرض، فقول القائل: فلان أمير في المدينة وفي مكة، مع أنه في إحداهما وليس فيهما جميعًا وإنما إمرته ثابتة في المدينة وفي مكة، فالله تعالى إله مَنْ في السماء وإله مَنْ في الأرض، وأما هو نفسه جل وعلا ففوق سماواته على عرشه، وعلى هذا فلا منافاة بين هذه الآية وبين قول الله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) . ومعنى قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) أي: إنه علا على العرش؛ لأن استوى في اللغة العربية إذا عديت بعلى صار معناها العلو، كقوله تعالى: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) أي: علوت، وقوله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ. لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ) - أي: تعلوا على ظهوره- (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) أي: علوتم عليه، فهو سبحانه تعالى مستوٍ على العرش أي: عال عليه، وهذا العلو ليس هو العلو العام لجميع المخلوقات، بل هو علو خاص مختص بالعرش، ولهذا يقال: استوى على العرش، ولا يقال: استوى على السماء، ويقال: علا على العرش وعلا على السماء، فالاستواء على العرش علو خاص ليس هو العلو العام لجميع المخلوقات. وقد أخطأ وضل من فسر الاستواء هنا بالاستيلاء والملك، أخطأ من عدة أوجه: الوجه الأول: أنه مخالف لمقتضى اللغة العربية، فلم تأتِ استوى على كذا بمعنى استولى عليه في اللغة العربية، وها هو كلام العرب بين أيدينا لا نعلم أنَّ منهم من عبر عن الاستيلاء بالاستواء أبدًا، فأما ما قيل: قد استوى بِشرٌ على العراق من غير سيف أو دم مهراق فإننا نطالب أولًا بصحة النقل عن شاعر عربي من العرب الخُلَّص، ولا يمكن لأحد أن يثبت ذلك، ثم على فرض أنه ثبت عن شاعر عربي من العرب الخُلَّص فإنَّ هنا قرينةً تمنع أن يكون المراد بذلك العلو على العراق؛ لأن الرجل لا يمكن أن يعلو على العراق علوًا ذاتيًا، وحينئذ يكون المراد به العلو المعنوي وهو الاستيلاء، أما علو الله تعالى نفسه على عرشه فلا مانع منه لا عقلًا ولا سمعًا. ثانيًا: أن نقول: إن تفسير الاستواء بالاستيلاء مخالف لما كان عليه السلف الصالح وأئمة الخلف، فإنهم مجمعون على أن استوى على العرش بمعنى علا عليه، ولم يأت عن أحد منهم حرف واحد يدل على أنهم فسروا الاستواء بالاستيلاء، ومعلوم أن مخالفة السلف ضلال وخروج عن جماعة الحق. ثالثًا: أنه يلزم على تفسير (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) استولى عليه أن يكون العرش قبل هذا ملكًا لغير الله، وأن الله تعالى بالمعالجة حصل عليه من غيره، وهذا لازم باطل جد البطلان. رابعًا: أننا إذا فسرنا استوى باستولى لجاز أن نقول: إن الله استوى على الأرض، وعلى الإنسان، وعلى الجمل، وعلى السفينة، وعلى كل شيء؛ لأنَّ الله تعالى مستولٍ على كل شيء ومالكٌ له، ومعلوم أنه لا أحد يُسَوِّغ أن يقول القائل إن الله استوى على الإنسان، أو على الأرض، أو ما أشبه ذلك. خامسًا: أنَّ الذين فسروه بالاستيلاء مضطربون ومختلفون، واضطراب أهل القول فيه يدل على عدم رسوخه وعدم صحته، وعلى هذا فلا يحل لأحدٍ أن يفسر قول الله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) أو قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) بأن المعنى استولى عليه من أجل هذه الوجوه التي ذكرناها، فالاستواء على العرش يلزم منه العلو المطلق على جميع المخلوقات، وأن الله تعالى عال بنفسه على جميع المخلوقات، ولا يعارضه ما ذكره السائل من قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ)؛ لما ذكرنا في صدر الجواب. ونظير هذه الآية- أعني قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ) - قوله تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) فقال: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ) وليس المعنى أنه نفسه في السماوات وفي الأرض، ولكن المعنى: أن ألوهيته ثابتة في السماوات وفي الأرض. وليعلم أن اعتقاد أن الله تعالى نفسه في كل مكان اعتقاد باطل، لو شعر الإنسان بلوازمه الباطلة ما تفوه به؛ لأنه يلزم من هذا القول أن يكون الله تعالى في كل مكان من الأماكن الطيبة والأماكن الخبيثة، بل لَلَزِمَ منه أن يكون الله تعالى في أجواف الحيوانات وأجواف الناس وما أشبه ذلك، ثم يلزم من هذا أحد أمرين: إما أن يتعدد بتعدد الأمكنة، وإما أن يكون متجزئًا بعضه هنا وبعضه هناك، وكل هذه لوازم فاسدة، تصورها كاف في ردها وإفسادها. ومَنْ قال: إن الله تعالى نفسه في كل مكان، فهو ضال مبتدع ما قَدَر الله حق قدره، ولا عرف عظمته جل وعلا، وكيف يكون في كل مكان وهو الذي قد وسع كرسيه السماوات والأرض؟ (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) . فليتق الله قائل هذا، وليتب إلى ربه قبل أن يدركه الموت على هذه العقيدة الفاسدة، ويلقى ربه على خبث العقيدة وفساد الطوية، نسأل الله السلامة. ***
بارك الله فيكم هذه رسالة من المستمع عبد الله الفؤاد من بيروت لبنان قال: سمع إجابة عن سؤال في برنامجنا هذا: أين الله؟ فأجيب: بأنه في السماء، واستشهد المجيب على ذلك بآيات من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) . ولكن يبدو أن هذا الأخ قد استشكل هذه الإجابة، ولم تطابق مفهومه الذي كان يعتقده، فأرسل يستفسر حول ذلك، أليس توضحون له الحقيقة حول هذا الموضوع؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الحقيقة حول هذا الموضوع أنه يجب على المؤمن أن يعتقد أن الله تعالى في السماء، كما ذكر الله ذلك عن نفسه في كتابه، حيث قال ﷾: (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) . وكما شهد بذلك رسول الله ﷺ، حين أقر الجارية التي سألها: (أين الله؟ قالت: في السماء قال: أعتقها فإنها مؤمنة) . وكما أشار إلى ذلك ﷺ في أعظم مجمع من أمته يوم عرفة، حين خطب الناس خطبته الشهيرة فقال: (ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد)، وجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكتها إلى الناس، فهذا دليل من القرآن ومن السنة على أن الله في السماء. وكذلك دليل العقل أن الله في السماء، فإن السماء علو، والعلو صفة كمال، والرب ﷾ قد ثبت له صفة الكمال، فكان العلو من كماله ﵎، فثبت له ذلك عقلًا. كذلك في الفطرة: فإن الناس مفطورون على أن الله تعالى في السماء، ولهذا يجد الإنسان من قلبه ضرورة لطلب العلو حينما يسأل الله شيئًا، حينما يقول: يا رب، لا يجد في قلبه التفاتًا يمينًا ولا يسارًا ولا أسفل، وإنما يتجه قلبه إلى العلو، بمقتضى الفطرة التي سلمت من اجتيال الشياطين، وما من أحد يصلى فيقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، إلا وهو يشعر بأن الله تعالى في السماء. وقد انعقد إجماع السلف على ذلك، كما ذكر ذلك الأوزاعي وغيره. وعلى هذا فيكون الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، كل هذه الأدلة قد تطابقت على أن الله تعالى في السماء، وأنه جل وعلا عالٍ بذاته كما أنه عالٍ بصفاته. ولكن يجب أن يعلم أن كونه في السماء لا يعني أن السماء تظله وأنها محيطة به، فإن الله تعالى أعظم من أن يظله شيء من خلقه، وهو ﷾ غني عما سواه، وكل شيء مفتقر إليه ﷾، وهو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، فلا يمكن أن تظله السماء، وعلى هذا فيزول المحظور الذي أظن أنه قد شبه على هذا السائل، بأنه إذا قلنا بأن الله في السماء لزم أن تكون السماء مظلة له ﷿، وليس الأمر كذلك. فإن قال قائل: قوله: في السماء، قد يفهم أن السماء تحيط به؛ لأن (في) للظرفية، والمظروف يكون الظرف محيطًا به. فالجواب: أن ذلك ليس بصحيح؛ لأن السماء بمعنى العلو، وأن السماء بمعنى العلو قد ورد في القرآن، كما في قوله تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) . والماء ينزل من السحاب، والسحاب مسخر بين السماء والأرض، فيكون معنى قوله: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ) أي: أنزل من العلو، ويكون معنى قوله: (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) أي: من في العلو. وهناك وجه آخر بأن نجعل (في) بمعنى (على)، ونجعل السماء هي السماء السقف المحفوظ، ويكون معنى (مَنْ فِي السَّمَاءِ) أي: من على السماء، وإذا كان عاليًا عليها فلا يلزمها أن تكون محيطة به. ولا يمكن أن تكون محيطة به. (وفي) تأتي بمعنى (على)،كما في قوله تعالى: (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ) أي: على الأرض، وكما في قوله تعالى عن فرعون: (وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) أي: على جذوع النخل، بكل هذا يزول الإشكال والوهم الذي قد يعتري من لم يتدبر دلالة الكتاب والسنة في هذه المسألة العظيمة. ولا ريب أن من أنكر أن الله في السماء فهو مكذب بالقرآن والسنة وإجماع السلف، فعليه أن يتوب إلى الله ﷿، وأن يتدبر دلالة الكتاب والسنة على وجه مجرد عن الهوى، ومجرد عن التقليد، حتى يتبين له الحق، ويعرف أن الله ﷿ أعظم وأجل من أن يحيط به شيء من مخلوقاته. أما قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) فإن الاستواء بمعنى العلو، كما في قوله تعالى: (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ) أي: تعلو عليها. وكما في قوله تعالى: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) أي: علوت. فالاستواء في اللغة العربية بمعنى العلو، ولا يرد بمعنى الاستيلاء والملك أبدًا، ولو كان هذا صحيحًا لبينه الله ﷿ في القرآن ولو في موضع واحد، والاستواء على العرش ذكر في القرآن في سبعة مواضع، ما فيها موضع واحد عبر عنه بالاستيلاء أبدًا، ولو كان بمعنى الاستيلاء لعبر عنه في بعض المواضع حتى يحمل الباقي عليه. وليس في سنة رسول الله ﷺ حرف واحد يدل على أن الاستواء- أي: إن استواء الله على عرشه- بمعنى استيلائه عليه، وليس في كلام السلف الصالح والأئمة أن استواء الله على العرش بمعنى استيلائه عليه، والمعروف عنهم أنه بمعنى العلو والاستقرار والارتفاع والصعود، هكذا نقل عن السلف، وعلى هذا فيكون المعنى الصحيح لقوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) وما أشبهها من الآيات، أي: الرحمن على العرش علا علوًا خاصًا يليق بجلاله ﵎، ولا يستلزم ذلك أن يكون الله تعالى محتاجًا إلى العرش، بل إنه لا يقتضي ذلك أبدًا، فإنه قد علم أن الله تعالى غنيٌّ عما سواه، وأن كل ما سواه محتاج إليه. فنرجو من الأخ السامع للجواب، الأول أن يرد إليه هذا الجواب حتى يتبين له الحق، بأن يجرد نفسه قبل كل شيء من التقليد، حتى يكون قلبه سليمًا على الفطرة التي فطر الله الناس عليها. ***
يقول السائل: ما حكم الخوض في ذات الله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا يمكن الخوض في ذات الله ﷿؛ لأن الوصول إلى معرفة حقيقة ذات الله ﷿ مستحيلة، ومن رام ذلك فقد يقع في هلاك وشقاء. نعم يفكر ويتأمل في أسماء الله وصفاته، كما قال ﷿: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) . ***
يقول السائل: لقد سمعت بيتًا لأحد السلف الصالح، ولكنه التبس عليَّ الشطر الأخير وشككت فيه من الناحية العقائدية، فأرجو من فضيلة الشيخ أن يبين لي معنى هذا البيت، وهل هو صحيح من ناحية الاعتقاد أم لا؟ البيت هو: إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل خلوتُ ولكن قل علي رقيب إلى أن قال: ولا تحسبن الله يغفل طرفةً ولا أن ما يخفى عليه يغيب فأجاب رحمه الله تعالى: هذان البيتان صحيحان، فإذا خلا الإنسان يومًا من الدهر فلا يقل: إني خلوت؛ لأن عليه رقيبًا من الله ﷿، كما قال الله ﷿: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) . فالإنسان مهما اختفى عن الناس فإنه لن يخفى على الله، كما قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) . ولا تظن أنك إذا اختفيت فإن الله ﷾ يغفل عنك أو لا يعلم بك، فإن الله تعالى يقول: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) . فهو ﷾ محيطٌ بكل شيء علمًا، يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، ويعلم ما ظهر وما بطن. ***
هذه رسالة من المخلصين عبد الله محمد أحمد الرياض منظور أحمد قريشي أحمد حسين، يقول الإخوة: الموضوع يوجد بطاقات مكتوب عليها أسماء الله ﷻ، مثل هذه الصورة التي بجانب الرسالة- وقد ضمنوا هذه الرسالة صورة لكسوة الكعبة، وعليها آيات من كتاب الله المبين- يقول: ترمى في الأرض من قبل ناس لا يعرفون الإسلام، يقول هذه فقط إشارة، وما تنصحون الباعة بذلك، أو من يهمه الأمر بذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذه المسألة كثرت في الناس على أوجه متعددة، منها بطاقات تحمل لفظ الجلالة الله وأخرى إلى جانبها تحمل محمد، ثم توضع البطاقاتان متوازنتين على الجدار أو على لوحة أو ما أشبه ذلك، ونحن نتكلم على هذه الصورة. أولًا: ما فائدة تعليق كلمة الله فقط ومحمد فقط؟ إذا كان الإنسان يظن أنه يستفيد من ذلك بركة فإن البركة لا تحصل بمثل هذا العمل؛ لأن هذا ليس بجملة مفيدة تكسب معنى يمكن أن يحمل على أنه للتبرك، ثم إن التبرك بمثل هذا لا يسوغ؛ لأن التبرك بالله وأسمائه لا يمكن أن يستعمل إلا على الوجه الذي ورد؛ لأنه عبادة، والعبادة مبناها على التوقيف. ثم إن هذا الوضع الذي أشرنا إليه سابقًا: أن توضع كلمة الله وبجانبها موازيةً لها كلمة محمد، هذا نوع من التشريك والموازنة بين الله وبين الرسول ﷺ، وهذا أمر لا يجوز، وقد قال رجل للنبي ﷺ: ما شاء الله وشيءت. فقال النبي ﷺ: (أجعلتني لله ندا؟ ً بل ما شاء الله وحده) . ثم إن التبرك بمجرد وضع اسم النبي ﷺ أيضًا لا يجوز، التبرك إنما يكون بالتزام شريعة النبي ﷺ والعمل بها. هذه صورة مما يستعمله الناس في هذه البطاقات، وقد تبين ما فيها من مخالفة للشرع. أما بالنسبة للصورة الثانية التي أشار إليها الأخ السائل، فهي أيضًا جوازها محل نظر، وذلك لأن الأصل في كتابة القرآن على الأوراق والألواح، الأصل فيه الجواز، لكن تعليقه أيضًا على الجدران في المنازل لم يرد ذلك عن السلف الصالح ﵏، لا عن النبي ﷺ ولا عن أصحابه ولا عن التابعين، ولا أدري بالتحديد متى حصلت هذه البدعة، هذا في الحقيقة بدعة؛ لأن القرآن إنما نزل ليتلى لا ليعلق على الجدران وغيرها، ثم إن في تعليقه على الجدران، فيه مفسدة، زائدًا على أن ذلك لم يرد عن السلف، تلك المفسدة هي أن يعتمد الإنسان على هذا المعلق، ويعتقد أنه حرز له، فيستغني به عن الحرز الصحيح، وهو التلاوة باللسان، فإنها هي الحرز النافع، كما قال النبي ﷺ في آية الكرسي: (من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح) . فالإنسان إذا شعر أن تعليق هذه الآيات على الجدران مما يحفظه، فإنه سيشعر باستغنائه بها عن تلاوة القرآن، ثم إن فيها نوعًا من اتخاذ آيات الله هزوًا، لأن المجالس لا تخلو غالبًا من أقوال محرمة من غيبة أو سباب وشتم، أو أفعال محرمة، وربما يكون في هذه المجالس شيء من آلات اللهو التي حرمها الشرع، فتوجد هذه الأشياء والقرآن معلق فوق رؤوس الناس، فكأنهم في الحقيقة يسخرون به؛ لأن هذا القرآن يحرم هذه الأشياء، سواء كانت الآية المكتوبة هي الآية التي تحرم هذه الأشياء أو آية غيرها من القرآن، فإن هذا بلا شك نوع من الاستهزاء بآيات الله. لذلك ننصح إخواننا المسلمين عن استعمال مثل هذه التعليقات، لا بالنسبة لاسم من أسماء الله أو أسماء الرسول ﷺ، أو آيات من القرآن، ويستعملوا ما استعمله سلفهم الصالح، فإن في ذلك الخير والبركة. بالنسبة لما أشار إليه الأخ من أن هذه البطاقات التي يكتب عليها القرآن ترمى في الأسواق، وفي الزبل وفي مواطئ الأقدام، فهذا أيضًا لا يجوز؛ لما فيه من امتهان القرآن الكريم، لكن المخاطب بذلك من هي في يده، إلا أن الباعة الذين يبيعونها إذا علموا أن هذا يفعل بها غالبًا يكون ذلك موجبًا لتحريم بيعها والاتجار بها؛ لأن القاعدة الشرعية: أنه إذا كان العقد وسيلة لازمة أو غالبةً إلى شيء محرم فإن ذلك العقد يكون حرامًا؛ لأنه من باب التعاون على الإثم والعدوان، وأظن أن الإجابة على السؤال انتهت. أما بالنسبة لتعليق القرآن على المرضى، سواء كانت أمراضهم جسدية أو نفسية للاستشفاء بها، فإن هذه موضع خلاف بين السلف والخلف، فمن العلماء من يجيز ذلك؛ لما يشعر به المريض من راحة نفسية، حيث إنه يحمل كلام الله ﷿، وشعور المريض بالشيء له تأثير على المرض زيادةً ونقصًا وزوالًاَ كما هو معلوم. ومن العلماء من قال: إنه لا يجوز، وذلك لأنه لم يرد عن النبي ﷺ أن يستعمل مثل ذلك للاستشفاء، وإنما الاستشفاء بقراءة ما ورد على المريض، وإذا كان لم يرد عن الشارع أن هذا سببٌ فإن إثباته سببًا نوع من الشرك، ذلك لأنه لا يجوز أن نثبت أن هذا الشيء سبب إلا بدليل من الشرع، فإذا أثبتنا سببيته فمعنى ذلك أننا أحدثنا أمرًا لم يكن في الشرع، وهذا نوع من الشرك. ***
بارك الله فيكم المستمع م. أ. أ. من القصيم يقول: أسأل عن قوله تعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) . لأنني قرأت بعض التفاسير، وخشيت أن يكون في بعضها ما يخالف مذهب أهل السنة والجماعة، وكذلك في قوله تعالى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) . نريد الجواب الشافي؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أحب أن أنبه على قول السائل: إنه يسأل عن قوله تعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) . فإن ظاهر لفظه أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من مقول الله، والذي ينبغي إذا أراد أن يستعيذ الإنسان بالله من الشيطان الرجيم أن يقدمها على قول الله، فيقول مثلًا: أسأل عن هذه الآية ثم يذكرها، أو يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ما معنى قوله تعالى كذا وكذا. وأما بالنسبة لسؤاله: فإن مذهب أهل السنة والجماعة أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله ﷺ، بدون تحريف، بل يجرى الكلام على ظاهره؛ لأن المتكلم به- وهو الله ﷿ أعلم بنفسه من غيره، ولأنه ﵎ أصدق القائلين، وكلامه أفصح الكلام وأبينه، ومراده ﷿ من عباده أن يهتدوا ولا يضلوا، وكذلك رسول الله ﷺ هو أعلم الناس بربه، وكلامه أصدق كلام الخلق وأفصحه، ومراده ﷺ هداية الخلق دون ضلالهم، وهذه الصفات الأربع: العلم والصدق والفصاحة وإرادة الخير، إذا توافرت في كلام فقد بلغ الغاية في وجوب الأخذ بمدلوله على ظاهره، ولا يجوز أن يحرف إلى غير الظاهر. وبناء على هذه القاعدة العظيمة نقول: إن كل ما وصف الله به نفسه من الصفات فهو حق على ظاهرها، ففي الآية الأولى التي ذكرها قال الله ﵎ عن المنافقين: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) . قال ذلك ﷿ ليبين أن خداعهم ومكرهم دون خداع الله تعالى لهم ومكره بهم، فهو كقوله: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) . والخداع ليس وصفًا مطلقًا بالنسبة لله، ولكنه وصف في مقابلة من يخادعونه؛ ليبين أنه ﷿ أقدر منهم على الخداع والمكر، وهذا لا شك يدل على القوة وعلى ضعف المقابل، وليس به أي نقص يتوجه إلى الله ﷿، ولهذا نرى الناس إذا أرادوا أن يخدعوا شخصًا فعرف خداعهم وخادعهم علموا أنه أقوى منهم وأشد، فالخداع في مقابلة المخادع صفة كمال وليس صفة نقص. ويذكر أن علي بن أبي طالب ﵁ لما بارز عمرو بن ود وخرج إليه عمرو قال علي: إني لم أخرج لأبارز رجلين فالتفت عمرو يظن أنه قد لحقه آخر، فلما التفت ضربه علي حتى أهلكه، فهذا من الخداع الجائز، لأن عمرو بن ود إنما خرج من أجل أن يقتل عليًا ﵁، والحرب خدعة، فخدعه علي ﵁ بهذه الكلمة حتى قضى عليه، ويعد هذا من قدرة علي ﵁ وقوته في خداع خصمه. ولهذا نقول: إن الخداع والاستهزاء والمكر والكيد الذي وصف الله به نفسه إنما يوصف الله به في مقابل من فعل ذلك، لا على سبيل الإطلاق. ولهذا ننبه على مسألة يقولها بعض العامة، يقولون: خان الله من يخون، فيظنون أن الخيانة مثل الخداع، وهذا ليس بصحيح، لأن الخيانة خداع في غير موضعه، ومكر في غير موضعه، فلا يجوز أن يوصف الله بها، ولهذا قال الله تعالى: (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُم) ولم يقل: فخانهم؛ لأن الخيانة وصف لا يليق بالله تعالى مطلقًا؛ لأنه مذموم على كل حال. فضيلة الشيخ: قوله تعالى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذه الآية كما قلنا في الآية الأولى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) . وكما أشرنا إلى آية ثالثة: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، وإلى آية رابعة: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدا. ً وَأَكِيدُ كَيْدًا) . ***
يقول السائل: مذهب أهل السنة والجماعة هو بأن كل صفة من صفات الله التي أثبتها لنفسه نثبتها له من غير تأويل ولا تعطيل، ولا تشبيه ولا تمثيل، فكيف نفسر الآيات الكريمات، الآية الأولى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)، (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (١٥) وَأَكِيدُ كَيْدًا)، (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: مذهب السلف الصالح الذي عليه الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين من بعدهم هو: أن الله تعالى يوصف بما وصف به نفسه في كتابه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل. وهذا هو المذهب الحق الذي دل عليه السمع والعقل، أي: دل عليه الشرع والعقل، وذلك لأن صفات الله ﷾ مجهولة لنا، لا نعلم منها إلا ما أخبرنا الله به عن نفسه، وما أخبرنا به عن نفسه فهو حق؛ لأنه خبر صادق ممن هو أعلم بنفسه من غيره، ولأننا لا ندرك ما يجب لله تعالى وما يجوز وما يستحيل عليه على وجه التفصيل إلا عن طريق الكتاب والسنة، وعلى هذا فما وصف الله به نفسه وجب علينا قبوله والإيمان به، لكننا لا نحيط به على وجه الحقيقة، بمعنى: أننا لا ندرك كيفيته، فمثلًا استواء الله على عرشه أثبته الله تعالى لنفسه في سبعة مواضع من كتابه العزيز، فنحن نعلم عن الاستواء على الشيء أنه العلو عليه، كما قال الله ﵎: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) . ولكننا لا نعلم كيفية استواء الله تعالى على عرشه، يعني: لا نعلم على أي صفةٍ هو، ولهذا لما سئل الإمام مالك ﵀ عليه عن ذلك، فقال له رجل: يا أبا عبد الله (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى جعل يتصبب عرقًا من شدة ما سمع من السؤال وهيبته وتعظيمه لله ﷿، ثم قال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) . يعني: أن الاستواء غير مجهول في اللغة العربية، بل هو معلوم، فإن اللغة العربية تدل على أن استوى على الشيء بمعنى علا عليه، والقرآن نزل باللغة العربية، كما قال الله ﵎: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) . وقال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) . أي: صيرناه باللسان العربي من أجل أن تعقلوه وتفهموه. فقوله ﵀: الاستواء غير مجهول، أي: معلوم المعنى واضح المعنى. والكيف غير معقول، أي: إن عقولنا أقصر وأحقر من أن تدرك كيفية استواء الله على عرشه، وهكذا بقية الصفات لا يمكن لعقولنا القاصرة أن تدرك كيفيتها. والإيمان به واجب، أي: الإيمان بالاستواء على ما تقتضيه اللغة العربية واجب؛ لأن الله أخبر به عن نفسه، فوجب علينا قبوله والإيمان به. والسؤال عنه- أي: عن الاستواء، أي: عن كيفيته- بدعة، أي: إنه من ديدن أهل البدع، وهو أيضًا بدعة لكون الصحابة لم يسألوا عنه رسول صلى الله عليه وعلى آله سلم. فالقاعدة العريضة للسلف الصالح وأئمة المسلمين هي: الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله ﷺ، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل. واعلم أن صفات الله تعالى تنقسم إلى قسمين: قسم كمال مطلق بكل حال، فهو يوصف الله به وصفًا مطلقًا على كل حال، كالسمع والبصر والعلم والقدرة والكلام وما أشبهها. وقسم آخر لا يكون كمالًا على كل حال، لكنه كمال في موضعه، كالآيات التي ذكرها السائل، فإن الله لا يوصف بها مطلقًا، أي: على سبيل الإطلاق، وإنما يوصف بها حيث تكون كمالًا، كما سيتبين إن شاء الله من الكلام على كل آية وحدها. فقوله تعالى في الآية الأولى: (الله يستهزئ بهم) أي: المنافقين؛ لأن المنافقين (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) أي: مستهزئون بالمؤمنين حيث نقول لهم: إننا آمنا، وهم لم يؤمنوا، فقال الله تعالى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) . فقابل استهزاءهم بالمؤمنين باستهزائه ﵎ بهم، وذلك حيث مكن لهم وأمهلهم واستدرجهم من حيث لا يعلمون، فهذا استهزاء في مقابلة استهزاء، واستهزاء الله تعالى أعظم وأكبر من استهزائهم بالمؤمنين. والآية الثانية: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) وهذه أيضًا في المنافقين: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)، وفي آية أخرى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ) . والمخادعة وصف محمود إذا وقع في محله، ولهذا قيل: الحرب خدعة، فهؤلاء المنافقون يخادعون الله والذين آمنوا ويغرونهم ويرونهم أنهم مؤمنون- وهم غير مؤمنين- خداعًا ومكرًا وكيدًا، فيقول الله ﷿: إن الله خادعهم، وذلك بإمهاله لهم واستدراجه لهم وحقن دمائهم ومعاملتهم معاملة المسلمين، لكنه ﷿ سيريهم العذاب الأليم حين ينتقلون من الدنيا إلى الآخرة، وهذا لا شك خداع بهم، حيث يعاملهم ﷾ معاملة الرضا وهم على العكس من ذلك. الآية الثالثة: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (١٥) وَأَكِيدُ كَيْدًا) . إنهم يعني: المكذبين للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يكيدون للنبي صلى الله عليه كيدًا عظيمًا، ولكن الله تعالى يكيد بهم كيدًا أعظم. وتأمل قوله: (يَكِيدُونَ) حيث أتى بصيغة الجمع (وَأَكِيدُ) حيث أتى بصيغة الإفراد، فإن كيد الله تعالى أعظم من كيد جميع كيودهم مهما بلغت والكيد والمكر متقاربان، ومعناهما: الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، يعني: أن يوقع الإنسان بخصمه من حيث لا يشعر به، وقد كاد الله تعالى لنبيه ﷺ مع هؤلاء المشركين المكذبين به كيدًا عظيمًا، كما هو معلوم من قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم. وفي الآية الأخيرة: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) هذه أيضًا كقوله: (إنهم يكيدون كيدًا. وأكيد كيدًا) يعني: أن الكفار يمكرون بأولياء الله ﷿، ولكن الله تعالى يمكر بهم، فيقابلهم بما هو أعظم وأشد من مكرهم، ولهذا قال: (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) أي: أعظمهم وأشدهم. والمكر- كما قلت آنفًا- هو الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، فهو دليل على القوة والعلم والقدرة، فيكون في مقابلة الفاعل صفة مدح وكمال، لكن لا يوصف الله تعالى بأنه ماكر على سبيل الإطلاق، أو بأنه خادع، أو بأنه كائد، أو بأنه مستهزئ على وجه الإطلاق، بل يقال: إنه ﷾ ماكر بمن يمكر به، ومستهزئ بمن يستهزئ به، وهكذا. ***
الإيمان بالملائكة
جزاكم الله خيرًا يقول هذا السائل إبراهيم من الرياض: ما هي أهمية الإيمان بالملائكة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإيمان بالملائكة أهميته عظيمة؛ لأن الإيمان بهم أحد أركان الإيمان الستة، كما قال جبريل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره) . أما كيف نؤمن بهم؟ فنؤمن بأنهم عالم غيبي خلقوا من نور، وجعل الله منهم رسلًا ومنهم عبادًا، وهم على قوة عظيمة، ولا سيما جبريل ﵇، فقد وصفه الله بأنه ذو قوة فقال: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِين ٍ* مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) . وهم في وظائفهم أقسام: منهم ملائكة مع الإنسان عن اليمين وعن الشمال يكتبون أعماله الحسنة والسيئة، ومنهم ملائكة يحفظون الإنسان من أمر الله ﷿ يتعاقبون بالليل والنهار، هؤلاء في الليل وهؤلاء في النهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ومنهم ملائكة موكلون بقبض الأرواح، ومنهم ملائكة موكلون بسؤال الأموات بعد الدفن. المهم أنهم عالم غيبي عظيم، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط) - والأطيط هو صرير الرحل، رحل البعير، إذا حمِّل وصار البعير يمشي، يكون له أطيط، أي: صرير- يقول: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ليس فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد) . (وأخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن البيت المعمور الذي في السماء السابعة: أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه في اليوم الثاني، بل يأتي غيرهم، إلى يوم القيامة) أو إلى ما بعد ذلك الله أعلم. المهم أنهم جنود لا يعلمهم إلا الله ﷿، فنؤمن بما عرفنا من أسمائهم، ونؤمن بما عرفنا من أوصافهم، ونؤمن بما عرفنا من وظائفهم، وما عدا ذلك فالله أعلم. ***
بارك الله فيكم المستمع من جمهورية مصر العربية والذي رمز لاسمه بـ م ل م يقول: فضيلة الشيخ نود أن تعطونا نبذة عن خلق الملائكة، وهل تأتي على صورة حيوان؟ ما صحة ذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الملائكة عالم غيبي خلقهم الله ﷾ من نور، وكلفهم بما شاء من العبادات والأوامر، واصطفى منهم رسلًا، كما قال الله تعالى: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) . فمنهم الرسل الموكلون بالوحي، كجبريل ﵊. ومنهم الرسل الموكلون بقبض أراوح بني آدم، كما قال الله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) . ومنهم الكتبة الذين يكتبون أعمال بني آدم، ومنهم الحفظة الذين يحفظونهم من أمر الله، ومنهم السياحون الذين يسيحون في الأرض يتلمسون حلق الذكر، إلى غير ذلك مما جاء في الكتاب والسنة من أعمالهم ووظائفهم. وأما أوصافهم: فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه رأى جبريل وله ستمائة جناح قد سد الأفق، ولكن مع هذا له قدرة بإذن الله ﷿ أن يكون على صورة إنسان، كما جاء جبريل إلى النبي ﵊ على صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد من الصحابة، فجلس إلى النبي ﷺ، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، وسأل النبي ﷺ عن الإسلام والإيمان والإحسان، وعن الساعة وأشراطها، وكما جاء إليه بصورة دحية الكلبي، وكما أخبرنا النبي ﵊ في قصة الثلاثة من بني إسرائيل: الأبرص والأقرع والأعمى، وأن الملك جاء إلى كل واحد منهم وسأله عن أحب ما يكون إليه، ثم بعد أن أنعم الله عليهم بإزالة العيوب وبالمال عاد إليهم الملك بصورة كل واحد منهم قبل أن يزول عنه العيب ويحصل له الغنى، والقصة معروفة مشهورة. ثم إن الملائكة عليهم الصلاة والسلام لهم قدرة عظيمة، وسرعة عظيمة في الطيران والوصول إلى الغايات، ألم تر إلى قول سليمان ﵊: (يَا أَيُّهَا المَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مسلمين) أي: عرش بلقيس، وهو السرير الذي تجلس عليه، وهو عرش عظيم. (قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) . قال أهل العلم: إن هذا الرجل دعا الله ﷿، فحملت الملائكة العرش حتى وضعته عند سليمان ﵊. ثم ألم تر إلى الإنسان يموت فتقبض الملائكة روحه، وتصعد بها إلى الله ﷿ إذا كان مؤمنًا إلى ما فوق السماوات، وتعاد إليه روحه إذا دفن في قبره؟ وكل هذا يدل على أن الملائكة عليهم الصلاة والسلام لهم قوة عظيمة وسرعة عظيمة. ومن أراد أن يقف على شيء من أوصافهم وأحوالهم فليرجع إلى الكتب المصنفة في ذلك، منها كتاب البداية والنهاية لابن كثير ﵀. ***
المستمعة أشواق تقول: إن الله ﷾ قد خلق لنا كرامًا كاتبين، يكتبون كل ما نقول ونفعل. السؤال: ما الحكمة من خلقهم؟ مع العلم بأن الله ﷾ يعلم ولا يخفى عليه ما نسر وما نعلن؟ فأجاب رحمه الله تعالى: جوابنا على هذا السؤال أن نقول: أولا: ً مثل هذه الأمور قد ندرك حكمتها وقد لا ندرك، فإن كثيرًا من الأشياء لا نعرف حكمتها، كما قال الله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) . فإن هذه المخلوقات لو سألنا سائل: ما الحكمة أن الله جعل الإبل على هذا الوجه؟ وجعل الخيل على هذا الوجه؟ وجعل الحمير على هذا الوجه؟ وجعل الآدمي على هذا الوجه؟ وما أشبه ذلك، لو سُئلنا عن الحكمة في هذه الأمور ما علمناها، ولو سُئلنا: ما الحكمة في أن الله ﷿ جعل صلاة الظهر أربعًا، وصلاة العصر أربعًا، وصلاة العشاء أربعًا؟ وما أشبه ذلك ما استطعنا أن نعرف الحكمة في ذلك، إذ قد يقول قائل: لماذا لم تجعل ثماني أو ستًا؟ ولهذا علمنا أن كثيرًا من الأمور الكونية وكثيرًا من الأمور الشرعية تخفى علينا حكمتها، وإذا كان كذلك فإنا نقول: إن التماسنا للحكمة في بعض الأشياء المخلوقة أو الأشياء المشروعة إن منّ الله علينا بالوصول إليها فذاك زيادة فضل وخير وعلم، وإن لم نصل إليها فإن ذلك لم ينقصنا شيئًا. ثم نعود إلى جواب السؤال، وهو: ما الحكمة في أن الله وكل بنا كرامًا كاتبين يعلمون ما نفعل؟ فالحكمة من ذلك بيان أن الله ﷾ نظم الأشياء وقدرها، وأحكمها إحكامًا متقنًا، حتى أنه ﷾ جعل على أفعال بني آدم وأقوالهم كرامًا كاتبين يكتبون ما يفعلون، مع أنه ﷾ عالم بما يفعلون قبل أن يفعلوه، ولكن كل هذا من أجل بيان كمال عناية الله ﷿ بالإنسان، وكمال حفظه ﵎، وأن هذا الكون منظم أحسن نظام، ومحكم أحسن إحكام. ***
بارك الله فيكم المستمعة من المدينة المنورة أم عبد الله تقول: فضيلة الشيخ بعض الناس يقومون بوضع البخور في بيوتٍ قديمة، يدعون أنهم يبخرونها للملائكة، ويضعون قطعًا من القماش ويبخرونها. فما حكم الشرع في نظركم في ذلك مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أقول: إن هؤلاء جماعة من الخرافيين السفهاء في عقولهم، الضالين في عملهم؛ لأن الملائكة لا يمكن أن تكون أماكنها الأماكن الخربة، الأماكن الخربة يمكن أن تكون مأوى الجن أو الشياطين، أما الملائكة فإن مأواها في الأرض هي بيوت الله ﷿، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيمن أكل بصلًا أو ثومًا قال: (فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)، فالطيبات للطيبين والطيبون للطيبات. وأضل من ذلك أن يبخروا هذه الأماكن، وكذلك يجعلون قطعًا من القماش ويبخرونها، وكل هذا ضلال في الدين وسفه في العقل. والواجب على من علم بذلك أن ينكر على من فعلها، ويبين له أن هذا خطأ عظيم، وأن الملائكة عليهم الصلاة والسلام أجل وأكرم عند الله من أن يجعل مأواهم هذه البيوت الخربة. ***
يقول السائل: هل هناك أدلة تدل على أفضلية الملائكة على الصالحين من بني البشر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذه المسألة- وهي: المفاضلة بين الملائكة وبين الصالحين من البشر- محل خلاف بين أهل العلم، وكل منهم أدلى بدلوه فيما يحتج به من النصوص، ولكن القول الراجح أن يقال: إن الصالحين من البشر أفضل من الملائكة باعتبار النهاية، فإن الله ﷾ يؤدي لهم من الثواب ما لا يحصل مثله للملائكة فيما نعلم، بل إن الملائكة في مقرهم- أي: في مقر الصالحين، وهو الجنة- يدخلون عليهم من كل باب يهنئونهم: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. أما باعتبار البداية فإن الملائكة أفضل؛ لأنهم خلقوا من نور، وجبلوا على طاعة الله ﷿ والقوة عليها، كما قال الله تعالى في الملائكة ملائكة النار: (عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) . وقال ﷿: (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) هذا هو القول الفصل في هذه المسألة. وبعد فإن الخوض فيها، وطلب المفاضلة بين صالح البشر والملائكة، من فضول العلم الذي لا يضطر الإنسان إلى فهمه والعلم به. والله المستعان. ***
الجن والشياطين
جزاكم الله خيرًا عبد المجيد محمد له هذا السؤال يقول: ما الفرق بين الجن والشياطين؟ وهل هم من فصيلة واحدة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الشياطين يكونون من الجن والإنس، كما قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) . بل يكون الشيطان من غير العقلاء، كما قال النبي ﷺ: (الكلب الأسود شيطان) . وأما الجن فإنه من ذرية إبليس، كما قال الله تعالى: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) . ***
هذه رسالة وردتنا من أحد السادة المستمعين يقول: أخوكم في الله ريكان غيلان الضامن من الجمهورية العراقية يقول: نحن نعرف أن إبليس هو أبو الشياطين، فكيف تتكاثر الشياطين وكيف تتناقص؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نقول: لا شك أن إبليس هو أبو الجن؛ لقوله تعالى: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) . وقوله عن إبليس وهو يخاطب رب العزة ﷾: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) . وقوله تعالى: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُو) . فهذه الأمور أدلتها واضحة أن الشيطان له ذرية، وأن الجن ذريته، ولكن كيف يكون ذلك؟ هذا ما لا علم لنا به، وهو من الأمور التي لا يضر الجهل بها، ولا ينفع العلم بها. والله أعلم. ***
السائل أنور محمد إبراهيم من العراق محافظة ذي قار يقول: كيف هي حقيقة حياة الجن؟ وهل بينهم تزاوج شرعي؟ وهل هم يعيشون ويموتون مثلنا نحن الإنس؟ وهل لهم تأثير على الإنس؟ فأجاب رحمه الله تعالى: حقيقة حياة الجن الله أعلم بها، ولكننا نعلم أن الجن أجسام لها حقيقة، وأنهم خلقوا من النار، وأنهم يأكلون ويشربون ويتزاوجون أيضًا، ولهم ذرية، كما قال الله تعالى في الشيطان: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) . وأنهم مكلفون بالعبادات، فقد أرسل إليهم النبي ﵊، وحضروا واستمعوا القرآن، كما قال الله تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) . وكما قال تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) إلى آخر الآيات. وثبت عن النبي ﵊ أنه قال للجن الذين وفدوا إليه وسألوه الزاد، قال: (لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، تجدونه أوفر ما يكون لحمًا) . وهم- يعني: الجن- يشاركون الإنسان إذا أكل ولم يذكر اسم الله على أكله، ولهذا كانت التسمية على الأكل واجبة، وكذلك على الشرب، كما أمر بذلك النبي ﷺ وعليه. فإن الجن حقيقة واقعة، وإنكارهم تكذيب للقرآن، وكفر بالله ﷿، وهم يؤمَرون وينهون، ويدخل كافرهم النار، كما قال الله تعالى: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنَ قَبْلِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا) . ومؤمنهم يدخل الجنة أيضًا لقوله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٧) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) . والخطاب للجن والإنس، ولقوله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا) . إلى غير ذلك من الآيات والنصوص الدالة على أنهم مكلفون، يدخلون الجنة إذا آمنوا، ويدخلون النار إذا لم يؤمنوا. فضيلة الشيخ: تأثيرهم على الإنس. فأجاب رحمه الله تعالى: أما تأثيرهم على الإنس فإنه واقع أيضًا، فإنهم يؤثرون على الإنس: إما أن يدخلوا في جسد الإنسان فيصرع ويتألم، وإما أن يؤثروا عليه بالإيحاش والترويع وما أشبه ذلك. فضيلة الشيخ: كيف العلاج من تأثيرهم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: العلاج من تأثيرهم بالأوراد الشرعية، مثل: قراءة آية الكرسي، فإن من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح. ***
بارك الله فيكم، المستمعة هناء محمد تقول: سمعت بأنه يوجد جن صالحون وجن شياطين، هل يظهرون للإنسان؟ وكيف نتجنب ظهورهم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا شك أن الجن كالإنس فيهم الصالحون، فيهم المسلمون، فيهم الكافرون، فيهم الأولياء الذين آمنوا بالله وكانوا يتقون. ذكر الله ﵎ في سورة الجن عن الجن أنهم قالوا: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ) . وقالوا أيضًا: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (١٤) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) . وفيهم- أي: في الجن- من يحب الصالحين من الإنس، وربما يخاطبهم وينتفع بهم بالنصيحة والتعليم، وفيهم- أي: في الجن- فساق وكفار يحبون الفاسقين والكافرين ويبغضون المؤمنين وأهل الاستقامة، وفي الجن من يحب العدوان على الإنس والأذية، وهم في الأصل عالم غيبي لا يظهرون للإنس، لكن ربما يظهرون أحيانًا ويراهم الإنس وربما يتشكلون بأشكال مؤذية مزعجة لأجل أن يروعوا الإنس، ولكن الإنسان إذا تحصن بالأوراد الثابتة عن رسول الله ﷺ كفاه الله شرهم، ومن ذلك قراءة آية الكرسي، وهي قوله تعالى: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) . فإن هذه الآية العظيمة من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، ولكن لابد أن يكون القارئ مؤمنًا بها، مؤمنًا بأثرها، مؤمنًا بأن الله تعالى يحفظه بها من كل شيطان، أما من قرأها وهو غافل، أو من قرأها مجربًا غير موقن بأثرها فإنه لا ينتفع بها. ***
هل الجن قد أسلموا برسالة محمد ﷺ، وآمنوا بالرسل من قبل؟ وأيضًا هل مفروض عليهم الحج؟ وإن كان كذلك فأين يحجون؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الجواب على ذلك أن الجن مكلفون بلا شك، مكلفون بطاعة الله ﷾، وأن منهم المسلم والكافر، ومنهم الصالح ومنهم دون ذلك، كما ذكر الله تعالى في سورة الجن عنهم حيث قالوا: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) . وقالوا: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) . وقد صرف الله نفرًا من الجن إلى رسول الله ﷺ، فاستمعوا القرآن وآمنوا به، وذهبوا دعاة إلى قومهم، كما قال الله تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) . وهذا يدل على أن الجن كانوا يؤمنون بالرسل السابقين، وأنهم يعلمون كتبهم؛ لقولهم: (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) . وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه أكرم الوفد، وفد الجن الذين وفدوا إليه بأن قال لهم: (لكم كل عظم يذكر اسم الله عليه، تجدونه أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة فهي علف لدوابكم) .ولهذا (نهى النبي ﷺ عن الاستجمار بالعظام، وعن الاستجمار بالروث، وقال: إن العظام زاد إخوانكم من الجن) . فضيلة الشيخ: يقول: هل مفروض عليهم الحج؟ وإن كان كذلك فأين يحجون؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الظاهر أنهم مكلفون بما يكلف به الإنس من العبادات، ولاسيما أصولها كالأركان الخمسة، وحجهم يكون كحج الإنس زمنًا ومكانًا، وإن كانوا قد يختلفون عن الإنس في جنس العبادات التي لا تناسب حالهم، فتكون مختلفة عن التكليف الذي يكلف به الإنس. ***
بارك الله فيكم هذه الرسالة من السائلة الزهراء ع. م. ن. من البيضاء من الجماهيرية العربية الليبية تقول: هل للجن تأثيرٌ حقيقة على الإنسان؟ كما نسمع من تسلط بعض ذكور الجن على إناث الإنس، وتسلط بعض إناث الجن على رجال من الإنس؟ وكيف التخلص من هذا إن كان هذا واردًا؟ وبأي الطرق يمكن معالجة من به مثل هذه الحالة، دون الرجوع إلى وسائل محرمة ومخالفة للتوحيد؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم لاشك أن الجن لهم تأثير على الإنس، بالأذية التي قد تصل إلى القتل، وربما يؤذونه برمي الحجارة، وربما يؤذونه بالإيحاش، أي: يروعونه، إلى غير ذلك من الأشياء التي ثبتت بها السنة ودل عليها الواقع. وقد ثبت أن الرسول ﵊ أذن لبعض أصحابه أن يذهب إلى أهله في إحدى الغزوات- وأظنها غزوة الخندق- وكان شابًا حديث عهد بعرس، فلما وصل إلى بيته وإذا امرأته على الباب، فأنكر عليها ذلك فقالت له: ادخل، فدخل فإذا حية ملتوية على الفراش، فكان معه رمح فوخزها بالرمح حتى ماتت، وفي الحال وفي الزمن أو في اللحظة التي ماتت فيها الحية مات الرجل، فلا يدرى أيهما أسبق موتًا: الحية أم الرجل؟ فلما بلغ ذلك النبي ﷺ (نهى عن قتل الجان التي تكون في البيوت، إلا الأبتر وذا الطفيتين) . وهذا دليل على أن الجن قد يعتدون على الإنس، وأنهم يؤذونهم. كما أن الواقع شاهد بذلك، فإنه قد تواترت الأخبار واستفاضت الأخبار بأن الإنسان قد يأتي إلى خربة فينال الحجارة، وهو لا يرى أحدًا من الإنس في الخربة، وقد يسمع أصواتًا، وقد يسمع حفيفًا كحفيف الأشجار، وما أشبه ذلك مما يستوحش به ويتأذى به. وكذلك أيضًا قد يدخل الجني إلى جسد الآدمي: إما لعشق، أو لقصد الإيذاء، أو لسبب آخر من الأسباب. ويشير إلى هذا قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) . وفي هذا النوع قد يتحدث الجني من باطن نفس الإنسي ويخاطب من يقرأ عليه آيات من القرآن، وربما يأخذ القارئ عليه عهدًا ألا يعود، إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة التي استفاضت بها الأخبار وانتشرت بين الناس. وعلى هذا فإن الوقاية المانعة من شره- من شر الجن- أن يستعيذ الإنسان، أو أن يقرأ الإنسان ما جاءت به السنة مما يتحصن به منهم، مثل: آية الكرسي، فإنها آية إذا قرأها الإنسان في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح. ***
يقول السائل: من المعلوم أن من الجن من هم صالحون، كما يثبت ذلك ويؤكده القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ) . فهل يجوز الاستعانة بهم في الأشياء التي هي فوق طاقة الإنسان وقدرته؟ أم أن ذلك يؤثر على عقيدة المسلم وتوحيده؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لاشك أن الجن كما ذكر السائل وعلى ما استدل به من أن فيهم الصالح وفيهم دون ذلك، كما في الآية الكريمة التي ذكرها السائل، وفيهم أيضًا المسلم والكافر، كما قال تعالى: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (١٤) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) . ومن المعلوم أن الصالح منهم لا يرضى بالفسق ولا يعين عليه، وكذلك المسلم لا يرضى بالكفر ولا يعين عليه، ولهذا قال الله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) . فكافرهم يدخل النار، كما تفيده هذه الآية والآية التي في سورة الجن: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) . ومؤمنهم يدخل الجنة على القول الراجح من أقوال أهل العلم؛ لقوله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) . فأخبر أن لمن خاف مقام ربه جنتين، وخاطب بذلك الجن والإنس في قوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) . وقد سمى النبي ﵊ المؤمنين منهم إخوة لنا، حين نهى عن الاستنجاء بالعظام وقال: (إنها طعام إخوانكم أو زاد إخوانكم) يعني: من الجن. وأما الاستعانة بهم: فإني أحيل السائل على ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوي جمع ابن القاسم صفحة ثلاثمائة وسبع مجلد أحد عشر، وما ذكره ﵀ في كتابه النبوات صفحة مائتين وستين إلى مائتين وسبع وستين، ففيه كفاية. ***
أسمع دائمًا من الناس أن الجن يتصورون في صورة طيور وقطط وأغنام، وأنا أنكر ذلك ولم أصدق به؛ لأن الجن مخلوق مثلنا، ولن يستطيع تغيير الخلق إلا الله ﷾. فهل هذا صحيح أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الذي ذكرته أمرٌ مشهور بين الناس أن الجن قد يتشكلون بشكل شيء مشاهد ومرئي، وربما يشهد له الحديث الثابت في الصحيح أن رجلًا شابًا من الأنصار كان حديث عهدٍ بعرس، فجاء ذات يومٍ أو ليلة فوجد أهله على الباب، فسألهم: ما هو السبب؟ فذكرت له ما في الفراش، فذهب إلى فراشه فوجد فيه حيةً، فأخذ رمحًا فطعنها فماتت هذه الحية، ثم مات الرجل فورًا، فلا يدرى أيهما أسرع موتًا: الرجل أم الحية؟ ثم إن النبي ﷺ نهى عن قتل الحيات التي تكون في البيوت، إلا الأبتر وذا الطفيتين. وهذا يدل على أن هذا كان جنًا، وأنه وقد تصور بصورة الحية، والحكايات في ذلك كثيرةٌ ومشهورة، ولكن هذا الحديث الصحيح قد يشهد لصحتها. وكما أنه يتصور الملائكة عليهم الصلاة والسلام بأشكالٍ ليست على هيئتهم التي خلقوا عليها، فإن جبريل ﷺ كان يأتي إلى النبي ﷺ أحيانًا بصورة دحية الكلبي، وجاء إليه مرة بصورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحدٌ من الصحابة، وجلس إلى النبي ﷺ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه جلسة المتأدب، ثم سأل النبي ﷺ الأسئلة المشهورة في الإسلام والإيمان والإحسان، والساعة وأشراطها، ثم قال النبي ﷺ: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) . ومن المعلوم أن قدرتهم على التشكل بهذا الشكل إنما هي من الله ﷾، فهو الذي أقدرهم على ذلك، فلا يبعد أن يكون الجن هكذا يستطيعون أن يتصوروا أو يتشكلوا للناس بأشكالٍ متعددة، هذا الذي ظهر لي في هذه المسألة. ***
الإيمان بالكتب
التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة هل هي منسوخة بالقرآن؟ وما هو الدليل من القرآن إن وجد؟ والسنة المطهرة؟ وما حكم قراءتها بالنسبة للعالم للاطلاع؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الكتب السابقة منسوخة بالقرآن الكريم؛ لقول الله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) . فكلمة: (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) تقتضي أن القرآن الكريم حاكم على جميع الكتب السابقة، وأن السلطة له، فهو ناسخ لجميع ما سبقه من الكتب. وأما قراءة الكتب السابقة: فإن كان للاهتداء بها والاسترشاد فهو حرام ولا يجوز؛ لأن ذلك طعن في القرآن والسنة، حيث يعتقد هذا المسترشد أنها- أي: الكتب السابقة- أكمل مما في القرآن والسنة، وإن كان للاطلاع عليها ليعرف ما فيها من حق فيرد به على من خالفوا الإسلام فهذا لا بأس به، وقد يكون واجبًا؛ لأن معرفة الداء هي التي يمكن بها تشخيص المرض ومحاولة شفائه، أما من ليس عالمًا ولا يريد أن يطلع ليرد فهذا لا يطالعها. إذًا فأقسام الناس فيها ثلاثة: من طالعها للاسترشاد بها فهذا حرام ولا يجوز؛ لأنه طعن في كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ، ومن طالعها ليعرف ما فيها من حق فيرد به على من تمسكوا بها وتركوا الإسلام فهذا جائز، بل قد يكون واجبًا، ومن طالعها لمجرد المطالعة فقط، لا ليهتدي بها ولا ليرد بها، فهذا جائز، لكن الأولى التباعد عن ذلك؛ لئلا يخادعه الشيطان بها. ***
تقول السائلة: ماحكم قراءة الكتب السماوية مع علمنا بتحريفها؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أولًا يجب أن نعلم أنه ليس هناك كتابٌ سماوي يتعبد لله بقراءته، وليس هناك كتابٌ سماوي يتعبد الإنسان لله تعالى بما شرع فيه، إلا كتابًا واحدًا وهو القرآن، ولا يحل لأحد أن يطالع في كتب الإنجيل ولا في كتب التوراة، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى مع عمر بن الخطاب ﵁ صحيفة من التوراة، فغضب وقال: (أفي شكٍ أنت يا ابن الخطاب)؟ والحديث وإن كان في صحته نظر لكن صحيح أنه لا اهتداء إلا بالقرآن. ثم هذه الكتب التي بأيدي النصارى الآن أو بأيدي اليهود هل هي المنزلة من السماء؟ إنهم قد حرفوا وبدلوا وغيروا، فلا يوثق أن ما في أيديهم هي الكتب التي نزلها الله ﷿، ثم إن جميع الكتب السابقة منسوخة بالقرآن، فلا حاجة لها إطلاقًا. نعم لو فرض أن هناك طالب علم ذا غيرةٍ في دينه وبصيرةٍ في علمه طالع كتب اليهود والنصارى من أجل أن يرد عليهم منها فهذا لا بأس أن يطالعها لهذه المصلحة، وأما عامة الناس فلا، وأرى من الواجب على كل من رأى من هذه الكتب شيئًا أن يحرقه، النصارى عليهم لعنة الله إلى يوم القيامة صاروا يبثون في الناس الآن ما يدعونه إنجيلًا على شكل المصحف تمامًا، مشكل على وجهٍ صحيح، وفيه فواصل كفواصل السور، والذي لا يعرف المصحف- كرجلٍ مسلم ولكنه لا يقرأ- إذا رأى هذا ظن أنه القرآن، كل هذا من خبثهم ودسهم على الإسلام، فإذا رأيت أخي المسلم مثل هذا فبادر بإحراقه يكن لك أجر؛ لأن هذا من باب الدفاع عن الإسلام. ***
عثمان محمد علي سوداني يقول في رسالته: عثرت على بعض الكتب المسيحية، فهل يصح إحراقها أم يجب عليّ أن أدفعها للمسيحيين لأنها تخصهم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: كأن السائل يريد أنه وجد نسخًا من الإنجيل، وأشكل عليه: هل يحرقها، أو يدفعها للنصارى الذين يدعون أنهم متبعون لعيسى بن مريم ﵊؟ والذي أرى أنه يجب عليه إحراقها، وأنه لا يحل له أن يعطيها النصارى. ***
هذه الرسالة وردتنا من الأخ صلاح ساري أبو الخير من جمهورية مصر العربية من دقهلية يقول في رسالته: ما هو الحكم في الذي يقرأ بالإنجيل؟ فهل هو حلال أم حرام، مع العلم أنه يتلو القرآن؟ فأجاب رحمه الله تعالى: تلاوة غير القرآن الكريم من الكتب السابقة تقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون التالي عالمًا بالشريعة، ويتلوها ليقيم الحجة على معتنقيها بصدق ما جاء به الإسلام، فالتلاوة هنا وسيلة إلى أمر محمود فتكون محمودة. والقسم الثاني: أن تكون التلاوة من عامي لا يعرف الشريعة، ويقصد الاهتداء بهذه الكتب، فهذه حرام عليه، أي: هذه التلاوة حرام عليه؛ لأنه لا يجوز أن يسترشد بالكتب السابقة وعنده هذا القرآن الكريم الذي كان مصدقًا لما بين يديه من الكتب ومهيمنًا عليها، ولا يجوز الاهتداء بغير ما جاء به النبي ﷺ، هذا هو خلاصة الجواب في مسألة مطالعة كتب غير المسلمين. ***
هذه يا شيخ رسالة وردت من محمد العيسى الحمود الجارياوي يقول في رسالته: إنني قرأت في كتاب وهو كتاب مسيحي، وفيه مكتوب أن المسيح ابن الله تعالى، وأنا أعرف أنه خطأ وكفر بالله، هل يلحقني ذنب في هذه القراءة؟ أرشدوني جزاكم الله خيرًا، رغم أن الكتاب فيه عدة أخطاء وكفر بالله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الكتاب الذي قرأت للمسيحي لم تبين أنه الإنجيل أو غيره، وعلى كل حال فإن الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل قراءتها على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يقرأها للاسترشاد بها والاستفادة منها، فهذا لا يجوز، وذلك لأن في القرآن والسنة ما يغني عنها. ثانيًا: أن يقرأها ليعرف ما فيها من حق فيلزم به متبعيها، ويبين خطأهم في مخالفة ما جاء به محمد ﷺ، فهذا لا بأس به، بل هو مطلوب إما وجوبًا وإما استحبابًا. الثالث: أن يقرأها لمجرد المطالعة فقط ليعرف ما عندهم، وليس يريد أن يسترشد بها أو يهتدي بها عن القرآن والسنة، ولا أن يرد على متبعيها باطلهم، فالأولى هنا أن لا يفعل؛ لأنه يخشى أن يتأثر بها ويجعلها مصدرًا لرشاده وهدايته. ***
حنان وسامية من بابلة الأردن المستمعتان تسألان: نحن نعلم بأن القرآن الكريم نزل مفرقًا، وورد بالقرآن أنه نزل في ليلة القدر، هل معنى ذلك بأنه نزل في كل سنة من ليلة القدر؟ نرجو بهذا إفادة يا فضيلة الشيخ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إنه لا يخفى علينا جميعًا أن القرآن كلام الله ﷿؛ لقوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أي: حتى يسمع القرآن. وليس المعنى أن هذا المستجير يسمع كلام الله نفسه من الله، بل إنما يسمع القرآن الذي هو كلام الله ﷿، وأن هذا القرآن نزل من عند الله تعالى، كما قال الله تعالى: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) . وكما قال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) فالقرآن نزل من عند الله ﷿، ونزوله كان مفرقًا، كما قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) . وقال تعالى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا) . ولنزوله مفرقًا فوائد كثيرة، ذكرها أهل العلم في التفسير في أصول التفسير. فأما قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) . فقد اختلف المفسرون فيها، فقال بعضهم: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) أي: ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر، فيكون القرآن أول ما نزل في ليلة القدر، ثم نزل متتابعًا حسب ما تقتضيه حكمة الله ﷿. وقال بعض العلماء: إنه نزل إلى بيت العزة جميعًا في ليلة القدر، ثم نزل إلى النبي ﷺ مفرقًا بعد ذلك. لكن الأول أقرب إلى الصواب؛ لأن قوله: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) يقتضي إنزاله إلى منتهى إنزاله، وهو قلب النبي ﷺ، ومعلوم أنه لم ينزل على قلب النبي ﷺ جميعًا في ليلة واحدة، بل نزل مفرقًا، فيكون المعنى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) أي: إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر، ثم صار ينزل مفرقًا حسب ما تقتضيه حكمة الله ﵎. ***
بارك الله فيكم السائلة أع ن تقول: هل نزول القرآن باللغة العربية يجعل الأعجميين لديهم عذر أو حجة لأن القرآن ليس بلغتهم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: ليس للأعجميين حجة أو عذر لكون القرآن ليس بلغتهم، بل عليهم أن يتعلموا لغة القرآن؛ لأنه إذا توقف فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على تعلم العربية كان تعلم العربية واجبًا، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولهذا كان من أئمة اللغة العربية قوم من العجم من فارس وغيرها، وصاروا أئمة في العربية لأنهم عرفوا قدر تعلم اللغة العربية، فتعلموها فصاروا أئمة فيها. وأما تعصب بعض الناس للغتهم، وعدم تحولهم إلى اللغة العربية مع قدرتهم على ذلك، فهذا من حمية الجاهلية، والقرآن ولله الحمد الآن انتشر بين العالم، وترجم معناه إلى لغات متعددة، لغات عالمية حية، ولغات في مناطق معينة، فلا حجة لأحد اليوم في قوله: إن لساني ليس عربيًّا فلا أفهم القرآن. ***
جزاكم الله خيرًا هذه السائلة دعاء م. ع من جمهورية مصر العربية البحيرة تقول في هذا السؤال: قرأت في كتاب بأن أهل السنة والجماعة قالوا بأن من قال: إن القرآن محدث فهو كافر، وإن القرآن ليس مخلوقًا. فما معنى أن القرآن ليس محدثًا وليس مخلوقًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما من قال: إن القرآن مخلوق، فهو مبتدع ضال؛ لأن القرآن كلام الله ﷿، وكلام الله من صفاته، وصفات الخالق غير مخلوقة، وقد أنكر أئمة أهل السنة على من قال ذلك- أي: على من قال: إن القرآن مخلوق- إنكارًا شديدًا، وحصلت بذلك الفتنة المشهورة التي جرت في زمن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل ﵀، حتى إن بعضهم- أي: بعض الأئمة- أطلق الكفر على من قال: إن القرآن مخلوق، ولا شك أن من قال: إن القرآن مخلوق، فقد أبطل الأمر والنهي؛ لأنه إذا كان مخلوقًا فمعناه أنه شيء خلق على هذه الصورة المعينة، فهو كالنقوش في الجدران والورق وشبهها لا يفيد شيئًا، إذ ليس أمرًا ولا نهيًا ولا خبرًا ولا استخبارًا. وأما من قال: إن القرآن محدث، فليس بمبتدع وليس بضال، بل قد قال الله تعالى: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) . نعم لو كان المخاطب لا يفهم من كلمة محدث إلا أنه مخلوق فهنا لا نخاطبه بذلك، ولا نقول: إنه محدث، خشية أن يتوهم ما ليس بجائز. فضيلة الشيخ: لماذا اعتبرت الفرق الضالة بأن القرآن مخلوق وأنه محدث؟ وما هو الغرض من ذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم أولًا: كما سمعت كلمة محدث لا بأس بها، ما لم نكن نخاطب من يفهم منها الخلق، وأن "محدث" في إزاء مخلوق. وأما المخلوق فإنهم إنما ذهبوا هذا المذهب لشبهات كانت عليهم، مثل قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) . ومثل قوله تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) وما أشبه ذلك، فظنوا أن هذا هو الحق، لكنهم بُيِّنَ لهم هذا، وبُيِّنَ لهم الغلط، إلا أنهم أصروا وعاندوا، وصاروا يدعون إلى بدعتهم هذه، وهي بدعة ضلالة. ***
ناصر دوارة من الجمهورية العربية السورية يقول: ما الفرق بين النبي والرسول؟ فأجاب رحمه الله تعالى: المشهور عند أهل العلم أن الفرق بينهما: أن النبي أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، هذا هو الفرق عند جمهور أهل العلم. وقيل: إن الفرق أن النبي لم يأت بشرع جديد، وإنما يكون مبلغًا بشرع من قبله، أي: إنه يحكم بشريعة من قبله بدون وحي جديد يوحى به إليه، كما في قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) . يحكم بها النبيون الذين أسلموا، وهم يحكمون بما في التوراة. فأما إذا أتى بشرع فحينئذٍ- ولو كان تكميلًا لشرع من قبله- يكون رسولًا، ولا يرد على هذا التعريف إلا آدم، فإن آدم كان نبيًا وليس برسول؛ لأن أول رسول نوح، وآدم نبي أوحي اليه بشرع، فعمل به، فأخذت به ذريته الذين كانوا في عهده. ***
فضيلة الشيخ ما الفرق بين الأنبياء والرسل؟ وهل توجد كتب غير الكتب الأربعة التي نزلت أو أنزلت على الأنبياء؟ وما هي الصحف التي أنزلت على إبراهيم؟ نرجو منكم الإجابة فأجاب رحمه الله تعالى: جميع من ذكروا في القرآن من النبيين رسل، حتى وإن ذكروا بوصف النبوة؛ لقول الله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) . وقوله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) إلى أن قال: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) . فكل نبيٌ ذكر في القرآن فإنه رسول، لكن ذكر العلماء ﵏ أن النبي هو الذي أوحى الله إليه بالشرع ولم يلزمه بتبليغه، وإنما أوحى الله إليه بالشرع لأجل أن يتعبد به، فيحيي شريعةً قبله أو يجدد شريعةً إذا لم يكن مسبوقًا بشريعةٍ من قبل. فمن الأول قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) . ومن الثاني- وهو: أن يكون الوحي الذي أوحي إلى النبي نبوة بلا رسالة- آدم ﵊، فإنه كان نبيًا ولم يكن رسولًا، ومع ذلك فهو لم يجدد شريعةً قبله، وإنما تعبد لله تعالى بما أوحى إليه من الشرع، فتبعه على ذلك أولاده، فلما كثر الناس واختلفوا بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب، وأول رسولٍ بعثه الله ﷿ هو نوح ﵊، ومعه كتابٌ بلا شك، وآخر الرسل والأنبياء محمدٌ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكل رسول معه كتاب، ولكننا لا نعلم من الكتب السابقة إلا التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وصحف موسى، وقد اختلف العلماء في صحف موسى هل هي التوراة أم غيرها؟ والله أعلم. هذا هو جواب السؤال. ***
الإيمان بالرسل
السائل ب م حجازي الخبر المملكة العربية السعودية يقول: أرجو أن تبينوا لنا مشكورين حقيقة الأمر في مسألة عصمة الرسول الكريم ﷺ، حيث يلتبس الأمر على كثير من الناس في هذا الشأن، كثيرًا ما نسمع ما يمكن أن يفهم منه أن الرسول ﷺ كان معصومًا من الخطأ، كما يفهم من عموم قوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) . ولكن نرى في بعض ما ورد عنه ﷺ أنه كان يصيب ويخطئ في بعض الأمور، كالسهو في الصلاة مثلًا. فما حقيقة أمر العصمة للرسول ﷺ؟ وما هي الجوانب التي عصم منها من الخطأ تحديدًا والجوانب التي لم يعصم من الخطأ مشكورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: فإني أسأل هذا السائل: هل يؤمن بأن محمدًا رسول الله على كل حال؟ هو يؤمن بهذا لا شك إن شاء الله، إذا كان يؤمن بمحمد رسول الله ﷺ أنه رسول الله فكفى، وما وقع منه فإنه لا ينافي الرسالة، فالسهو وقع منه في الصلاة، ولكنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون) .وعدم العلم وقع منه ﵊، فقد (صلى ذات يوم بأصحابه وعليه نعلاه، وفي أثناء الصلاة خلع النعلين، فخلع المسلمون نعالهم، فلما سلم سألهم: لماذا؟ قالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا. فقال: إن جبريل أتاني وأخبرني أن فيهما قذرًا فخلعتهما) . فهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى في نعليه ولم يعلم أن فيهما قذرًا، وهذا أيضًا من طبيعة البشر أن الإنسان جاهل، هذا الأصل في الإنسان، كما قال الله ﷿: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) . نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد يجتهد في أفعاله ولا يكون اجتهاده مصيبًا، لكنه حين فعله للشيء الذي صدر منه عن اجتهاد هو مصيب، كما في قول الله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى. وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى. أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى. وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى. وَهُوَ يَخْشَى. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى. كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ) . فهذا وقع اجتهادًا من النبي ﷺ أن ينصرف إلى هؤلاء الكبراء الذين جاؤوا إليه من قريش، يرجو إسلامهم وينتفع بإسلامهم قومهم والمسلمون جميعًا. ومثل قول الله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) . فاجتهد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعفا عنهم؛ لمحبته ﷺ للعفو، وأخذ الناس بظواهرهم، وهو حين عفا عنهم مصيب، لكن بين الله ﷿ له أن الحكمة هي الانتظار، وهذا لا يخدش بالرسالة، النسيان من طبيعة الإنسان، وعدم العلم هو أصل الإنسان أنه لا يعلم حين وقع من الرسول ﷺ مثل هذا فإنه والله لا يخدش بالرسالة وأما قوله تعالى (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) فالمعنى: أنه ﷺ لا ينطق نطقًا صادرًا عن هوى، وإنما نطقه إما عن وحي من الله وإما عن اجتهاد، فليس كغيره ممن ينطق عن الهوى ويتكلم بما يهوى، سواء كان الحق أو غير الحق. وإني أنصح هذا السائل وغيره ألا يتعمقوا في مثل هذه الأمور فيلقي الشيطان في قلوبهم شرًّا، فالإنسان غير آمن من الشيطان، أليس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات ليلة وهو معتكف قام يقلب صفية ﵂، حين جلست عنده ساعة من الليل في معتكفه، فقام يقلبها ﵊ أي: يمشي معها- فأبصر به رجلان من الأنصار فأسرعا، أسرعا خوفًا وخجلًا من النبي ﷺ وحياء، فقال: (علىرسلكما إنها صفية) . فقالا: سبحان الله! قال: (نعم، إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شيئًا- أو قال: شرًا-) . فانظر إلى هذا: خاف أن يلقي الشيطان في قلوبهما ما لا يليق بالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهما من الصحابة، فالبحث في هذه الأمور والتعمق فيها قد يكون خطرًا على الإنسان وهو لا يشعر، وأنا أشكر السائل حيث سأل ليتبين له الأمر، لكني أقول: إن الأولى بالإنسان أن يدع البحث في هذه الأمور، وأن يقول: محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو أبعد الناس أن يقول عن هوى أو أن يحكم بالهوى، بل هو الصادق الأمين ﵊. ثم إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من كل ما يخل بالإخلاص لله ﷿، فلم يقع منهم الشرك، معصومون عن كل ما يخل بالمروءة والخلق، فلم يقع منهم ما ينافي ذلك، وأما بعض الذنوب فيقع منهم، لكن من خصائصهم أنهم معصومون من الاستمرار فيها وعدم التوبة، وإذا تاب الإنسان من الذنب فكمن لا ذنب له، بل قد تكون حاله بعد التوبة من الذنب أكمل من حاله قبل أن يفعل الذنب. وبهذه المناسبة أود أن أبين أن ما ذكر في الإسرائيليات عن داود ﵊ في قصة الخصمين اللذين اختصما عنده وقال أحدهما: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (٢٣) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ) . في بعض الإسرائيليات أن داود ﵊ كان له أحد الجنود، وكان عند هذا الجندي امرأة أعجبت داود وأرادها، فطلب من هذا الجندي أن يذهب للجهاد لعله يقتل فيأخذ زوجته، هذه قصة كذب ولا يجوز لأحد أن ينقلها إلا إذا بين أنها كذب، ولا يجوز اعتقادها في نبي من أنبياء الله، هذه لا تليق ولا من عامي من الناس فكيف بنبي؟ ولا أستبعد أن هذه من دسائس اليهود التي دسوها على المسلمين ليفسدوا بذلك دينهم. والقضية هي أن هذا الرجل مع خصمه عنده نعجة واحدة، أي: أنثى من الضأن، وكان أخوه- أي: خصمه- عنده تسع وتسعون، فقال له: أنت ليس عندك إلا واحدة لا تغني شيئًا، وأنا عندي تسع وتسعون، باقٍ واحدة وتكتمل المائة، والإنسان ينظر إلى تكميل العدد، فطلب منه هذه الواحدة، وجعل يورد عليه الحجج حتى غلبه في الحجج، فاختصما إلى داود. فإذا قال قائل: ما تقول في قوله تعالى: (وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ)؟ فالجواب سهل: داود ﵇ جعله الله خليفة في الأرض يحكم بين الناس، وكونه يدخل محرابه- أي: متعبده- ثم يغلق الباب خلاف لما كلف به، وهو مجتهد في ذلك لا شك، ثم إنه حكم على الخصم قبل أن يسمع حجة الآخر المحكوم عليه، فلما قال الخصم: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ) الخ. فحكم قبل أن يسمع حجة الخصم، ولعله من أجل أن يسرع التفرغ للعبادة، فلما جاءت هذه القصة وأخذ بقول الخصم وكان قد أغلق الباب ظن داود ﵊ أن الله تعالى أرسل هذين الخصمين اختبارًا له (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) . فإن قال قائل: ما تقولون في قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لهند حين شكت زوجها أبا سفيان أنه رجل شحيح لا يعطيها وولدها ما يكفيهم، فقال: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) فحكم لها؟ فالجواب: أن حكم النبي ﷺ فتيا وليست قضاء بين خصمين؛ لأن خصمها لم يحضر، فهو أفتاها على صورة القضية بدون محاكمة ومخاصمة. ***
هذا السائل يا فضيلة الشيخ من السودان يقول: يا فضيلة الشيخ نعلم أن الرسل معصومون من الخطأ، هل هم معصومون من الخطأ في التشريع فقط، أم في كل الأمور؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يتكلمون بوحي الله ﷾، وهم معصومون من كل خطأ يخل بصدقهم وأمانتهم، وهذا هو محل الثقة فيهم. وأما ما نتج عن اجتهادٍ منهم فإنهم قد يخطئون فيه، فإن نوحًا ﵊ سأل ربه أن ينجي ابنه، فقال الله له: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) . ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حرم ما أحل الله له اجتهادًا منه، فقال الله له: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَات أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) . وعفا عن قومٍ استأذنوه في الجهاد فقال الله له: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) . لكنهم معصومون من الإقرار على الخطأ، يعني لو حصل منهم خطأ في اجتهادٍ اجتهدوه فإن الله تعالى لا بد أن يعصمهم من الاستمرار فيه، بخلاف غيرهم فإنهم لا يعصمون من ذلك. ***
يوجد في مدينة الكوفة مسجد يقال: إن جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام قد زاروا هذا المسجد، ولكل نبي فيه محراب ودعاء مكتوب على المحراب، والناس يزورون هذا المسجد بكثرة ويتنقلون بين محاريبه، ويدعون عند كل محراب بما كتب عليه من الدعاء بعدد الركعات التي يريد الزائر أن يصلىها. فهل هذا صحيح؟ وهل زيارة هذا المسجد لهذا الغرض جائزة أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا باطل قطعًا، فإن سيد الأنبياء والمرسلين محمدًا ﷺ لم يزره بلا ريب، وكذلك الأنبياء قبله لا يمكن أن يكونوا قد زاروه؛ لأنه لو قصد بالأنبياء الأنبياء الذين لم يرسلوا فإنهم أربعة وعشرون ألفًا، وإن قصد الرسل فهم ثلاثمائة وبضعة عشر رسولًا، وهؤلاء لا يمكن أن يكونوا قد زاروا هذا المسجد، وإنما هذا من التزوير الذي يقصد به أكل المال بالباطل وصد الناس عن سبيل الله. والذهاب إلى هذا المسجد بهذه النية محرم ولا يجوز، والواجب على المسلمين أن يتحققوا في هذه الأمور، وأن ينصحوا من مارس القيام بتعظيمها واحترامها، وليس هناك مساجد تشد الرحال إليها إلا ثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبي ﷺ، والمسجد الأقصى. وماعدا ذلك من المشاهد أو المساجد فإنه لا يجوز أن تشد إليها الرحال مطلقًا في أي حال من الأحوال، ثم إن غالب هذه الأمور تكون كذبًا مزوّرة، والمؤمن العاقل يعرف أن هذا من التزوير بأول نظرة. فضيلة الشيخ: لكن ما حكم الصلاة فيه؟ فأجاب رحمه الله تعالى: قلت في الجواب: إنه لا يجوز قصده للصلاة فيه، وإنه حرام وأما الصلاة فيه كبقعة، مثل: أن يمر به الإنسان مرورًا عابرًا فيصلى فيه، فإنه لا بأس به. فضيلة الشيخ: يعني: دون أن يعتقد فيه شيئًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: دون أن يعتقد ما ذكره السائل؛ لعموم قول النبي ﷺ: (جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا) . إلا أن يخشى أن يفتتن أحد بصلاته فيه، فإنه يتجنبه ويتقدم عنه، ويصلى في مكان آخر. ***
يقول السائل محمد عمر أحمد من السودان: قيل: إن سيدنا محمدًا ﷺ جاءه ملك وفتح صدره وملأه نورًا، فما مدى صحة هذا الكلام؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الكلام صحيح، فإن الرسول ﵊ حين عرج به جاءه جبريل فشق ما بين نحره إلى أسفل بطنه، واستخرج قلبه فملأه حكمة وإيمانًا وليس نورًا، ولكن ملأه حكمة وإيمانًا، والإيمان والحكمة من النور المعنوي. ***
السائلة أم أسامة من مصر أسوان تقول: سمعت من بعض الإخوة يقول بأن محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم خلق من نور، وأن آدم خلق من نور محمد، فهل هذا القول صحيح؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا القول من أبطل الباطل، وهو كذب مخالف لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) .ولقوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ) . والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من بني آدم، وهو سيد ولد آدم، وهو مخلوق من نطفة أبيه، وأبوه مخلوق من نطفة جده، وهكذا إلى أن يصل الخلق إلى آدم الذي خلقه الله من سلالة من طين. والعجب أن هؤلاء الذين يأتون بهذه الأكاذيب تعظيمًا لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعضهم عنده تهاون في دينه، واتباعه لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولعلهم يجهلون أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن الغلو فيه وحذر منه. وإن نصيحتي لهؤلاء أن يتلقوا معتقدهم من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأن يعلموا أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بشر مثلنا، كما أمره الله أن يقول ذلك ويعلنه على الملأ: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ) . فقد تميز صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالوحي، وبما جبله الله عليه من مكارم الأخلاق، وبأنه أتقى الناس لله وأعبد الناس لله، لكنه بشر، وهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعلم أنه بشر مثلنا ينسى كما ننسى فقال: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني) . انظر التواضع العظيم: أخبر أنه بشر ينسى، ومع ذلك قال: (إذا نسيت فذكروني) . ولن ينقص ذلك من قدره شيئًا، بل هو أكمل الخلق إيمانًا وتقوى وزهدًا وخلقًا ﵊، ومن أراد أن يحشر تحت لوائه يوم القيامة فليكن تحت لواء سنته في الدنيا، ولا يتعدَّ حدود الله ولا يقصر عنها، فلا غلو ولا تحريف، هذا الواجب علينا. ولقد قال الله ﵎ لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (قلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) . فمن كان صادقًا في دعوى المحبة لله أو المحبة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فليتبع الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبذلك يقيم بينة على صدق دعواه، وأما أن يدعي أنه متبع للرسول محب للرسول، وهو يقول في الرسول ما ليس حقيقة، ويبتدع في دينه ما لم يشرع، فإن البينة تخالف دعواه. ***
يوجد في القرآن الكريم سورة سميت بسورة لقمان، فمن هو هذا الشخص الذي يدعى لقمان؟ وهل أوتي النبوة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: سميت سورة لقمان لأنه ذكر فيها قصة لقمان وعظته لابنه، وتلك الوصايا التي ذكرها له، والسورة تسمى باسم ما ذكر فيها أحيانًا، كما يقال: سورة البقرة، سورة آل عمران، سورة الإسراء، وما أشبه ذلك. فضيلة الشيخ: أيضًا يقول: من هذا الشخص الذي يدعى لقمان؟ وهل أوتي النبوة أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الصحيح أنه ليس بنبي، وأن الله تعالى آتاه الحكمة وهي موافقة الصواب مع العلم، وقولنا: مع العلم، للتبيان وإلا فلا صواب إلا بعلم، والصواب أنه ليس من الأنبياء، وإنما هو رجل آتاه الله الحكمة، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا. ***
أحسن الله إليكم هل الخضر ﵇ حي إلى يومنا هذا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما كونه حيًّا فلا، ليس بحي؛ لأنه لو كان حيًّا لوجب عليه أن يؤمن بالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأن يجاهد معه، ولم يكن شيء من ذلك، فالخضر كغيره من البشر مات في وقته فيما يظهر لنا، وكذلك ليس الخضر بنبي، وإنما هو رجل آتاه الله تعالى علمًا لا يعلمه موسى ﵊؛ لأن موسى ﵊ قال: إنه لا أحد في الأرض أعلم منه، فأراه الله ﷿ هذه الآية: أن موسى ﵊ وإن كان لديه علم كثير من شريعة الله فإنه قد يفوته شيء من المعلومات الأخرى. ***
يزعم بعض الناس من المسلمين أن نبي الله الخضر ﵇ لا يزال حيًا يطوف على الأرض، وأنه إذا مر على إنسان وطلب منه الإحسان فقدمه له، إن كان ذلك الإنسان فقيرًا صار غنيا، ً ويأتي إلى الناس بهيئة المجانين كي لا يعرفوه، وصار كثير من الناس يقدمون الإحسان لكل من يأتيهم بمثل تلك الهيئة، ظنًا منهم أن يكون هو الخضر ﵇، فهل هذا الزعم الأسطوري وارد في الحديث الشريف؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الكلام على هذا السؤال من وجهين: أولًا: قول السائل: إن نبي الله الخضر، وجزمه بأنه نبي: هذا محل خلاف بين أهل العلم، هل كان الخضر نبيًا، أو كان وليًا أعطاه الله ﷾ من الكرامات ما علم به مآل ما جرى بينه وبين موسى ﵊؟ والراجح أنه ليس بنبي، وأنه ولي من أولياء الله؛ لأدلة ليس هذا موضع بسطها. الوجه الثاني: من حيث بقاء هذا الرجل- أعني: الخضر- إلى الآن: فإن هذا لا يصح إطلاقًا؛ لأنه لو كان الخضر حيًا لكان يجب عليه أن يأتي إلى النبي ﷺ ويؤمن به ويتبعه لو كان حيًا، على فرض أن يكون حيًا لكان قد مات أيضًا؛ لأن النبي ﷺ حدث أصحابه في آخر حياته أنه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها ذلك اليوم أحد، فلو فرض أن الخضر قد بقي إلى الرسول ﵊ لكان لا يمكن أن يبقى بعد مائة السنة التي أخبر عنها رسول الله ﷺ، وعليه فإن الخضر لا وجود له وليس بموجود. ثم إن هذا الزعم الباطل الذي يقتضي السخرية والاستهزاء به، حيث يقول: إنه يأتي إلى الناس بصورة المجنون لئلا يعرف، وإن من أتاه شيئًا وأهدى إليه شيئًا فإنه يصبح غنيًا، فإن هذا باطل من أبطل الباطل. أيضًا والمهم أنه يجب على المؤمن أن يعتقد بأن الخضر ليس بموجود؛ للدليلين اللذين أشرنا إليهما فيما سبق: أنه لو كان موجودًا لم يسعه إلا أن يأتي للنبي ﵊ ويؤمن به ويتبعه، وأنه لو كان موجودًا لكان يموت قبل أن تأتي مائة السنة التي أخبر عنها رسول الله ﷺ. ***
أحسن الله إليكم يقول السائل: هل هناك خصائص اختصها الله ﷿ للرسول ﷺ، ولم تكن لغيره من أفراد أمته؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم الخصائص التي اختص بها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وليست لأمته كثيرة جدًّا، وقد ذكر العلماء ﵏ أعني بهم: الفقهاء، ذكروا- في كتاب النكاح خصائص كثيرة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فمن أحب أن يرجع إليها فليفعل. ومن ذلك ما ذكره الله تعالى في القرآن حيث قال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) إلى قوله: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) . فهنا بين الله ﷿ أن النكاح بالهبة لا يحل إلا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. كما أن هذه الأمة خصها الله تعالى بخصائص لم تكن لغيرها من الأمم، كما في حديث جابر بن عبد الله ﵄ الثابت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصلِّ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي) وذكر تمام الحديث. فالحاصل أن الله ﷾ يختص من شاء من عباده بأحكام شرعية وغيرها مما لا يكون لغيره. ***
محمد جميل حسين مصطفى من الجمهورية العراقية يسأل عن الصلاة على الأنبياء يقول: هل يجوز الصلاة على الأنبياء الآخرين غير محمد ﷺ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الجواب: نعم تجوز الصلاة على الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام، بل تجوز الصلاة أيضًا على غير الأنبياء من المؤمنين: إن كانت تبعًا فبالنص والإجماع، كما في قوله ﷺ حين سئل: كيف نصلى عليك؟ قال: (قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمدٍِ، كما صلىت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد) . وآل النبي ﷺ في هذه الجملة هم المتبعون لشريعته من قرابته وغيرهم، هذا هو القول الراجح، وإن كان أول وأولى من يدخل في هذه- أي: في آل محمد- هم المؤمنون من قرابة النبي ﷺ، لكن مع ذلك هي شاملة لكل من تبعه وآمن به؛ لأنه من آله وشيعته. والصلاة على غير الأنبياء تبعًا جائزة بالنص والإجماع، لكن الصلاة على غير الأنبياء استقلالًا لا تبعًا هذه موضع خلاف بين أهل العلم هل تجوز أو لا؟ فالصحيح جوازها، أنه يجوزأن يقال لشخص مؤمن: صلى الله عليه، وقد قال الله ﵎ للنبي ﷺ: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عليهم) فكان النبي ﷺ يصلى على من أتى إليه بزكاته وقال: (اللهم صلِّ على آل أبي أوفى، حينما جاؤوا إليه بصدقاتهم) . إلا إذا اتخذت شعارًا لشخص معين كلما ذكر قيل: صلى الله عليه، فهذا لا يجوز لغير الأنبياء، مثل: لو كنا كلما ذكرنا أبا بكر قلنا: صلى الله عليه، أو كلما ذكرنا عمر قلنا: صلى الله عليه، أو كلما ذكرنا عثمان قلنا: صلى الله عليه، أو كلما ذكرنا عليًا قلنا: صلى الله عليه، فهذا لا يجوز أن نتخذ شعارًا لشخص معين. ***
كنت في سنوات بعيدة مضت أظن أن الصلاة على الرسول الكريم ﷺ هي ركعات، وقد صلىت عددًا من الركعات ظنًّا مني أن هذه هي الصلاة عليه، وبدون شك لم أقصد أن أشرك بالله في العبادة- والعياذ بالله من الشرك، لا إله إلا الله فما رأيكم جزاكم الله خيرًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: قبل الإجابة على هذا السؤال أود أن أنبه أنه يجب على الإنسان ألا يعمل عملًا يتقرب به إلى الله ويتعبد به لله ﷿ حتى يكون على علم بأن هذا من شريعة الله؛ ليعبد الله تعالى على بصيرة، دليل ذلك قوله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا) . فهذا الذي فهم من الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنها الركوع والسجود له قد فهم فهمًا مخطئًا باطلًا، لكن لكونه مستندًا على أصل يظنه صحيحًا أرجو أن الله تعالى لا يؤاخذه بما فعل، وعليه أن يستغفر الله تعالى ويتوب إليه مما قصر فيه من طلب العلم، ومادام علم الآن أن هذا ليس المقصود بالأمر بالصلاة عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأنه تبين له أن معنى الصلاة عليه أن تقول: اللهم صل على محمد أو ما يؤدي هذا المعنى، فأرجو الله أن يتجاوز عنه وأن يغفر له. ***
السائل حمودة يقول: فضيلة الشيخ منذ سنوات فهمت عن جهلٍ مني بأن الصلاة على النبي ﷺ هي مثل الصلاة العادية: ركوع وسجود وخلاف ذلك، وصلىت عدة ركعات ظنًا مني بأن الله ﷿ أمرنا بذلك، فهل علي إثمٌ في ذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا إثم عليك في ذلك لأنك جاهل، ولكن الواجب على المرء أن يسأل أهل العلم إذا كان لا يعلم؛ لقول الله ﵎: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) . فعملك الذي كنت عملته سابقًا عملٌ مردودٌ باطل؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد) . لكنك مثابٌ إن شاء الله على نيتك، وقد يكون هناك تقصيرٌ منك بعدم سؤال أهل العلم عن كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ***
المستمع الذي رمز لاسمه بـ: أ. ح. الأردن يقول في رسالته: هل محمد ﷺ أفضل الخلق قاطبة، أم أفضل البشر فقط؟ وما الدليل على ذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الجواب الذي أعلمه من ذلك أنه ﷺ سيد ولد آدم كما ثبت ذلك عنه، وأما أنه أفضل الخلق على الإطلاق فلا يحضرني الآن دليل في ذلك، لكن بعض أهل العلم صرح بأنه أفضل الخلق على الإطلاق، كما في قول صاحب الأرجوزة: وأفضل الخلق على الإطلاق نبينا فمل عن الشقاق والمهم أن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله الله تعالى إلى الثقلين الإنس والجن هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، فعلينا أن نؤمن به تصديقًا لأخباره، وامتثالًا لأوامره، واجتنابًا لنواهيه، هذا هو الذي ينفع الإنسان في دينه ودنياه ومعاشه ومعاده. ***
أحسن الله إليكم يا شيخ وبارك فيكم هذا سائل سوداني يقول: فضيلة الشيخ يقولون بأن الرسول مخلوق من نور، هل هذا كلام صحيح؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الكلام باطل، فإن محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم من بني آدم، وسلسلة آبائه وأجداده معلومة، وهو نفسه ﵊ قد صرح بما أمر الله به، فقد قال الله تعالى له: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) . وقال ﷺ هو عن نفسه: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون) . فقد خلق ﵊ من طين، كما هو شأن بني آدم كلهم، والذين خلقوا من نور هم الملائكة، فإن المخلوقات ثلاثة أقسام: قسم خلقوا من نار وهو إبليس وذريته، وقسم خلقوا من النور وهم الملائكة، وقسم خلقوا من طين وهم آدم وبنوه، وليس هناك قسم رابع، فهذا الحديث أو الأثر أو القولة المشهورة أن نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم خلق من نور كذب لا أصل له. ***
جزاكم الله خيرًا يا فضيلة الشيخ، هناك أناس غلوا في الرسول وتجاوزوا الحد في محبته، وهناك أناس فرطوا وتساهلوا في محبته، كيف نوجه مثل هؤلاء؟ فأجاب رحمه الله تعالى: كلهم أخطؤوا: الذين فرطوا والذين أفرطوا، والخطر عظيم على الجميع. أما الذين غلوا فيخشى عليهم من الإشراك به، ولهذا ادعى بعضهم أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعلم الغيب، وأنه يشفي المريض، وأنه يزيل الكربات، فصاروا يدعونه، فالتحقوا بذلك بالمشركين وهم لا يشعرون. وأما الطرف الثاني فيخشى عليهم من التهاون في الشريعة شيئًا فشيئًا حتى يقضى عليها، ولهذا المحب له حقيقة هو المتبع لسنته بدون غلو ولا تفريط. ***
يقول: كيف تحقق محبة الرسول ﷺ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: تحقق محبة الرسول ومحبة الله ﷿ باتباع الرسول ﷺ، فكل من كان أتبع لرسول الله كان أحرى بمحبة الله تعالى ومحبة رسوله، يقول الله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) . وعلامة محبة الرسول أن يتحرى الإنسان سنته فيتبعها، ولا يزيد في ذلك ولا ينقص. وعلى هذا فالذين يبتدعون بدعًا تتعلق بالنبي ﷺ، يدَّعون أن ذلك من محبته وتعظيمه، هم في الحقيقة لم يحبوه ولم يعظموه، وذلك لأن حقيقة المحبة والتعظيم أن تتبع آثاره، وأن لا تزيد في شرعه ولا تنقص منه، وأما من أراد أن يحدث في شرع الله ما ليس منه فإن محبته لله ورسوله قاصرة بلا شك؛ لأن كمال الأدب والتعظيم أن لا تتقدم بين يدي الله ورسوله، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) . ***
يقولون: إن الرسول ﷺ وهو في قبره يسمع ويرد، وضحوا لنا كيف يكون ذلك في حياته؟ والذين يقولون هذا الكلام يستندون للآية الكريمة: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) . وإذا كان الشهداء أحياء فكيف لا يكون الرسول ﷺ؟ هذا في قولهم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نقول: أما كونه ﷺ يسمع ويرد فليس به غرابة، فقد روى أبو داود في سننه: (أنه ما من رجل يسلِّم على رجل في قبره وهو يعرفه في الدنيا، إلا رد الله عليه روحه فرد ﵇ . فلا غرابة أن النبي ﷺ إذا سلم عليه المسلم يرد الله عليه روحه فيرد السلام. وأما كونه حيًّا في قبره: فالشهداء أحياء عند الله، والله ﵎ لم يقل: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا، بل أحياء في قبورهم، بل قال: بل أحياء عند ربهم يرزقون. ولا شك أن النبي ﷺ دفن وصلى عليه صلاة الجنازة وخلفه من خلفه من أصحابه، وليسوا يقدمون له الأكل والشرب، وهم يعلمون أنه مات، كما قال الله ﵎: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) . وكما قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) . وهذا أمر معلوم بالضرورة من الدين، ولا يماري فيه أحد، وحياة الشهداء عند الله ﷿ ليست كحياة الدنيا، أي: ليست حياة يحتاج فيها الإنسان إلى أكل وشرب أو هواء ويعبد ويدعو، هي حياة برزخية،الله تعالى أعلم بكيفيتها. وعلى هذا فلا يحل لأحد أن يقف على قبر النبي ﷺ فيقول: يا رسول الله اشفع لي، يا رسول الله استغفر لي؛ لأن هذا غير ممكن، فالنبي ﷺ لا يمكن أن يستغفر لأحد بعد موته، ولا يمكن أن يشفع لأحد إلا بإذن الله، وإذا أردت أن تسأل سؤالًا صحيحًا فقل: اللهم ارزقني شفاعة نبيك، اللهم شفعه فيَّ، وما أشبه ذلك. ***
يقول السائل: يقول الرسول ﷺ: إن أعمال العباد تعرض عليه وهو في قبره. هل هذا حديث صحيح؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم، فإن الرسول ﵊ تعرض عليه، الصلاة عليه، يعني: إذا صلىنا على النبي ﷺ فإنها تعرض عليه وتبلغه أينما كنا، أما سائر أعمالنا فلا يحضرني الآن هل هو صحيح أو غير صحيح. ***
يقول السائل: إذا قام شخص بقراءة القرآن، أو وضع قدميه وهو متجه إلى بيت الرسول ﷺ، هل عليه إثم في ذلك؟ الشيخ: ليس عليه إثم في ذلك، فإن مد الرجلين إلى اتجاه قبر النبي ﷺ لا حرج فيه، ولا يحتاج أن أقول: بشرط أن لا يكون مستهينًا برسول الله ﷺ أو محتقرًا له؛ لأن هذا لا يمكن أن يقع من مسلم، فمد الرجلين إلى نحو قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا بأس به، وهذا يقع كثيرًا، كالذين يكونون في الصف الأول في المسجد النبوي فإنهم يستندون إلى الجدار القبلي، وحينئذ تكون أرجلهم إن مدوها ممدودة نحو القبر. ***
هذه رسالة من إبراهيم بن عبد الله من بني مالك يقول: أسأل عن النبي ﷺ هل كان يقرأ أم كان أميًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: النبي ﷺ كان أميًا؛ لقول الله تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ) . ولقوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) . فهو ﵊ كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب، فلما نزل عليه القرآن صار يقرأ، ولكن هل كان يكتب؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال: إن النبي ﷺ بعد أن أنزل عليه الوحي صار يقرأ ويكتب؛ لأن الله إنما قيد انتفاء الكتابة قبل نزول القرآن: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) . وأما بعد ذلك فقد كان يكتب، ومن العلماء من قال: إنه لم يزل ﵊ غير كاتب حتى توفاه الله. ***
هل هناك فرق بين المعجزات وآيات الأنبياء؟ فأجاب رحمه الله تعالى: آيات الأنبياء هي المعجزات، وسماها بعض المتأخرين معجزات، والصواب أنها آيات؛ لأنها جمعت بين أمرين: بين كون البشر لا يستطيعون مثلها وهذا إعجاز؛ وكونها دليلًا على نبوة هذا النبي ورسالته، وهذه آية علامة، ولهذا ينبغي أن نسمي ما تأتي به الأنبياء من المعجزات نسميها آيات كما سماها الله تعالى في كتابه. هناك معجزات وليست بآيات، لكنها من الشياطين: فالساحر ربما يُرى طائرًا في الجو، وهذا معجز لا يستطيع البشر أن يفعلوه، لكنه من فعل الشياطين. وهناك كرامات يكرم الله بها من شاء من عباده الأولياء والصالحين، تكون معجزة لكنها آية على صحة ما كان عليه هذا الولي، وعلى صحة الشريعة التي كان يعمل بها، ولهذا نقول: كل كرامة لولي فهي آية للنبي الذي يتبعه هذا الولي؛ لأنها شاهد من الله على صدقه. وكرامات الأولياء موجودة في الأمم السابقة وفي هذه الأمة، ولا تزال فيها إلى يوم القيامة: في الأمم السابقة أصحاب الكهف، اعتزلوا قومهم المشركين وأووا إلى الغار، فهيأ الله لهم غارًا، وألقى عليهم النوم ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعًا، وفي هذه المدة لم يتغير منهم شيء، لم يحتاجوا لطعام ولا لشراب ولا لبول ولا لغائط، ولم تَنمُ أظفارهم ولا شعورهم، كأنما ناموا يومًا واحدًا، ولهذا لما بعثهم الله ﷿ وأيقظهم (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) . مما يدل على أنهم لم يصبهم شيء من العوارض البشرية، لا جوع ولا عطش ولا بول ولا غائط، ولا نمو شعور ولا أظفار، حتى صلحت أحوال القرية وماتت سلاطينهم التي تعينهم على الشرك. مريم ﵂ أجاءها المخاض إلى جذع النخلة فقيل لها: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) . امرأة لتوها ولدت، وما أعلمك بالتعب عند الولادة، أمرت أن تهز جذع النخلة جذع النخلة، لو هزه أي إنسان ما يهز علوه، لكن هي قيل لها: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) ففعلت (تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) تسقط الرطب من فوق إلى الأرض ولا تفسد، مع أنها رطب لينة اصطدامها على الأرض يوجب أن تتقطع، لكن تبقى كأنها مجنية، كأن رجلًا خرقها (تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا) . هذه من الكرامات التي أكرم الله بها من شاء من عباده، في هذه الأمة موجودة: كان سارية بن زنيد أميرًا على سرية في العراق، وكان عمر ﵁ يخطب الناس يوم الجمعة، فسمعوه يقول: يا سارية الجبل! يا سارية الجبل! أمير المؤمنين يخطب ثم يقول هذا الكلام، ما هذا؟ فأخبرهم أنه كشف له عن هذا في سريته والعدو محيط به، فناداه عمر: يا سارية الجبل! يعني: ارجع إلى الجبل، فسمع سارية، فهذه ثلاثة أشياء: كشف لعمر فشاهدهم، ناداهم فسمعوه، لجؤوا إلى الجبل بقيادة السلطان وهو على منبر، سبحان الله! كرامة من الله ﷿. ولهذا كان من مذهب أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء، ولكن الولي من هو؟ هل كل من ادعى الولاية هو ولي؟ ليس كل من ادعى الولاية هو وليًا، قال الله ﷿: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (يونس:٦٢- ٦٣) . اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين. ***
ع م م س يقول: هل لكم فضيلة الشيخ أن تذكروا لنا- ولو بشيء من الإيجاز- معجزات الرسول ﷺ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: معجزات النبي ﷺ وهي الآيات الدالة على رسالته ﷺ، وأنه رسول الله حقًا- كثيرة جدًا، وأعظم آية جاء بها هذا القرآن الكريم، كما قال الله تعالى: (وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) . فالقرآن الكريم أعظم آية جاء بها رسول الله ﷺ، وأنفع آية لمن تدبرها واهتدى بها، فإنها آية باقية إلى يوم القيامة، أما الآيات الأخرى الحسية التي مضت وانقضت فهي كثيرة، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ جملة صالحة منها في آخر كتابه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، هذا الكتاب الذي ينبغي لكل طالب علم أن يقرأه؛ لأنه بين فيه عوار النصارى الذين بدلوا دين المسيح ﵊ وخطأهم، أي: بين خطأهم وخطلهم وضلالهم، وأنهم ليسوا على شيء مما كانوا عليه فيما حرفوه وبدلوه وغيروه، والكتاب مطبوع وبإمكان كل إنسان أن يحصل عليه، وفيه فوائد عظيمة، منها ما أشرت إليه: بيان شيء كثير من آيات النبي ﷺ. وكذلك ابن كثير ﵀ في البداية والنهاية، ذكر كثيرًا من آيات النبي ﷺ، فمن أحب فليرجع إليه. ***
إبراهيم محمد من السودان الفاشر يقول: أحاط المسلمون بسيرة المصطفى ﷺ في بعض الخوارق والمعجزات، أسأل وأقول: ما مدى صحة هذه المعجزات؟ وهل وردت في أحاديث كثيرة؟ ثم ألا ترون أن هذه المعجزات تنزهه عن آدميته؟ نرجو منكم إفادة بارك الله فيكم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: المعجزة عند أهل العلم هي أمر خارق للعادة، يظهره الله ﷾ على يد الرسول تأييدًا له، وقد سماها أكثر أهل العلم بالمعجزات، والأولى أن تسمى بالآيات التي هي العلامات على صدق الرسول وصحة ما جاء به، كما سماها الله ﷿ بذلك، وهي أبين وأظهر من المعجزات، أي: من هذا اللفظ، فالأولى أن تسمى معجزات الأنبياء بآيات الأنبياء. والآيات التي جاء بها النبي ﷺ آيات كثيرة: حسية ومعنوية، أرضية وأفقية، أخلاقية وعملية، فهي متنوعة، وأعظمها وأبينها كتاب الله ﷿، كما قال الله تعالى: (وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) . ومن آيات الرسول ﵊ الأفقية أن رجلًا دخل يوم الجمعة والنبي ﷺ يخطب، فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. فرفع النبي ﷺ يديه وقال: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا) . قال أنس وهو راوي الحديث: وما والله في السماء من سحاب ولا قزعة- أي: قطعة غيم- وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، وسلع جبل معروف في المدينة تخرج من نحوه السحب. قال أنس: فخرجت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ورعدت وبرقت ثم أمطرت، فما نزل النبي ﷺ من منبره إلا والمطر يتحادر من لحيته، وبقي المطر ينزل أسبوعًا كاملًا. َ وفي الجمعة الثانية دخل رجل أو الرجل الأول فقال: يا رسول الله! غرق المال، وتهدم البناء، فادع الله أن يمسكها عنا. (فرفع النبي ﷺ يديه وقال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر) . وجعل يشير ﷺ إلى النواحي، فما أشار إلى ناحية إلا انفرجت، فخرج الناس يمشون في الشمس. ومن أراد المزيد من ذلك فليرجع إلى ما كتبه الحافظ ابن كثير ﵀ في كتاب البداية والنهاية، وإلى ما ذكره من قبله شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، وكتب غيرهما كثير من أهل العلم في هذه الناحية. وآيات الأنبياء فيها ثلاث فوائد: الأولى: الدلالة على ما تقتضيه صفات الله ﷿ من القدرة والحكمة والرحمة وغير ذلك. الثانية: تأييد الرسل عليهم الصلاة والسلام، وبيان أنهم صادقون فيما جاؤوا به. والثالثة: رحمة الخلق، فإن الخلق لو لم يشاهدوا هذه الآيات من الأنبياء لأنكروا وكذبوا، فتأتي هذه الآيات ليزدادوا طمأنينة، ويقبلوا ما جاءت به الرسل، ويذعنوا وينقادوا له، والله عليم حكيم. وأما قول السائل: أفلا تكون هذه الآيات مجردة له عن الأحوال البشرية؟ فإننا نقول له: لا، هذه الآيات لا تخرجه عن كونه بشرًا، ولهذا لما سها النبي ﷺ في صلاته قال لهم: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون) . فبين النبي ﷺ أنه بشر، وأنه يلحقه ما يلحق البشر من النسيان وغير النسيان أيضًا، إلا أنه ﷺ تميز عن البشر بالوحي الذي أوحاه الله إليه، وبما جبله عليه الله تعالى من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، من الصبر والكرم والجود والشجاعة وغير ذلك مما كان به أهلًا للرسالة، والله أعلم حيث يجعل رسالته. وليُعلم أن الرسول ﷺ لا يعلم الغيب، ولايملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، ولا يملك ذلك لغيره أيضًا، فقد قال الله له: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إليَّ) . وقال الله له: (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ) . وبهذا يتبين أن من دعا الرسول ﷺ واستنجد به بعد وفاته واستغاث به فإنه على ضلال مبين، قد صرف الأمر إلى غير أهله، فإن الأهل بذلك- أي: بالدعاء والاستغاثة- هو رب العالمين ﷿، قال الله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) . وقال تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) . وقال تعالى: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) . فيا أخي المسلم لا تدع غير الله، فما بك من نعمة فمن الله ﷿، وإذا مسك الضر فلا تلجأ إلا الله ﷿: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) . لا والله، لا إله إلا الله الذي يكشف السوء ويجيب المضطر إذا دعاه ويجعل من شاء من عباده خلفاء الأرض، فاتق الله في نفسك، وضع الحق في نصابه، ولا تغل في دينك غير الحق فتكون مشابهًا لأهل الكتاب من اليهود والنصارى. ***
ما الرد على من قال: هل كان سلام الرسول ﷺ ليلة المعراج على الأنبياء وردهم عليه كان بالروح، أم بالجسد، أم بهما معًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: السؤال لا ينبغي أن يصاغ على هذه الصفة، بل يقال: هل العروج بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والإسراء به إلى بيت المقدس، هل هو بروحه، أو بروحه وجسده؟ والجواب: أنه بروحه وجسده، أسري به ﵊ يقظة لا منامًا بروحه وجسده؛ لأن الله تعالى قال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا) ولم يقل: بروح عبده وقال الله ﷾ في سورة النجم: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (٦) وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى (٧) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (٨) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (٩) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) إلى آخر الآيات، كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عرج به ببدنه يقظان وليس بنائم. ويدل لذلك من الواقع أن قريشًا لما أخبرهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما رأى في تلك الليلة صاحوا عليه وكذبوه، وأنكروا ذلك غاية الإنكار، ولو كانت بروحه أو رؤيا رآها لما أنكروا هذا عليه؛ لأن العرب لا ينكرون المرائي، والإنسان يرى في منامه أنه سافر إلى أبعد مكان، وأنه فعل وفعل وفعل، مع أنه لو كان يقظان ما حصل له ذلك. فالحاصل أن القول الراجح بل المتعين أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أسري به بروحه وجسده، يقظان وليس بنائم. ***
أسأل عن الإسراء والمعراج بمحمد ﷺ، هل صعد إلى سدرة المنتهى بروحه وجسده أم روحه فقط؟ أفتونا جزاكم الله خيرًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: المعراج الذي حصل للرسول ﷺ كان بجسده وروحه، قال الله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى) . وقال تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (٦) وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى (٧) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (٨) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (٩) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) . والعبد- وكذلك الصاحب- لا يكون إلا في الروح والجسد، فالنبي ﷺ أسري به بجسده وروحه، وعرج به إلى السماوات حتى بلغ مستوى بجسده وروحه ﷺ، ولو كان ذلك بروحه فقط ما أنكرت قريش ذلك، إذ إن المنامات يقع منها شيء كثير من جنس هذا، ولكنه كان ﷺ قد أسري به بجسده وروحه، وعرج به إلى السماوات كذلك. ***
السائل ع م د ومقيم بالمملكة يقول: نرجو من فضيلة الشيخ إلقاء الضوء على العبر والمواعظ من الإسراء والمعراج والمشاهد التي رآها الرسول ﷺ التي تؤثر في القلوب الغافلة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أحيل السائل إلى ما كتبه أهل العلم في ذلك؛ لأن حديث المعراج حديث طويل يحتاج إلى مجالس، ولكن ليرجع إلى ما كتبه ابن كثير ﵀ في كتاب البداية والنهاية في قصة المعراج، وما كتبه العلماء في الحديث على ذلك: كفتح الباري، وشرح النووي على صحيح مسلم، وغيرهما من الكتب، إنما نشير إشارة موجزة لقصة المعراج: فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أسرى به الله تعالى ليلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، كان نائمًا في الحجر فأسري به من هناك، والحجر هو الجزء المقتطع من الكعبة والمقوس عليه بالجدار المعروف، أسري به من هناك ﵊ إلى بيت المقدس، وجمع له الأنبياء، وصلى بهم إمامًا، ثم عرج به جبريل إلى السماء الدنيا فاستفتح ففتح له، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة. وجد في الأولى آدم، ووجد في السابعة إبراهيم ﵊، ووصل إلى موضع لم يصله أحد من البشر، وصل إلى موضع سمع فيه صريف الأقلام التي يكتب بها القدر اليومي، إلى سدرة المنتهى، ورأى من آيات الله ﷾ ما لو رآه أحد سواه لزاغ بصره ولخبل عقله، لكن الله ﷾ ثبت هذا النبي الكريم ﵊ حتى رأى من آيات ربه الكبرى. وفرض الله عليه الصلوات خمسين صلاة في كل يوم وليلة، وقيض الله موسى ﵊ حين مر به رسول الله ﷺ أن يسأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ماذا فرض الله عليه وعلى أمته؟ فأخبره بأن الله تعالى فرض عليه خمسين صلاة في كل يوم. وليلة فقال له: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. فما زال نبينا صلوات الله وسلامه عليه يراجع الله، حتى استقرت الفريضة خمس صلوات في كل يوم وليلة بدل خمسين صلاة، لكنها بنعمة الله وفضله كانت خمس صلوات بالفعل وخمسين في الميزان، أي: إذا صلىنا خمس صلوات فكأننا صلىنا خمسين صلاة، والحمد لله رب العالمين وفي قصة فرض الصلوات في هذه الليلة التي هي أعظم ليلة في حق الرسول ﵊، وأنها خمسون صلاة، وأنها فرضت من الله إلى رسوله بدون واسطة، في هذا دليل على عناية الله تعالى بهذه الصلوات ومحبته لها، وأنها أعظم الأعمال البدنية في الإسلام، ولهذا كان تاركها كافرًا مرتدًّا خارجًا عن الإسلام. وقد اختلف الناس في ليلة المعراج والإسراء: هل هما في ليلة واحدة، أو في ليلتين؟ وهل كان الإسراء بروحه، أو بدنه وروحه؟ والصواب أنهما في ليلة واحدة، وأنه أسري بالرسول ﷺ بروحه. وبدنه ثم انقسم الناس في ليلة المعراج: في أي ليلة هي؟ وفي أي شهر هي؟ وأقرب الأقوال أنها كانت قبل الهجرة بثلاث سنوات، وأنها كانت في ربيع الأول، وليست في رجب. ثم ابتدع الناس في هذه الليلة بدعًا لم تكن معروفة عند السلف، فصاروا يقيمون ليلة السابع والعشرين من رجب احتفالًا بهذه المناسبة، ولكن لم يصح أنها- أعني: ليلة الإسراء والمعراج- كانت في رجب، ولا أنها في ليلة سبع وعشرين منه، فهذه البدعة صارت خطأً على خطأ: خطأً من الناحية التاريخية؛ لأنها لم تصح أنها في سبع وعشرين من رجب، وخطأ من الناحية الدينية؛ لأنها بدعة، فإن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يحتفل بها، ولا الخلفاء الراشدون، ولا الصحابة، ولا أئمة المسلمين من بعدهم. ***
الأيمان باليوم الآخر
هذا المستمع يقول: ما هو أثر الإيمان باليوم الآخر على عقيدة المسلم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإيمان باليوم الآخر هو أحد أركان الإيمان الستة التي أجاب بها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جبريل حين سأله عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر) . وأثر الإيمان على قلب المؤمن وعمله كبير: فإن الإنسان إذا آمن باليوم الآخر عمل له، والعمل لليوم الآخر هو فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهى الله عنه ورسوله، وإذا فقد الإيمان باليوم الآخر فلا إيمان؛ لأنه أحد أركان الإيمان، ففي فقده فقد ركن من أركان الإيمان، والإيمان لا يتبعض في أركانه، لا بد أن يؤمن الإنسان بجميع أركان الإيمان، وإلا فلا إيمان له. فأثر الإيمان باليوم الآخر عظيمٌ جدًا، ولهذا يقرنه الله ﵎ بالإيمان به في مواضع كثيرة من القرآن؛ لأن الإيمان به هو الذي يحمل الإنسان على العمل، وقد قال الله تعالى مبينًا أن جحده كفر: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ) . فأمر الله نبيه أن يقسم على البعث، وبين ﵎ أن ذلك يسيرٌ عليه فقال: (وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) . وقال ﷿: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) . ***
المستمع من مصر سيد عباس يقول: ما هي العلامات الصغرى المتبقية فضيلة الشيخ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الظاهر أنه يريد علامات الساعة، وفيها ما وقع وفيها ما هو مستقبل. ومن علامات الساعة التي وقعت بعثة النبي ﷺ، وكونه خاتم النبيين؛ لأن كونه خاتم النبيين يؤذن بقرب انتهاء الدنيا، والأمر كذلك، فإن الرسول ﷺ خطب الناس ذات يوم في آخر النهار وقال: (إنه لم يبق من الدنيا إلا مثل ما بقي من يومكم هذا) وكانت الشمس على رؤوس النخل، أي: قريبة من الغروب. ومنها ما أشار إليه النبي عليه الصلاة السلام حين سأله جبريل قال له: متى الساعة؟ قال: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) . قال له جبريل: أخبرني عن أماراتها؟ قال النبي ﷺ: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) . ومنها انتشار الربا، وقد وقع وانتشر الربا كثيرًا بين الأمة الإسلامية. ومنها فساد أحوال الناس، فإن كثيرًا من بلاد المسلمين فيها شر كثير ومعاص معلنة، نسأل الله العافية والسلامة. وقد صنف العلماء ﵏ في ذلك كتبًا مستقلة أحيانًا، وفي ضمن كتاب يشتمل عليها وعلى غيرها أحيانًا أخرى، فنرشد السائل إلى مراجعتها. ***
تقول السائلة: ما صحة القول بأن أول علامات الساعة الكبرى هي طلوع الشمس من مغربها؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا ليس بصحيح، طلوع الشمس من مغربها متأخر؛ لأن الدجال ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى كلها قبل طلوع الشمس من مغربها. ***
يقول السائل: أقرأ هذا الدعاء في كل صلاةٍ قبل السلام، وهو: اللهم إنا نعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال. أريد أن أعرف: من هو المسيح الدجال؟ وما هي فتنته؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الدعاء الذي أنت تدعو به في صلاتك بقي عليك شيء، وهو أنك تستعيذ من أربع، كما أمر بذلك النبي ﷺ: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) . هذه الأربع أمر النبي ﷺ بالاستعاذة منها بعد التشهد وقبل السلام. أما المسيح الدجال: فإنه رجل يخرج في آخر الزمان يَدَّعي الربوبية، ويعطيه الله ﵎ من الآيات ما يكون سببًا للفتنة؛ امتحانًا من الله تعالى واختبارًا،هذا الرجل رجلٌ أعور، ولهذا سُمي المسيح لمسح إحدى عينيه، وهو معه جنةٌ ونار، فمن أطاعه أدخله الجنة، ولكنه لا يجد جنةً وإنما يجد نارًا، ومن عصاه أدخله النار التي معه، ولكنه لا يجدها نارًا وإنما يجدها ماءً عذبًا طيبًا، أو جنة كما ورد في بعض ألفاظ الحديث. ويمكث في الأرض أربعين يومًا: اليوم الأول بمقدار سنة، والثاني بمقدار شهر، والثالث بمقدار أسبوع، وبقية الأيام كأيامنا، وقد سأل الصحابة ﵃ رسول الله ﷺ عن هذا اليوم الذي كسنة: هل تكفي فيه صلاة يوم واحد؟ فقال رسول الله ﷺ: (لا اقدروا له قدره) . أي: إن هذا اليوم الأول من أيام الدجال يُصلى فيه صلاة سنةٍ كاملة؛ لأنه عن سنةٍ كاملة، واليوم الثاني يصلى فيه صلاة شهر، واليوم الثالث يُصلى فيه صلاة أسبوع، وبقية الأيام تصلى في كل يوم خمس صلوات. ثم إن هذا الدجال مع ما يحصل من فتنته العظيمة يوفق الله ﷾ المؤمنين فيعرفونه بعلامته، فإنه مكتوبٌ بين عينيه: كافر، كاف وفاء وراء يقرؤها كل مؤمن الكاتب وغير الكاتب، ويعمى عنها من ليس بمؤمن ولو كان قارئًا. ثم إنه أيضًا يُؤتى إليه برجل ليفتتن به، فيقول هذا الرجل: أشهد أنك الدجال الذي أخبرنا عنه رسول الله ﷺ، فيقطعه الدجال قطعتين ثم يمشي بينهما، ثم يقف فيدعوه، يدعو هذا الرجل المقتول المفرق قطعتين، فيقوم هذا الرجل حيًا والناس ينظرون إليه، فيقول له: أتشهد أني الله؟ فيقول: أشهد أنك الدجال الذي أخبرنا عنه رسول الله ﷺ. فيقطعه مرةً أخرى ثم يعود فيدعوه، فيقوم ويقول: أشهد أنك أنت الدجال الذي أخبرنا عنه رسول الله ﷺ. فيريد أن يقتله كما قتله المرتين الأوليين، ولكنه يعجز عنه، فيأخذ به ويلقيه في النار، ولكنه كما أسلفنا النار التي معه جنةٌ وماءٌ عذب، كما جاء به الحديث عن رسول الله ﷺ. ونهاية هذا الدجال أن عيسى بن مريم ﵊ ينزل من السماء؛ لأن عيسى بن مريم قد رفعه الله تعالى إلى السماء حيًا لم يمت، ثم ينزل في آخر الزمان فيقتل هذا المسيح الدجال وتنتهي فتنته. ***
يقول السائل: قرأت في بعض الكتب عن الدجال، هل هو ابن صياد أم لا؟ فما هو الحق في ذلك؟ وكذلك في صحيح مسلم أن الرسول ﷺ رأى رجلًا يطوف بالبيت وفيه صفات الدجال، فلما سأل عنه قيل: هذا هو الدجال، مع أن الدجال لا يدخل مكة والمدينة. نرجو الإفادة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الصحيح أن ابن صياد ليس هو الدجال الذي يبعث في آخر الزمان، وإنما هو دجال من الدجاجلة، يشبه الكهان في تخرصه وتخمينه، ولكنه ليس هو الدجال الذي يبعث يوم تقوم الساعة، فيقتله عيسى بن مريم ﵊. وأما رؤية النبي صلى عليه وسلم من قيل له: إنه هو الدجال يطوف بالبيت، فإن الممتنع إنما هو دخوله في اليقظة، فإنه لا يدخل- أعني: الدجال الذي سيبعث في آخر الزمان، لا يدخل- مكة ولا المدينة وهذا في اليقظة، والأحكام الشرعية تختلف في اليقظة وفي المنام. ***
يقول السائل: من هم يأجوج ومأجوج الذين ذكروا في القرآن؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يأجوج ومأجوج قبيلتان عظيمتان كبيرتان من بني آدم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث الصحيح: (إنه إذا كان يوم القيامة ينادي الله ﷾: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك! فيقول الله تعالى: أخرج من ذريتك بعثًا إلى النار. فيقول: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألفٍ تسعمائة وتسعةٌ وتسعون. يعني: هؤلاء كلهم في النار من بني آدم، وواحد في الجنة. فعظم ذلك على الصحابة فقالوا: يا رسول الله! أينا ذلك الواحد؟ فقال ﷺ: أبشروا! فإنكم في أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج، منكم واحد ومنهم تسعمائة وتسعةٌ وتسعون) . فهما قبيلتان عظيمتان، لكنهما من أهل الشر والفساد، والدليل على ذلك أمران: أمرٌ سابق، وأمرٌ منتظر. فأما الأمر السابق: فما حكاه الله ﷾ عن ذي القرنين أنه لما بلغ السدين (وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (٩٣) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤» إلى آخر ما ذكر الله ﷿. والشاهد من هذا قولهم: (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ)، وطلبوا من ذي القرنين أن يجعل بينهم وبينهم سدًّا. وأما الشر والفساد المنتظر: فهو ما جاء في حديث النواس بن سمعان الطويل (أن الله ﷾ يوحي إلى عيسى أنه أخرج عبادًا لله لا يدان لأحدٍ بقتالهم، وأنهم يعيثون في الأرض فسادًا، وأنهم يحصرون عيسى ومن معه في الطور) . وهذا هو الفساد المرتقب منهم، فسيخرجون في آخر الزمان من كل حدبٍ ينسلون، ويعيثون في الأرض فسادًا، حتى يدعو عيسى بن مريم ربه عليهم، فيصبحون موتى كنفسٍ واحدة. هؤلاء هم يأجوج ومأجوج، وأما ما يذكر في الإسرائيليات من أن بعضهم طويلٌ طولًا مفرطًا، وأن بعضهم قصيرٌ قصرًا مفرطًا، وأن بعضهم لديه آذانٌ يفترش إحدى الأذنين ويلتحف بالأخرى، وما أشبه ذلك: فإن كل هذا لا صحة له، بل الصحيح الذي لا شك فيه أنهم كغيرهم من بني آدم، أجسادهم وما يحسون به وما يشعرون به، فهم بشر كسائر البشر، لكنهم أهل شرٍ وفساد. ***
ما المقصود بيأجوج ومأجوج؟ وماذا تعرفون عنهم، كما ورد ذكرهما في القرآن الكريم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: المقصود بيأجوج ومأجوج أنهما قبيلتان من بني آدم، كما جاء في ذلك الحديث عن النبي ﷺ. وما ورد في بعض الكتب من أن منهم القصير جدًا والصغير، ومنهم الكبير، ومنهم الذي يفترش أذنًا من أذنيه ويلتحف بالأخرى، وما أشبه ذلك: فكل هذه لا أصل لها، وإنما هم من بني آدم وعلى طبيعة بني آدم، لكنهم كانوا في وقت ذي القرنين، كانوا قومًا مفسدين في الأرض، فطلب جيرانهم من ذي القرنين أن يجعل بينهم وبينهم سدًا، حتى يمنعهم من الوصول إليهم وإفسادهم في أرضهم، وفعل ذلك وقال: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) (الكهف:٩٦) ففعلوا، فما استطاعوا أن يظهرو وما استطاعوا له نقبًا، فكفى الله جيرانهم شرهم. ثم إنهم في آخر الزمان، وبعد نزول عيسى ﵊ يخرجون على الناس ويبعثون؛يبعثون بمعنى أنهم يخرجون وينتشرون في الأرض، ويحصرون عيسى بن مريم والمؤمنين معه في جبل الطور، ثم يلقي الله ﵎ في رقابهم دودةً تأكل رقابهم، فيصبحون فرسى- يعني: جمع فريسة، يعني: موتى- كلهم ميتة رجلٍ واحد، ويقي الله ﷾ عيسى وأصحابه شرهم. ***
السائل ش م م من العراق محافظة صلاح الدين يقول: يقول الله ﷿ في سورة الكهف: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) . فمن هم يأجوج ومأجوج؟ وأين يوجدون؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يأجوج ومأجوج ذكرهم الله ﷾ في القرآن الكريم في قوله: (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) . وفي قوله تعالى: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) (الكهف:٩٤) . وهاتان قبيلتان من بني آدم، كما ثبت به الحديث الصحيح عن النبي ﷺ: (أن الله يقول يوم القيامة: يا آدم! فيقول لبيك وسعديك! فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار. فقال: يا ربي وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون. فشق ذلك على الصحابة وقالوا: يا رسول الله! أينا ذلك الواحد؟ يعنون: الذي ينجو من النار. فقال رسول الله ﷺ: أبشروا! فإنكم في أمتين- أو قال: بين أمتين- ما كانتا في شيء إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج) . وهذا دليل واضح على أنهما قبيلتان من بني آدم، وهو كذلك، وهم موجودون الآن، وظاهر الآية الكريمة أنهم في شرق آسيا؛ لأن الله قال: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) . فظاهر سياق الآيات الكريمات أنهم كانوا في الشرق، ولكن هاتان الأمتان سيكون آخر الزمان لهم دور كبير في الخروج عن الناس؛ لما جاء في حديث النواس بن سمعان الذي رواه مسلم في صحيحه: (أن الله تعالى يوحي إلى عيسى أني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم: يأجوج ومأجوج، فحرِّر عبادي إلى الطور) . فخروجهم الكبير المنتشر الذي يظهر به فسادهم أكثر مما هم عليه الآن سيكون في آخر الزمان، وذلك في وقت نزول عيسى بن مريم ﵊. ***
يقول السائل: كثيرًا ما نسمع أن الساعة لا تقوم حتى يعم الإسلام الأرض، ونسمع من جهةٍ ثانية أنها لا تقوم ويبقى من يقول: لا إله إلا الله في الأرض، فكيف نوفق بين هذين القولين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: التوفيق بينهما سهل، وهو: أن كل واحدٍ منهما في زمنٍ غير زمن الآخر، فالإسلام يعم الأرض كلها، ثم بعد ذلك يندثر هذا الإسلام ويموت المؤمنون، ولا يبقى إلا شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة. ***
ما مدى صحة ما يقال بأن من يموت في رمضان أو يوم الجمعة لا يعذب عذاب القبر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: عذاب القبر ثابت لكل من يستحقه، سواء مات في يوم الجمعة أو في رمضان أو في أي وقت آخر، ولهذا كان المسلمون يقولون في صلاتهم، في كل صلاة من صلواتهم في التشهد الأخير: أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال. إلا أن من مات مجاهدًا في سبيل الله فإنه لا يأتيه الملكان اللذان يسألانه عن دينه وربه ونبيه؛ لأن بارقة السيوف على رأسه أكبر امتحان له واختبار، وأكبر دليل على أنه مؤمن، وإلا لما عرض رقبته لأعداء الله. ***
المستمع عدنان من المملكة الأردنية الهاشمية يقول: هل الميت يبصر؟ وما مدى بصيرته؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الميت لا يبصر البصر المعروف في الدنيا؛ لأنه قد فقد الإحساس بموته، لكنه يبصر ما يراه في قبره من عالم الآخرة، ويفسح له في قبره مد البصر إن كان مؤمنًا، ويرى الملكين يسألانه عن ربه ودينه ونبيه. وأما ما يتعلق بأمور الدنيا فإنه لا يبصره؛ لأنه قد حجب عن أمور الدنيا بموته. ***
إذا توفي الإنسان هل يذهب إلى الجنة أو إلى النار بعد وفاته، أو يبقى في القبر إلى يوم القيامة؟ نرجو توضيح ذلك مع إضافة بعض المعلومات عن ذلك وشكرًا لكم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما جسم الميت فإنه يبقى في الأرض في المكان الذي دفن فيه إلى يوم القيامة، قال الله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ) . وقال تعالى: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) . فهو باقٍ في الأرض. وأما روحه فإنها تكون في الجنة أو تكون في النار، قال الله ﵎: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) . فبين أن هذا القول يكون عند الوفاة، فمعنى ذلك أنهم يدخلون الجنة يوم وفاتهم، وهذا لا يكون إلا للروح، لا يكون للبدن. وقد ثبت عن النبي ﷺ (أن الميت في قبره إذا كان مؤمنًا يفتح له بابٌ إلى الجنة، ويأتيه من روحها ونعيمها) . وأما الكافر فإن روحه أيضًا يذهب بها إلى العذاب، قال الله تعالى عن آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) . وفيها قراءة (وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة ادخُلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) . وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً) . وقال تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) . فهذا دليل على أن الميت المؤمن يلقى جزاءه في الجنة من يوم موته، والكافر يلقى عذابه في النار من يوم موته، وهذا بالنسبة للروح، أما البدن فإنه يبقى في الأرض إلى يوم القيامة، وقد تتصل الروح به معذبةً أو منعمة، كما تدل على ذلك الأحاديث. ***
بارك الله فيكم فضيلة الشيخ هل الميت يسمع السلام والكلام ويشعر بما يفعل لديه أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذه مسألة اختلف فيها أهل العلم، والسنة فيها قد بينت بعض الأشياء: فقد صح عن النبي ﵊ (أن الرجل إذا دفن في قبره وانصرف الناس عنه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان) فامتحناه. فأثبت النبي ﵊ أنه يسمع قرع النعال، وأخبر النبي ﷺ أنه (ما من رجلٍ مسلم يمر بقبر رجلٍ مسلم فيسلم عليه وهو يعرفه في الدنيا إلا رد الله عليه روحه فرد ﵇ . وهذا الحديث صححه ابن عبد البر، وذكره ابن القيم في كتاب الروح ولم يعقب عليه. وربما يؤيد هذا أن الرسول ﵊ كان إذا خرج إلى المقابر قال: (السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين) . فإنه قد يشعر بأنهم يسمعون ذلك ويردون، من أجل أنه وجه هذا الدعاء إليهم بالخطاب. وعلى كل تقدير مهما قلنا بأن الميت يسمع فإن الميت لا يسمع غيره ولو سمعه، يعني: أنه لا يمكن أن ينفعك الميت إذا دعوت الله عند قبره، كما لا ينفعك إذا دعوته نفسه، ودعاؤك الله عند قبره معتقدًا أن في ذلك مزية بدعةٌ من البدع، ودعاؤك إياه شركٌ أكبر مخرجٌ عن الملة. فإن قال قائل: إن بعض الذين يدعون الأموات قد ينتفعون بدعائهم؟ فالجواب على ذلك: أن هذا الانتفاع لم يكن بدعائهم الميت، لكن كان عند دعائهم الميت، وفرق بين حصول الانتفاع بدعاء الميت وحصول الانتفاع عند دعاء الميت؛ لأنك إذا قلت: حصل الانتفاع بدعاء الميت كان دعاء الميت هو السبب في ذلك الانتفاع، وإذا قلت: عنده لم يكن هو السبب ولكن كان قريبًا منه في الوقت. فنحن نقول: إن الله قد يبتلي الإنسان الذي يدعو أصحاب القبور بحصول ما يدعو به عند دعائه امتحانًا له واختبارًا له، وإلا فنحن نعلم أن كل من دعا غير الله فإنه من أضل الناس، بل قد قال الله تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (٥) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) . ولا عجب أن يبتلي الله الإنسان بمثل هذه البلوى، فهاهم أصحاب السبت، قومٌ من بني إسرائيل من اليهود كانوا في قريةٍ على شاطئ البحر، وكان عمل صيد الحوت محرمًا عليهم يوم السبت، فابتلاهم الله ﷿، فكانت الحيتان تأتي يوم السبت شرعًا على سطح الماء كثيرة، وفي غير يوم السبت لا تأتي الحيتان، فطال عليهم الأمد وقالوا: كيف نحرم من هذه الحيتان؟ وما الحيلة في الحصول عليها؟ فزين لهم الشيطان حيلةً بأن يضعوا شبكًا يوم الجمعة في الماء، فإذا أتت الحيتان يوم السبت وقعت في هذا الشبك ولم تستطع الخروج منه، فإذا كان يوم الأحد جاؤوا فأخذوها، تحيلوا على محارم الله بأدنى الحيل، فماذا كانت النتيجة؟ قال الله تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) فقلب الله هؤلاء القوم قردةً خاسئة ذليلة. والمهم من سياق هذه القصة أن الإنسان قد يبتلى بما يكون فتنةً له في دينه إن اتبعه، فهؤلاء الذين يدعون الأموات ربما يفتنون فيحصل لهم المطلوب عند دعائهم الأموات فتنةً لهم، وإلا فنحن نعلم علم اليقين أن الأموات لا ينفعون أحدًا مهما كان الأمر، لو دعاهم بالليل والنهار ما نفعوه، كيف وهم أمواتٌ جثث هامدة؟ ولكن من لم يجعل الله له نورًا فما له من نور. ***
مستمعة من العراق محافظة التأمين أشواق إلياس سليمان تقول: لقد ذكر الله جل شأنه في كتابه العزيز أن أصحاب الكهف ناموا أكثر من ثلاثمائة سنة، وأن العزير أماته الله ﷾ مائة، ثم بعثهم وبعثه، وقد علمنا من شأنهم بقية القصة. السؤال: هل الموتى لا يحسون بمدة موتهم إلى أن يحييهم الله يوم القيامة؟ وضحوا لنا ذلك جزاكم الله خيرًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أولًا هي ذكرت قصتين قصة أصحاب الكهف، وقصة الرجل الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، ولم يثبت عن النبي ﷺ أنه كان عزيرًا، فهو رجلٌ حصلت له هذه القصة. والعبرة لما في القصة من آيات الله ﷿: أما أصحاب الكهف فإنهم لم يموتوا ولكنهم ناموا، ألقى الله عليهم النوم هذه المدة الطويلة التي قال الله عنها: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) . ولما استيقظوا تساءلوا: (كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)؛ لأن النائم- كما هو مشاهد ومحسوس- لا يحس بالوقت، قد ينام الإنسان يومًا أو يومين وكأنه لم ينم إلا ساعة أو ساعتين، وهذا شيء مشاهد، والظاهر أن الموتى كالنُّوَّم، وهي التي صارت فيها القصة الثانية: فإن هذا الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، فاستبعد أو استفهم: كيف يحيي الله الأرض هذه القرية بعد موتها؟ فأراه الله ﷿ هذه الآية العظيمة، أماته الله مائة سنة ثم بعثه من موته، وسأله: (كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ) . ثم أمره ﷿ أن ينظر إلى طعامه وشرابه لم يتغير، مع أنه بقي مائة سنة، فلم ييبس من شمس ولا رياح، والطعام لم ينتن، بل هو باق كما، كان أما الحمار فإنه قد مات وذهب جلده ولحمه ولم يبق إلا عظامه، فقال الله تعالى: (وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا) . فشاهد العظام ينشز الله بعضها ببعض بواسطة العصب، فلما تكاملت كساها الله لحمًا فكان حمارًا كاملًا، وهذا من آيات الله العظيمة الدالة على قدرته، وأنه على كل شيء قدير. والخلاصة أن في هاتين القصتين من آيات الله العظيمة ما هو ظاهر للمعتبر، وأن الجواب على سؤال السائلة- وهو: أن الميت لا يدري عن المدة التي تمر عليه-: أن الظاهر أن الميت كالنائم، ينطوي عليه الوقت ولا يدري عن سرعته. ***
يقول: فضيلة الشيخ إمام وخطيب المسجد الجامع الكبير بعنيزة السلام عليكم، سؤالي ما يلي: كيف يتأذى الميت بدخول إنسان لا يصلى معه في القبر؟ ألم يكن كل واحد ذهب إلى مقعده: إن كان في الجنة فهو في الجنة، والثاني في النار فهو في النار؟ أم كيف يكون التأذي؟ أرجو من فضيلة الشيخ إجابة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإجابة على هذا السؤال أن نقول: إنه لا يحل أن يدفن شخص لا يصلى مع شخص مسلم، بل ولا يحل أن يدفن وحده في مقابر المسلمين، والواجب أن يدفن من مات لا يصلى في مكان غير مقابر المسلمين؛ لأنه ليس منهم. هذا القول الراجح الذي رجحناه بأدلة من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وأقوال الصحابة ﵃، وقد سبق لنا مرارًا من هذا البرنامج ذكر الأدلة الدالة على كفر تارك الصلاة كفرًاَ مخرجًا عن الملة، سواء كان مقرًا بفرضيتها أم كان جاحدًا بل إذا كان جاحدًا، كفر وإن صلى، إلا أن يكون جاهلًا بأحكام الإسلام، كحديث عهد بالإسلام، فإنه يعرف ويبين له، فإن أقر بالوجوب وإلا كان كافرًا. المهم أنه لا يجوز أن يدفن من لا يصلى مع شخص مسلم، ولا في مقابر المسلمين، بل إن المشروع ألا يدفن مسلم مع آخر في قبر واحد، وإنما يدفن كل واحد وحده في قبره. واختلف العلماء ﵏: هل دفن الميت مع ميت آخر محرم لا يجوز إلا للضرورة، أو مكروه يجوز عند الحاجة إليه ولو بدون الضرورة، مع اتفاقهم على أن المشروع أن يدفن كل ميت وحده؟ وأما قول السائل: إنه يتأذى به، فهذا الأمر يحتاج إلى توقيف وإلى نص من الشرع أن الميت يتأذى بمن دفن معه إذا كان ممن يعذب في قبره، وهذا أمر لا أعلم عنه شيئًا من السنة، وإن كان بعض العلماء ﵏ يقولون: إن الميت قد يتأذى بجاره إذا كان يعذب، وقد يتأذى بفعل منكر عنده، ولكن لم أجد دليلًا من السنة يؤيد هذا. والله أعلم. ***
المستمع عبد السلام محمود الطقش مصري يسأل ويقول: هل عذاب القبر يختص بالروح أم بالبدن؟ فأجاب رحمه الله تعالى: عذاب القبر ثابت بكتاب الله وسنة رسوله. أما في كتاب الله فقد قال الله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) . وفي قوله تعالى في آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) . وأما الأحاديث التي فيها عذاب القبر فهي كثيرة، ومنها الحديث الذي يعرفه الخاص والعام من المسلمين، وهو قول المصلى: (أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) . وعذاب القبر في الأصل على الروح، وربما يتصل بالبدن أحيانًا، ولا سيما حين سؤال الإنسان عن ربه ودينه ونبيه حين دفنه، فإن روحه تعاد إلى جسده، لكنها إعادة برزخية لا تتعلق بالبدن تعلقها به في الدنيا، ويسأل الميت عن ربه ونبيه ودينه، فإذا كان كافرًا أو منافقًا قال: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته. فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق. ***
يقول: إن موت الإنسان يعني خروج الروح من الجسد، وعندما يدفن في القبر هل ترد الروح إلى جسده أم أين تذهب؟ وإذا كانت ترد الروح إلى الجسد في القبر فكيف يكون ذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: ثبت عن رسول الله ﷺ أن الميت إذا مات فإنها تعاد روحه إليه في قبره، ويسأل عن ربه ودينه ونبيه، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فيقول المؤمن: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد. وأما الكافر أو المنافق فإنه إذا سئل يقول: ها، ها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته. وهذه الإعادة- أعني إعادة الروح إلى البدن في القبر- ليست كحصول روح الإنسان في بدنه في الدنيا؛ لأنها حياة برزخية ولا نعلم كنهها، إذ إننا لم نخبر عن كنه هذه الحياة، وكل الأمور الغيبية التي لم نخبر عنها فإن واجبنا نحوها التوقف؛ لقول الله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا) (الإسراء:٣٦) ***
يقول: تنقسم حياة الإنسان إلى ثلاث: حياة الدنيا وهي التي نعيشها، ثانيا: ً حياة الآخرة معروفة، ثالثا: ً بين الحياة الدنيا وبين الآخرة حياة البرزخ، فما هي حياة البرزخ؟ وهل الإنسان يكون بجسده وروحه فيها؟ أفيدوني جزاكم الله خيرًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: حياة البرزخ حياةٌ بين حياتين، وهذه الأنواع الثلاثة للحياة تكون من أدنى إلى أعلى: فحياة البرزخ أكمل من الحياة الدنيا بالنسبة للمتقين؛ لأن الإنسان ينعم في قبره، ويفتح له بابٌ إلى الجنة، ويوسع له مد البصر. وحياة الآخرة- وهي الجنة التي هي مأوى المتقين- أكمل وأكمل بكثيرٍ من حياة البرزخ. وكذلك يقال بالنسبة للكافر، يقال: إن حياته في قبره أشد عذابًا مما يحصل له من عذاب الدنيا، وعذابه في النار التي هي مأوى الكافرين أشد وأشد، فحياة البرزخ في الواقع حياةٌ بين حياتين في الزمن وفي الحال، فحال الإنسان فيها بين حالين: دنيا وعليا، وكذلك الزمن كما هو معروف. أما سؤاله: هل تكون الحياة البرزخية بالروح والبدن؟ فهي قطعًا بالروح بلا شك، ثم قد تتصل بالبدن أحيانًا إن بقي ولم تأكله الأرض، ولم يحترق ويتطاير في الهواء، وقد لا تتصل. هذا هو القول الراجح في نعيم القبر أو عذابه: أنه في الأصل على الروح، وقد تتصل بالبدن، لكن ما يكون عند الدفن فالظاهر أنه يكون على الروح والبدن جميعًا؛ لأنه جاء في الأحاديث ما يدل على ذلك، من أن الميت يجلس في قبره ويسأل، ويوسع له في قبره، ويضيق عليه حتى تختلف أضلاعه، وكل هذا يدل على أن النعيم أو العذاب عند الدفن يكون على البدن والروح. ***
ما هو اعتقاد أهل السنة والجماعة في الحياة البرزخية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: مذهب أهل السنة والجماعة في الحياة البرزخية أن الإنسان إذا دفن وتولى عنه أصحابه أتاه ملكان فأجلساه، وسألاه عن ثلاثة أشياء: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة- جعلنا الله وإخواننا المسلمين منهم- فيقول المؤمن: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد. وأما المنافق فإنه يقول: ها، ها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته. ثم يبقى المؤمن منعمًا في قبره، والمنافق معذبًا في قبره. والعذاب يكون في الأصل على الروح، ولهذا يحس بالعذاب ولو تمزق بدنه وأكلته السباع، وربما تتصل الروح بالبدن ويكون العذاب على الروح والبدن جميعًا. ومسائل الآخرة كلها أمور غيب لا نطلع على شيء منها إلا عن طريق الوحي، ولهذا لا ينبغي لنا أن نتعمق في السؤال عنها؛ لأننا سنصل إلى باب مسدود، ولن نصل إلى شيء من التفاصيل إلا عن طريق الكتاب والسنة. وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عباس ﵄ أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير) . يعني: أنهما لا يعذبان في أمر شاق عليهما، بل هو أمر سهل. (أما أحدهما فكان لا يستبرىء من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) . يعني: بنقل الكلام كلام الناس بعضهم ببعض؛ ليفسد بينهم ويفرق بينهم. فأمر بجريدة رطبة فشقها نصفين، فجعل على كل قبر واحدة، فقالوا: لِمَ صنعت هذا يا رسول؟ الله قال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) . ففي هذا دليل واضح على ثبوت عذاب القبر، وأنه قد ينقطع وقد يخفف. أخذ بعض أهل العلم ﵏ من هذا أنه ينبغي أن يوضع على القبر جريدة رطبة، كما فعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهذين القبرين، لكن هذا مأخذ ضعيف جدًّا؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما كان يضع الجريدتين أو الجريدة الواحدة في كل من قُبر، لكن وَضَعها على هذين القبرين اللذين يعذبان، فوضع شيء من هذا على القبر يبرهن على إساءة الظن بصاحب القبر، وأنه الآن يعذب. وثُم هو بدعة؛ لأن النبي ﷺ إذا فعل شيئًا لسبب فإنه لا يقتضي أن يكون عامًّا في كل شيء، بل فيما ثبت في هذا السبب. ثم هذا السبب ليس أمرًا معلومًا، بحيث نعلم أن هذا الرجل يعذب في قبره فنضع له الجريدة، بل هو مجهول، وهو عذاب القبر، فلهذا ينهى أن يوضع على القبر شيء من الزهور أو شيء من الأغصان أو شيء من الجريد؛ لأن ذلك كله من البدع، ومتى قصد به التخفيف من العذاب عن هذا القبر صار إساءة ظن بصاحبه. ***
السائل إبراهيم من الرياض يقول: ما هي عقيدة أهل السنة والجماعة في الحياة البرزخية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: عقيدتهم في الحياة البرزخية ما جاء في الكتاب والسنة من الأدلة على أن الإنسان يعذب في قبره وينعم بحسب حاله، قال الله ﵎ في آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) (غافر:٤٦) . وقال تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) . وقال الله تبارك تعالى: (فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصلىةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦» . وهذه الحياة التي يكون فيها النعيم أو العذاب حياة برزخية ليست كحياة الدنيا، فلا يحتاج فيها الحي إلى ماء ولا طعام ولا هواء، ولا وقاية من برد ولا وقاية من حر، حياة لا نعلم كيفيتها، بل هي من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله ﷿، أو من وصل إليها وحصل له بها حق اليقين. ونحن نقرأ في صلواتنا: أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال. ***
السائلة تقول في هذا السؤال: أرجو التحدث عن الحياة البرزخية كما جاء في سورة المؤمنون: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) فأجاب رحمه الله تعالى: الحياة البرزخية هي الحياة التي تكون بين موت الإنسان وقيام الساعة، والإنسان قد يقبر فيدفن في الأرض، وقد يلقى في البحر فتأكله الحيتان، وقد يلقى في البر فتأكله الطيور والوحوش، ومع ذلك فإن كل واحد من هؤلاء يناله من الحياة البرزخية ما يناله. وهي- أعني: الحياة البرزخية- من عالم الغيب، فلولا أن الله ورسوله أخبرانا بما يكون فيها ما علمنا عنها، ولكن الله تعالى أخبرنا في كتابه ورسوله ﷺ أخبرنا في سنته بما لا نعلمه عن هذا الأمر، فالحياة البرزخية يكون فيها العذاب ويكون فيها النعيم، إما على الروح وحدها أو تتصل بالبدن أحيانًا، لكن هذا العذاب ليس من عالم الشهادة، ولهذا يعذب الإنسان في قبره، ويضيق عليه القبر حتى تختلف أضلاعه، أو يفسح له في القبر وينعم فيه، ويفتح له باب من الجنة يأتيه من روحها ونعيمها، ولو أننا كشفنا القبر لوجدنا الميت كما دفناه بالأمس لم تختلف أضلاعه، ولم نجد رائحة من روائح الجنة ولا شيئًا من هذا؛ لأن هذه الحياة حياة برزخية غير معلومة لنا وليست من عالم الشهادة. وأضرب مثلًا يقرب ذلك بأن الإنسان النائم نائم عندك، وهو يرى في منامه أنه يذهب ويجيء، ويبيع ويشتري، ويصلى، ويزور قريبًا له ويعود مريضًا، وهو في منامه مضطجع عندك ما كأنه رأى شيئًا من ذلك، ومع ذلك هو يرى، هكذا أيضًا الحياة البرزخية: الميت يرى فيها ما يرى، وينعم فيها ويعذب، لكن في جانب الحس لا يشاهد شيئًا من هذا، وذلك أن النوم أخو الموت في الواقع، لكن الموت أشد وأعظم عمقًا في مثل هذه الأمور. والنفس لها تعلق بالبدن على وجوه أربعة: الأول: تعلقها بالبدن في حال الحمل، والثاني: تعلقها في حال الحياة الدنيا، وتعلقها في حال الحياة الدنيا يكون في حال اليقظة وفي حال النوم، ويختلف هذا عن هذا، والثالث: تعلقها بالبدن في البرزخ، والرابع: تعلقها بالبدن بعد البعث، وهذا الأخير هو أكمل التعلقات، ولهذا لا تفارق الروح البدن لا بنوم ولا بموت، إذ لا موت بعد البعث ولا نوم، وإنما هي حياة دائمة، حياة يقظة، لكن إما في نعيم دائم- أسأل الله أن يجعلني والمستمعين من هؤلاء- وإما في جحيم دائم والعياذ بالله: (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) . وأما أهل النعيم فهم في نعيم دائم، فهذه أنواع تعلق الروح بالبدن، ولكل منها خاصية ليست في الأخرى. ***
يقول السائل: كيف السؤال في القبر بعد ممات الإنسان؟ فأجاب رحمه الله تعالى: السؤال أنه يأتيه ملكان فيسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول المؤمن: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد. وأما المرتاب أو المنافق فهذا يقول: ها ها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته. فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين. ***
يقول السائل م. ع: ما حقيقة عالم البرزخ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أحيلك على نفسك: إذا كنت في البرزخ فسوف تعرف ما حال الإنسان! ولكن الذي بلغنا من ذلك أن الإنسان إذا دفن وتولى عنه أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فسألاه عن ربه ودينه ونبيه. فأما المؤمن- نسأل الله أن يجعلنا منهم- فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد. فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة. وأما المنافق المرتاب- والعياذ بالله- فإنه إذا سئل قال: ها. ها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته- أعاذنا الله وإياكم منهم- فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه والعياذ بالله، أي: يدخل بعضها بعضًا من الضيق، ويفتح له بابٌ إلى النار- أجارنا الله وإياكم منها- ثم يبقى الإنسان على أمرٍ لا ندري عنه بالتفصيل، لكننا نؤمن بعذاب القبر ونعيم القبر. ***
السائلة ن ع ع جدة تقول: أرجو أن تبينوا لنا عذاب القبر وأسباب النجاة منه، وهل عندما يدفنون الميت ثم يقولون له بعد الفراغ من دفنه: إذا سألك الملكان: من ربك؟ فقل: ربي الله. وما نبيك؟ وما دينك؟ هل صحيح أن الميت يسمعهم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إذا دفن الميت وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم فقد تم توديعه، وحينئذ يأتيه الملكان فيسألانه عن ربه ودينه ونبيه، فإن أجاب بالصواب فسح له في قبره، وفتح له باب إلى الجنة، ونادى منادٍ من السماء: أن صدق عبدي. وإن توقف وقال: لا أدري، فإنه يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، وينادي منادٍ من السماء: أن كذب عبدي. ويفتح له باب إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها. والأسباب المنجية من عذاب القبر كثيرة، تنحصر في أن الأسباب الواقية من عذاب القبر هي القيام بطاعة الله، فيفعل ما أمر الله به ويترك ما نهى الله عنه. ومنها- أي: من الأسباب الواقية من عذاب القبر- التعوذ بالله من عذاب القبر، ولهذا أمرنا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن نتعوذ من عذاب القبر أمرًا عامًّا فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر، وأمرنا أن نتعوذ بالله من عذاب القبر أمرًا خاصًّا بعد التشهد الأخير، حيث قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إذا تشهد أحدكم التشهد الآخر- أو قال: الأخير فليستعذ بالله من أربع، فيقول: أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) . ومن أسباب عذاب القبر عدم التنزه من البول، والمشي بين الناس بالنميمة، كما في حديث ابن عباس ﵄ قال: مر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول- أو قال لا يستنزه من البول-، وأما الثاني فكان يمشي بالنميمة) . ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين، وغرز في كل قبر واحدة، قالوا: لِمَ صنعت هذا يا رسول الله؟ قال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) . فبين النبي ﷺ سبب عذابهما بأن أحدهما لا يستبريء من البول، وأن الثاني كان يمشي بالنميمة. والنميمة هي نقل كلام الناس فيما بينهم على سبيل الإفساد، فيأتي للشخص ويقول: قال فلان فيك كذا، قال فلان فيك كذا؛ ليلقي العداوة بينهما. وبهذه المناسبة أود أن أنبه على شيء يفعله بعض الناس: إذا فرغ من دفن الميت وضع عليه غصنًا أخضر من جريد النخل أو غيره، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث وضع الجريدة التي شقها نصفين على كل قبر واحدة، فإن هذا الذي يفعله بعض الناس بدعة؛ لأن رسول الله ﷺ ما كان يفعله على قبر كل ميت، وأيضًا فإن الرسول ﷺ فعله لسبب، وهو أن أصحاب القبرين يعذبان، فما يدري هذا الرجل أن صاحبه يعذب حتى يضع عليه هذا الغصن الأخضر؟ وأيضًا فإن وضع هذا الغصن الأخضر شهادة بالفعل على أن صاحب القبر يعذب، فيكون في ذلك إساءة ظن بصاحب القبر. لكن بعض الناس لا يتأملون ماذا يتفرع على أفعالهم من المفاسد، فتجدهم يأخذون بظاهر الحال ولا يتأملون حق التأمل، نسأل الله لنا ولهم الهداية. ***
يقول السائل: يقال: إن الكافر عندما يوضع في القبر ويأتيه منكر ونكير، يأتيانه في صورٍ مخيفة ومرعبة، فهل المؤمن يرى منكرًا ونكيرًا بنفس الصورة التي يراهما فيها الكافر؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: من المعلوم أنه لا يستوي المؤمن والكافر فيما يتعلق بعذاب القبر ونعيمه، وأن المؤمن ينعم في قبره، ويوسع له فيه، وينور له فيه، ويفتح له فيه بابٌ إلى الجنة، وأما الكافر فإنه يعذب في قبره، ويضيق عليه فيه حتى تختلف أضلاعه والعياذ بالله، ويفتح له بابٌ إلى النار. وأما المساءلة حين السؤال: فإن الميت يأتيه ملكان يسألانه عن ثلاثة أشياء: عن ربه ودينه ونبيه. فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد. وأما المرتاب فيقول: ها، ها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته. هذا أكثر ما عندي الآن حول الإجابة على هذا السؤال ***
يقول المستمع م. ع. م. من المدينة المنورة: ورد في الحديث الصحيح أن الميت عندما يوضع في قبره يسأل عن ثلاث: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ بينما ورد عن الرسول ﷺ بأن ينتظر عند الميت بعد دفنه مقدار ما تنحر الجزور. السؤال: الأسئلة المذكورة أعلاه الثلاثة لا تستغرق سوى دقيقتين أو ثلاث دقائق، فهل هناك أسئلة أخرى تستغرق مقدار نحر الجزور؟ آمل إفادتي مشكورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لم يرد عن النبي ﷺ أن الناس يمكثون عند القبر بمقدار ما تنحر الجزور، وإنما جاء ذلك عن عمرو بن العاص ﵁، أما الوارد عن النبي ﷺ فإنه كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت) . فالذي أمر به النبي ﵊ أن نقف بعد دفن الميت إذا فرغنا من دفنه، أن نقف عليه وأن نقول: اللهم اغفر له، اللهم ثبته، اللهم اغفر له، اللهم ثبته، اللهم اغفر له، اللهم ثبته، ثلاث مرات ثم ننصرف، هذا هو الوارد فليقتصر عليه. ***
المستمع مصري الجنسية يعمل بالعراق يقول: قرأت في كتاب يسمى دقائق الأخبار ما يفيد بأن الإنسان بعد الموت يدخل عليه في القبر ملك اسمه دومان، فيقول له: اكتب عملك. فيقول: أين قلمي وحبري وورقي؟ فيمسك سبابة يده اليمنى ويقول: هذا قلمك، ويشير إلى فمه: من هنا حبرك، ويقطع قطعة من جلد يده ويقول: هذا ورقك. وروى الكثير مما يحدث بعد الموت، مثل استئذان الروح من ربها بعد أسبوع وتعود إلى البيت الذي كانت تعيش فيه. هل هذا صحيح؟ وهل هناك ما يثبت ذلك من القرآن والسنة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا غير صحيح بل هو باطل، والأمور الغيبية لا يجوز الاعتماد على شيء لم يثبت فيها عن الله ورسوله؛ لأن الأمور الغيبية لا يطلع عليها إلا الله ﷿، أو من أطلعه الله عليه ممن اصطفاه من الرسل، قال الله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (٢٧» . وما ذكره مما يكون للإنسان بعد موته فهو باطل لا أصل له. وإني أحذر أخي السائل من قراءة مثل هذه الكتب، وما أكثر أنواعها في الوعظ والترغيب والترهيب، فإن كثيرًا من الكتب المصنفة في الوعظ والترغيب والترهيب فيها أحاديث لا زمام لها، وإنما يقصد واضعوها أن يقووا رغبة الناس أو رهبتهم، وهذا خطأ، خطأ أرجو الله أن يعفو عنهم إذا كان صادرًا عن حسن النية، والحذر الحذر فالحذر الحذر من مثل هذه الكتب، وما صح من سنة رسول الله ﷺ ففيه كفايتنا عن هذه. ***
يقول السائل: كيف النجاة من فتنة القبر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: النجاة من فتنة القبر أن يموت الإنسان على الإسلام، فإنه إذا مات على الإسلام أنجاه الله؛ لأنه إذا سئل: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فسيجيب بالصواب، وحينئذ ينجو، فإن مات على نفاق- نسأل الله أن يعيذنا وإخواننا من النفاق- فإنه لن يجيب إذا سئل: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ قال: ها. ها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته. فهذا لا ينجو من الفتنة، ويعذب في قبره والعياذ بالله. ***
يقال: إنه إذا قامت القيامة فإن المسلمين الذين هم مؤدون للشريعة الإسلامية والمؤمنون بوجود الله ويوم القيامة وغير مؤدين بدين الإسلام فستأتيهم ريحٌ فيموتون، إلا الكفار فهم يرون أهوال يوم القيامة والأشياء التي تحصل حين قيام الساعة. ما مدى صحة ذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: ليس هذا بصحيح، بل إذا قامت الساعة فإن جميع الناس مسلمهم وكافرهم يشاهدون هذا اليوم العظيم، وينالهم ما ينالهم من شدائده وهمومه وكروبه وغمومه، ولكن الله تعالى ييسره على المسلم، كما قال الله تعالى: (وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا) . وقال تعالى: (عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) . فاليوم عسير وشديد، وعسره وشدته على الجميع، ولكن هذا العسر والشدة ييسر على المؤمنين، ويكون غير شاقٍ عليهم، بخلاف الكافرين. ***
كيف يقوم الناس من قبورهم يوم القيامة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يقوم الناس من قبورهم حفاةً عراةً غرلًا بُهمًا. أما حفاةً فمعناه: أنه ليس في أقدامهم نعالٌ ولا خفاف ولا جوارب، وأما عراة فمعناه: أنه ليس عليهم ثياب، العورات بادية، كما خرجوا من بطون أمهاتهم يخرجون من بطون الأرض، كما قال الله تعالى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) . غرلًا أي: غير مختونين، أي: إن القلفة التي تقطع في الختان في الدنيا- وهي الجلدة التي على رأس الذكر- تعاد يوم القيامة، حتى يخرج الناس من قبورهم كما خرجوا من بطون أمهاتهم غير مختونين، وأما بُهمًا فمعناه: أنه ليس معهم مال يعرفون به، فلا درهم ولا دينار ولا متاع ولا شيء ما هي إلا الأعمال الصالحة، هكذا يخرج الناس من قبورهم لرب العالمين جل وعلا. ***
هل صحيح أن يوم القيامة يخفف على المؤمن حتى يصير كأنه وقت قصير جدًّا؟ أرجو بهذا إفادة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لاشك أن المؤمن يخفف عنه ذلك اليوم حتى يكون يسيرًا جدًّا، ودليل ذلك في كتاب الله ﷿، قال الله ﵎: (وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا) . وقال تعالى: (عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) . وقال تعالى: (يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) . وكل هذا يدل أن هذا اليوم يكون يسيرًا على المؤمنين، وبقدر ما يكون الإيمان عند العبد يكون اليسر في ذلك اليوم؛ لأن الجزاء من جنس العمل، نسأل الله أن ييسر علينا وعلى إخواننا المسلمين أهوال ذلك اليوم. ***
هذه رسالة وصلت من إحدى اخواتنا المستمعات محافظة واسط العزيزية العراق تقول في رسالتها بأنها فتاة مؤمنة بالله تعالى، تحاول جاهدة أن تلتزم بتعاليم الإسلام السمحة، تقول: كثيرًا ما يراودني أفكار كثيرة عن مصيري والحساب يوم القيامة، حيث يبعث الله الخلائق ويحاسب الإنسان بما عمل. سؤال يا فضيلة الشيخ وهو الذي يحيرني هو أن يوم القيامة الذي يتم فيه الحساب هل هو يوم واحد أخير لا غير، يتم فيه حساب كافة الخلائق أم ماذا؟ أو لا يجوز لنا التفكير في ذلك نرجو بهذا إفادة مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا السؤال المقدم عن هذه المرأة فيه إشكال يحتاج إلى الجواب كما قالت. وفيه أن المرأة أثنت على نفسها خيرًا بكونها مؤمنة بالله تعالى، وتحاول جاهدة تصديق الشريعة الإسلامية، وهذا الثناء على النفس إن أراد به الإنسان أن يتحدث بنعمة الله ﷿، أو أن يتأسى به غيره من أقرانه ونظرائه فهذا لا بأس به، وإن أراد به الإنسان تزكية نفسه وإدلاله بعمله على ربه ﷿ فإن هذا فيه شيء من المنّة، وقد قال الله تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) . وأما إذا كان المراد به مجرد الخبر فلا بأس به، لكن الأولى تركه، فالأحوال إذًا في مثل هذا الكلام الذي فيه ثناء المرء على نفسه أربع: الحال الأولى: أن يريد بذلك التحدث بنعمة الله عليه فيما حباه من نعمة الإيمان والثبات، الثانية: أنه يريد بذلك تنشيط أمثاله ونظرائه على مثل ما كان عليه، فهاتان الحالان محمودتان؛ لما تشتملان عليه من هذه النية الطيبة. الحال الثالثة: أن يريد بذلك الفخر والتباهي والإدلال على الله ﷿ بما هو عليه من الإيمان والثبات، وهذا غير محمود؛ لما ذكرناه من الآية. الحال الرابعة: أن يريد بذلك مجرد خبر عن نفسه لما هو عليه من الإيمان والثبات، فهذا جائز ولكن الأولى تركه أما المشكلة التي ذكرت في سؤالها وتريد الجواب عنها، وهي أن يوم الحساب يوم واحد أو أكثر؟ فجوابها: أن يوم الحساب يوم واحد، ولكنه يوم مقداره خمسون ألف سنة، كما قال الله تعالى: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (١) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (٢) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤» أي أن هذا العذاب يقع للكافرين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: (ما من صاحب ذهب ولافضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، وأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى به جبينه وجنبه وظهره، كلما بردت أعيدت، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد) . وهذا يوم طويل، وهو يوم عسير على الكافرين، كما قال تعالى: (وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا) . وقال تعالى: (عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) . ومفهوم هاتين الآيتين أنه على المؤمن يسير وهو كذلك، فهذا اليوم الطويل بما فيه من الأهوال والأشياء العظيمة ييسره الله تعالى على المؤمن، ويكون عسيرًا على الكافر، أسأل الله أن يجعلني وإخواني المسلمين ممن ييسره الله عليهم يوم القيامة. والتفكير والتعمق في مثل هذه الأمور الغيبية هو من التنطع الذي قال النبي ﷺ فيه: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) . ووظيفة الإنسان في هذه الأمور الغيبية التسليم، وأخذ الأمور على ظاهر معناها، دون أن يتعمق أو يحاول المقايسة بينها وبين الأمور في الدنيا، فإن أمور الآخرة ليست كأمور الدنيا، وإن كانت تشبهها في أصل المعنى وتشاركها في ذلك، لكن بينهما فرق عظيم. وأضرب لك مثلًا بما ذكره الله ﷾ في الجنة من النخل والرمان والفاكهة ولحم الطير والعسل والماء واللبن والخمر وما أشبه ذلك، مع قوله ﷿: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) . وقوله في الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) . فهذه الأسماء التي لها مسميات في هذه الدنيا لا تعنى أن المسمى كالمسمى، وإن اشترك في الاسم وفي أصل المعنى، فكل الأمور الغيبية التي تشارك ما يشاهد في الدنيا في أصل المعنى لا تكون مماثلة له في الحقيقة، فينبغي للإنسان أن ينتبه لهذه القاعدة، وأن يأخذ أمور الغيب بالتسليم على ما يقتضيه ظاهرها من المعنى، وأن لا يحاول شيئًا وراء ذلك. ولهذا لما سئل الإمام مالك ﵀ عن قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استوى؟ أطرق ﵀ برأسه حتى علاه الرحض- أي: العرق- وصار يتصبب عرقًا، وذلك لعظم السؤال في نفسه، ثم رفع رأسه وقال قولته الشهيرة التي كانت ميزانًا لجميع ما وصف الله به نفسه، قال ﵀: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. فالسؤال المتعمق في مثل هذه الأمور بدعة؛ لأن الصحابة ﵃ وهم أشد منا حرصًا على العلم وعلى الخير- لم يسألوا النبي ﷺ مثل هذه الأسئلة، وكفى بهم قدوة. وما قلته الآن بالنسبة لليوم الآخر يجري بالنسبة لصفات الله ﷿ التي وصف الله بها نفسه، من العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام وغير ذلك، فإن مسميات هذه الألفاظ بالنسبة لله ﷿ لا يماثلها شيء مما يشاركها في هذا الاسم بالنسبة للإنسان، فكل صفة فإنها تابعة لموصوفها، كما أن الله ﷾ لا مثيل له في ذاته فلا مثيل له في صفاته. وخلاصة الجواب الآن: أن اليوم الآخر يوم واحد، وأنه عسير على الكافرين، ويسير على المؤمنين، وأن ما ورد فيه أنواع الثواب والعقاب أمر لا يدرك كنهه في هذه الحياة الدنيا، وإن كان أصل المعنى فيه معلومًا لنا في هذه الحياة الدنيا. ***
محمد عبد الجبار مصطفى من بغداد العراق يقول: ما حكم الشرع في نظركم يا فضيلة الشيخ في حكم الطفل الذي يولد متخلفًا عقليا؟ ً وهل ورد في أحاديث الرسول ﷺ ما يشير إلى ذلك؟ وهل هناك تفسير لآياتٍ قرآنية كريمة تتعلق بذلك؟ وهل يحاسب يوم القيامة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: المولود وهو متخلفٌ عقليًا حكمه حكم المجنون ليس عليه تكليف، فلا يحاسب يوم القيامة، ولكنه إذا كان من أبوين مسلمين أو أحدهما مسلم فإن له حكم الوالد المسلم، أي: إن هذا الطفل يكون مسلمًا فيدخل الجنة، وأما إذا كان من أبوين كافرين: فإن أرجح الأقوال أنه يمتحن يوم القيامة بما أراد الله ﷿، فإن أجاب وامتثل أدخل الجنة، وإن عصى أدخل النار. هذا هو القول الراجح في هؤلاء، وهو- أي: هذا القول- منطبق على من لم تبلغهم دعوة الرسول ﷺ، كأناسٍ في أماكن بعيدة عن بلاد الإسلام، ولا يسمعون عن الإسلام شيئًا، فهؤلاء إذا كان يوم القيامة امتحنهم الله ﷾ بما شاء، فمن أطاع منهم دخل الجنة، ومن عصى دخل النار. قد يقول قائل: كيف يمتحنون وهم في دار الجزاء، وليسوا في دار التكليف؟ فجوابنا على هذا: أولًا: أن الله ﷾ يفعل ما يشاء، فله أن يكلف عباده في الآخرة كما كلفهم في الدنيا، ولسنا نحن نحجر على الله ﷿. ثانيًا: أن التكليف في الآخرة ثابت بنص القرآن، كما قال الله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (٤٣» . فدل هذا على أن التكليف قد يقع في الآخرة. إذًا هذا الذي ولد متخلفًا عقليًا فحكمه حكم المجانين، وليس عليه تكليف، وحكمه حكم أبويه إن كانا كافرين، وإن كانا مسلمين أو أحدهما فهو مسلم. وبهذا الجواب يتبين حكم هذا المولود المتخلف عقليًا، وما ذكرناه فإنه مقتضى دلالة الكتاب والسنة، فإن القلم قد رفع عن ثلاثة: عن الصغير حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ. فضيلة الشيخ: هل هناك تفسير لآيات قرآنية كريمة تتعلق بذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: القرآن كما قلت قبل قليل والسنة، كلٌ منهما يدل على أن المجنون ومن في حكمه ليس عليه تكليف. فضيلة الشيخ: في فقرةٍ له يقول: وهل وجود طفل متخلف في العائلة هو عقوبة للوالدين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: المصائب التي تصيب الإنسان تارةً تكون عقوبة، وتارةً تكون امتحانًا، تارةً تكون عقوبة إذا فعل الإنسان محرمًا أو ترك واجبًا، فقد يعجل الله له العقوبة في الدنيا، ويصيبه بما شاء من مصيبة، وقد يصاب الإنسان بمصيبة لا عقوبة على ترك واجبٍ أو فعل محرم، ولكن من باب الامتحان يمتحن الله بها الإنسان؛ ليعلم ﷿ أيصبر أو لا يصبر؟ وإذا صبر كانت هذه المصيبة منحة لا محنة، يرتقي بها هذا الإنسان إلى المراتب العالية وهي مرتبة الصابرين؛ لأن الصبر لا يحصل إلا بشيءٍ يصبر عليه، ولهذا كان رسول الله ﷺ يوعك- يعني: يمرض- كما يوعك الرجلان منا، أي: يشدد عليه في الوعك؛ لأجل أن ينال بذلك أعلى درجات الصابرين ﵊. ***
ما مصير الأطفال الذين يموتون دون البلوغ والتكليف، سواءٌ كانوا مسلمين أو غير مسلمين، من ناحية مصيرهم في الآخرة؟ وهل الحديث الذي معناه: (كل مولودٍ يولد على الفطرة) ينطبق حتى على أطفال غير المسلمين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: مصير أطفال المؤمنين الجنة؛ لأنهم تبعٌ لآبائهم، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) . وأما أطفال غير المؤمنين، يعني الطفل الذي نشأ من أبوين غير مسلمين، فأصح الأقوال فيهم أن نقول: الله أعلم بما كانوا عاملين، فهم في أحكام الدنيا بمنزلة آبائهم، أما في أحكام الآخرة فإن الله أعلم بما كانوا عاملين، كما قال النبي ﷺ: (والله أعلم بمآلهم) . هذا ما نقوله، وهو في الحقيقة أمر لا يعنينا كثيرًا، إنما الذي يعنينا هو حكمهم في الدنيا، وأحكامهم في الدنيا- أعني: أولاد المشركين الذين من أبوين كافرين، أحكامهم في الدنيا- أنهم كالمشركين، بمعنى: أنهم لا يغسلون ولا يكفنون ولا يصلى عليهم، ولا يدفنون في مقابرنا. ***
ما مصير أطفال المشركين أو الكفار الذين يموتون؟ هل هم في النار أم في الجنة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أطفال المشركين والكفار: إذا كان الأم والأب كلاهما كافرًا فإن هؤلاء الأولاد لهم حكم الكفار في الدنيا، فلا يغسلون ولا يكفنون ولا يصلى عليهم، ولا يدفنون في مقابر المسلمين. أما في الآخرة فأصح أقوال أهل العلم في ذلك أنهم لا يعلم مصيرهم، وأن علمهم إلى الله ﷿؛ لأنهم ممتحنون في يوم القيامة بما أراده الله، فإن امتثلوا وأطاعوا دخلوا الجنة، وإلا فهم في النار. ***
هل التائب من الذنوب لا يحاسب على ذنوبه الماضية إذا تاب توبة صادقة؟ وهل مرتكبو الكبائر إذا تابوا تقبل منهم توبتهم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم إذا تاب الإنسان توبة نصوحا فإن الله تعالى يقبل منه مهما عظم الذنب دليل ذلك قوله ﵎: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) . وهذه عامة ليس فيها تفصيل، أن مَنْ تاب من أي ذنب فإن الله يتوب عليه، وقال تعالى في التفصيل: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) . فالذنب مهما عظم إذا تاب الإنسان منه توبة نصوحًا غفره الله ﷿، فهنا تجد أن الله تعالى ذكر الشرك وقتل النفس بغير حق والزنى، وكلها عدوان عظيم: الأول عدوان في حق الخالق ﷿، والثاني عدوان على النفس في حق المخلوق، والثالث عدوان على العرض في حق المخلوق، ومع ذلك إذا تاب الإنسان وآمن وعمل عملًا صالحًا بدل الله سيئاته حسنات. ألم تر إلى قوم كانوا مشركين مضادين لدعوة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهداهم الله وتابوا وصاروا من قادة الأمة الإسلامية؟ ولكن إذا كانت المعصية في حق مخلوق فلابد من إيصال الحق إلى أهله، فلو سرق الإنسان مال شخص وتاب من السرقة تاب الله عليه، لكن لابد أن يعيد المال إلى مالكه؛ لأنها لا تتم التوبة فيما يتعلق بحق المخلوق إلا برد الحق إلى أهله. ***
سائل يقول في هذا السؤال: ما الفرق بين الكوثر والحوض؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الفرق بينهما أن الكوثر نهرٌ في الجنة أعطاه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأما الحوض فإنه في عرصات القيامة، يصب عليه ميزابان من الكوثر، هذا الحوض عظيم طوله شهرٌ وعرضه شهر، يرِده المؤمنون من أمة محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، جعلنا الله وإياكم ممن يرده ويشرب منه، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وطعمه أحلى من العسل، وريحه أطيب من ريح المسك، وآنيته كنجوم السماء في حسنها وكثرتها. ***
سائل يسأل عن الحوض المورود ما هو؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الحوض المورود حوض يكون في عرصات القيامة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، طوله شهر وعرضه شهر، وآنيته كنجوم السماء في الكثرة والجمال، وماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من رائحة المسك، يصب عليه ميزابان من الكوثر الذي في الجنة الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما في قوله تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) . أما أثره: فمن شرب منه شربة واحدة لم يظمأ بعدها أبدًا، اللهم اجعلنا ممن يشرب منه، اللهم اجعلنا ممن يشرب منه، اللهم اجعلنا ممن يشرب منه يا رب العالمين. ***
بالنسبة لحديث الحوض والذي يَردِ فيه الناس والذي يكون الرسول ﷺ قائمًا عليه، من هم هؤلاء الناس الممنوعون من الشرب؟ أهم أصحاب البدع؟ وهل للبدع أنواع؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الممنوع من الشرب من حوض النبي ﷺ يوم القيامة كل من أحدث في دين الله ما ليس منه؛ لأن النبي ﷺ يقال له: لا تدري ماذا أحدثوا بعدك. وكلما كان الإنسان أقوى في اتباع الرسول ﵊ كان وروده أضمن، ولهذا قيل: من ورد على شريعته فشرب ورد على حوضه فشرب، ومن لا فلا، ولكلٍ درجات مما عملوا. وأما قول السائل: هل البدع أنواع؟ فنعم البدع أنواع متعددة كثيرة، منها ما يوصل إلى الكفر، ومنها ما دون ذلك. ***
محمد عبد الحميد حاتم الحليفي يمني مقيم بمكة المكرمة يقول: نعرف أن الصراط حق لا ريب، وأنه لابد من العبور عليه، ولكننا سمعنا حديثًا عن صفته يقول بأن طوله مسيرة مائة عام في الاستواء، ومائة عام في الطلوع، ومائة عام في الهبوط، وأنه على متن جهنم. فهل هذا الحديث صحيح؟ وإن لم يكن كذلك فما هي حقيقته؟ ومتى يؤذن لمن تجاوزه بدخول الجنة؟ وما حكم من أنكر وجوده؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الصراط كما ذكر السائل حق، واعتقاد وجوده واجب، وهو مما يعتقده أهل السنة والجماعة. والصراط عبارة عن جسر ممدود على متن جهنم أدق من الشعر وأحد من السيف، وأما كون طوله كما ذكر السائل فإني لا أعلم في ذلك حديثًا صحيحًا عن النبي ﷺ، وهذا الصراط يعبر الناس عليه على قدر أعمالهم: منهم السريع، ومنهم البطيء، على حسب سيرهم على صراط الله المستقيم في هذه الدنيا، فمن كان مستقيمًا على الصراط في هذه الدنيا مسابقًا إلى الخيرات كان مستقيمًا على صراط الآخرة سابقًا فيه، ومن كان دون ذلك كان دون ذلك، وربما يمر بعض الناس به فيلقى في جهنم ويعذب فيها بقدر عمله ثم ينجو، وأما الكافرون فإنهم لا يعبرون على هذا الصراط، وإنما يحشرون إلى جهنم وردًا، كما قال الله ﷿، بدون أن يعبروا على ذلك الصراط؛ لأنهم لم يكونوا عابرين على الصراط في هذه الدنيا، فيكون جزاؤهم أن يحشروا إلى النار بدون أن يعبروا على هذا الصراط. وأول من يجوز بأمته محمد ﷺ، ثم بعد هذا الصراط يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، ويقتص لبعضهم من بعض، ثم يدخلون الجنة بعد أن يشفع النبي ﵊ إلى ربه في فتح أبواب الجنة، فيشفع إلى الله ﷿ أن تفتح أبواب الجنة فتفتح، ويكون أول من يدخلها محمدٌ ﷺ. فضيلة الشيخ: ويقول: ما حكم من أنكر وجوده؟ فأجاب رحمه الله تعالى: حكم من أنكر وجوده: إن كان جاهلًا فإنه يعلَّم حتى يتبين له، فإذا بلغ بالأحاديث الواردة في ذلك فإنه يجب عليه أن يعتقده، فإن أنكره- مع علمه أن النبي ﷺ أخبر به- كان مرتدًا كافرًا؛ لتكذيبه رسول الله ﷺ. ***
يقول السائل: ما صفة الصراط عند المرور عليه؟ وهل ورد له صفة معينة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الصراط هو جسر يوضع على النار، يعبر منه المؤمنون إلى الجنة- جعلنا الله وإياكم منهم- يمر الناس به على قدر أعمالهم: إما كلمح البصر، أو كالبرق، أو كالريح، أو كالفرس الجواد، أو كالإبل، ومنهم من يزحف زحفًا، ومنهم من يكردس في نار جهنم ويعذب بقدر ذنوبه. أما صفته فقد ورد أنه أحدُّ من السيف وأدق من الشعر، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه طريقٌ واسع، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إنه دحض ومزلة)، وهذا لا بد أن يكون واسعًا يسلكه الناس. وليس المهم أن نعرف هل هو واسع أو ضيق، المهم أن نعرف كيف يسير الناس عليه، ولماذا اختلف سير الناس عليه، فبعضهم كلمح البصر، وبعضهم كالبرق، وبعضهم يزحف، وبعضهم يلقى في النار. والجواب: أن هذا على حسب أعمالهم في الدنيا وتلقيهم لشريعة الله، فمن كان مسرعًا لتلقي شريعة الله مسارعًا في الخيرات كان عبوره على الصراط يسيرًا خفيفًا سريعًا، ومن كان متباطئًا في شريعة الله وقبولها صار سيره على الصراط كعمله جزاءً وفاقًا. ***
أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ ذكر بعض المتحدثين بأن الصراط طوله ثلاثة آلاف سنة، فهل هذا ثابت؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا ليس بثابت. ***
بارك الله فيكم فضيلة الشيخ يقول: من صلى في المسجد النبوي ثمانين صلاة متتابعة، مع الحضور قبل الصلاة ليلحق تكبيرة الإحرام، ويشفع له الرسول ﷺ يوم القيامة، فهل هذا صحيح؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا لا أعرف عن صحته شيئًا، ولكن شفاعة الرسول ﵊ لها أسبابٌ أخرى كثيرة، منها: أن من أجاب المؤذن، ثم بعد فراغه صلى على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وسأل الله له الوسيلة، فإنها تحل له- أو: تجب له- شفاعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ***
من السودان السائل أبو محمد يقول: هل الأطفال الذين يموتون وهم صغار يشفعون لوالديهم يوم القيامة؟ أفيدونا مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إذا مات للإنسان أطفال فصبر واحتسب، فإنهم يكونون له حجابًا من النار وسترًا من النار، ويدخل بهم الجنة، أما إذا لم يصبر ولم يحتسب فإنه سيفوته من الأجر بقدر ما فاته من الصبر. ***
بارك الله فيكم فضيلة الشيخ يقول: هل يشفع الابن الصالح والولد الصالح لوالديه في الآخرة؟ وكيف؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما الأولاد الصغار الذين ماتوا وهم صغار: فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنهم يكونون سترًا وحجابًا من النار لوالديهم، وأما البالغون فيشفعون لآبائهم في الحال التي يؤذن لهم فيها، ومن الشفاعة الدعاء للميت، فإن الدعاء للميت شفاعةٌ له؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما من رجلٍ مسلمٍ يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يشركون بالله شيئًا، إلا شفعهم الله فيه) . وهذا يدل على أن الدعاء للغير شفاعةٌ له، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له) . فذكر الدعاء؛ لأن الدعاء شفاعةٌ للمدعو له. فأنا أحث إخواننا على كثرة الدعاء لوالديهم أحياءً أم أمواتًا؛ لأن ذلك طريق الأولاد الصالحين الذين امتثلوا قول الله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) . ***
المستمعة أشواق إلياس سليمان العراق محافظة التأمين تقول: وضعت طفلًا ميتًا بعد رمضان العام الماضي، وقد صمت الشهر كله ولله الحمد. سؤالها تقول: هل يأتي يوم القيامة كبيرًا، كما سمعت من بعض النساء؟ هل لي أجر حمله تسعة أشهر وساعات ولادته العسيرة؟ وضحوا لنا ذلك بارك الله فيكم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الطفل الذي ذكرته السائلة أنه مات، وتسأل: كيف يأتي يوم القيامة؟ جوابي على هذا: أننا لا نعلم كيف يأتي هذا الطفل يوم القيامة، ولكن قد ثبت أن الناس يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلًا، كما قال الله تعالى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) . فالحفاة ليس عليهم نعال ولا خفاف، والعراة ليس عليهم ثياب، والغرل جمع أغرل، وهو الذي لم يختن، أي: إن جلدة الختان تعود يوم القيامة. وأما سؤالها: هل لها أجر على ما حصل لها من المشقة على حمله والتعب في وضعه؟ فجوابه أن نقول: إن لها أجرًا في ذلك، فإنه لا يصيب المرأة، بل لا يصيب الإنسان، من هم ولا غم ولا أذى إلا كفر الله عنه، حتى الشوكة إذا أصابته وحصل فيها ألم فإنه يكفر به عنه من سيئاته، وإذا صبر واحتسب الأجر من الله كان له مع تكفير السيئات زيادة في حسناته على صبره، كما قال الله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) .فالمصائب التي تصيب الإنسان تكفير، ومع الصبر عليها واحتساب الأجر تكون مع التكفير زيادة في الحسنات. ***
المستمعة حصة. م. أ. الرياض تقول في رسالتها: كما نعلم يا فضيلة الشيخ من القرآن الكريم والسنة المطهرة مآل المشركين في الآخرة، سؤالي هو عن أطفالهم الصغار إذا ما ماتوا، ما حكم ذلك يا فضيلة الشيخ؟ أرجو إفادة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إذا مات أطفال الكفار وهم لم يبلغوا سن التمييز فيُسلموا، وكان أبوه وأمه كافرين، فإن حكمه حكم الكفار في الدنيا، أي: لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولا يدفن مع المسلمين؛ لأنه كافر بأبويه، هذا في الدنيا. أما في الآخرة: فالله أعلم بما كانوا عاملين، وأصح الأقوال فيهم أن الله ﷾ يختبرهم يوم القيامة بما يشاء من تكليف، فإن امتثلوا أدخلهم الله الجنة، وإن أبوا أدخلهم النار. وهكذا نقول في أهل الفترة ومن لم تبلغهم الرسالات: إنهم إذا كانوا لا يدينون بالإسلام حكمهم في الدنيا حكم الكفار، وأما في الآخرة فالله أعلم بما كانوا عاملين، يختبرون ويكلفون بما يشاء الله ﷿ وما تقتضيه حكمته، فإن أطاعوا دخلوا الجنة، وإن عصوا دخلوا النار. ***
يقول: جاء في بعض الأحاديث أن القرآن يشفع للعبد، يقول: يا رب إلى آخره، فكيف الجمع بين ذلك وبين أن القرآن كلام الله غير مخلوق، والحديث فيه أن القرآن يقول: يا رب؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الحديث إذا صح- لأن بعض أهل العلم ضعفه، لكن إذا صح هذا الحديث- فإن الله ﷾ قادر على أن يكون هذا القرآن الكريم يمثل جزاؤه وأجره، يمثل بشيء يتكلم فيتكلم، كما أن الموت- وهو معنى من المعاني- يمثل يوم القيامة على صورة كبش، فيذبح بين الجنة والنار، يشهده أهل الجنة وأهل النار. فالمعنى- الذي هو عمل الإنسان، وهو قراءته، وثواب الإنسان على هذه القراءة- قد يجعله الله شيئًا ينطق ويتكلم ويقول: يا رب، هذا إن صح الحديث. ***
أحسن الله إليكم هل صحيح أن الإنسان الذي يموت يكون إما في سجين وإما في عليين، جزاكم الله خيرًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم هكذا جاءت به السنة أن الله ﷾ يقول في الرجل الفاجر: (اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الأرض السابعة السفلى) . وإذا كان من الأبرار قال: (اكتبوا كتاب عبدي في عليين) . وهكذا في الآخرة: الناس إما في سجين وإما في عليين، إما في الجنة وإما في النار، قال الله ﵎: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ* فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) . وقال الله ﵎: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) . وإنني بهذه المناسبة أنبه على مسألة يقولها بعض الناس وهم لا يشعرون، وهي أنهم إذا تحدثوا عن شخص مات قالوا: ثم نقل إلى مثواه الأخير، يعنون بذلك القبر، وهذا غلط واضح؛ لأن القبر ليس هو المثوى الأخير، بل المثوى الأخير إما الجنة وإما النار، أما القبر فإن الإنسان يأتيه ثم ينتقل عنه، وما مجيئه في القبر إلا كزائر بقي مدة ثم ارتحل. وقد ذكر أن بعض الأعراب سمع قارئًا يقرأ قول الله تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) . فقال هذا الأعرابي: والله لنبعثن؛ لأن الزائر ليس بمقيم. ولهذا يجب الحذر من إطلاق هذه الكلمة- أعني: القول بأنه انتقل إلى مثواه الأخير- لأن مضمونها إنكار البعث وأنه لا بعث، ونحن نعلم أن المسلم إذا قالها لا يريد هذا المضمون، لكنها تجري على لسانه تقليدًا لمن قالها من حيث لا يشعر، فالواجب الحذر منها والتحذير منها. ***
السائل حميد أحمد من اليمن يقول في هذا السؤال: لدينا طلاب متفقهون في الشرع، ويقولون بأن الله ﷿ سيرى يوم القيامة، فهل هذا صحيح؟ مع الدليل من الكتاب والسنة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: رؤية الله تعالى يوم القيامة صحيح ثابت بالقرآن والسنة وإجماع السلف. فمن أدلة ذلك في كتاب الله قول الله ﵎: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) فناضرة الأولى بمعنى حسنة، وناظرة الثانية من النظر بالعين، ولهذا أضيف النظر إلى الوجوه التي هي محل الأعين. ومن ذلك قول الله ﵎: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) فقد فسر النبي ﷺ الحسنى بالجنة، والزيادة بالنظر إلى وجه الله ﷿. ومن ذلك قول الله ﵎: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (المطففين: ١٥) يعني في ذلك الفجار، وهذا دليل على أن الأبرار يرون الله ﷿؛ لأن الله تعالى لما حجب هؤلاء في حال سخط كان المفهوم أن الله تعالى لا يحجب هؤلاء في حال الرضا، أعني: الأبرار. ومن ذلك قول الله ﵎، وهي الآية الرابعة: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) فإن المزيد ينبغي أن يفسر بما فسرت به الزيادة في قوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) والذي فسر الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله هو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا شك أن النبي ﷺ أعلم الناس بمراد الله تعالى في كلامه. وأما السنة: فالأحاديث في ذلك متواترة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد تواتر عن النبي ﷺ أن الله يرى بالعين يوم القيامة، فمن ذلك قول النبي ﷺ: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا) . والصلاة التي قبل طلوع الشمس هي صلاة الفجر، والتي قبل غروبها هي صلاة العصر، وهاتان الصلاتان أفضل الصلوات، ولهذا قال ﵊: (من صلى البردين دخل الجنة) . وقد صرح النبي ﷺ في أحاديث أخرى تصريحًا بالغًا من أقوى التصريحات فقال: (إنكم سترون ربكم يوم القيامة عيانًا بأبصاركم، كما ترون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب) . وأمَّا إجماع السلف: فهو أمر مشهور لا يخفى على أحد. ولهذا صرح بعض العلماء بأن من أنكر رؤية الله في الجنة فهو كافر؛ لأنه كذب القرآن والسنة، وخالف إجماع السلف، وقد قال الله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) . ولولا أننا نفضل الدعاء للمنكرين على الدعاء عليهم لقلنا: نسأل الله تعالى أن يحتجب عن من أنكروا رؤيته في الآخرة، ولكننا لا نفضل ذلك، بل نقول نسأل الله تعالى الهداية لمن التبس عليه الأمر، وأن يقر ويؤمن بما جاء في الكتاب والسنة. والعجب أن من الناس من ينكر رؤية الله في الآخرة بشبه يأتي بها من القرآن والسنة، أو بشبه عقلية لا أساس لها من الصحة. فمنهم من قال: إن رؤية الله تعالى غير ممكنة في الآخرة؛ لأن موسى ﵊ قال: (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي) . وقرروا دليلهم ذلك بأنّ (لن) تفيد التأبيد والتأبيد، يقتضي أن يكون هذا عامًّا في الدنيا والآخرة، فيكون قوله: لن تراني، أي في الدنيا وفي الآخرة. ولا شك أن هذا لبس وإلباس وتخبيط؛ لأن موسى إنما سأل الله الرؤية في تلك الساعة، بدليل أن الله تعالى قال له: (لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) . وسؤال موسى الرؤية يدل على إمكانها، إذ لو لم تكن ممكنة عقلًا ما سألها موسى ﵊، لكن الإنسان في الدنيا لا يستطيع أن يرى الله ﷿، وذلك لقصوره وضعفه، ولهذا قال النبي ﵊: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) . ويدل لهذا أن الله تعالى لما تجلى للجبل اندك الجبل وهو الحجر الأصم، فكيف يمكن لجسم ابن آدم الضعيف أن يثبت لرؤية الله ﷿ في هذه الدنيا؟ أما في الآخرة فشأنها غير شأن الدنيا، وفي الآخرة من الأمور ما لا يمكن إطلاقًا في الدنيا: دنو الشمس قدر ميل يوم القيامة، لو حدث ذلك في الدنيا لاحترقت الأرض ومن عليها. كون الناس في الموقف يختلفون، يعرقون فيختلفون في العرق: منهم من يصل إلى كعبيه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، هذا أمر لا يمكن في الدنيا، لكنه في الآخرة ممكن. كون الناس يمشون على الصراط، وهو كما جاء في مسلم بلاغًا (أدق من الشعر وأحد من السيف) أمر لا يمكن في الدنيا، ويمكن في الآخرة. كون الناس يقفون خمسين ألف سنة لا يأكلون ولا يشربون، حفاة عراة غرلًا، هذا لا يمكن في الدنيا وأمكن في الآخرة. فإذا كانت رؤية الله في الدنيا لا تمكن فإنه لا يلزم من ذلك ألا تمكن في الآخرة، وأما دعواهم أن (لن) تفيد التأبيد فدعوى غير صحيحة، فإن الله تعالى قال في أهل النار: إنهم لن يتمنوا الموت أبدًا بما قدمت أيديهم، قال ذلك في اليهود، وقال عن أهل النار يوم القيامة: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) أي: ليهلكنا ويمتنا حتى نستريح، فهنا تمنوا الموت وسألوا الله تعالى أن يقضي عليهم، ولكن لا يتسنى لهم ذلك: (قال إنكم ماكثون) . ولهذا قال ابن مالك ﵀ في الكافية: ومن رأى النفي بلن مؤبدا فقوله اردد وسواه فاعضدا والمهم أن من العقيدة عند السلف الواجبة أن يؤمن الإنسان بأن الله تعالى يرى يوم القيامة، ولكن متى يرى؟ يرى في الجنة إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ، فإن الله تعالى يكشف لهم كما شاء ومتى شاء وكيف شاء، فيرونه في عرصات القيامة، لا يراه الكافرون، يراه المؤمنون والمنافقون، ثم يحتجب الله تعالى عن المنافقين. والخلاصة: أنه يجب علينا أن نؤمن بأن الله تعالى يرى يوم القيامة رؤية حق بالعين، فإن قال قائل: وإذا رئي هل يدرك كما يدرك الرائي وجه مرئيه؟ قلنا: لا، لا يمكن أن يدرك؛ لأن الله تعالى قال: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) . والعجب أن المنكرين لرؤية الله في الآخرة استدلوا بهذه الآية على أنه لا يرى، وهو استدلال غريب، فإن الآية تدل على أنه يرى أكثر مما تدل على أنه لا يرى، بل إنه ليس فيها دلالة إطلاقًا على أنه لا يرى؛ لأن الله تعالى إنما نفى الإدراك، والإدراك أخص من الرؤية، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، بل إنما يقتضي وجود الأعم، فنفي الإدراك دليل على وجود أصل الرؤية، ولهذا جعل السلف هذه الآية من الأدلة على ثبوت رؤية الله ﷿ في الآخرة، وهو استدلال صحيح واضح. ***
السؤال من أحد الإخوة السودانيين مقيم بالمملكة منطقة الباحة يقول: يذهب أهل السنة والجماعة إلى القول بأن مصير الموحدين إلى الجنة في نهاية المطاف، وجاء في الحديث: (أنه لا يدخل الجنة قاطع رحم) . وأيضًا جاء: (لا يدخل الجنة نمام) . فهل الموحدون من هاتين الفئتين لا يدخلون الجنة كما هو ظاهر هذه النصوص؟ أم كيف يكون الجمع بينها؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذه النصوص وأمثالها من أحاديث أو من نصوص الوعيد هي التي أوجبت بطائفة الخوارج والمعتزلة أن يقولوا بخلود أهل الكبائر في النار؛ لأنهم أخذوا بهذه العمومات ونسوا عمومات أخرى تعارضها، وهي ما ثبت في أدلة كثيرة من أن الموحدين، أو من في قلبه إيمان ولو مثقال حبة من خردل فإنه لا يخلد في النار، كما أن عمومات الأدلة الدالة على الرجاء، وأن المؤمن يدخل الجنة، حملت المرجئة على ألا يعتبروا بنصوص الوعيد، وقالوا: إن المؤمن ولو كان فاسقًا لا يدخل النار، فهؤلاء أخذوا بعمومات هذه الأدلة، وأولئك أخذوا بعمومات أدلة الوعيد، فهدى الله أهل السنة والجماعة إلى القول الوسط الذي تجتمع فيه الأدلة، وهو: أن فاعل الكبيرة لا يخرج من الإيمان، وأنه مستحق للعقوبة، ولكن قد يعفو الله عنه فلا يدخله النار، وقد يدعى له فيعفى عن عقوبته، وقد تكفر هذه العقوبة بأسباب أخرى، وإذا قدر أنه لم يحصل شيء يكون سببًا لتكفيرها فإنه يعذب في النار على قدر عمله، ثم يكون في الجنة، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة. وعلى هذا: فأحاديث الوعيد المطلقة أو العامة كما في الحديثين اللذين أشار إليهما السائل: (لا يدخل الجنة قاطع رحم)، (لا يدخل الجنة نمام) تحمل على أن المعنى لا يدخلها دخولًا مطلقًا، أي: دخولًا كاملًا بدون تعذيب، بل لابد أن يتقدم ذلك التعذيب، إن لم يوجد ما يمحو ذلك الإثم من عفو الله أو غيره، فيكون معنى (لا يدخلون الجنة) أي: الدخول المطلق الكامل الذي لم يسبق بعذاب، وبهذا تجتمع الأدلة. ***
يقول هذا السائل: هل السبعون ألفًا الذين يدخلون الجنة هؤلاء إيمانهم يكون كاملًا، ومن هم الذين يعذبون في النار ويدخلون الجنة؟ والذين يبقون في النار خالدين فيها؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما الناس الذين يبقون في النار خالدين فيها فهؤلاء الكفار الذين ليس لهم حسنات، كما قال الله ﵎: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا* خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) . وقد ذكر الله تعالى خلود الكافرين الأبدي في القرآن في ثلاثة مواضع: الأول في النساء في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) والثاني في الأحزاب في قول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) . والثالث في سورة الجن في قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) . وأما أهل المعاصي من المؤمنين فهؤلاء مستحقون لدخول النار والعذاب فيها بقدر ذنوبهم، ولكن قد يغفر الله لهم فلا يدخلون النار، وقد يشفع لهم فلا يدخلون النار. وهناك أناس يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهم الذين وصفهم النبي ﵊ بقوله: (لا يَسْتَرْقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون) . ***
أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، الدليل من الكتاب والسنة على دخول الرجل المسلم العاصي النار ومن ثم خروجه إلى الجنة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الدليل على هذا أحاديث عن النبي ﵊ وردت كثيرًا بأن عصاة المؤمنين يدخلون النار، يعذبون فيها بقدر ذنوبهم ثم يخرجون منها، ومنهم من يخرج بالشفاعة قبل أن يستوفي ما يستحقه من عقوبة، ومنهم من يغفر الله له بفضله ورحمته فلا يدخل النار، فعصاة المسلمين ثلاثة أقسام: قسم يغفر الله له ولا يدخل النار أصلًا، وقسم آخر يدخل النار ويعذب بقدر ذنوبه ثم يخرج، وقسم ثالث يدخل النار ويعذب، ولكن يكون له الشفاعة، فيخرج من النار قبل أن يستكمل ما يستحقه من العذاب. ***
بارك الله فيكم يقول السائل: هل يخلد صاحب الشرك الأصغر في النار؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا يخلد صاحب الشرك الأصغر في النار؛ لأن الشرك الأصغر لا يخرج من الملة، والذي يخلد به الإنسان في النار- أعاذنا الله منها- هو الشرك الأكبر؛ لقول الله ﵎: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) . ولكن هل يكون الشرك الأصغر داخلًا تحت المشيئة كسائر الذنوب، أو لابد فيه من توبة؟ هذا يحتمل أن يكون قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) عامًّا للشرك الأصغر والأكبر، أي إنه لا يغفر، لكن الشرك الأصغر لا يخلد صاحبه في النار. ويحتمل أن يقال: إن المراد بالشرك في قوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الشرك الأكبر، فيكون الشرك الأصغر داخلًا تحت قوله: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) . وفضل الله ﷾ أوسع مما نتصور، فنرجو أن يكون الشرك الأصغر داخلًا تحت المشيئة. وبهذه المناسبة أود أن أنبه إلى مسألة حول هذه الآية، أعني قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) فإن بعض المتهاونين بالمعاصي إذا نهوا عن المعصية قال: إن الله يقول: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) . فجميع المعاصي داخلة تحت مشيئته، فيتهاون بالمعصية من أجل هذا الذي ذكره الله تعالى فيما دون الشرك. فنقول له: أنت على كل حال مخاطر، فهل تعلم أن الله تعالى يشاء أن يغفر لك؟ إنك لا تدري، فربما تكون من الذين لا يشاء الله أن يغفر لهم، فأنت مخاطر، والخطر أمر منهي عنه. ثم إن هناك أدلة أخرى محكمة ليس فيها اشتباه، وهي: وجوب التوبة إلى الله ﷿، فقد قال الله ﵎: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) . ***
بارك الله فيكم هذا السائل عبد الله العتيبي الطائف الحوية يقول: فضيلة الشيخ هل أهل الكبائر من أمة محمد ﷺ يخلدون في النار أم لا؟ وهل تحل لهم الشفاعة أم لا؟ وكيف يكون ذلك؟ أرجو منكم الإفادة مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أهل الكبائر التي دون الكفر لا يخلدون في النار؛ لقول الله تبارك تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) . وهم من أهل الشفاعة الذين يشفع فيهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، وهذا لا يعني أن الإنسان يتهاون بالكبائر، فإن الكبائر ربما توجب انطماس القلب حتى تؤدي إلى الكفر والعياذ بالله، كما قال الله ﵎ في سورة المطففين: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين َ* الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّين ِ* وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) . فهذا يشير إلى أن القلوب قد يران عليها فترى الحق باطلًا، كما ترى الباطل حقًّا. فعلى الإنسان أن يستعتب من كبائر ذنوبه قبل ألا يتمكن من ذلك، وأن يتوب إلى الله ﷿. ***
المستمعة من الرياض تقول: هل المسلم إذا دخل الجنة يتعرف على أقاربه الذين في الجنة؟ وهل يذكر أهله بعد موته ويعرف أحوالهم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما الشق الأول من السؤال، وهو: إذا دخل أحد الجنة هل يتعرف على أقاربه؟ فجوابه: نعم يتعرف على أقاربه وغيرهم من كل ما يأتيه سرور قلبه؛ لقول الله تعالى: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) . بل إن الإنسان يجتمع بذريته في منزلةٍ واحدة إذا كانت الذرية دون منزلته، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) . وأما الشق الثاني من السؤال، وهو: معرفة الميت ما يصنعه أهله في الدنيا؟ فإنني لا أعلم في ذلك أثرًا صحيحًا يعتمد عليه، ولكن بعض الوقائع تدل على أن الإنسان قد يعرف ما يجري على أهله، فقد حدثني شخص أنه بعد موت أبيه أضاع وثيقةً له، وصار يطلبها ويسأل عنها، فرأى في المنام أن أباه يكلمه من نافذة المجلس ويقول له: إن الوثيقة مكتوبة في أول صفحة من الدفتر الفلاني، لكن الورقة لاصقةٌ بجلدةٍ في الدفتر، فافتح الورقة تجد الوثيقة في ذلك المكان. ففعل الرجل ورآها كما ذكر أبوه، وهذا يدل على أن الإنسان قد يكون له علم بما يصنعه أهله من بعده. ***
أحسن الله إليكم هذا سائل عبد المنعم عثمان من السودان يقول: هل الرجل يتعرف على أولاده في يوم القيامة إذا كانوا سعداء؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إذا كان الأولاد سعداء والأب من السعداء فإن الله ﵎ يقول في كتابه: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) يعني: أن الإنسان إذا كان له ذرية، وكانوا من أهل الجنة، فإنهم يتبعون آباءهم وإن نزلت درجتهم عن الآباء، ولهذا قال: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ) أي: ما نقصنا الآباء (مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) بل الآباء بقي ثوابهم موفرًا، ورفعت الذرية إلى مكان آبائها، هذا ما لم يخرج الأبناء عن الذرية بحيث ينفردون بأزواجهم وأهليهم، فيكون هؤلاء لهم فضلهم الخاص ولا يلحقون بآبائهم؛ لأننا لو قلنا: كل واحد يلحق بأبيه ولو كان له أزواج أوكان منفردًا بنفسه، لكان أهل الجنة كلهم في مرتبة واحدة؛ لأن كل واحد من ذريته من فوقه، لكن المراد بالذرية الذين كانوا معه ولم ينفردوا بأنفسهم وأزواجهم وأولادهم، هؤلاء يرفعون إلى منزلة آبائهم ولا ينقص الآباء من عملهم من شيء. ***
حفظكم الله هذه رسالة وصلت من مستمع للبرنامج لم يذكر الاسم، في حالة دخول الزوجين الجنة هل يلتقيان مرة ثانية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم، إذا دخل الرجل وزوجته الجنة فهي زوجته لا تتعداه، وهو أيضًا لا يتعداها إلا فيما أعطاه الله تعالى من الحور العين، أو من نساء الجنة اللاتي ليس لهن أزواج في الدنيا. وإذا كان للمرأة زوجان ودخلا الجنة فإنها تخير بينهما، فمن اختارت فهو زوجها، وفي الحديث أنها تختار أحسنهما خلقًا. ***
رسالة من المستمع ح. م. ص. من جدة بعث بعدة أسئلة، في سؤاله الأول يقول: هل صحيحٌ أن الزوجين إذا كانا صالحين وتوفيا وكانا من أهل الجنة أنهما يكونان زوجين حتى في الجنة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم هذا صحيح أنه إذا مات رجل وزوجته وكانا من أهل الجنة فإنها تبقى زوجةً له، قال الله تعالى: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) . وقال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) . والذرية شاملة لذرية الزوج والزوجة، فإذا كان الله يلحق بالمؤمنين ذرياتهم فمعنى ذلك أن الزوج والزوجة يكونان سواءً، ويلحق الله بهما ذريتهما، وهذا من كمال النعيم الذي في الجنة، فإنها فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وهذا من كمال النعيم كما قلت. ***
فضيلة الشيخ محمد وردتنا الرسالة من المستمع إبراهيم محمد ش. يقول في رسالته لقد عرفنا مصير الرجال في الجنة أن لهم زوجات حورًا عينًا، ويقصد الرجال من المسلمين، ولكن ما مصير النساء في الجنة؟ ألهن أزواجٌ أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يقول الله ﵎ في نعيم أهل الجنة: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢» . ويقول تعالى: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) . ومن المعلوم أن الزواج من أبلغ ما تشتهيه النفوس، فهو حاصلٌ في الجنة لأهل الجنة ذكورًا كانوا أم إناثًا، فالمرأة يزوجها الله ﵎ في الجنة، يزوجها بزوجها الذي كان زوجًا لها في الدنيا، كما قال الله تعالى: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) . وإذا كانت لها زوجان في الدنيا فإنها تخير بينهما يوم القيامة في الجنة، وإذا لم تتزوج في الدنيا فإن الله تعالى يزوجها ما تقر به عينها في الجنة، فالنعيم في الجنة ليس قاصرًا على الذكور، وإنما هو للذكور وللإناث، ومن جملة النعيم الزواج. ولكن قد يقول قائل: إن الله تعالى ذكر الحور العين وهن زوجات، ولم يذكر للنساء أزواجًا؟ فنقول: إنما ذكر الزوجات للأزواج؛ لأن الزوج هو الطالب وهو الراغب في المرأة، فلذلك ذكرت الأزواج للرجال في الجنة، وسكت عن الأزواج للنساء، ولكن ليس معنى ذلك أنه ليس لهن أزواج، بل لهن أزاج من بني آدم. ***
بارك الله فيكم هذا السائل أحمد صالح يقول: هل المرأة الصالحة في الدنيا تكون من الحور العين في الآخرة؟ أرجو منكم الإفادة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: المرأة الصالحة في الدنيا- يعني: الزوجة- تكون خيرًا من الحور العين في الآخرة، وأطيب وأرغب لزوجها، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر أن أول زمرة تدخل الجنة على مثل صورة القمر ليلة البدر. فضيلة الشيخ: هل الأوصاف التي ذكرت للحور العين تشمل نساء الدنيا في القرآن؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الذي يظهر لي أن نساء الدنيا يكن خيرًا من الحور العين حتى في الصفات الظاهرة والله أعلم، ونحن نقول لأخينا السائل: هذه أسئلة لا وجه لها، أنت إذا كنت من أهل الجنة ودخلت الجنة فستجد فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ستجد فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهذه التساؤلات في أمور الغيب هي من التنطع في دين الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) . اصبر يا أخي حتى تدخل الجنة، فستجد ما لا يخطر لك على بال. ***
تقول السائلة ر ق ع في هذا السؤال: ما منزلة المرأة في الجنة مع وجود الحور العين؟ وماذا بالنسبة لزوجها؟ وهل المرأة تصبح زوجة للشهداء؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا شك أن الزوجات يكن مع أزواجهن في الآخرة، يقول الله ﷿ في دعاء الملائكة للمؤمنين: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) . وقال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) . ولا شك أن الزوجة مع زوجها في الجنة لها مقام عظيم عالٍ، حتى إن بعض العلماء قال في دعاء الميت: (وأبدلها زوجًا خيرًا من زوجها) أن المعنى: أبدلها زوجًا خيرًا من زوجها، أي: اجعل زوجها لها في الجنة خيرًا مما هو عليه في الحياة الدنيا. ثم إن قول الله تعالى: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) شامل لكل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فليس فيها كدر ولا نصب، ولا هم ولا غم، فلتبشر النساء بالخير، ولتعلم أن الجنة ليس فيها ما في الدنيا من الغيرة والتأذي. ***
وعد الله ﷿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لهم الجنة والحور العين، أرجو أن تعرفونا هل هذا خاص للرجال فقط بالنسبة للحور العين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا شك أن الجنة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين للرجال وللنساء، وليقرأ السائل قول الله تعالى في سورة الأحزاب: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ) إلى قوله ﵎: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) .وقوله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) . فما ثبت للرجال من الأجور على الأعمال الصالحة فهو ثابت للنساء، وما ثبت من الأوزار على الرجال فهو ثابت للنساء، لكن هناك أحكام تختص بالرجال وأحكام تختص بالنساء بدليل من الكتاب والسنة، فإذا كان هناك دليل يدل على اختصاص الرجال بحكم أو اختصاص النساء بالحكم فليكن هذا على مقتضى الدليل. ***
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يقول: نحن نعلم بأن الله ﷾ قد أعد الحور العين لعباده المؤمنين يوم القيامة في الجنة، فإذا كانت هنالك امرأة مؤمنة وأدخلها الله ﷾ الجنة برحمته، أما زوجها فلسوء سعيه في الدنيا لم يدخل الجنة، فمن يكون زوجها يومئذٍ؟ أفيدونا مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نقول: وعلى السائل السلام ورحمة الله وبركاته. والجواب على سؤاله هذا يؤخذ من عموم قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢» . ومن قوله تعالى: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) . فالمرأة إذا كانت من أهل الجنة ولم تتزوج،؟ أو كان زوجها ليس من أهل الجنة، فإنها إذا دخلت الجنة فهناك من أهل الجنة من لم يتزوجوا من الرجال، وهم- أعني: من لم يتزوجوا من الرجال- لهم زوجات من الحور، ولهم زوجات من أهل الدنيا إذا شاؤوا وشغل ذلك أنفسهم، وكذلك نقول، بالنسبة للمرأة إذا لم تكن ذات زوج، أو كانت ذات زوج في الدنيا ولكن زوجها لم يدخل مع أهل الجنة: إنها إذا اشتهت أن تتزوج فلا بد أن يكون لها ما تشتهيه؛ لعموم هذه الآيات، ولا يحضرني الآن نص خاص في هذه المسألة. والعلم عند الله تعالى. ***
أحسن الله إليكم هذا سؤال من المستمع سالم غانم عاشور العراق الموصل يقول: قرأت في كتاب للشيخ الإمام الغزالي حديثًا عن النبي ﷺ عن الشفاعة، فيمن أخرجهم الله من النار بشفاعته ﷺ، حين يقول الله تعالى: فرغت شفاعة الملائكة والنبيين وبقيت شفاعتي، فيخرج من النار أقوامًا لم يعملوا حسنة قط، فيدخلون الجنة فيكون في أعناقهم سمات، ويسمون عتقاء الله ﷿. فما مدى صحة هذا الحديث؟ وما معناه؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا الحديث متفق عليه بمعناه، يعني: أنه قد روى البخاري ومسلم معنى هذا الحديث، إلا أن فيه كلمة منكرة في هذا السياق الذي ذكره الأخ، وهي قوله: (فتبقى شفاعتي) . فإن هذه اللفظة منكرة، واللفظ الذي ورد في الصحيحين: (ولم يبق إلا أرحم الراحمين) . وإنما كانت اللفظة التي ذكرها السائل منكرة لأن قوله: (وتبقى شفاعتي) عند من يشفع؟ فالله ﷾ هو الذي يشفع إليه، وليس يشفع إلى أحد ﷾: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) .ومعنى هذا الحديث: أن الله ﷾ يأذن للرسل والملائكة والنبيين، وكذلك لصالح الخلق، أن يشفعوا في إخراج من شاء من أهل النار، فيخرج من أهل النار من شاء الله، حتى إذا لم يبق أحد تبلغه شفاعة هؤلاء، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين، أخرج الله ﷾ بهذه الرحمة من شاء، وجعل في رقابهم خواتم على أنهم عتقاء الله ﷾، فيدخلون الجنة، ومعنى قوله: (لم يعملوا حسنةً قط) أنهم ما عملوا أعمالًا صالحة، لكن الإيمان قد وقر في قلوبهم، فإما أن يكون هؤلاء قد ماتوا قبل التمكن من العمل، آمنوا ثم ماتوا قبل أن يتمكنوا من العمل، وحينئذ يصدق عليهم أنهم لم يعملوا خيرًا قط، وإما أن يكون هذا الحديث مقيدًا بمثل الأحاديث الدالة على أن بعض الأعمال الصالحة تركها كفر كالصلاة مثلًا، فإن من لم يصل فهو كافر ولو زعم أنه مؤمن بالله ورسوله، والكافر لا تنفعه شفاعة الشافعين يوم القيامة، وهو مخلد في النار أبد الآبدين والعياذ بالله. فالمهم أن هذا الحديث إما أن يكون في قوم آمنوا ولم يتمكنوا من العمل، فماتوا فور إيمانهم، فما عملوا خيرًا قط، وإما أن يكون هذا عامًّا، ولكنه يستثنى منه ما دلت النصوص الشرعية على أنه لابد أن يعمل كالصلاة، فإنه لابد أن يصلى الإنسان، فمن لم يصل فهو كافر، لا تنفعه الشفاعة ولا يخرج من النار. ***
الشياطين مخلوقة من نار، أي: نار السموم، وعدهم الله بنار الحميم، فكيف يكون عذابهم وهم خلقوا من نار هل النار التي سيعذبون بها غير التي نعرفها؟ فأجاب رحمه الله تعالى: النار التي يعذب بها الشياطين هي النار التي يعذب بها الكفار من بني آدم، ولا فرق بينهما، والإنسان إذا خلق من الشيء لا يلزم أن يكون هو الشيء، أرأيت نفسك أيها السائل: خلقت من طين، فهل أنت طين؟ من المعلوم أن الجواب: لا، ليس الإنسان بطين، هكذا الشياطين خلقت من نار ولكنها ليست نارًا، وإذا لم تكن نارًا فإنها أجسام لها خصائصها التي خصها الله بها، وإذا كان يوم القيامة فإنها تعذب بالنار. ***
القضاء والقدر
إبراهيم أبو حامد يقول: حدثونا عن القضاء والقدر، هل هما بمعنى واحد؟ فأجاب رحمه الله تعالى: القضاء والقدر إذا اجتمعا فلكل واحد معناه. وأما إذا أفرد أحدهما فإنه يشمل الآخر، فإذا قيل: قضاء وقدر، فالقضاء: ما قضاه الله تعالى في الأزل، وكتبه في اللوح المحفوظ. والقدر: ما قدره الله فوقع. فأما إذا قيل: قضاء فقط فإنه يشمل الأمرين جميعًا، أو قيل: قدر فقط فإنه يشمل الأمرين جميعًا. ***
هل القضاء والقدر بمعنى واحد؟ وما معناهما؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم القضاء والقدر بمعنى واحد إذا أفرد أحدهما عن الآخر، فيقال مثلًا: يؤمن بقدر الله، أو: يؤمن بقضاء الله. وأما إذا جمعا فالقضاء: ما كتبه الله في الأزل، والقدر: ما قدر الله وجوده، أو بالعكس، يعني: أنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا. ***
يقول السائل: ما الفرق بين القضاء والقدر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هاتان الكلمتان مترادفتان إن تفرقتا، ومتباينتان إن اجتمعتا. فإذا قيل: القضاء بدون أن يقترن به القدر كان شاملًا للقضاء والقدر، وإذا قيل: القدر دون أن يقترن به القضاء كان شاملًا للقضاء والقدر أيضًا. وهذا كثير في اللغة العربية: أن تكون الكلمة لها معنى عام عند الانفراد، ومعنى خاص عند الاقتران. فإذا قيل: القضاء والقدر جميعًا صار القضاء: ما يقضي به الله ﷿ من أفعاله أو أفعال الخلق، والقدر: ما قدر الله تعالى في الأزل وكتبه في اللوح المحفوظ، وذلك لأن المقدور سبقه تقدير في الأزل، أي: كتابة بأنه سيقع، وقضاء من الله تعالى بوقوعه فعلًا. وإن شيءت فقل: الكتابة قدر والمشيئة قضاء، والله تعالى يكتب الشيء، بل كتب الشيء في اللوح المحفوظ، ثم يشاؤه ﷾ في الوقت الذي تقتضي فيه حكمته وجوده فيه، الثاني قضاء والأول قدر. فصارت هاتان الكلمتان إن انفردت إحداهما عن الأخرى شملت معنى الأخرى، وإن اجتمعتا صار لكل واحدة منهما- أي: من الكلمتين- معنى. ***
تقول السائلة أم محمد من القاهرة: يا فضيلة الشيخ ماذا يعني القضاء والقدر بالتفصيل؟ وفقكم الله فأجاب رحمه الله تعالى: القضاء هو القدر إذا ذكر وحده، والقدر هو القضاء إذا ذكر وحده. فإن اجتمعا وقيل: القضاء والقدر صار القضاء: ما يفعله الله ﷿، والقدر ما كتبه في الأزل. وقد ذكر العلماء ﵏ أن الإيمان بالقدر له مراتب: المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله ﷿، بأن يؤمن العبد بأن الله تعالى بكل شيء عليم، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه عالمٌ بما كان وما يكون، وأنه ما وقع شيء إلا بعلمه. والمرتبة الثانية: الإيمان بالكتابة، أي: إن الله كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة، فإن الله أول ما خلق القلم قال له: اكتب. قال: ربي وماذا أكتب؟ قال اكتب ما هو كائنٌ. فجرى في تلك الساعة بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة. ودليل هاتين المرتبتين قوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) . المرتبة الثالثة: الإيمان بمشيئة الله العامة، وأن كل شيءٍ واقع بمشيئته ﷾، لا فرق في ذلك بين ما يحصل من فعله جل وعلا، وما يحصل من أفعال مخلوقاته. أما دليل الأول- وهو: ما يحصل من فعله- فهو قول الله تعالى: (وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) . وأما الثاني- وهو: ما وقع من أفعال خلقه- فدليله قول الله ﵎: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) فكل شيء يقع في السماوات أو في الأرض فإنه واقعٌ بمشيئته ﵎. وأما المرتبة الرابعة فهي: الإيمان بخلق الله، وأن كل كائن فهو مخلوق لله ﷿، لا خالق غيره ولا رب سواه. ودليل هذا قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) . هذه المراتب الأربع هي مراتب الإيمان بالقضاء والقدر، ولا يتم الإيمان بالقدر إلا بتحقيق هذه المراتب الأربع ومن المعلوم أن الإيمان بالقدر هو أحد أركان الإيمان الستة التي أجاب بها نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جبريل حين سأله عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) . ***
عودة من جدة يقول: ما الفرق بين القضاء والقدر؟ أرجو الإفادة فأجاب رحمه الله تعالى: القضاء والقدر اسمان مترادفان إن تفرقا، يعني: أنهما إذا تفرقا فهما بمعنى واحد، وإن اجتمعا فالقضاء: ما يقضي به الله، أي يحكم به، أي: بوقوعه. والقدر: ما كتبه الله تعالى في الأزل. وليعلم أن القضاء ينقسم إلى قسمين: قضاء شرعي، وقضاء كوني. فالقضاء الشرعي: يتعلق بما أحبه الله ورضيه، مثل قوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) . والقضاء الكوني: يتعلق بما قدره الله سواء كان مما يرضاه أو مما لا يرضاه، ومنه قوله تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) . والإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة التي بينها رسول الله ﷺ حين سأله جبريل عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) . فحقيقته: أن تؤمن بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. فما قدره الله عليك فلا بد أن يقع مهما عملت من الأسباب، وما دفع الله عنك فلا يمكن أن يقع مهما كان من الأسباب. ولهذا كان المؤمنون يقولون: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت. ***
أحسن الله إليكم وبارك فيكم من مكة المكرمة السائل م. أ. يقول: ما حكم الإيمان بالقضاء والقدر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإيمان بالقضاء والقدر أحد أركان الإيمان الستة، كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جوابًا لجبريل عندما قال: أخبرني عن الإيمان. قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) . ولا يتم الإيمان بالقدر إلا إذا آمن الإنسان بأمورٍ أربعة: الأول: الإيمان بعلم الله تعالى، وأنه ﷾ محيطٌ بكل شيءٍ علمًا، لا يخفى عليه شيء الثاني: أن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى يوم القيامة. ودليل هذين الأمرين قول الله ﵎: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) . وقوله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) . الأمر الثالث: أن تؤمن بأن كل ما في الكون فهو كائن بمشيئة الله، لا يخرج عن مشيئته شيء، حتى أفعال العباد قد شاءها الله ﷿. قال الله تعالى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ العالمين) . وقال ﵎: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) . الأمر الرابع: أن تؤمن بأن الله تعالى خالق كل شيءٍ في السماوات والأرض، كما قال الله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)، حتى أعمال العبد مخلوقة لله تعالى؛ لقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) . ووجه كون فعل العبد مخلوقًا لله: أن فعل العبد واقعٌ بإرادة العبد وقدرة العبد، وإرادة العبد وقدرة العبد مخلوقتان لله ﷿، وخالق السبب التام خالقٌ للمسبب، فإذا كان فعل الإنسان ناتجًا عن إرادةٍ وقدرة وهما مخلوقتان لله؛ صار فعل العبد مخلوقًا لله ﷿. فلا بد في الإيمان بالقدر من الإيمان بهذه الأمور الأربعة: علم الله، كتابة كل شيء كائن إلى يوم القيامة في لوحٍ محفوظ،مشيئة الله،خلق الله. وفي هذا يقول الناظم: علمٌ كتابة مولانا مشيئته وخلقه وهو إيجادٌ وتكوين ***
هذا السائل من الرياض إبراهيم أبو حامد يقول: ما حكم الإيمان بالقدر؟ وكيف يكون؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإيمان بالقدر واجب، ومنزلته في الدين أنه أحد أركان الإيمان الستة؛ لأن جبريل ﵇ سأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) .والقدر هو: تقدير الله ﵎ في الأزل، أي تقديره ﵎ ما كان وما يكون، فإنه ﷾ (أول ما خلق القلم قال له: اكتب. قال: ربي وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) . فكل ما يقع في السماء والأرض من أفعال الله- كالمطر والنبات والحياة والموت- أو من أفعال العباد- كالاستقامة والانحراف- فإنه مكتوب، مكتوب في الأزل عند الله ﵎. فيجب علينا أن نؤمن بذلك: أن الله كتب مقادير كل شيء إلى يوم القيامة، وأن هذا المكتوب شامل لما يفعله ﵎ هو بنفسه، وما يفعله عباده. قال العلماء: وللإيمان بالقدر أربع مراتب: المرتبة الأولى: أن تؤمن بعلم الله تعالى الشامل العام للحاضر والمستقبل والماضي، وأن كل ذلك معلوم عند الله بعلمه الأزلي الأبدي، فلا يضل الرب ﷿ ولا ينسى. لما سأل فرعون موسى ﵊: (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى (٥١) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى) ﷾. فيجب أن نؤمن بعلم الله ﷿ أنه عالم بكل شيء جملة وتفصيلًا فالجملة مثل قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، والتفصيل مثل قوله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)، وكذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، وكذلك قوله تعالى: (علِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ)، (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ)، والأمثلة على هذا كثيرة، هذه هي المرتبة الأولى من مراتب الإيمان بالقدر. المرتبة الثانية: أن تؤمن بأن الله ﵎ كتب مقادير كل شيء إلى قيام الساعة، فكل شيء فهو مكتوب عند الله في لوح محفوظ لا يتبدل ولا يتغير. ودليل ذلك قوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) . والحديث الذي ذكرناه آنفًا: (أن الله أول ما خلق القلم قال له: اكتب. قال: ربي ماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) . المرتبة الثالثة: أن تؤمن بأن ما في الكون من حركة ولا سكون ولا إيجاد ولا إعدام إلا بمشيئة الله، يعني: إلا وقد شاءه الله، سواء كان من فعله ﵎ أم من أفعال خلقه. فحركات الإنسان وسكنات الإنسان، وطوله وقصره، وبياضه وسواده، ورضاه وغضبه، واستقامته وانحرافه، كل ذلك بمشيئة الله، لا يشذ عن مشيئة الله شيء، حتى الهدى والصلاح بمشيئة الله. دليل ذلك قول الله ﵎: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَو شَاءَ اللهُ ما اقتَتَلُوا وَلَكنَّ اللهَ يَفعَلُ مَا يُرِيدُ)، وقال الله تعالى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) . وأجمع المسلمون على هذه الكلمة العظيمة: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. أما المرتبة الرابعة فهي الخلق: أن تؤمن بأن الله ﵎ خالق كل شيء، كما قال الله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)، وقال تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) . وقد ذكر الله تعالى الخلق عامًا كما في هاتين الآيتين، وذكره خاصًا مثل قوله: (فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ)، وقوله: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) . فكل شيء سوى الله فهو مخلوق، خلقه الله ﷿، سواء في الأعيان أو في الأفعال أو في الأوصاف. فالآدمي له جثة، له جسد، من خلق هذا؟ الله ﷿، الآدمي طويل وقصير، وأبيض وأسود، من قدر هذا؟ الله ﷿، الآدمي له عمل وحركة، صالح أو غير صالح، من خلق هذا العمل؟ الله ﷿؛ لأن عمل الإنسان من صفات الإنسان، والإنسان مخلوق فصفاته مخلوقة. ودليل ذلك ما ذكرته الآن: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)، (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) . فيجب علينا أن نؤمن بالقدر على هذه المراتب الأربع: علم الله، كتابته في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء، مشيئة الله لكل موجود ومعدوم وحركة وسكون، خَلْقُ الله لكل موجود ومعدوم وحركة وسكون. فالمعدوم يوجده الله، والموجود يعدمه الله. وقد اختلف بنو آدم في القدر وتنازعوا فيه واختلفوا فيه، فمنهم الغالي ومنهم الجافي ومنهم الوسط. فالغالي في إثبات القدر قال: إن الإنسان مجبور على عمله، ليس له فيه اختيار، إن عمل صالحًا فإكراهًا عليه، إن عمل سيئًا فإكراهًا عليه، إن قام أو قعد فهو مكره مجبر؛ لأن الله تعالى شاء ذلك فيجب أن يكون. وآخرون قصروا في هذا قالوا: إن الله يشاء كل شيء، ويخلق كل شيء، إلا أفعال الإنسان، فليس له فيها تصرف، وهؤلاء قصروا في الربوبية. وتوسط آخرون فقالوا: الإنسان يفعل باختياره، ويفرق بين الفعل الذي يكره عليه والفعل الذي يختاره. وهذا هو الواقع: أنت تخرج إلى السوق باختيارك، ترجع منه باختيارك، تدخل المدرسة الفلانية باختيارك، تتركها باختيارك، تسافر باختيارك، تبقى في بلدك باختيارك. هذا أمر لا ينكر، ولا يشعر أحدٌ أبدًا أنه أكره على هذا الفعل. ولهذا لو أكره حقيقة سقط عنه الإثم، إن أكره على محرم أو على ترك واجب، حتى إن الله أسقط حكم الكفر عند الإكراه فقال: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) . ولو قلنا بأن الإنسان مكره لبطلت الشريعة كلها، وصار لا يحمد على فعل الخير ولا يذم على فعل الشر، فنحن نرد على هؤلاء الذين قالوا: إنه مجبر، بهذا. أما الذين قالوا: إنه مستقل، فنقول: سبحان الله! الإنسان في ملك، الله وكيف يكون في ملك الله ما لا يريد؟ الإنسان مخلوق لله، فكيف تكون أفعاله غير مخلوقة لله؟ هي مخلوقة لله، وهي في ملك الله، لكن قد يحتج العاصي بالقدر على المعصية، فإذا زنى أو سرق أو شرب الخمر قال: والله هذا بقدر الله. نقول: هل الله أجبرك؟ هل تعلم أن الله قدر عليك أن تزني أو تسرق أو تشرب الخمر؟ أنت لا تعلم، ونحن لا نعلم أن الله قدر أفعالنا أو أقوالنا حتى تقع، فإذا وقعت علمنا أنه أرادها، أما قبل أن تقع فليس عندنا علم بما قدر الله، كما قال تعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا) . فالعاصي حين أقدم على الفعل أقدم عليه باختياره، ولم يعلم أن الله قد كتبه له أو عليه إلا إذا وقع. ولهذا لا ترى أحدًا يعذر أحدًا إذا ضربه الضارب وقال المضروب للضارب: لم ضربتني؟ قال: والله هذا بقدر الله، لا تجد أحدًا يقبل هذه الحجة. يذكر عن أمير المؤمنين عمر ﵁ أنه رفع إليه سارق فأمر بقطع يده، فقال له: مهلًا يا أمير المؤمنين، والله ما سرقت هذا إلا بقدر الله. قال: ونحن لا نقطع يدك إلا بقدر الله. المهم أنه لا يمكن أن يحتج الإنسان بالقدر على ظلم الناس وعدوانه عليهم وإنك لتعجب من هذا العاصي الذي يعصي الله، ومعصيته لله ظلم لنفسه، ثم يحتج بقدر الله على ظلم نفسه، مع أنه لو ظلمه ظالم واحتج على ظلمه بأنه قدر الله ما قبل منه، لذلك لا عذر للعاصي بقدر الله على معصيته، ولهذا أبطل الله حجة الذين احتجوا بالقدر فقال: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ) قال تعالى: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) . وكونهم يذوقون بأس الله يدل على أنه لا حجة لهم؛ لأنه لو كان لهم حجة ما ذاقوا بأس الله. والحاصل أن الإنسان يجب عليه أن يؤمن بالقدر، وأن كل شيء فهو من الله، وأنه لا حجة للعاصي على معصيته بقدر الله. ولما حدث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصحابه فقال: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار. قالوا: يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) .إذًا نحن مأمورون بالعمل، وإذا عملنا ما يرضي الله يسر الله لنا. ثم تلا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) . فنقول: آمِنْ بالقدر واعمل بالشرع حتى يتم إيمانك. ومن الإيمان بالقدر الإيمان بما جاء مكروهًا للعبد، كالمصائب في بدنه، في أهله، في ماله، في أصحابه، في مجتمعه. لا يخلو الإنسان من مصيبة؛ لأن الله تعالى يبتلي بالنعم ويبتلي بالنقم. هذه المصائب إذا حصلت اِرضَ بها، اِرضَ بقضاء الله،فإن الله ﷾ أعلم بمصالحك. كم من إنسان أصيب بمصيبة فكانت المصيبة فتح باب لاهتدائه، فالمصائب صقل للقلوب، إذا أراد الله ﷾ هداية الإنسان، كما أنها بالعكس في أناس آخرين، قال الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) . يعني: إذا أوذي في دينه وضيق عليه في دينه جعلها كالعذاب، فارتد ونكص على عقبيه والعياذ بالله. فالمهم أن الإيمان بالقدر يهون عليك المصائب؛ لأنك تعلم أنها من عند الله، وأن الله مالك كل شيء، وأنت من جملة من يملكه الله ﷿، أنت عبد لله يفعل بك ما شاء فلا تجزع. قال الله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) . قال علقمة في معنى (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) قال: (إنه يعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم) . لو أن رجلًا أصابك بأذى دافعت عن نفسك ولم ترض، لكن إذا كان الذي أصابك من المصائب من عند الله فعليك أن ترضى؛ لأنه ربك مالكك يفعل بك ما شاء، فإذا صبرت واحتسبت الأجر من الله صارت تلك المصيبة رفعة في درجاتك وأجرًا وثوابًا: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) . ***
أبو هيثم من دمياط من جمهورية مصر العربية يقول: التسخط من المصائب والكوارث ما حكمه في الشرع؟ جزاكم الله خيرًا فأجاب رحمه الله تعالى: فإن من أصول الإيمان أن يؤمن الإنسان بالقدر خيره وشره، وأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأمر كله يرجع إلى الله ﷿، وأن لله الحكمة البالغة فيما أصاب العبد من خير أو شر. والمصائب على نوعين: النوع الأول: أن تكون تكفيرًا لسيئات وقعت من المرء وإصلاحًا لحاله، كما في قوله ﵎: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، وقوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) . والنوع الثاني: أن تكون المصائب ليست عقوبة لسيئات وقعت من المرء، ولكن لزيادة رفعة في درجاته، وليحصل على وصف الصبر الذي أثنى الله على القائمين به وقال: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) . ومن ذلك ما يقع للرسول ﷺ من المصائب التي تصيبه ﵊، حتى إنه ليوعك كما يوعك الرجلان منا- أي: في المرض- من أجل أن ينال أعلى مقامات الصبر صلوات الله وسلامه عليه، وقد نال ذلك صلوات الله وسلامه عليه: فهو أعلى الناس صبرًا على طاعة الله، وأعلى الناس صبرًا عن محارم الله، وأعلى الناس صبرًا على أقدار الله المؤلمة. وبناء على هذه المقدمة يجب على المرء أن يصبر لقضاء الله وقدره، وأن لا يتسخط؛ لأن السخط من قضاء الله وقدره نقصٌ في الإيمان بربوبيته ﵎، إذ مقتضى الربوبية المطلقة أن يفعل ما شاء. وانظر إلى الكرم والفضل: أنه ﷿ يفعل في عبده ما يشاء، ومع ذلك يثيبه على ما حصل من هذه المصائب إذا صبر واحتسب. قال بعض أهل العلم: وللناس في المصائب مقامات أربعة: التسخط، والصبر، والرضا، والشكر. أما التسخط فحرام، سواء كان في القلب أو في اللسان أو في الجوارح. فالتسخط في القلب: أن يرى أن الله تعالى ظلمه في هذه المصيبة، وأنه ليس أهلًا لأن يصاب، وهذا على خطر عظيم، كما قال الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) . وأما التسخط بالقول فأن يدعو بدعوى الجاهلية مثل: واثبوراه، واانقطاع ظهراه، وما أشبه ذلك من الكلمات النابية التي تنبئ عن سخط العبد وعدم رضاه بقضاء الله. وأما التسخط بالأفعال فكنتف الشعور، ولطم الخدود، وشق الجيوب. وقد تبرأ النبي ﷺ من فاعل هذا فقال: (ليس منا من شق الجيوب وضرب الخدود ودعا بدعوى الجاهلية) . فالتسخط هذا حرام ومن كبائر الذنوب، والتسخط القلبي أعظم أنواعه وأخطر أنواعه. المقام الثاني: مقام الصبر، وهو: حبس النفس عن التسخط. وهو ثقيل على النفس، لكنه واجب؛ لأنه إذا لم يصبر تسخط، والتسخط من كبائر الذنوب، فيكون الصبر واجبًا. ولقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لابنته- التي كان عندها طفل يجود بنفسه حضره الموت، فأرسلت إلى النبي ﷺ رسولًا تدعوه للحضور، فقال النبي ﷺ: (مرها فلتصبر ولتحتسب) . المقام الثالث: هو الرضا، يعني: يرضى العبد بما قدر له من هذه المصيبة رضًا تامًا. وقد اختلف العلماء في وجوبه، والصواب أنه ليس بواجب ولكنه سنة؛ لأنه متضمن للصبر وزيادة. والفرق بين الصبر والرضا: أن المرء يكون في الصبر كارهًا لما وقع، لا يحب أنه وقع، لكنه قد حبس نفسه عن التسخط؛ وأما الراضي فهو غير كاره لما وقع، بل المصيبة وعدمها عنده سواء بالنسبة لفعل الله؛ لأنه راضٍ رضًا تامًّا عن فعل الله، فهو يقول: أنا عبده وهو ربي، إن فعل بي ما يسرني فأنا عبده وله مني الشكر، وإن كانت الأخرى فأنا عبده وله مني الرضا والصبر. فالأحوال عنده متساوية. وربما ينظر إلى ذلك من منظار آخر، وهو أن يقول: إن هذه المصيبة إذا صبر عليها وكفر الله بها عنه وأثابه عليها صارت ثوابًا لا عقابًا، فيتساوى عنده الألم والثواب. وفي هذا ما يذكر عن رابعة العدوية- فيما أظن-: أنها أصيبت أصبعها ولم تتأثر بشيء، فقيل لها في ذلك فقالت: (إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها) . المقام الرابع: مقام الشكر: أن الإنسان يشكر الله ﷿ على هذه المصيبة. وهذا المقام أو الحال لا تحصل للإنسان عند أول صدمة؛ لأن مقتضى الطبيعة ينافي ذلك، لكن بالتأمل والتأني قد يشكر الإنسان ربه على هذه المصيبة، وذلك بأن يقدر المصيبة أعظم فيشكر الله تعالى أن أصيب بهذه التي هي أهون، أو يقدر أن ألم المصيبة ألم يزول بزوال الحياة إن بقي إلى الموت، أو يزول قبل الممات، والأجر والثواب الحاصل يبقى، فيشكر الله تعالى على ذلك. مثاله: رجل أصيب بحادث في سيارة فانكسرت رجله، هذه مصيبة، فيتأمل وينظر ويقول: أرأيت لو كان الانكسار في الظهر لكانت المصيبة أعظم، فهو يشكر الله ﷿ أن كانت المصيبة في الفخذ دون الظهر، ولو كانت في الساق لكانت أهون مما إذا كانت في الفخذ، وهلم جرًّا. ثم يقول أيضًا. هذه مصيبة إمَّا أن أشفى منها وأعود كما كنت في الدنيا قبل الموت، وإما أن أموت، فلها أجل محتوم مقدر، لكن الأجر الحاصل عليها هو ثواب الآخرة الباقية أبد الآبدين، فيشكر الله ﷿ على هذه المصيبة التي كانت سببًا لما هو أبقى وأفضل وأخير. إذًا فهمنا الآن أن الإنسان عند المصائب أربعة مقامات: الأول: التسخط، وهو حرام ومن كبائر الذنوب. والثاني: الصبر، وهو واجب. والثالث: الرضا، وهو سنة مستحب. والرابع: الشكر، وهو أعلى المقامات. ***
يقول السائل: البعض من المرضى يتذمر ويكثر من الشكوى ويتسخط مما فيه من مرض، فما نصيحتكم لأمثال هؤلاء وذلك بالاحتساب والصبر؟ جزاكم الله خيرًا فأجاب رحمه الله تعالى: نصيحتي لإخواني هؤلاء المرضى ومن أصابهم مصائب في أموالهم وأهليهم: أن يصبروا ويحتسبوا، ويعلموا أن هذه المصائب ابتلاءٌ من الله ﷾ واختبار، كما قال الله ﵎: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) . وإذا كان الله تعالى يبتلي العبد بالنعم ليختبره أيشكر أم يكفر، فكذلك يبتلي عبده بما يضاد ذلك ليبلوه أيصبر أم يجزع ويتسخط. ويعين المرء على الصبر على هذه الأمور أمور: الأمر الأول: الإيمان بأن الله ﷾ رب كل شيء ومليكه، وأن الخلق كلهم خلقه وعبيده، يتصرف فيهم كيف يشاء، لحكمةٍ قد نعلمها وقد لا نعلمها، فلا اعتراض عليه ﷾ فيما فعل في ملكه: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) . الثاني: أن يؤمن بأن هذه المصائب التي تصيبه تكفير لسيئاته، تحط عنه الخطايا ويغفر له بها الذنوب، كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ولقد أصيبت امرأةٌ من العابدات في أصبعها، ولكنها لم تتسخط ولم يظهر عليها أثر التشكي، فقيل لها في ذلك فقالت: (إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها) . ومن المعلوم أن الصبر درجة عالية لا تنال إلا بوجود شيء يصبر الإنسان عليه حتى يكون من الصابرين، و(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) . ثالثًا: أن يتسلى بما يصيب الناس سواه، فإنه ليس وحده الذي يصاب بهذه المصائب، بل في الناس من يصاب بأكثر من مصيبته. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله سلم- وهو أشرف الخلق عند الله- يصاب بالمصائب العظيمة، حتى إنه يوعك كما يوعك الرجلان منا، ومع ذلك يصبر ويحتسب. وفي التسلي بالغير تهوينٌ عن المصاعب. رابعًا: ان يحتسب الأجر على الله ﷿ بالصبر على هذه المصيبة، فإنه إذا احتسب الأجر على الله ﷿ بالصبر على هذه المصيبة فإنه- مع تكفير السيئات به- يرفع الله له بذلك الدرجات، بناءً على احتسابه الأجر على الله ﷾. ومن المعلوم أن كثيرًا من الناس منغمرٌ في سيئاته، فإذا جاءت مثل هذه المصائب: المرض، أو فقدان الأهل أو المال أو الأصدقاء، أو ما أشبه ذلك هان عليه الشيء بالنظر إلى ما له من الأجر والثواب على الصبر عليه، واحتساب الأجر من الله، وكلما عظم المصاب كثر الثواب. خامسًا: أن يعلم أن هذه المصائب من الأمراض وغيرها لن تدوم، فإن دوام الحال من المحال، بل ستزول إن عاجلًا وإن آجلا، ً لكن كلَّما ما امتدت ازداد الأجر والثواب. وينبغي في هذه الحال أن نتذكر قول الله ﵎: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)، وأن نتذكر قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا) سادسًا: أن يكون لديه أمل قوي في زوال هذه المصيبة، فإن فتح الآمال يوجب نشاط النفس وانشراح الصدر وطمأنينة القلب، وإن الإنسان كلما مضى عليه ساعة رأى أنه أقرب إلى الفرج وزوال هذه المصائب كان في ذلك منشطًا نفسه حتى ينسى ما حل به، ولا شك أن الإنسان الذي ينسى ما حل به أو يتناساه لا يحس به، فإن هذا أمرٌ مشاهد: إذا غفل الإنسان عما في نفسه من مرضٍ أو جرح أو غيره يجد نفسه نشيطًا وينسى ولا يحس بالألم، بخلاف ما إذا ركز شعوره على هذا المرض أو على هذا الألم فإنه سوف يزداد. وأضرب لذلك مثلًا بالعمال: تجد العامل في حال عمله ربما يسقط عليه حجرٌ يجرح قدمه، أو تصيبه زجاجة تجرح يده أو ما أشبه ذلك، وهو مستمرٌ في عمله ولا يحس بما أصابه، لكن إذا فرغ من عمله ثم توجهت نفسه إلى هذا الذي أصابه حينئذٍ يحس به. ولهذا لما شكي إلى الرسول ﷺ الوساوس التي يجدها الإنسان في نفسه قال ﵊: (إذا أحس بذلك فليستعذ بالله، أو: إذا وجد ذلك فليستعذ بالله ثم لينتهِ)، يعني: ليعرض عن هذا ويتغافل عنه فإنه يزول، وهذا شيء مشاهد ومجرب، ففي هذه الأمور الستة يحصل للمريض الطمأنينة والخير الكثير. الأمر السابع: أن يؤمن بأن الجزع والتسخط لا يزيل الشيء، بل يزيده شدة وحسرة في القلب، كما هو ألمٌ في الجسد. وبهذه المناسبة أود أن أبين أن الناس تجاه المصائب التي تقع بهم ينقسمون إلى أربعة أقسام: القسم الأول: من جزع وتسخط ولم يصبر، بل دعا بالويل والثبور، وشق الجيوب ولطم الخدود ونتف الشعور، وصار قلبه مملوءًا غيظًا على ربه ﷿، فهذا خاسرٌ في الدنيا والآخرة؛ لأن فعله هذا حرام، والألم لا يزول به، فيكون بذلك خسر الدنيا والآخرة، وربما يؤدي ذلك إلى الكفر بالله ﷿، كما قال الله ﵎: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) . الحال الثانية: الصبر، بمعنى أن هذا المصاب لا يحب أن تقع المصيبة، بل يكرهها ويحزن لها، لكنه يصبر: فيمنع قلبه عن التسخط، ولسانه عن الكلام، وجوارحه عن الفعال، ولكنه يتجرع مرارة الصبر ولا يحب أن ذلك وقع، فهذا أتى بالواجب وسلم ونجا. الحال الثالثة: أن يقابل هذه المصيبة بالرضا وانشراح الصدر وطمأنينة القلب، حتى كأنه لم يصب بها؛ لقوة رضاه بالله ﷿. فالفرق بينه وبين الأول الذي قبله: أن الأول عنده كراهة لما وقع ويتجرع مرارة الصبر عليه، أما هذا فلا، ليس عنده كراهة ولا في نفسه مرارة، يقول: أنا عبد والرب رب، ولم يقدر لي هذا إلا لحكمة، فيرضى تمامًا. وقد اختلف العلماء ﵏ في هذا الرضا: هل هو واجب أو مستحب؟ والصحيح أنه مستحب؛ لأنه صبرٌ وزيادة، والصبر سبق أنه واجب، وأما ما زاد على الصبر فإنه مستحب، فالراضي أكمل من الصابر. الحال الرابعة: الشكر لله ﷿ على ما حصل، فيشكر الله ﷾ على هذه المصيبة. ولكن قد يقول قائل: إن هذا أمرٌ لا يمكن بحسب الفطرة والطبيعة أن يشكر الإنسان ربه على مصيبة تقع عليه. فيقال: نعم، لو نظرنا إلى مطلق المصيبة لكانت الفطرة تأبى أن يشكر الله على ذلك، ولكن إذا نظر الإنسان إلى ما يترتب على هذه المصيبة: من مغفرة الذنوب، وتكفير السيئات، ورفعة الدرجات شكر الله ﷾ أن ادخر له من الأجر والثواب خيرًا مما جرى عليه من هذه المصيبة، فيكون بذلك شاكرًا لله ﷾. وقد كان من هدي النبي ﷺ أنه إذا أصابه ما يسره قال: (الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات)، وإذا أصابه خلاف ذلك قال: (الحمد لله على كل حال) . وهذا هو الذي ينبغي أن يقوله الإنسان. أما ما اشتهر على لسان كثيرٍ من الناس حيث يقول إذا أصيب بمصيبة: الحمد لله الذي لا يحمد على مكروهٍ سواه، فهي عبارةٌ بشعة، ولا ينبغي للإنسان أن يقولها؛ لأن هذا يعلن إعلانًا صريحًا بأنه كارهٌ لما قدر الله عليه، وفيه شيء من التسخط وإن كان غير صريح، ولهذا نقول: ينبغي لك أن تقول ما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول، وهو: (الحمد لله على كل حال) . وفي النهاية أوصي إخواني المرضى ومن أصيبوا بمصيبة أن يصبروا على ذلك، وأن يحتسبوا الأجر من الله ﷿، والله تعالى مع الصابرين، و: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) . ***
المستمعة من حفر الباطن تقول: هل يجوز للمسلم أن يتمنى الموت بعد أن يصطدم بأشياء وأمور لا تجوز في هذه الدنيا الفانية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا يجوز هذا، لا يجوز للإنسان أن يتمنى الموت لضرٍ نزل به، بل الواجب عليه أن يصبر ويحتسب ويكابد، ويستعين بالله ﷿ في درء هذه المحظورات أو المحرمات بنصح إخوانه وإرشادهم، ولعل بقاءه من أجل النصح والإرشاد والدعوة إلى الله خيرٌ من أن يموت وينقطع عمله، فإن الإنسان إذا مات انقطع عمله، وإذا بقي في الدنيا وهو مؤمن فإن أمره كله خير، كما قال النبي ﵊: (إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له) . وعلى الإنسان أن يصبر ويحتسب ويرضى بقضاء الله ﷾، ويعلم أن دوام الحال من المحال، وأن الأمور لا بد أن تنفرج، كما قال رسول الله ﷺ: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا) . ***
سائلة تقول: واجهت في حياتي عدة مشكلات جعلتني أكره الحياة، فكنت كلما تضطجرت توجهت إلى الله تعالى بأن يأخذ عمري بأقرب وقت، وهذه أمنيتي حتى الآن؛ لأنني لم أر حلًا لمشكلاتي سوى الموت هو وحده يخلصني من هذا العذاب، فهل هذا حرام علي؟ أرشدوني أفادكم الله فأجاب رحمه الله تعالى: الجواب: أن تمني الإنسان الموت لضر نزل به وقوع فيما نهى عنه رسول الله ﷺ، حيث قال ﵊: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنيًا فليقل: اللهم أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرًا لي) . فلا يحل لأحد نزل به ضر أو ضائقة أو مشكلة أن يتمنى الموت، بل عليه أن يصبر ويحتسب الأجر من الله ﷾، وينتظر الفرج منه؛ لقول النبي ﷺ: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا) . وليعلم المصاب بأي مصيبة أن هذه المصائب كفارة لما حصل له من الذنوب، فإنه لا يصيب المرء المؤمن هم ولاغم ولا أذى إلا كفر الله به عنه، حتى الشوكة يشاكها. ومع الصبر والاحتساب ينال منزلة الصابرين، تلك المنزلة العالية التي قال الله تعالى في أهلها: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) . وكون هذه المرأة لا ترى حلًا لمشكلاتها إلا بالموت أعتبر أن ذلك نظر مخطئ، فإن الموت لا تنحل به المشكلات بل ربما تزداد به المصائب، فكم من إنسان مات وهو مصاب بالمشكلات والأذايا، ولكنه كان مسرفًا على نفسه، لم يستعتب من ذنبه ولم يتب إلى الله ﷿، فكان في موته إسراع لعقوبته، ولو أنه بقي على الحياة ووفقه الله تعالى للتوبة والاستغفار والصبر وتحمل المشاق وانتظار الفرج لكان في ذلك خيرٌ كثير له. فعليك أيتها السائلة أن تصبري وتحتسبي وتنتظري الفرج من الله ﷿، فإن الله ﷾ يقول في كتابه: (فإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) . والنبي ﷺ يقول فيما صح عنه: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا) . والله المستعان. ***
من الخرج من نعجان خالد العثمان يقول: هل الإنسان مسير أم مخير؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لو أردت أن أقول لهذا السائل: هل أنت مسير حين ألقيت هذا السؤال أو ألقيته باختيارك؟ في علمي أنه سيقول: ألقيته باختياري. إذًا فالإنسان يفعل ما يفعله باختياره لا شك: فالإنسان يذهب ويرجع، ويصلى ويتوضأ، ويصوم ويزكي ويحج، ويبيع ويشتري، ويتزوج ويزوج، وكل ذلك باختياره، لا أحد يجبره على ذلك، ولهذا تجده يختار أحد شيئين على الآخر: يختار مثلًا أن يدخل في كلية الشريعة دون أن يدخل في كلية الهندسة مثلًا والجامعة واحدة، من الذي أجبره على هذا؟ هل أحد أجبره؟ هو باختياره في الواقع، ولولا أن الإنسان يفعل باختياره لكانت عقوبته على الذنوب ظلمًا والله ﷾ منزه عن الظلم، وما أكثر الآيات التي يضيف فيها الله تعالى الأعمال إلى الإنسان: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)، (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) . والآيات في هذا كثيرة، والعقل شاهد بهذا، ولا يمكن أن تستقيم قدم عاقل على القول بأن الإنسان مجبر أبدًا؛ لأن هذا يكذبه الحس فضلًا عن الشرع. ولكن يبقى النظر: هل هذا الاختيار مستقل عن إرادة الله؟ والجواب: لا، إنك ما أردت شيئًا إلا علمنا بأن الله قد أراده من قبل؛ لقول الله تعالى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ* وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) . فإذا أراد الإنسان أن يأكل فأكل علمنا أن الله تعالى قد أراد قبل إرادته أن يريد الأكل فيأكل، وإذا أراد الإنسان أن يبيع ويشتري واشترى وباع علمنا أن الله تعالى قد أراد ذلك، أي: أراد منه أن يريد ويبيع ويشتري، وهلم جرًّا فإرادة الله سابقة، وإرادة المخلوق هي اللاحقة المباشرة، ونحن لا نعلم أن الله قد أراد بنا شيئًا إلا حين يقع، ولهذا لا يكون في هذا القول الذي قلته الآن حجة على العاصي الذي يعصي الله ويقول: إن الله قد أراد ذلك. لأننا نقول له: ما الذي أعلمك أن الله أراد؟ أنت لا يمكن أن تعلم أن الله أراد إلا إذا فعلت، وفعلك واقع باختيارك لا شك، ولهذا لم نجد هذه الكلمة مسير أو مخير ما رأيتها في كلام السابقين الأولين أبدًا لكنها قالها بعض المحدثين، فسارت بين الناس لأنها كلمة رنانة، وإلا فمن المعلوم أن الإنسان مخير: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)، وكفر الإنسان باختياره وإيمانه باختياره، وليس المعنى بالاختيار يعني أنك إن شيءت فآمن وإن شيءت فاكفر، لا، المعنى: أن وقوع الكفر باختيارك ووقوع الإيمان باختيارك. وعلى هذا فنقول: الإنسان مخير، بمعنى: أنه يفعل الشيء باختياره، لكننا نعلم أنه إذا اختار شيئًا وفعله فهو بإرادة الله السابقة عليه. نعم هناك أشياء ليست باختيار الإنسان: لو سافر الإنسان مثلًا وأصابه حادث، هذا بغير اختياره، لو أن الإنسان عمل عملًا ناسيًا هذا بغير اختياره، ولهذا لا يؤاخذ الله على النسيان ولا على الخطأ ولا على فعل النائم؛ لأنه غير مختار. ***
علي السيد أحمد من الجزائر يقول: فضيلة الشيخ حصل بيني وبين صديق لي نقاش حول مسألة هل الإنسان مخير أم مسير، ولكن لم نصل إلى إجابة شافية. فأفيدونا بذلك مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإفادة في ذلك أن نقول للإنسان: ارجع إلى نفسك لا تسأل أحدًا غيرك: هل أنت تفعل ما تفعله مكرهًا عليه أم تفعل ما تفعله باختيارك؟ هل إذا توضأت في بيتك وخرجت إلى الصلاة وصلىت مع الجماعة هل أنت مكره على هذا أو فعلته باختيارك؟ هل أنت إذا خرجت إلى سوقك وفتحت متجرك وبعت واشتريت هل أنت مجبر على ذلك أو فاعله باختيارك؟ هل أنت إذا أردت أن تقرأ في مدرسة معينة ابتدائية أو متوسطة أو ثانوية أو جامعية أو أعلى من ذلك دراسات عليا هل أنت تفعل ذلك باختيارك أو تفعله مجبرًا على هذا؟ إني أتعجب أن يرد هذا السؤال من شخص يعلم نفسه ويعلم تصرفه ثم يقول: هو مسير أو مخير؟ كل يعلم الفرق بين ما يفعله الإنسان باختياره وإرادته وطوعه وبين ما يكره عليه. والمكره على الفعل لا ينسب إليه الفعل ولا يلحقه به إثم، كما قال الله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) . ولو كان الإنسان مكرهًا على عمله لكانت عقوبة العاصي ظلمًا؛ لأنه يقول: يا رب أنا مكره ليس لي اختيار. ولو كان الإنسان مجبرًا على عمله لكانت كتابة حسناته عبثًا؛ لأنه يثاب على شيء ليس من فعله ولا من اختياره. فعلى أخي السائل وغيره من المسلمين أن يفكروا في هذا الأمر، وأن يعلموا أنهم غير مجبرين على الفعل، بل هم يفعلون الشيء باختيارهم من غير أن يكرهوا عليه. ولكن فليعلم أن ما يقع منا من فعل فإنه بقضاء وقدر سابق من الله ﷿، وبمشيئة الله ﷾ واقع، فالقدر قدر الله ومشيئته لا يعلم تحققهما إلا بعد فعل العبد. هذا وقد ذكر علماء أهل السنة أن للقدر مراتب: أولها: العلم، بأن تؤمن بأن الله ﷾ عالم بكل شي جملة وتفصيلًا أزلًا وأبدًا، فلا يضل ربي ولا ينسى، ولا يخفى عليه شي في الأرض ولا في السماء. والثاني: الكتابة: أن تؤمن بأن الله تعالى قد كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى يوم القيامة. والثالث: المشيئة أن تؤمن بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما من شيء واقع في السماء والأرض إلا بمشيئة الله ﷾. والمرتبة الرابعة: الخلق: أن تؤمن بأن الله تعالى خالق كل شيء، وأنه ما من شيء في السماوات ولا في الأرض إلا الله خالقه جل وعلا. والإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة التي أجاب بها رسول الله صلى عليه وآله وسلم جبريل حين سأله عن الإيمان فقال النبي ﵌: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) . ***
هذا السائل من السودان يقول: فضيلة الشيخ ورد لفظ الهدى في القرآن الكريم كثيرًا، مثلًا في قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) . والأسئلة: هل الإنسان مخير أم مسير؟ وهل للإنسان إرادة أن يكون طيبًا أو خبيثا؟ ً أرجو بهذا توجيهًا مأجورين. فأجاب رحمه الله تعالى: هذا السؤال مهم جدًا، وذلك لأنه سأل عن الهداية المذكورة في قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) . وسأل: هل الإنسان مخير أو مسير؟ وهل له إرادة أن يفعل؟ أو لا يفعل والجواب على الأول: أن الهداية المذكورة في القرآن تنقسم إلى قسمين: هداية دلالة وبيان، وهداية توفيق وإرشاد. فأما الهداية الأولى فهي مثل الآية التي ساقها السائل، وهي قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) . يعني: إنا بينا للإنسان السبيل والطريق، سواءٌ كان شاكرًا أو كان كفورًا، فالكل بين له الحق، لكن من الناس من منّ الله عليه فشكر والتزم بالحق، ومن الناس من كان على خلاف ذلك. ومن أمثلة الهداية التي يراد بها الدلالة قوله ﵎ عن نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، أي: لتدل إلى الصراط المستقيم؛ لأن النبي ﷺ قد بيَّن وعلَّم أمته الصراط المستقيم، وترك أمته على محجةٍ بيضاء ليلها كنهارها. أما النوع الثاني من الهداية فهو هداية التوفيق والإرشاد، ومن أمثلتها قوله ﵎ لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) فالمراد بهذه الهداية هداية التوفيق، فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يملك أن يهدي أحدًا هداية توفيق يوفقه بها إلى الإيمان والعمل الصالح. وهذه الآية نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي دعاه النبي ﷺ إلى الهدى، ولكن لم يوفق لذلك، فأنزل الله هذه الآية تسليةً لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) . وقد يراد بالهداية الهدايتان جميعًا، أي: هداية العلم والبيان، وهداية التوفيق والإرشاد، ومن ذلك قوله ﵎ في سورة الفاتحة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) فإن هذه الآية تشمل هداية العلم والبيان، وهداية التوفيق والإرشاد. والقارئ إذا قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) . يريد بذلك المعنيين جميعًا: يريد أن يعلمه الله ﷿، ويريد أن يوفقه الله تعالى لسلوك الحق. هذا هو الجواب عن الجزء الأول في سؤاله. أما الجزء الثاني، وهو: هل الإنسان مسير أو مخير؟ وهل له إرادة أو ليس له إرادة؟ فنقول: الإنسان مخير إن شاء آمن وإن شاء كفر، بمعنى: أن له الاختيار وإن كان ليس سواء: لا يستوي الكفر والإيمان، لكن له اختيار أن يختار الإيمان أو أن يختار الكفر، وهذا أمرٌ مشاهدٌ معلوم: فليس أحدٌ أجبر الكافر على أن يكفر، وليس أحدٌ أجبر المؤمن على أن يؤمن، بل الكافر كفر باختياره، والمؤمن آمن باختياره. كما أن الإنسان يخرج من بيته باختياره، ويرجع إليه باختياره، وكما أن الإنسان يدخل المدرسة الفلانية باختياره، ويدخل الجامعة الفلانية باختياره، وكما أن الإنسان يسافر باختياره إلى مكة أو إلى المدينة أو ما أشبه ذلك، وهذا أمرٌ لا إشكال فيه ولا جدال فيه، ولا يمكن أن يجادل فيه إلا مكابر. نعم هناك أشياء لا يمكن أن تكون باختيار الإنسان:كحوادث تحدث للإنسان: من انقلاب سيارة، أو صدام، أو سقوط بيتٍ عليه، أو احتراق، أو ما أشبه هذا، هذا لا شك أن لا اختيار للإنسان فيه، بل هو قضاءٌ وقدر ممن له الأمر. ولهذا عاقب الله ﷾ الكافرين على كفرهم؛ لأنهم كفروا باختيارهم، ولو كان بغير اختيارٍ منهم ما عوقبوا. ألا ترى أن الإنسان إذا أكره على الفعل ولو كان كفرًا، أو على القول ولو كان كفرًا فإنه لا يعاقب عليه؛ لأنه بغير اختيارٍ منه؟ ألا ترى أن النائم قد يتكلم وهو نائم بالكفر، وقد يرى نفسه ساجدًا لصنم وهو نائم ولا يؤاخذ بهذا؛ لأن ذلك بغير اختياره؟ فالشيء الذي لا اختيار للإنسان فيه لا يعاقب عليه، فإذا عاقب الله الإنسان على فعله السيئ دل ذلك على أنه عوقب بحقٍ وعدل؛ لأنه فعل السيئ باختياره. وأما توهم بعض الناس أن الإنسان مسير لا مخير من كون الله ﷾ قد قضى ما أراد في علمه الأزلي بأن هذا الإنسان من أهل الشقاء وهذا الإنسان من أهل السعادة؛ فإن هذا لا حجة فيه، وذلك لأن الإنسان ليس عنده علمٌ بما قدر الله ﷾، إذ إن هذا سرٌ مكتوم لا يعلمه الخلق، فلا تعلم نفسٌ ماذا تكسب غدًا، وهو حين يقدم على المخالفة بترك الواجب أو فعل المحرم يقدم على غير أساس وعلى غير علم؛ لأنه لا يعلم ماذا كتب عليه إلا إذا وقع منه فعلًا، فالإنسان الذي يصلى لا يعلم أن الله كتب له أن يصلى إلا إذا صلى، والإنسان السارق لا يعلم أن الله كتب عليه أن يسرق إلا إذا سرق وهو لم يجبر على السرقة، ولم يجبر المصلى على الصلاة بل صلى باختياره، والسارق سرق باختياره. ولما حدث النبي ﷺ أصحابه بأنه (ما من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار قالوا: يا رسول الله ألا ندع العمل ونتكل؟ قال لا، اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له) . فأمر بالعمل، والعمل اختياري وليس اضطراريًا ولا إجباريًا، فإذا كان يقول ﵊: (اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له) نقول للإنسان: اعمل يا أخي صالحًا حتى يتبين أنك ميسر لعمل أهل السعادة، وكلٌ بلا شك إن شاء عمل عملًا صالحًا وإن شاء عمل عملًا سيئًا. ولا يجوز للإنسان أن يحتج بالقدر على الشرع فيعصي الله ويقول: هذا أمرٌ مكتوب علي، يترك الصلاة مع الجماعة ويقول: هذا أمر مكتوب علي، يشرب الخمر ويقول: هذا أمر كتب علي، يطلق نظره في النساء الأجنبيات ويقول: هذا أمرٌ مكتوبٌ علي. ما الذي أعلمك أنه مكتوبٌ عليك فعملته أنت؟ لم تعلم أنه كتب إلا بعد أن تعمل، لماذا لم تقدر أن الله كتبك من أهل السعادة فتعمل بعمل أهل السعادة؟ وأما قول السائل: هل للإنسان إرادة؟ نقول: نعم له إرادة بلا شك، قال الله ﵎: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ)، وقال تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)، وقال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) . والآيات في هذا معروفة، وكذلك الأحاديث معروفة في أن الإنسان يعمل باختيار وإرادة. ولهذا إذا وقع العمل الذي فيه المخالفة من غير إرادة ولا اختيار عفي عنه، قال الله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) فقال الله: قد فعلت. وقال تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) . وهذا أمرٌ ولله الحمد ظاهر ولا إشكال فيه إلا على سبيل المنازعة والمخاصمة، والمنازعة والمخاصمة منهيٌ عنهما إذا لم يكن المقصود بذلك الوصول إلى الحق. وقد خرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات يوم على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، فتأثر من ذلك ﵊؛ لأن هذا النزاع لا يؤدي إلى شيء إلا إلى خصومة وتطاول كلام وغير ذلك، وإلا فالأمر واضح ولله الحمد. ***
من الرياض طالب في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية يقول: سؤالي هو أنه وقع بيني وبين أخي خلافٌ عقائدي حيث قلت له: إن الإنسان مسير وليس مخيرًا. فقال: هذا ليس بصحيح، بل الإنسان مسير ومخير أيضا. ً وطال الجدال، فما هو القول الفصل في هذه المسألة؟ وجزيتم خيرًا. فأجاب رحمه الله تعالى: القول الفصل في هذه المسألة أن الإنسان مخير، وأن له اختيارًا كما يريد، كما قال الله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ) . وقال ﷿: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) . وهذا أمرٌ معلوم بالضرورة: فأنت الآن عندما قدمت لنا هذا الكتاب هل قدمته على وجه الإكراه، وأنك تشعر بأن أحدًا أكرهك على تقديمه، أو أنك قدمته على سبيل الاختيار، فأخذت الورقة وكتبت وأرسلت الخطاب أو أرسلت الكتاب؟ لا شك في أن هذا هو الواقع. ولكننا نقول: كل ما نقوم به من الأفعال فإنه مكتوبٌ عند الله ﷿ معلومٌ عنده، أما بالنسبة لنا فإننا لا نعلم ما كتب عند الله إلا بعد أن يقع، ولكننا مأمورون بأن نسعى إلى فعل الخير، وأن نهرب عن فعل الشر، وليس في هذا إشكالٌ أبدًا: نجد الطلبة يتجهون إلى الكلية مثلًا أو إلى الجامعة، فمنهم من يختار كلية الشريعة، ومنهم من يختار كلية أصول الدين، ومنهم من يختار كلية السنة، ومنهم من يختار كلية اللغة، ومنهم من يختار كلية الطب. المهم أن كلًا منهم يختار شيئًا، ولا يرى أن أحدًا يكرهه على هذا الاختيار، كيف نقول: مسير ومخير؟ لو كان الإنسان مجبرًا على عمله لفاتت الحكمة من الشرائع، ولكان تعذيب الإنسان على معصيته ظلمًا، والله ﷿ منزهٌ عن الظلم بلا شك، فالإنسان يفعل باختياره بلا شك، لكن إذا فعل فإنه يجب عليه أن يؤمن بأن هذا الشيء مقدر عليه من قبل، لكنه لم يعلم بأنه مقدر إلا بعد وقوعه. ولهذا لما قال النبي ﷺ: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار) قالوا: يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ قال: (اعملوا) فأثبت لهم عملًا مرادًا (فكلٌ ميسرٌ لما خلق له): أما أهل السعادة، فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) فالصواب مع أخيك أن الإنسان مسيرٌ مخير، ومعنى مخير: أن له الاختيار فيما يفعل ويذر، لكن هذا الذي اختاره أمرٌ مكتوبٌ عند الله، وهو لا يعلم ما كتبه الله عليه إلا بعد أن يقع، فيعرف أن هذا مكتوب، وإذا ترك الشيء علم أنه ليس بمكتوب. ***
السائل محمد من مكة المكرمة يقول: هل الإنسان مسير أم مخير؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الجواب أن أقول له: اسأل نفسك: هل أنت حينما كتبت هذه الورقة وفيها السؤال هل أنت فعلت ذلك باختيارك أو أن أحدًا أجبرك؟ إنني أجزم جزمًا أنه سيقول: كتبتها باختياري. ولكن ليعلم أن الله ﷾ هو الذي خلق في الإنسان الإرادة، الله تعالى خلق الإنسان وأودع فيه أمرين كلاهما سبب الوجود، الأمر الأول: الإرادة، فالله تعالى جعل الإنسان مريدا. ً والأمر الثاني: القدرة، جعله الله تعالى قادرًا. فإذا فعل شيئًا فإنما يفعله بإرادته وقدرته، والذي خلق فيه الإرادة هو الله ﷿، وكذلك الذي خلق فيه القدرة هو الله ﷿. وهذه الكلمة: مخير ومسير هي كلمة حادثة لا أعلمها في كلام السابقين، وعلى هذا فنقول: إن الإنسان مخير يفعل الشيء باختياره وإرادته، ولكن هذا الاختيار والإرادة كلاهما مخلوقان لله ﷿. ***
مجموعة من السائلات يقلن: يا فضيلة الشيخ نحن السائلات من المدرسة الثانوية بجدة لنا هذا السؤال: هل يؤاخذ الإنسان ويعاقب على الأخطاء والمعاصي وقد قدرها الله ﷿ عليه في اللوح المحفوظ؟ نرجو بهذا إفادة مأجورين فأجاب رحمه الله تعالى: نعم، المعاصي يعاقب عليها الإنسان، إلا إذا كانت دون الشرك، فإنها داخلةٌ تحت مشيئة الله ﷿. وهذه المعاصي لا شك أنها واقعة بعلم الله ومشيئة الله، وأنها مكتوبة على العبد في اللوح المحفوظ، ومكتوبة على العبد وهو في بطن أمه، ولكن هذه الكتابة ليست معلومة حتى يكون الإنسان بنى عمله عليها، لو كان يعلمها فبنى عمله عليها لقلنا: إن له حجة، لكنه لم يعلمها، فمن يعلم أن الله تعالى قدر له أن يعصي الله وهو لم يعصه حتى الآن؟ (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا) . ولهذا يكون إقدام العاصي على المعصية إقدامًا بلا علمٍ أن الله قدرها عليه حتى تقع منه، والحجة لا تكون حجة حتى تكون سابقة على العمل الذي احتج بها عليه. ولهذا قال بعض العلماء: إن القدر سرٌ مكتوم، لا يعلم حتى يقع. وهذا صحيح: من يعلم أن الله قدر أن ينزل المطر غدًا، حتى ينزل غدًا فنعلم أن الله قدره؟ من يعلم أن فلانًا يعصي الله غدًا، حتى يعصي الله هذا الرجل فنعلم أن الله قدره؟ ولهذا لا حجة للإنسان العاصي بقدر الله على شرع الله، فالشرع لا يحتج عليه بالقدر أبدًا، ولهذا قال الله تعالى مبطلًا هذه الدعوى، أي: دعوى القدر: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) ولو كانت الحجة صحيحة لم يستحقوا أن يذوقوا بأس الله. وقال الله تعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) ولو كان القدر حجة لم يرفعها إرسال الرسل. ولما أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه ما من أحدٍ إلا وكتب مقعده من الجنة أو من النار. قالوا: يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل؟ قال: اعملوا فكلٌ ميسرٌ لما خلق له. ثم قرأ ﷺ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) . فنحن نقول للإنسان: القدر علمه عند الله ﷿، وهو سرٌ مكتوم، وأنت مأمورٌ بأن تعمل العمل الصالح، وأن تتجنب العمل السيئ، فقم بما أمرت به: اعمل عملًا صالحًا، واجتنب العمل السيئ، وهذا هو المطلوب منك، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. ***
هل يكتب الله ﷿ طريقة الموت على الإنسان، أي: كيف يموت بمرض أم حادث؟ أرجو بهذا إفادة فأجاب رحمه الله تعالى: نعم، يكتب الله ذلك كله، وما من شيء في السماوات ولا في الأرض إلا وهو مكتوب عند الله، قال الله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) . وكل شيء فإنه مكتوب عند الله ﷿، حتى الشوكة تصيب الإنسان هي مكتوبة عند الله. ***
من أريتيريا عثمان محمد عبد الله يسأل ويقول بأنه دخل في عدة طرق من الطرق المتعددة وخرج منها. سؤاله يقول: هل ما ضاع من عمري في هذه الفترة والسيئات التي وقعت فيها محسوبة عليّ أم تنفى عني بتوبتي؟ ثانيًا يقول: وهل كل ما حصل عليّ في هذه الطرق الباطلة قبل هذا كان مكتوبًا علي؟ إن كان مكتوبًا عليّ من الأزل وكان الله عالمًا بهذا؟ نرجو بهذا إفادة فأجاب رحمه الله تعالى: قبل الإجابة على هذا السؤال أحب أن أهنىء الأخ الذي منّ الله عليه بالاستقامة ولزوم الصراط المستقيم، بعد أن كان منحرفًا في متاهات البدع والضلال، فإن هذا من نعم الله، بل هو أكبر نعمة ينعم الله بها على العبد: أن يتوب الله عليه فيتوب إلى ربه، ويقلع عن غيه إلى رشده، يقول الله ﷿ ممتنًّا على المؤمنين بمثل ذلك: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) . ويقول تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) . ويقول جل وعلا: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) . فالهداية للإيمان من أكبر النعم بل هي أكبر نعمة أنعم الله بها على العبد، فأسأل الله أن يثبتني وإخواني المسلمين على دينه المستقيم، إنه جواد كريم. أما بالنسبة للجواب على سؤاله فإني أقول له: إذا تاب الإنسان من أي ذنب كان فإن الله يتوب عليه، ويمحو عنه سيئاته؛ لأن الإسلام يهدم ما قبله، والتوبة تجُّب ما قبلها. قال الله ﷿: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) . وقال تعالى: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) . وقال تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) . والنصوص في هذا كثيرة من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ كلها تدل على أن الله إذا منّ على العبد بالتوبة النصوح فإن الله يتوب عليه ويبدل سيئاته حسنات، إذا تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا فكل ما جرى عليك من اعتناق الطرق والمذاهب الهدامة والزيغ والضلال فإنه يمحى برجوعك إلى الحق. وأما الفقرة الثانية في السؤال، وهي: أن هذا الذي عمله هل كان مكتوبًا عليه في الأزل، وبعلم من الله ﷿؟ فنقول: نعم، هو مكتوب عليه في الأزل، مكتوب عليه العمل السيئ السابق، ومكتوب له التوبة الأخيرة التي منّ الله بها عليه، وكل ذلك بعلم من الله ﷾، يقول الله ﷿: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) ويقول جل ذكره: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) . فعلم الله ﷾ محيط بكل شيء جملة وتفصيلًا، وهذا أمر متفق عليه بين علماء المسلمين والحمد لله، وهو إحدى مراتب الإيمان بالقضاء والقدر، فإن الإيمان بالقضاء والقدر مراتب أربع: الأولى: الإيمان بعلم الله المحيط بكل شيء جملة وتفصيلًا، بمعنى: أن تؤمن بأن الله تعالى عالم بكل شيء جملة وتفصيلًا ما كان وما لم يكن. والمرتبة الثانية: أن تؤمن بأن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة، فإن الله ﷾ يقول: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)، (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب. قال وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) . أما المرتبة الثالثة فهي: الإيمان بعموم مشيئة الله، فهي أن تؤمن بأن كل ما في الكون فهو واقع بمشيئة الله، لا يخرج عن مشيئته شيء لا من فعله ولا من فعل عباده، والنصوص في هذا كثيرة، ومنها قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) . فبين الله ﷿ أن اقتتال هؤلاء المختلفين كان بمشيئته. وقال ﷾: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) . وأجمع المسلمون على هذه الكلمة العظيمة: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. فما في الكون شيء يحدث عدمًاَ أو وجودًا إلا وهو بمشيئة الله ﷾. أما المرتبة الرابعة فهي: الإيمان بعموم خلق الله، أي: أن تؤمن بأن كل ما في الكون فهو مخلوق لله ﷿ في أعيانه وفي أوصافه، كما قال الله تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) . وقال تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) . حتى العبد مخلوق لله تعالى بعينه وشخصه، وبأوصافه وقواه الظاهرة والباطنة، وبما ينشأ عن تلك القوى، فأفعال العبد مثلًا مخلوقة لله، باعتبار أن هذه الأفعال ناشيءة عن قدرة في العبد وإرادة، والقدرة والإرادة من صفات العبد، والعبد مخلوق لله، فأوصافه كذلك مخلوقة له أي لله. فكما أن الأوصاف الخَلْقية الظاهرة مخلوقة لله، فكذلك الأوصاف الخُلُقية والفكرية الباطنة مخلوقة لله كذلك. وهذه المراتب الأربع يؤمن بها أهل السنة والجماعة جميعها، فعلينا أن نؤمن بها ونصدق، لكن مع ذلك نعلم علم اليقين أن للإنسان إرادة وقدرة، فهو يريد الشيء فعلًا وتركًا أي: يريد أن يفعل فيفعل إذا كان له قدرة، ويريد أن يترك فيترك، ولكن خالق القدرة وخالق الإرادة هو الله ﷿، فهو يُنْسَبْ- أي: فعل العبد- إلى الله تعالى خلقًا وإرادة، وإلى العبد فعلًا وكسبًا، مع أنه داخل تحت إرادة العبد وقدرته، فلولا أن الله تعالى أقدر العبد على الفعل ما فعل؛ لعجزه عنه، ولولا أن الله خلق فيه الإرادة ما فعل؛ لعدم وجود الإرادة. ***
يقول السائل: هل الكفار مكتوب لهم من الأزل أنهم كفار؟ ولماذا يعذبون في المكتوب قديمًا إذا كان كل شيء يجري على ما سبق في الأزل؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نقول: نعم الكفار كذلك مكتوب عملهم في الأزل، ويكتب كذلك عمل الإنسان عند تكوينه في بطن أمه، كما دل على ذلك الحديث الصحيح لابن مسعود قال: حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد) .فأعمال الكفار مكتوبة عند الله ﷿، والشقي شقي عند الله ﷿ في الأزل، والسعيد سعيد عند الله في الأزل. ولكن يقول قائل- كما أورد هذا السائل-: كيف يعذبون وقد كتب الله عليهم ذلك في الأزل؟ فنقول: إنهم يعذبون لأنهم قد قامت عليهم الحجة، وبين لهم الطريق: فأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وبين الهدى من الضلال، ورغبوا في سلوك طريق الهدى، وحذروا من سلوك طريق الضلال، ولهم عقول ولهم إرادات ولهم اختيارات. ولهذا نجد هؤلاء الكفار وغيرهم أيضًا يسعون إلى مصالح الدنيا بإرادة واختيار، ولا تجد أحدًا منهم يسعى إلى شيء يضره في دنياه ويقول: إن هذا مكتوب عليّ، أبدًا، كل يسعى إلى ما فيه المنفعة، فكان عليهم أن يسعوا أيضًا لما فيه منفعتهم في أمور دينهم، كما يسعون لما فيه المنفعة في أمور دنياهم، ولا فرق بينهما، بل إن بيان الخير والشر في أمور الدين في الكتب المنزلة على الرسل عليهم الصلاة والسلام أكثر وأعظم من بيان الأمور الضارة في أمور الدنيا، فكان عليهم أن يسلكوا الطرق التي فيها نجاتهم والتي فيها سعادتهم، دون أن يسلكوا الطرق التي فيها هلاكهم وشقاؤهم. نقول: إن هذا الكافر حين أقدم على الكفر لا يشعر أن أحدًاَ أكرهه، وإنه فعل ذلك بإرادته واختياره، فهل كان حين إقدامه على هذا الكفر هل كان عالمًا بما كتب الله له؟ والجواب: لا، لأنا نحن لا نعلم بأن الشيء قد كتب إلا بعد أن يقع، أما قبل أن يقع فإننا لا نعلم ماذا كتب؛ لأنه من علم الغيب. فنقول لهذا الكافر: لماذا لم تقدر أن الله ﷾ كتب لك السعادة وتؤمن؟ فأنت الآن قبل أن تقع في الكفر أمامك شيئان: هداية وضلال، فلماذا لا تسلك طريق الهداية مقدرًا أن الله تعالى كتبه لك؟ لماذا تسلك طريق الضلال ثم بعد أن تسلكه تحتج بأن الله تعالى كتبه؟ نقول لك: قبل أن تدخل في هذا الطريق هل عندك علم أنه مكتوب عليك؟ سيقول: لا، ولا يمكن أن يقول: نعم، فإذا قال: لا، قلنا: إذًا لماذا لم تسلك طريق الهداية وتقدر أن الله تعالى كتب لك ذلك؟ ولهذا يقول الله ﷿: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، ويقول ﷿: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) . ولما أخبر النبي ﵊ أصحابه بأنه (ما من أحدٍ إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار. قالوا: يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ قال: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له) . ثم قرأ قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) . هذا جوابنا على هذا السؤال الذي أورده هذا السائل، وما أكثر من يحتج به من أهل الضلال، وهو عجب منهم؛ لأنهم لا يحتجون بمثل هذه الحجة على مسائل الدنيا أبدًا، بل تجدهم يسوقون في مسائل الدنيا ما هو أنفع لهم، ولا يمكن لأحد أن يقال له: هذا الطريق الذي أمامك طريق وعر صعب فيه لصوص وفيه سباع، وهذا الطريق الثاني طريق سهل آمن لا يمكن لأحد أن يسلك الطريق الأول ويدع الطريق الثاني، مع أن هذا نظير الطريقين: طريق النار وطريق الجنة، فالرسول بين طريق الجنة وقال: هو هذا، وبين طريق النار وقال: هو هذا، وحذر من الثاني ورغب في الأول، ومع ذلك فإن هؤلاء العصاة يحتجون بقضاء الله وقدره- وهم لا يعلمونه- على معاصيهم. ***
عوض عبد الوهاب يقول: هل الرزق والزواج مكتوب في اللوح المحفوظ؟ وهل مكتوب مثلًا أتزوج فلانة بعينها مسبقًا؟ وهل الرزق محدد مهما كد الشخص وتعب؟ وما الدليل على ذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: كل شيء يجري منذ أن خلق الله القلم إلى يوم القيامة فإنه مكتوب، مكتوب في اللوح المحفوظ؛ لأن الله ﷾ (أول ما خلق القلم قال له: اكتب. قال ربي وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) . وثبت عن النبي ﷺ أن الجنين في بطن أمه إذا مضى أربعة أشهر بعث الله إليه ملكًا ينفخ فيه الروح، ويكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد. والرزق أيضًا مكتوب لا يزيد ولا ينقص، ولكن الله ﷾ قد جعل له أسبابًاَ يزيد بها وينقص، فمن الأسباب: أن يعمل الإنسان بطلب الرزق، كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) . ومن الأسباب أيضًا صلة الرحم من بر الوالدين وصلة القرابات، فإن النبي ﷺ قال: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) . ومن الأسباب تقوى الله ﷿، كما قال الله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) . ولا تقل: إن الرزق مكتوب ومحدود ولن أفعل الأسباب التي توصل إليه، فإن هذا من العجز، والكياسة والحزم أن تسعى لرزقك، ولما ينفعك في دينك ودنياك. قال النبي ﵊: (الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني) . ***
يقول السائل: إذا كان قضاء الله وقدره سابقًا على الإنسان بالسعادة أو الشقاوة فما حكم تركه الأخذ بالأسباب والعمل؟ فأجاب رحمه الله تعالى: حكم ترك الأسباب والعمل سفه؛ لأن الله ﷾ يقدر الأشياء بأسبابها، فلحكمته جل وعلا صار لكل شيء سببٌ كل شيء يكون فإنه لابد له من سبب، إما معلوم لنا وإما مجهول لنا. وقد بين الله لنا أسباب السعادة وأسباب الشقاوة، وأمرنا بأن نعمل في أسباب السعادة، فقال جل وعلا: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) . ولما أخبر النبي ﵊ أصحابه أنه ما من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، قالوا: أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: (اعملوا فكل ميسر له لما خلق له) . ثم قرأ هذه الآية: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) . فهذا ما دل عليه الشرع: أنه لابد من الأخذ بالأسباب، وكذلك دل عليه العقل: فإن الإنسان لو قال: أنا لا أتزوج، ولكن إن كان الله قد كتب لي أولادًا فسيأتون، لعدَّه الناس من أسفه السفهاء. وكذلك لو قال: أنا لن أسعى لطلب الرزق، ولو قدر الله ﷾ لي أن أشبع وأن أروى فسأشبع وأروى، لعد ذلك من أسفه السفه. فلابد من فعل الأسباب، ولا يتم التوكل ولا الاعتماد إلا بامتثال أمر الله ﷿ بفعل الأسباب النافعة التي تؤدي إلى المقصود. ***
هذه الرسالة وردتنا من المستمع، يقول الباحث عن الحقيقة من الجمهورية العراقية مدينة كركوك يقول في رسالته: هناك نوعان من الحياة: الحياة السعيدة، ولا أقصد السعادة بالمال والجاه، وإنما أقصد تلك السعادة التي تأتي من النفس، أي أن يكون الإنسان مرتاحًا من الناحية النفسية. ثانيا: ً الحياة الذليلة، وأقصد به الذل النفسي، أي أن يكون الإنسان ذليلًا من الناحية النفسية. والسؤال: لماذا يخلق الإنسان ذليلًا في أمة الإسلام، حيث قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، وذكر عدة آيات منها قوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) وعدة آيات يقول: هل نستطيع أن نعتبر أن الذين خلقهم الله أذلاء من الناحية النفسية لم تشملهم هذه الرحمة الواسعة، ولا تزال قلوبهم ونفوسهم تعيش في الظلمات ولم تر النور، ونعتبر هذا ظلمًا لهم من الله ﷾؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا السؤال الذي سأل عنه الأخ يتعلق بمسألة عظيمة وهي مسألة القضاء والقدر التي ينقسم الناس فيها إلى قسمين: منهم من وفق للاستقامة، ومنهم من وفق للضلالة. وهذا هو محط الإشكال عند كثير من الناس: كيف يكون هذا ضالًا وكيف يكون هذا مهتديًا؟ ولكننا ننبه على نقطة مهمة في هذا الباب، وهي: أن من كان ضالًا فإن سبب ضلاله هو نفسه؛ لقول الله تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)، ولقوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) . ولقول النبي ﷺ حين حدث أصحابه: (مامن أحد إلاوقد كتب مقعده من الجنة والنار. فقالوا: أفلا نتكل يا رسول الله على الكتاب ونترك العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) . ثم تلا هذه الآية: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) . وعلى هذا فنقول: هؤلاء الذين وصفهم السائل بأنهم أذلاء إنما أذلتهم المعصية ولم يكتب لهم الهدى بسبب أنهم هم الذين تسببوا للضلالة، حيث لم تكن إرادتهم صادقة في طلب الحق والوصول إليه وفي العمل به بعد وضوحه وبيانه، ولو أنهم كانوا أحسنوا النية وصدقوا العزيمة لوفقوا للحق؛ لأن الحق بين ميسر: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) . فالذي أنصح به هذا الأخ ومن على شاكلته وممن أشكل عليهم هذا الأمر أن يرجعوا إلى أنفسهم أولًا ويحسنوا نيتهم ويصححوا عزيمتهم، حتى تكون النية سليمة والعزيمة صادقة في طلب الحق، وحينئذ فأنا ضامن أن يوفقوا له؛ لأن الله ﷾ هو الذي وعد بذلك: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) . وتأمل أن الآية جاءت بالسين الدالة على قرب مدخولها وعلى تحقق مدخولها أيضًا، لأن السين كما هو معلوم تدل على هذين المعنيين: قرب مدخولها وتحققه ولكن البلاء من أنفسنا. وأتلو الآن أيضًا قول الله ﵎: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)، فإن هذا النسيان يشمل الذهول الذي هو ذهول القلب عن المعلوم، النسيان هو: ذهول القلب عن المعلوم، وكذلك النسيان الذي بمعنى الترك، فهم تسلب علومهم ولا يوفقون إلى العمل الصالح بسبب نقض الميثاق. فضيلة الشيخ: لكن هؤلاء أذلتهم المعصية، وأيضًا ذكرتم الآية الأخيرة والتي نزلت فيما أعتقد في بني يهود الذين قال الله تعالى فيهم: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) نجد الآن من الذين ينتسبون إلى الأمة الإسلامية أذل من الذين جاهروا بالكفر وانتهجوا هذا المنهج؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم صحيح مثل هذا، وذلك أن الحق عليهم في الاستقامة أوكد من الحق على أولئك، ومعلوم أن من تدنس بالأرجاس وهو من أهل الولاية أشد ممن تدنس بها وليس من أهل الولاية، فإن حق الله على المسلمين أعظم من حقه على أولئك الكافرين، ولهذا يلزمون بشرائع الإسلام، فإنه إذا تمرد كان أشد وأعظم، ولهذا إذا تمت النعمة على العبد صارت مخالفته أشد وأعظم. ومن ذلك ما ورد عن النبي ﷺ في الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ومنهم: الأشيمط الزاني؛ لأنه لا داعي له للزنى، وهو إلى الاتعاظ والبعد عن هذا أولى، فلذلك عظم إثمه. فهؤلاء الأذلة من المسلمين لأنهم يجب عليهم من حق الله ﷾ والاستقامة أكثر مما يجب على أولئك، ولهذا كانت مخالفتهم أعظم من مخالفة أولئك، وكان الذل إليهم أقرب. وقد مثل بعض العلماء شبيه هذه المسألة بحاشية الملك والبعيدين عنه، فقال: إن مخالفة حاشية الملك للملك أشد وأعظم وقعًا من مخالفة الأباعد، هكذا المسلمون: مخالفاتهم تكون أعظم من غيرهم، فلذلك كان جزاؤهم أشد من غيرهم. ***
يقول السائل: هل الإصابة بالعين حقيقة؟ نرجو توضيح ذلك، وكيف نعالج هذه الإصابة بالآيات القرآنية؟ وما هذه الآيات؟ وفقكم الله فأجاب رحمه الله تعالى: الإصابة بالعين حقيقة دل عليها القرآن والسنة: أما القرآن فإنه قد ذهب بعض المفسرين إلى أن معنى قول الله تعالى: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) أن المراد بها العين، وكذلك أيضًا قول الله تعالى: (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) ذهب كثير من أهل العلم أن المراد بها العين. وأما السنة فقد ثبت ذلك عن النبي ﷺ حينما قال: (العين حق، ولو سبق القدر شيء لسبقته العين) . فهذا نص صريح، ثم إن الواقع يشهد لذلك أيضًا، ولا حاجة إلى سرد الوقائع المعلومة لنا في هذا المقام، لكنها معلومة عند جميع الناس. وخير وقاية منها نوعان: أحدهما وقاية دافعة، والثاني وقاية رافعة. أما الوقاية الدافعة فهو: أن الإنسان يستعمل الأوراد الواقية من العين وغيرها، مثل آية الكرسي، حيث قال الرسول ﵊ فيها: (من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح) . ومثل ألا يظهر لمن اتُهم بالعين بمظهر يُخشى منه أن يثير هذا العائن. وأما الأسباب الرافعة فمنها: أن يؤمر العائن بالاغتسال، ويؤخذ ما تناثر من الأعضاء، أو بالوضوء ويؤخذ ما تناثر من أعضائه، فيُصب على رأس المصاب وعلى ظهره، ويشرب منه، وحينئذ تزول العين بإذن الله ﵎. فضيلة الشيخ: هو يسأل عن آيات قرآنية، هل هناك آيات قرآنية خاصة يرقى بها من أصابته العين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا أعرف في هذا شيئًا، ولكن كما قلت: آية الكرسي واقية، نعم وينبغي قبل أن نختم الجواب ينبغي لمن عرف من نفسه أنه عائن ينبغي أن يكثر التبريك إذا رأى ما يسره، فيقول إذا رأى ما يسره: تبارك الله ما شاء الله، وما أشبه هذا؛ لأن ذلك من أسباب الوقاية. ***
العين حق فكيف يتقي الإنسان من العين يا فضيلة الشيخ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: العين حق ولا شك فيها، ولكن للعين أشياء تقي منها دافعة ورافعة. أما الأشياء الدافعة: فأن يكثر الإنسان من الأوراد التي جاءت بها السنة، مثل قراءة آية الكرسي، والآيتين من آخر سورة البقرة، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس. ومنها: إذا رأى أحدًا يخاف عينه يقول: اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم. ومنها: إذا كان الإنسان من الذين يؤذون الناس بعينهم، أي: إذا كان عائنًا، فإنه إذا رأى ما يعجبه يبرك عليه فيقول: تبارك الله عليك، وما أشبه ذلك. أما معالجة العين بعد وقوعها- وهو دفعها- فله أسباب، منها: القراءة على الشخص المصاب بالعين، ومنها: أن يؤمر العائن بأن يتوضأ، ويؤخذ مما يتناثر من وضوئه، فيصب على المصاب، ويشرب منه، فإن هذا من أسباب ارتفاع أثر العين عن المصاب. ***
يقول السائل: ما العلاج الشرعي للمصاب بالعين؟ وبعض الناس يكون عنده وسواس ويخشى الإصابة بالعين، ودائمًا يطلب من الناس أن يذكروا الله، فهل عمله هذا صحيح؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إنه من الواضح جدًا في عهدنا القريب أن الناس كثر فيهم الأوهام والوساوس، فإذا أصيبوا بشيءٍ عادي قالوا: هذا جن، أو: هذه عين، أو: هذا سحر. ونحن لا ننكر أن الجن قد يسلط على الإنسي ويتلبس به، ولا ننكر أن الإنسان قد يصاب بالعين، ولا ننكر أن الإنسان يسحر. ولكننا نريد أن لا يكون هذا وهمًا بين الناس، فإذا قدر أن أحدًا أصيب بذلك- نسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين العافية- فإنه يبحث عن العلاج، علاج السحر نقضه، علاج السحر أن ينقض: بأن يعثر عليه ثم يتلف. علاج العين أن يطلب من العائن أن يغتسل، ويؤخذ الماء الذي يتناثر من غسله ويعطى المريض شربًا ورشًا على بدنه، وهذا من العلاج. علاج الجن قراءة الآيات التي يطرد بها الجن، مثل آية الكرسي، قل أعوذ برب الفلق، قل أعوذ برب الناس، ومثل بعض آيات سورة الجن، مع الاستعانة بالله ﷿، والتوكل عليه، والاعتماد عليه، والاعتقاد أن كلامه جل وعلا شفاء لما في الصدور. نسأل الله لنا ولإخواننا السلامة من شر أنفسنا ومن شر ما خلق. ***
يقول السائل: هل هناك رقية شرعية تعمل لمن أصيب بالعين؟ وهل يجوز التداوي من العين بطرق أخرى يعملها بعض الناس وهم يزعمون بأنها تشفي؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإصابة بالعين دواؤها أن يؤمر العائن بأن يغتسل، وما تناقط من الماء الذي اغتسل به يستشفي به المصاب، أو يتوضأ ويغسل مغابنه، وما تناثر منه يؤخذ إلى المصاب بالعين ويستشفي به. هذا المعروف، فإذا فعله الإنسان فإنه بإذن الله يبرأ من إصابة العين. ***
ما هو العلاج الشرعي لمن أصيب بالعين يا فضيلة الشيخ؟ أفيدونا بهذا جزاكم الله خيرًا فأجاب رحمه الله تعالى: العلاج الشرعي كثرة القراءة على المصاب، قراءة القرآن والآيات التي فيها ذكر الشفاء بالقرآن، فيقرأ مثلًا الفاتحة وآية الكرسي، (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، ويقرأ مثل قوله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ)، إلى غير ذلك من الأدعية المناسبة. هذا إذا كان لا يعرف الذي أصابه بالعين، أما إذا كان يعرفه فليفعل ما أمر به النبي صلى الله عليه العائن: أن يغتسل أو يتوضأ، ويؤخذ الماء الذي يتناثر منه، ويسقى المريض، أو يصب على رأسه وعلى ظهره حتى يشفى. وقد كان بعض الناس يتهم بأنه أصاب أخاه بالعين إما لكلمةٍ قالها أو قرينةٍ تدل على ذلك، فيأتي إليه المصاب أو أهله يطلبون منه أن يستغسل بالوضوء أو بالغسل، فينفر منهم ويسبهم ويشتمهم ويأبى أن يطيع، وهذا خطأ؛ لأنه ربما يكون الأمر واقعًا، فإن كان واقعًا حصل دفع الأذية التي حصلت منه بفعله بنفسه، وإن لم يكن واقعًا فإنه لا يضره؛ لأنه إذا لم يشف المريض بذلك علم أنه لم يصبه بالعين، وإذا شفي بذلك علم أنه أصابه وسلم من أذية أخيه ومن العقوبة التي تترتب على ذلك إذا كان هو الذي أصابه، وهذا لا يضره. لكن بعض الناس- والعياذ بالله- تأخذه العزة بالإثم ويأبى يقول: أنا عائن؟! أنا نحوت؟! كما باللغة العامية وما أشبه ذلك، وهذا خطأ، انفع أخاك: إن كانت العين منك فتكون قد تخلصت منها وشفى الله صاحبك، وإن لم تكن منك فإنه لا يضرك، يعني: إذا لم تكن منك لم ينفعه ما أخذ منك، وحينئذٍ يعرف أنك بريء من العين. ***
يقول السائل: ما صحة الحديث (العين حق)؟ وإن كان كذلك فما هو العلاج الذي يسلكه المؤمن لاتقاء العين؟ وكيف تصيب العين الإنسان؟ وإن كان هناك علاج فما هي الطريقة في نظركم؟ مشكورين فأجاب رحمه الله تعالى: نعم الحديث صحيح، والعين حق، والواقع يشهد بذلك، والعين عبارة عن صدور شيء من نفس حاسد يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، فهو- أي: العائن- شرير لا يريد من الناس أن يتمتعوا بنعم الله، فإذا رأى في شخص نعمة من نعم الله عليه فإن هذا الحسد الكامن في نفسه ينطلق حتى يصيب ذلك المتنعم بنعم الله ﷿. والطريق إلى الخلاص من العين بالنسبة للعائن: أن يبرك على من رآه متنعمًا الله فيقول: اللهم بارك على فلان، وما أشبهها من الكلمات التي تطمئن نفسه، وتكبت ما فيها من حسد. وأما بالنسبة للرجل الخائف من العين فإن العلاج لذلك: أن يكثر من قراءة الأوراد صباحًا ومساء، كآية الكرسي، وسورة الإخلاص، وسورة قل أعوذ برب الفلق، قل أعوذ برب الناس، وغيرها مما جاءت به السنة. هذا علاج للوقاية منها قبل الإصابة، أما بعد أن يصاب بها فإنه يؤخذ من وضوء العائن أو مما يغتسل به من الماء، يؤخذ منه فيصب على المصاب بالعين، أو يحثو منه، فإذا فعل ذلك فإنه يبرأ منها بإذن الله. فيؤمر العائن بأن يتوضأ أو يغتسل، ويؤخذ ما تناثر من مائه ويصب على المصاب، أو يحثو منه، أو يجمع بين الأمرين، وبذلك يزول أثر العين. فضيلة الشيخ: الغبطة هل تدخل في الحسد؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الغبطة لا تدخل في الحسد؛ لأن الحاسد يتمنى زوال نعمة الله على غيره، والغابط يغبط هذا الرجل بنعمة الله عليه ولكنه لا يتمنى زوالها. ***
يقول السائل: ما هو السر في قول: ما شاء الله تبارك الله عند رؤية ما يعجبك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: السر في ذلك ألا يقع من هذا المشاهد عين تصيب المشهود؛ لأن النفوس قد يقع منها ما لا يجوز، فإذا رأى الإنسان ما يعجبه وخاف من حسد العين فإنه يقول: ما شاء الله تبارك الله، حتى لا يصاب المشهود بالعين، وكذلك إذا رأى الإنسان ما يعجبه في ماله فليقل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله؛ لِئَلاَّ يعجب بنفسه وتزهو به نفسه في هذا المال الذي أعجبه، فإذا قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فقد وكل الأمر إلى أهله ﵎. ***
الكفر والتكفير
يقول السائل: ما هي نواقض الإسلام سواء كانت قولية أوعملية أواعتقادية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نواقض الإسلام: كل ما خالف الإسلام فهو مناقض له، لكن المناقضة تنقسم إلى قسمين: مناقضة جزئية، ومناقضة كلية. فما أطلق الشارع عليه الكفر نظرنا: إن كان هذا يناقض الإسلام مناقضة كلية حسب القرائن المقترنة بهذا الإطلاق فهو كفر أكبر مخرج عن الملة، وإن كان يناقض الإسلام في هذه المسألة الجزئية فليس مناقضًا على وجه الإطلاق. فقول الرسول ﵊: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) إذا نظرنا إلى قوله: (قتاله كفر) فيقول قائل: من قاتل المسلم فهو كافر كفرًا مخرجًا عن الملة، لكننا عند التأمل نجد أن الرسول ﵊ قال: (قتاله كفر) أي: إن القتال من الكفر، وليس هو الكفر الأكبر، ويؤيد هذا قوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) فجعل الله الطوائف الثلاث كلها إخوة: المقاتلة الباغية، والأخرى المدافعة، وكذلك المصلحة: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) . فيكون هذا الناقض ليس ناقضًا بالكلية، بل في الإنسان خصلة من خصال الكفر، وليس هو الكفر المطلق. وإذا نظرنا إلى قول النبي ﷺ: (بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة)، وقوله: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، علمنا بأن الكفر هنا الكفر الأكبر المناقض للإسلام مناقضة كلية، وذلك لوجود: بين الرجل وبين الشرك والكفر، والبينية تقتضي أن يكون كل طرف منفصلًا بائنًا عن الطرف الآخر، لا يجتمع معه في شيء؛ لوجود الحد الفاصل الذي دلت عليه البينية: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة. وكذلك قوله: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، يعني: العهد الذي بين المسلمين والكفار هو الصلاة، فمن صلى فهو مؤمن، ومن لم يصل فهو كافر، والبينية تقتضي الانفصال التام. فالحاصل: أن نواقض الإسلام تنقسم إلى قسمين: نواقض كبرى، وهي التي يخرج بها الإنسان من الإسلام، والنواقض الصغرى، وهي التي لا تخرجه من الإسلام، ولكنها تكون خصلة من خصال الكفر. ***
يقول السائل: أرجو من فضيلتكم أن تذكروا لي بعض الأمور التي تخرج من الملة، سواء كانت هذه أقوالًا أو أعمالًا أو اعتقادًا، بحيث أعبد الله على بصيرة. كما أرجو من فضيلتكم أن تذكروا لي بعض الكتب المتخصصة بأمور التوحيد؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا يمكن أن نحصر الأشياء التي تخرج من الملة؛ لأنها كثيرة الأفراد، لكن يمكن أن نذكر قاعدة، وهي: أن الذي يخرج من الملة هو يدور على أمرين: إما الإنكار، وإما الاستكبار. يعني: إما أن ينكر الإنسان شيئًا أخبر الله به ورسوله فيكذبه، أو ينكر حكمًا من أحكام الشريعة الظاهرة التي أجمع المسلمون عليها. أو الاستكبار، وهو: أن يقر بذلك لكن لا يعبد الله. فتارك الصلاة مثلًا كافر مع أنه يؤمن بالله ويؤمن بالشريعة ولا يكذب بها، ولكنه استكبر فلم يصل، ولا يلزم أن يكون تارك الصلاة يقول: إنه مستكبر، ليس بلازم، بل إذا تركها متهاونًا بلا عذر، ولا جهل منه إذا كان بعيدًا عن المدن الإسلامية فإنه في الحقيقة مستكبر. فجميع أنواع الردة تعود إلى هذا: إلى الإنكار أو الاستكبار، لكن التفاصيل كثيرة جدًا، ويمكن أن ترجع إلى ما ذكره الفقهاء ﵏ في باب أحكام المرتد. أما أحسن كتاب في التوحيد: فمن أحسن الكتب كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ﵀، كتاب جامع بين الدلائل والمسائل. ومن أحسن الكتب في العقيدة: العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ثم إذا ترقى الإنسان شيئًا فالعقيدة التدمرية، ثم إذا ترقى الإنسان أكثر فالكتب المطولة، مثل مختصر الصواعق المرسلة الذي أصله لابن القيم ﵀ وغير ذلك. والمرجع الأصل والأول هو كتاب الله ﷿، وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ***
يقول السائل: ما هي نواقض الإسلام؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما بالنسبة لسؤاله عن نواقض الإسلام فنواقض الإسلام بمعناها الإجمالي: كل ما أوجب الردة فهو ناقضٌ للإسلام، يعني: كل شيء من قولٍ أو فعل أو عقيدة يكون به الإنسان مرتدًا فهو ناقضٌ للإسلام، وهو لا يحصر في الواقع، يعني: أفراده لا تحصر لا بعشرة ولا بعشرين ولا بأكثر، لكن الضابط: أن كل ما كان مقتضيًا للردة فهو من نواقض الإسلام. فمثلًا: كفر الجحود أن يجحد ما يجب الإيمان به، مثل أن يجحد- والعياذ بالله- وجود الله، أو الملائكة، أو الرسل، أو الكتب، أو اليوم الآخر، أو القدر خيره وشره، فقد أتى ناقضًا من نواقض الإسلام. لو جحد وجوب الصلاة، أو وجوب الزكاة، أو وجوب الصيام، أو وجوب الحج، أو أنكر تحريم الزنى، أو تحريم الخمر، أو ما أشبه ذلك من المحرمات الظاهرة المجمع عليها، فهذا ناقضٌ من نواقض الإسلام. كذلك من نواقض الإسلام الاستهزاء: لو استهزأ بالله أو آياته أو رسوله فهذا ناقضٌ من نواقض الإسلام، قال الله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) . كذلك لو استكبر عما يكون الاستكبار عنه ردة، كما لو ترك الصلاة وصار لا يصلى لا في بيته ولا مع الجماعة فهذا ناقضٌ من نواقض الإسلام، كذلك لو اعتقد في الله ما لا يليق بالله فهو مرتد. والحاصل: أن نواقض الإسلام لا تحصر بعدد، وإنما تذكر بحد، وهو: كل ما أوجب الردة- أي: كل ما كان ردة- فهو ناقضٌ من نواقض الإسلام، سواءٌ كان ذلك في العقيدة أو في القول أو الفعل. ***
عبد الرؤوف عبد الله من المدينة المنورة يقول: ما هي الأشياء التي تحبط العمل؟ وهل تحبط جميع الأعمال منذ التكليف؟ نرجو بهذا إفادة جزاكم الله خيرًا فأجاب رحمه الله تعالى: محبطات الأعمال تنقسم إلى قسمين: قسمٌ عام، وقسمٌ خاص يبطل كل عملٍ بعينه. فأما القسم العام المبطل لجميع الأعمال فهو الردة، فإذا ارتد الإنسان- والعياذ بالله- عن دين الله ومات على الكفر يحبط جميع عمله؛ لقوله تعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) . أما إذا ارتد ثم منَّ الله عليه فرجع إلى الإسلام فإن عمله لا يحبط، ولهذا يسأل كثيرٌ من الناس يقول عن نفسه: إنه حج الفريضة، وهو يصلى كما يصلى الناس، وقائمٌ بشعائر الإسلام، ثم أتاه وقت ارتد فيه عن الإسلام فترك الصلاة، ثم منَّ الله عليه برجوعه إلى الإسلام فأقام الصلاة وقام بشعائر الإسلام، فيسأل: هل بطل حجه الذي كان قبل ردته فوجب عليه أن يعيده أم لا؟ فنقول: لا، لم يبطل حجك، وليس عليك إعادته؛ لأن الله تعالى اشترط لحبوط العمل بالردة أن يموت الإنسان على الردة، هذا المبطل العام الذي يبطل جميع العبادات. أما المبطلات الخاصة فهي تختص في كل عملٍ بحسبه: فالوضوء مثلًا يبطله الحدث، والصلاة يبطلها ما تبطل به كالضحك والكلام وشبهه، والصدقة يبطلها المن والأذى، والصوم يبطله الأكل والشرب، والحج يفسده الجماع قبل التحلل الأول. فالمهم: أن محبط الأعمال الخاص كثيرٌ لا حصر له، ويختلف باختلاف العبادات التي أبطلها. ***
هل ينطبق على هذا المرتد بعد توبته قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)، (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، وقوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) إلى آخر الآيات التي تتحدث عن التوبة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم، نعم ينطبق عليه ذلك، فإذا تاب ورجع إلى الله ﷿ فإنه يكون مؤمنًا ومع المؤمنين؛ لقوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) . ***
هل الكافر تنطبق عليه نفس أحكام التشريع الإسلامي من حيث المعاملات؟ وأقصد المرتد بترك الصلاة وسب الدين، أم أنه يعاد أولًا إلى الطريق المستقيم حتى يخضع كيانه لتشريعه السامي؟ فأجاب رحمه الله تعالى: المرتد ليس كالكافر الأصلى، ولا يعامل معاملة الكافر الأصلى، بل هو أشد منه؛ لقول النبي ﵊: (من بدل دينه فاقتلوه) . فالمرتد بأي نوع من أنواع الردة لا يعامل كما يعامل الكافر الأصلى، بل إنه يلزم بالرجوع إلى الإسلام، فإن أسلم فذاك، وإن لم يسلم فإنه يقتل كفرًا، ولا يدفن مع المسلمين ولا يصلى عليه. وعلى هذا فنقول: إن هذا المرتد لا يمكن أن يعيش، بل إنه إما أن يعيش مسلمًا، وإما أن يقتل. ***
ماذا تعني كلمة الإلحاد؟ وهل هناك فرق بين الملحد والكافر الذي كان مسلمًا أو هو كافر بأصله كاليهودي والنصراني؟ فأجاب رحمه الله تعالى: كلمة الإلحاد لها معنى لغوي ولها معنى عرفي، أما معناها اللغوي فهو الميل عن طاعة الله ﷾ بمعصيته، إما بترك الواجب وإما بفعل محرم؛ لقوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) . وعلى هذا فكل عاصٍ لله ﷾ يكون ملحدًا، ولكن الإلحاد ينقسم إلى قسمين: قسم مخرج عن الملة، وهو: ما أوجب الكفر، وقسم لا يخرج من الملة، وهو: ما أوجب الفسوق. وأما المعنى العرفي، فالمعنى العرفي أن الإلحاد هو: إنكار الألوهية، يعني: إنكار وجود الله- والعياذ بالله- أو ارتداد المسلم. هذا هو الذي أعرفه من معنى الإلحاد في العرف، وعلى هذا فاليهود والنصارى في العرف لا يعتبرون ملحدين، ولكن هذا العرف ليس بصحيح؛ لأن العرف إذا خالف الشرع وجب إلغاؤه وطرحه. والصواب: أن كل من خالف الإسلام ولم يكن مسلمًا فهو ملحد، سواء انتسب إلى دين أم لم ينتسب، وسواء أقر بوجود الخالق أم لم يقر به، فكل من كان كافرًا كفرًا أصلىًا أو كان مرتدًا فإنه يكون ملحدًا؛ لأنه- والعياذ بالله- الكفر وإن كان دركات بعضها أسفل من بعض، لكنه كله ملة واحدة باعتبار أنه خروج عن الإسلام. ***
ما معنى الإلحاد؟ وكيف يكون الشخص ملحدًا في أسماء الله وصفاته؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الإلحاد في اللغة هو الميل، ومنه سمي الحفر في طرف القبر لحدًا لأنه مائل إلى جهة منه. أما في الاصطلاح فهو: الميل عن ما يجب اعتقاده أو عمله. وهذا تعريف عام: كل من مال عن ما يجب اعتقاده وعمله فهو ملحد، لكن الإلحاد نوعان: إلحاد أكبر وإلحاد أصغر. فالإلحاد التام الذي هو الميل عن الإسلام كله إلحاد أكبر مخرج عن الملة، كإلحاد الشيوعيين والمشركين ومن ضاهاهم، وإلحاد أصغر لا يخرج من الملة، كالإلحاد في بعض الأعمال، كقوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) أي بمعصية صغرى، والكبرى أشد وأعظم. أما الإلحاد في أسماء الله وصفاته فإنه ينقسم إلى أقسام: القسم الأول: أن ينكرها إنكارًا كليًّا؟، فينكر الأسماء والصفات، ويدعي أن هذه الأسماء والصفات للمخلوقات وليست للخالق، كما يفعله غلاة المعطلة من القرامطة والباطنية ونحوهم. الثاني: إلحاد في الأسماء فقط، بأن يثبتها لله ﷿ لكن ينفي ما دلت عليه من الصفات، مثل أن يقول: إن الله سميع ولا سمع له، بصير ولا بصر له، عليم ولا علم له، وما أشبه ذلك فهذا أثبت الأسماء ولكن لم يثبت ما دلت عليه من الصفات. ومن الإلحاد في الأسماء أن يثبت الأسماء لكن يجعلها دالة على التمثيل، فيقول: إن لله تعالى أسماء يثبت ما دلت عليه من الصفات على وجه المماثلة، ويقول: إن لله تعالى علمًا لكن علمه مماثل لعلم المخلوق. وكذلك من يمثل في الصفات وهو ملحد فيها، كالذي يقول: إن لله تعالى وجهًا لكنه مماثل لأوجه المخلوقين وما أشبه ذلك، فالتمثيل في الأسماء والصفات هذا من الإلحاد. ومن الإلحاد أيضًا أن نسمي الله بما لم يسمِّ به نفسه، فيسميه الصانع والساخر وما أشبه ذلك، فيثبت لله تعالى أسماء من عنده فإن هذا إلحاد، وذلك لأن الواجب في أسماء الله أن يقتصر فيها على ما ورد. ومن الإلحاد أن يثبت لله تعالى بعض الصفات دون بعض، بأن يثبت لله تعالى من الصفات ما يزعم أن العقل دل عليها، وينفي من الصفات ما يزعم أن العقل لا يدل عليها، فإنّ هذا من الإلحاد والتعطيل، والإيمان ببعض الكتاب دون بعض. من الناس من يؤمن بأن الله تعالى حي عليم قادر سميع بصير مريد متكلم لكنه لا يثبت بقية الصفات، فلا يثبت أنه حكيم، ولا يثبت أنه رحيم، ويقول: إن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد بدون حكمة، ويقول أيضًا: إن الله تعالى ليس له رحمة، لكن رحمته هي إحسانه إلى الخلق أو إرادة إحسانه إليهم، وما أشبه ذلك، هذا نوع من الإلحاد في أسماء الله وصفاته. ومن الإلحاد في أسماء الله أن يسمي بها الأصنام ويشتق للأصنام أسماء من أسماء الله، كقولهم: اللات والعزى، أخذوا الأول من الله وهو اسم من أسماء الله جل وعلا، وأخذوا الثاني من العزيز وهو اسم من أسماء الله تعالى. ***
إبراهيم أبو حامد يقول: ما حكم من كذب بالبعث بعد الموت؟ فأجاب رحمه الله تعالى: كافر، إذا كذب إنسان بالبعث بعد الموت فإنه كافر خارج عن الإسلام؛ لقول الله ﵎: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)، ولأن المكذب بالبعث مكذب لله ورسوله وإجماع المسلمين، ورجل هذا شأنه لا شك في كفره، فإذا رأينا أحدًا يكذب بالبعث فالواجب علينا نصيحته بقدر الإمكان، إن من قال هذا فلا شك في كفره وارتداده، وينصح، فإن لم يتب وجب رفعه إلى الجهات المسؤولة، والجهات المسؤولة تنفذ فيه أحكام الردة، حتى لو سولت له نفسه أنه يتدين بدين مقبول فإنه خاسر. هذا كلام ربنا الخالق المنزل للشرائع؛ لأن الله تعالى أخذ العهد والميثاق على النبيين عمومًا أن يؤمنوا بمحمد ﵊، كما قال ﷿: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي) يعني عهدي (قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)، فاستشهد بعضهم على بعض وشهد جلَّ وعلا بأنه إذا جاءهم رسول مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه، ومن الرسول المصدق لما معهم؟ هو محمد ﵊، فإذا كان هذا مأخوذًا على رسلهم فإنهم إن كانوا مؤمنين برسلهم حقًا أخذوا به تبعًا لرسلهم، وها هو عيسى ﵊ آخر أنبياء بني إسرائيل وليس بينه وبين محمد رسول قال لبني إسرائيل: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) هذا الرسول السابق (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي) الرسول اللاحق (اسْمُهُ أَحْمَدُ) والتبشير بالرسول يعني يجب اتباعه لأنه لو لم يجب اتباعه؛ لم يكن في بشارته به فائدة (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ) أي هذا الرسول المبشر به لما جاءهم (بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) . ولقد شهد علماء اليهود والنصارى على أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو الذي بشرت به الأنبياء وهو (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) . النجاشي لما ذكروا له قصة الوحي ورآهم يفعلون تلك الأفعال آمن وشهد بأن الرسول حق، وهو من أئمة النصارى. عبد الله بن سلام ﵁ من أحبار اليهود شهد للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأنه رسول الله حقًا، لكن أهل الكتاب كما قال الله عنهم: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقّ) . فالخلاصة: أنني أنصح وأحذر إخواني المسلمين من هذا الرأي القبيح المنكر وهو ما يسمى بتوحيد الأديان، فإن هذا أمر لا يمكن إطلاقًا، كيف توحد الأديان ودين منها حق ودين منسوخ؟ هذا غير ممكن إلا أن يمكن الجمع بين النار والماء، فلا ينخدع المسلمون بهذه الدعوى الباطلة المنكرة القبيحة المنافية للإسلام. ***
المستمع هادي ناصر يقول في هذا السؤال: فضيلة الشيخ أنكر ذوو العقول الضعيفة قضية البعث فما ردكم عليهم؟ وهل يجوز أن نهجرهم بعد أن بينا لهم الحكم والأدلة؟ نرجو التوضيح مأجورين إنكار البعث كفر مخرجٌ عن الملة؛ لأنه تكذيبٌ لله ورسوله وإجماع المسلمين، قال الله ﵎: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ) يعني تبعثون (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) . فمن أنكر البعث فهو كافر خارجٌ عن الدين الإسلامي بإجماع المسلمين، فيستتاب فإن تاب وأقر بالبعث إقرارًا صادقًا يقر به ظاهرًا وباطنًا- يعني: ظاهرًا مع الناس وباطنًا فيما بينه وبين نفسه ومع أهله- فهو من نعمة الله عليه، ويكون رجوعًا للإسلام بعد الكفر، وإن أبى وأصر على إنكاره وجب قتله، وإذا قتل في هذه الحال فإنه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين ولا يدعى له بالرحمة، فهذا حكم من أنكر البعث. ثم إن إنكار البعث- مع كونه كفرًا وتكذيبًا لله ورسوله وإجماع المسلمين- هو نقصٌ في العقل، إذ كيف يخلق الله هذه الخليقة، ويرسل إليها الرسل، وينزل من أجلها الكتب، ويأمر بجهاد من عارض شرعه، ثم تكون النتيجة أن تكون هذه الخليقة ترابًا لا يبعثون ولا يحاسبون ولا يجازون؟ لو وقع هذا لكان من أسفه السفه، فكيف ينسب إلى رب العالمين الذي هو أحكم الحاكمين؟ فالكتاب والسنة وإجماع المسلمين والعقل السليم كلها توجب أن يكون للناس بعثٌ يجازون فيه على أعمالهم، ولهذا نقول: من أنكر البعث فهو كافر، وهو ضالٌ في دينه سفيهٌ في عقله، والواجب على ولي الأمر أن يقتله إذا لم يتب ويقر بالبعث. ***
محمد أحمد من البحرين يقول: فضيلة الشيخ أسأل عن رجلٍ إذا ذكرته في أمور الآخرة مثل البعث والجنة والنار يكذب بها ويقول: نحن إذا متنا نصير ترابًا ولا نبعث. وأنا لا أدري هل يقول هذا الكلام اعتقادًا منه أو مازحا، ً علمًا بأنه يصلى. فأجاب رحمه الله تعالى: نعم إذا قال هذا فإنه كافر، قال الله ﵎: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) . وقد ذكر العلماء ﵏ أن من تكلم بكلمة الكفر فهو كافر، سواءٌ كان جادًا أم مازحًا. فعلى هذا الرجل أن يتوب إلى الله، وأن يؤمن بالبعث، وأن يسأل الله تعالى الثبات على ذلك، وأن يسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلبه بعد إذ هداه، فإن القلوب بيد الله بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. نسأل الله للجميع الثبات على الحق والوفاة عليه، إنه على كل شيءٍ قدير. ***
بماذا نحكم على من أنكر المعراج أو أوّل في تفسيره له؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نحكم على من أنكر المعراج: بأنه إن كان قد تبين له الحق وعلم ما جاء به من النصوص من السنة الصريحة ومن ظاهر القرآن الكريم فإنه يكون بذلك كافرًا؛ لأنه يكون مكذبًا لله ورسوله. وإن كان لديه شبهات في هذا الأمر فإنه يجب أن ترفع عنه الشبهة حتى يتبين له الحق، ثم إذا أصر بعد زوال الشبهة حكم بكفره أيضًا؛ لأن المعراج حق ثابت أشار الله تعالى إليه في قوله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (٦) وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى (٧) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) إلى أن قال ﷾: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) . وأما الإسراء فهو أيضًا ثابت بنص القرآن في قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى) . وقد تضافرت الأحاديث الكثيرة في قصة المعراج وأنه حق ثابت، ولهذا أدخله كثير من أهل العلم في كتب العقائد وجعله من عقيدة أهل السنة والجماعة. ولكن بهذه المناسبة أود أن أبين أن المعراج دخل فيه أشياء كذب وموضوعة على الرسول ﵊، مثل الكتاب الذي ينسب إلى ابن عباس ﵄ في روايته، وهو كتاب متداول عند بعض الناس، فيه أشياء منكرة موضوعة لا تصح عن النبي ﷺ، فعلى الإنسان أن يكون محترزًا منه مبتعدًا عنه. ***
يقول السائل: الذي لا يصلى ولا يزكي هل يعتبر كافرًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إن كان مراد السائل الذي لا يصلى ولا يزكي أي إنه جمع بين ترك الصلاة وترك الزكاة فنعم فهو كافر، فإن الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة ﵃ قد دلت على أن تارك الصلاة كافر كفرًا أكبر مخرجًا عن الملة. وإن كان مراده لا يصلى ولا يزكي أي إنه يترك الصلاة مع كونه يزكي، أو يترك الزكاة مع كونه يصلى فهذا فيه تفصيل: فإن كان مراده أنه يترك الصلاة ويزكي فنقول له: إنه إذا ترك الصلاة وزكى فهو كافر كفرًا مخرجًا عن الملة ولا ينفعه إيتاء الزكاة؛ لأنه كافر، قال الله تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) . وإن كان قصده أنه ترك الزكاة مع الصلاة، أي إنه يصلى ولكنه لا يزكي فالصحيح أنه لا يخرج من الإسلام، لكنه قد فعل كبيرة من كبائر الذنوب، قال الله ﵎: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) . وقال الله ﵎: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) . وقال ﵊: (من آتاه الله مالًا فلم يؤد زكاته مُثِّلَ له يوم القيامة شجاعًا أقرع - أي حية عظيمة قرعاء - ليس على رأسها زغب لكثرة سمها قد تمزق شعرها يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - فيقول: أنا مالك أنا كنزك) . وأخبر ﷺ أنه (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت صفائح من نار وأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) . وهذا أيضًا وعيد شديد عظيم، لكنه لا يكفر؛ لقوله في هذا الحديث: (ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)، وذلك لأنه لو كان كافرًا لم يكن له سبيل إلى الجنة، ولأن عبد الله بن شقيق ﵀ وهو من التابعين المعروفين (قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) . والخلاصة في الجواب على سؤال الرجل: أن من لا يصلى ولا يزكي كافر مرتد عن الإسلام؛ لأنه لا يصلى، وعدم زكاته يكون ظلمًا على ظلم، وإن كان لا يزكي ولكنه يصلى فقد أتى كبيرة عظيمة لكنه ليس بكافر. ***
يقول السائل: إننا نرى إذا أقبل شهر رمضان المبارك نرى البعض من الناس يهرعون إلى الصلاة حتى يصوموا شهر رمضان،وإذا انقضى رمضان نراهم يتركون الصلاة ولا يصلون إلا في شهر رمضان، ويعللون ذلك ويقولون: نحن نصلى في هذا الشهر حتى يقبل صومنا. هل يقبل منهم مثل هذا الصيام؟ وهل تقبل الصلاة في هذا الشهر، مع العلم بأنهم لا يقضون ما فاتهم من صلاة؟ أفيدونا أفادكم الله فأجاب رحمه الله تعالى: أما إذا كانوا يفعلون ذلك معتقدين أنه لا صلاة واجبة إلا في رمضان فهؤلاء كفار كفر اعتقاد كفرًا مخرجًا عن الملة؛ لأن من أنكر وجوب شيء من الصلوات الخمس وهو في بلاد المسلمين فإنه يكون كافرًا؛ لأن الأمة كلها مجمعة على وجوب الصلوات الخمس، فلا عذر لأحد في تركها لتأويل أو غير تأويل. وأما إذا كان فعلهم هذا ليس عن اعتقاد، أي: إنهم يعتقدون وجوب الصلوات الخمس، لكنهم يتهاونون بها، ولا يفعلون ذلك إلا في رمضان، فأنا أتوقف في كفر هؤلاء. ***
من العراق محافظة بابل أ. ف. ي. د. تقول: يزورنا في البيت من الأقارب من لا يصلون ولا يؤدون الواجبات ويشركون بالله- والعياذ بالله- ومنهم من يقول لي: ندعو الأولياء والصالحين. عجزت من نصحهم هل يجوز مجالستهم؟ وعندما أتحدث عن الدين يضحكون مني ويسخرون ويهزؤون ويقولون لي: هذه عابدة اتركوها، وعندما يقولون هذا أتضايق كثيرًا وأقول: يسامحهم الله. وعندما أقول لوالدتي: يا أماه لا تشركي بالله لا تعيرني أي اهتمام، وإذا استمعت إلى برنامجكم نور على الدرب تقول: بأنك لن تدخلي الجنة على عملك هذا، وإذا استمررت على سماع هذا البرنامج أو غيره من البرامج الدينية فسوف تصابين بالجنون. وأقول لها: إنني لست مجنونة ولكن الله هداني. ماذا أفعل لكي أرضي الله ﷾ ثم أرضي أمي والناس؟ نصيحتكم يا شيخ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نصيحتنا أولًا نوجهها إلى هؤلاء الجماعة الذين وصفتهم بأنهم لا يصلون وبأنهم يشركون بالله ويسخرون من الدين ومن يتمسك به، فإن نصيحتي لهؤلاء أن يتقوا الله ﷿ في أنفسهم، وأن يعلموا أن دين الله حق، وهو الذي بعث به محمد ﷺ، وأن أركانه: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام. فعليهم أن يتوبوا إلى الله ﷿ من هذا الكفر والشرك البالغ غايته، وعليك أيضًا أن تحرصي على مناصحتهم ما أمكن، ولا تيأسي من صلاحهم، فإن الله ﷾ مقلب القلوب، فربما مع كثرة البيان والنصح والإرشاد يهديهم الله ﷿. وإذا تعذر إصلاحهم فإن الواجب هجرهم والبعد عنهم وعدم الجلوس إليهم؛ لأنهم حينئذ مرتدون عن دين الإسلام والعياذ بالله. وأما قول بعضهم لك: إنك إذا استمعت إلى برنامج نور على الدرب أو غيره من الكلمات النافعة تصابين بالجنون، فإن هذا خطأ منهم خطأ عظيم، وهو كقول المكذبين للرسل: إنهم- أي الرسل- مجانين وكهان وشعراء وما أشبه ذلك من الكلمات المشوهة التي يقصد بها التنفير عن الحق وأهل الحق، فاستمري أنت على هداية الله ﷿، وعلى الاستماع لكل ما ينفع، وعلى القيام بطاعة الله ﷾، واعلمي أن العاقبة للمتقين. ***
يقول السائل: هل يعتبر التحاكم إلى غير شرع الله كفرًا مع العلم بأنه يعتقد اعتقادًا منافيًا للشك بأن أحكام الشريعة الإسلامية هي أفضل من الأحكام الوضعية؟ نرجو بهذا التوجيه مأجورين فأجاب رحمه الله تعالى: الجواب على هذا السؤال يتبين بالآتي: أولًا: أن الله ﷾ إنما خلق الخلق لعبادته، خلق الجن والإنس ليعبدوه، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) . وعبادة الله ﷾ هي التذلل له حبًا وتعظيمًا بإقامة شرائعه القلبية واللفظية والعملية. ثانيًا: يقول الله ﷿: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) . فلا حاكم بين العباد إلا الله ﷾، ولا يحل لأحد أن يفصل هذه القضية عما وجهنا الله فيه نحوها: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله لا إلى غيره. ثالثًا: يقول الله ﷿: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) . فتأمل هذه الآية الكريمة تجد أن طاعة ولاة الأمور تابعة لطاعة الله ورسوله وليست مستقلة، ولهذا قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) ولم يقل: أطيعوا أولي، الأمر وهذا يدل دلالة ظاهرة على أن طاعة ولاة الأمور تابعة لطاعة الله ولا يمكن أن تكون مستقلة، كما أن الله تعالى يقول: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) . لم يقل: ردوه إلى القانون الفلاني أو القانون الفلاني أو الرأي الفلاني أو النظرية الفلانية أو ما أشبه ذلك، بل لا مرد إلا إلى الله ورسوله، إلى الله إلى كتابه وإلى رسوله إلى سنته ﷺ، فإن كان حيًا فإليه نفسه، وإن كان ميتًا فإلى ما حفظ من سنته ﷺ. رابعًا: قال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) . فأقسم الله ﷾ بربوبيته لرسوله محمد ﷺ، وهي ربوبيةٌ خاصة لا تساويها أي ربوبية بالنسبة للعباد؛ لأنه كلما كان الإنسان أعبد لله كانت ربوبيه الله له أخص، ومن المعلوم أن نبينا محمدًا ﷺ أعبد الناس لله، وعلى هذا فإن الله أقسم بهذه الربوبية الخاصة المضافة إلى رسول الله ﷺ أنه لا يؤمن أحد إلا بهذه الشروط: الشرط الأول: (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) لا يحكموا غيرك. الشرط الثاني: (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ) بل تتسع صدورهم لذلك وتنشرح صدورهم به، فلا يجدوا حرجًا وضيقًا مما قضيت. والثالث: (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) ينقادوا انقيادًا تامًا، وبهذا أكد الفعل بالمصدر بقوله: (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) إذا عرفت هذه الأمور الأربعة تبين لك أن خروج الإنسان عن التحاكم إلى الله ورسوله خلاف ما خلق الله العباد من أجله، وخلاف ما أرشد الله أن يكون التحاكم إليه، وخلاف ما جعل الله تعالى لولاة الأمور من الطاعة، وخلاف تحكيم الرسول ﵊. ولهذا قال الله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) . ***
يقول السائل: أسأل عن الآية الكريمة في قوله ﵎: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) على من تنطبق هذه الآية الكريمة مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذه الآية قيل: إنها نزلت في اليهود، واستدل هؤلاء بأنها كانت في سياق توبيخ اليهود، قال الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) . وقيل: إنها عامة لليهود وغيرهم، وهو الصحيح؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ولكن ما نوع هذا الكفر؟ قال بعضهم: إنه كفر دون كفر. ويروى هذا عن ابن عباس ﵄، وهو كقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، وهذا كفر دون كفر، بدليل قول الله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. ِإنمَّاَ المؤمنونَ ِإخوةٌ) . فجعل الله تعالى الطائفتين المقتتلتين إخوة للطائفة الثالثة المصلحة، وهذا قتال مؤمن لمؤمن، فهو كفر، لكنه كفر دون كفر. وقيل: إن هذا- يعني قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) - ينطبق على رجل حكم بغير ما أنزل الله بدون تأويل مع علمه بحكم الله ﷿، لكنه حكم بغير ما أنزل الله معتقدًا أنه مثل ما أنزل الله أو خير منه، وهذا كفر؛ لأنه استبدل بدين الله غيره. ***
يقول السائل: ما حكم سب الدين الإسلامي؟ فأجاب رحمه الله تعالى: سب الدين الإسلامي كفر؛ لأن سب الدين الإسلامي سب للرسول ﵊ ولله ﷾، إذ إن الدين الإسلامي هو الدين الذي بعث الله به رسوله، وهو الذي رضيه لعباده دينًا، فإذا سبه المرء فقد سب الله ﷾ وطعن في حكمته واختياره، وكذلك سبّ الرسول ﷺ؛ لأنه صاحب الرسالة وصاحب هذا الدين، فهو كفر والعياذ بالله. ***
حسن سعيد سوداني ومقيم بالعراق يقول في رسالته: ما حكم الشرع في نظركم في رجل سب الدين بحالة غضب؟ هل عليه كفارة؟ وما شرط التوبة من هذا العمل؟ حيث إنني سمعت من أهل العلم يقولون بأنك خرجت عن الإسلام بقولك هذا، وأيضًا يقولون بأن زوجتك حرمت عليك. أفيدونا بهذا الموضوع فأجاب رحمه الله تعالى: الجواب: الحكم فيمن سب الدين، الدين الإسلامي أنه يكفر، فإن سب الدين والاستهزاء به ردة عن الإسلام، وكفر بالله ﷿ وبدينه، وقد حكى الله تعالى عن قوم استهزؤوا بدين الإسلام حكى الله عنهم أنهم كانوا يقولون: إنما كنا نخوض ونلعب، فبين الله ﷿ أن خوضهم هذا ولعبهم استهزاء بالله وآياته ورسوله وأنهم كفروا به، فقال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) فالاستهزاء بدين الله أو سب دين الله أو سب الله ورسوله أو الاستهزاء بهما كفر مخرج عن الملة، ومع ذلك فإن هناك مجالًا للتوبة منه؛ لقول الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) . فإذا تاب الإنسان من أي ردة كانت توبة نصوحًا استوفت شروط التوبة الخمسة فإن الله تعالى يقبل توبته. وشروط التوبة الخمسة هي: الإخلاص لله بتوبته، بأن لا يكون الحامل له على التوبة رياء أو سمعة أو خوفًا من المخلوق، أو رجاء لأمر يناله من الدنيا، فإذا أخلص توبته لله وصار الحامل له عليها تقوى الله ﷿ والخوف من عقابه ورجاء ثوابه فقد أخلص لله تعالى فيها. والشرط الثاني: أن يندم على ما فعل من الذنب، بحيث يجد في نفسه حسرة وحزنًا على ما مضى، ويراه أمرًا كبيرًا يوجب عليه أن يتخلص منه. والأمر الثالث أو الشرط الثالث: أن يقلع عن الذنب وعن الإصرار عليه، فإن كان ذنبه ترك واجب قام بفعله وتداركه إن أمكن، وإن كان ذنبه بفعل محرم أقلع عنه وابتعد عنه، ومن ذلك إذا كان الذنب يتعلق بمخلوقين فإنه يؤدي إليهم حقوقهم أو يستحلهم منها. الشرط الرابع: العزم على أن لا يعود في المستقبل، بأن يكون في قلبه عزم مؤكد أن لا يعود إلى هذه المعصية التي تاب منها. والشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقت القبول، فإن كانت بعد فوات وقت القبول لم تقبل. وفوات وقت القبول عام وخاص: أما العام فإنه طلوع الشمس من مغربها، فالتوبة بعده أي بعد طلوع الشمس من مغربها لا تقبل؛ لقول الله تعالى: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) . وأما الخاص فهو حضور الأجل، فإذا حضر الأجل فإن التوبة لا تنفع؛ لقول الله تعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) . أقول: إن الإنسان إذا تاب من أي ذنب ولو كان ذلك سب الدين فإن توبته تقبل إذا استوفت الشروط التي ذكرناها، ولكن ليعلم أن الكلمة قد تكون كفرًا وردة ولكن المتكلم بها قد لا يكفر بها لوجود مانع يمنع من الحكم بكفره، فهذا الرجل الذي ذكر عن نفسه أنه سب الدين في حال غضب نقول له: إن كان غضبك شديدًا بحيث لا تدري ما تقول ولا تدري حينئذ أنت في سماء أم في أرض، وتكلمت بكلام لا تستحضره ولا تعرفه، فإن هذا الكلام لا حكم له، ولا يحكم عليك بالردة؛ لأنه كلام حصل عن غير إرادة وقصد، وكل كلام حصل عن غير إرادة وقصد فإن الله ﷾ لا يؤاخذ به، يقول الله تعالى في الأيمان: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) . ويقول تعالى في آية أخرى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) . فإذا كان هذا المتكلم بكلمة الكفر في غضب شديد لا يدري ما يقول ولا يعلم ماذا خرج منه، فإنه لا حكم لكلامه، ولا يحكم بردته حينئذ، وإذا لم يحكم بالردة فإن الزوجة لا ينفسخ نكاحها منه، بل هي باقية في عصمته، ولكن ينبغي للإنسان إذا أحس بالغضب أن يحرص على مداواة هذا الغضب بما أوصى به النبي ﷺ حين سأله رجل فقال: يا رسول الله أوصني. فقال: (لا تغضب) فردد مرارًا قال: (لا تغضب) . فْليُحكِم الضبط على نفسه، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا كان قائمًا فليجلس، وإذا كان جالسًا فليضطجع، وإذا اشتد به الغضب فليتوضأ، فإن هذه الأمور تذهب عنه غضبه، وما أكثر الذين ندموا ندمًا عظيمًا على تنفيذ ما اقتضاه غضبهم ولكن بعد فوات الأوان. ***
يقول: إذا صدر من المسلم سبٌ للدين ليس عامدًا بل سبق لسان ومن قبيل ما يسمى باللغو فهل يؤاخذ على ذلك أم يدخل تحت قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم)؟ وإن لم يكن داخلًا فما معنى هذه الآية إذًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: من سب دين الإسلام فهو كافر، سواءٌ كان جادًا أو مازحًا، حتى وإن كان يزعم أنه مؤمن فليس بمؤمن، وكيف يكون مؤمنًا بالله ﷿ وبكتابه وبدينه وبرسوله وهو يسب الدين؟ كيف يكون مؤمنًا وهو يسب دينًا قال الله فيه: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)؟ وقال الله تعالى فيه: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)؟ وقال الله فيه: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ)؟ كيف يكون مؤمنًا من سب هذا الدين ولو كان مازحًا؟ إذا كان قد قصد الكلام فإن من سب دين الإسلام جادًا أو مازحًا فإنه كافرٌ كفرًا مخرجًا عن الملة، عليه أن يتوب إلى الله ﷿. وسب الدين مازحًا أشد من سبه جادًا وأعظم، ذلك لأن من سب شيئًا جادًا وكان هذا السب واقعًا على هذا الشيء فإنه قد لا يكون عند الناس مثل الذي سبه مازحًا مستهزئًا وإن كان فيه هذا الشيء، والدين الإسلامي والحمد لله دينٌ كامل كما قال الله ﷿: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) . وهو أعظم منةٍ منَّ الله بها على عباده كما قال: (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) . فإذا سبه أحد ولو مازحًا فإنه يكفر، فعليه أن يتوب إلى الله ويقلع عما صنع، وأن يعظم دين الله ﷿ في قلبه حتى يدين الله به وينقاد لله بالعمل بما جاء في هذا الدين. أما شيءٌ سبق على لسانه بأن كان يريد أن يمدح الدين فقال كلمة سبٍ بدون قصد بل سبقًا على اللسان فهذا لا يكفر؛ لأنه ما قصد السب، بخلاف الذي يقصده وهو يمزح فإن هنا قصدًا وقع في قلبه فصار له حكم الجاد، أما هذا الذي ما قصد ولكن سبق على اللسان فإن هذا لا يضر، ولهذا ثبت في الصحيح في قصة (الرجل الذي كان في فلاةٍ فأضاع راحلته وعليها طعامه وشرابه فلم يجدها، ثم نام تحت شجرةٍ ينتظر الموت فإذا بناقته على رأسه، فأخذ بزمامها وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح) فلم يؤاخذ؛ لأن هذا القول الذي صدر منه غير مقصودٍ له، بل سبق على لسانه فأخطأ من شدة الفرح، فمثل هذا لا يضر الإنسان، لا يضر الإنسان لأنه ما قصده، فيجب أن نعرف الفرق بين قصد الكلام وعدم قصد الكلام، ليس بين قصد السب وعدم قصده؛ لأن هنا ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: أن يقصد الكلام والسب، وهذا فعل الجاد، كما يصنع أعداء الإسلام بسب الإسلام. الثاني: أن يقصد الكلام دون السب، بمعنى يقصد ما يدل على السب لكنه مازحٌ غير جاد، فهذا حكمه كالأول: يكون كافرًا؛ لأنه استهزاء وسخرية. المرتبة الثالثة: أن لا يقصد الكلام ولا السب، وإنما يسبق لسانه فيتكلم بما يدل على السب دون قصدٍ إطلاقًا، لا قصد الكلام ولا قصد السب، فهذا هو الذي لا يؤاخذ به، وعليه يتنزل قوله تعالى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) فإنه هو قول الرجل في عرض حديثه: لا والله وبلى والله، يعني ما قصد، فهذا لا يعتبر له حكم اليمين المنعقدة، فكل شيء يجري على لسان الإنسان بدون قصد فإنه لا يعتبر له حكم. وقد يقال: إن الإنسان قد قال في حديثه: لا والله وبلى والله إنه قصد اللفظ لكن ما قصد عقد اليمين، فإذا كان هذا فإنه يفرق بين حكم اليمين وبين الكفر، فالكفر ولو كان غير قاصدٍ للسب يكفر ما دام قصد الكلام واللفظ. ***
ما حكم من يسب الدين أي يشتم الإنسان بلعن دينه؟ وماذا عليه إن كان متزوجًا؟ وإذا سألته عن ذلك يقول: هذا لغو ولم أقصد سب الدين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم سب الدين كفر ولعن الدين كفرٌ أيضًا؛ لأن سب الشيء ولعنه يدل على بغضه وكراهته، وقد قال الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) . وإحباط الأعمال لا يكون إلا بالردة؛ لقوله تعالى (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) . فالمهم أن هذا الذي يسب الدين لا شك في كفره، وكونه يدعي أنه مستهزئ وأنه لاعب وأنه ما قصد هذا لا ينفي كفره، كما قال الله تعالى عن المنافقين: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) . ثم نقول له: إذا كنت صادقًا في أنك تمزح أو أنت هازل لست بجاد فارجع الآن وتب إلى الله، فإذا تبت قبلنا توبتك، تب إلى الله وقل: أستغفر الله مما جرى، وارجع إلى ربك، وإذا تبت ولو من الردة فإنك مقبول التوبة. ***
تقول السائلة من الجزائر: يا شيخ هل سب الدين في حالة الغضب من الكفر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما إذا كان الغضب شديدًا بحيث لا يملك الإنسان نفسه فإنه لا يخرج بذلك من الدين؛ لأنه لا يعي ما يقول، وأما إذا كان يملك نفسه فسب الدين كفر وردة، فيجب عليه أن يتوب إلى الله ﷿ وأن يجدد إسلامه. ***
هناك بعض الشباب يمزح ويقول كلامًا على الله وعلى رسوله من أجل أن يضحك زملاءه، وحينما ننصحه يقول: أنا أمزح. فبماذا تردون عليه؟ وهل إذا كان مازحًا يجوز له أن يمزح بكلام عن الدين أو الله أو الرسول أو المؤمنين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إن هذا العمل وهو الاستهزاء بالله أو برسوله أو كتابه أو دينه ولو كان على سبيل المزح ولو كان على سبيل إضحاك القوم نقول: إن هذا كفر ونفاق، وهو نفس الذي وقع في عهد النبي ﷺ في الذين قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنًا ولا أجبن عند اللقاء. يعنون رسول الله ﷺ وأصحابه، فنزلت فيهم هذه الآية: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) لأنهم جاؤوا إلى النبي ﵊ يقولون: يا رسول الله إنما كنا نتحدث حديثًا لنقطع به عناء الطريق، فكان رسول الله ﷺ يقول لهم ما أمره الله به: (أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) . فجانب الربوبية والرسالة والوحي والدين جانب محترم لا يجوز لأحد أن يعبث فيه، لا باستهزاء ولا بإضحاك ولا بسخرية، فإن فعل فإنه كافر؛ لأنه يدل على استهانته بالله ﷿ وكتبه ورسله وشرعه، وعلى هذا الرجل أن يتوب إلى الله ﷿ مما صنع؛ لأن هذا من النفاق، فعليه أن يتوب إلى الله ويستغفر ويصلح عمله ويجعل في قلبه خشية الله ﷿ وتعظيمه وخوفه ومحبته. ***
يقول السائل: ما حكم من يستهزئ بالحجاب ولا يأمر أهله به؟ فنرجو منكم التوجيه والنصح مأجورين فأجاب رحمه الله تعالى: الحجاب هو عبارة عن ستر الوجه وما تكون به الفتنة من بقية الأعضاء، هذا هو الحجاب الشرعي، خلافًا لما يظنه بعض الناس من أن الحجاب الشرعي أن تستر المرأة كل بدنها إلا الوجه والكفين، وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على أنه لا يجوز للمرأة أن تكشف وجهها لغير زوجها ومحارمها، ولنا في ذلك رسالة أسميناها الحجاب، ولغيرنا في ذلك أيضًا رسائل، وقد ألفت في هذا مؤلفات كثيرة والحمد لله. ومن استهزأ بالحجاب فإن كان قصده الاستهزاء به كشرعيةٍ وسنةٍ من سنن الرسول ﵊ فإنه على خطرٍ عظيم، ويخشى أن يكون هذا ردةً عن دين الله؛ لأن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر، كما قال الله ﵎: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) . وأما إن كان يستهزئ به لا على أنه شريعة لكن على أنه قول اختاره من يفعله ويتحجب فهذا لا يكفر، لكنه أخطأ خطأً عظيمًا؛ لأن الاستهزاء بقول غيرك من أهل العلم وإن كنت عالمًا لا يحل، ما دامت المسألة مبنية على الاجتهاد، فإنه ليس اجتهادك أولى بالصواب من اجتهاد الآخر، وليس اجتهاده أولى بالصواب من اجتهادك، والصواب من اجتهاديكما ما وافق الكتاب والسنة، ونحن نعلم أن الخير كل الخير بستر الوجه عن الرجال الأجانب، بقطع النظر عن دلالة الكتاب والسنة والنظر الصحيح على وجوب ستر الوجه، لكن هو من الناحية العقلية أن ستره لا شك أحفظ للمرأة وأبعد للفتنة، والإنسان العاقل إذا رأى ما وقعت فيه المجتمعات التي لا تستر الوجه من الشر يعرف أن الخير كل الخير في ستر الوجه، وأنه واجبٌ عقلًا وإن قدر أنه ليس فيه أدلةٌ شرعيةٌ تدل على الوجوب، مع أن فيه أدلةً شرعيةً تدل على الوجوب لا شك عندنا في ذلك. وانظر إلى تلك المجتمعات: هل اقتصر نساؤها على كشف الوجه فقط والكفين فقط؟ لا، كشفوا الوجوه والنحور والشعور والأذرعة والأقدام والسيقان، وحصل بذلك شرٌ كثير، لكن انظر إلى المرأة المختمرة المغطية لوجهها تجد أنها في سلامة وفي أمان وفي حشمة ووقار، لا يطمع فيها الطامعون ولا يحوم حولها السافلون، واختر لنفسك ما شيءت. ونصيحتي لهذا الرجل أن يتوب إلى الله ﷿ مما صنع، وأن يلزم أهله من بنات وأخوات وزوجات بما تدل عليه الأدلة الشرعية من ستر الوجه، حتى تسلم نساؤه ويسلم دينه، ويكون قد رعاهن حق الرعاية، فإن الإنسان مسؤولٌ عن أهله يوم القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (الرجل راعٍ في أهله ومسؤولٌ عن رعيته) . ***
ما حكم الاستهزاء بالملتزمين؟ هل هو كفر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إن كان هذا الاستهزاء بما التزموا به فهذا كفر، يعني: لو استهزأ بالصلاة التي التزموا بها أو الشرائع التي التزموا بها فهذا كفر لا شك فيه، وأما إذا استهزأ بالرجل نفسه فهذا لا يصل إلى حد الكفر، لكنه لا شك أنه آثم باستهزائه برجل ممن تمسكوا بدينهم. ***
يقول السائل: ما حكم من يستعمل ألفاظًا غير لائقة في القرآن أو عبارات أو جملًا وهذا من باب المزاح، كذكر كلمة من القرآن وربطها بكلمةٍ عامية، فما رأيكم بما يفعل في ذلك مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الكفر لا فرق فيه بين المازح والجاد، فمتى أتى الإنسان بما يوجب الكفر فهو كافر والعياذ بالله، ومن أعظم ذلك أن يأتي بشيء يفيد السخرية بالقرآن أو الاستهزاء بالقرآن، فإن هذا كفر نسأل الله العافية، كما قال الله ﷿ في المنافقين الذين كانوا يقولون: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنًا ولا أجبن عند اللقاء، يعنون بذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه. فأنزل الله فيهم: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) . فمن أتى بكلمة الكفر فهو كافر، سواءٌ أتى بها جادًا أم لاعبًا مازحًا أم غير مازح، فعلى من فعل ذلك أن يتوب لله ﷿ وأن يعتبر نفسه داخلًا في دين الإسلام بعد أن خرج منه، ويجب على المؤمن أن يعظم كلام الله ﷿، وأن يعظم كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما عليه أن يعظم الله ﷾ وأن يعظم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما يليق به ولا يكون غلوًا فيه. وأما السخرية بالقرآن وربط الكلمات القرآنية وهي كلام رب العالمين بكلامٍ عاميٍ مسخرة فهذا أمرٌ خطيرٌ جدًّا نسأل الله العافية، قد يخرج به الإنسان من الإسلام وهو لا يشعر. ***
سالم سليم من شمال سيناء يقول: عندنا جماعة يقولون بأن الله في كل مكان بذاته. ونقول لهم: إن الأمر ليس كذلك، إن الله في السماء. ونقول لهم: الرحمن على العرش استوى. ولم يقتنعوا بقولنا، ومصرون على ما هم عليه. السؤال: هل هم كفار؟ وهل يلحق بهم من اتبعهم وهم على جهل؟ أم ماذا يقال عنهم؟ أنا قرأت في بعض الكتب بأن شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ يقول: أنا لو قلت بمقالتكم كنت كافرًا، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال. فما القول الصحيح في هؤلاء مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: القول الصحيح في هذا ما قاله شيخ الإسلام ﵀ إذا كانوا جهالًا فإنهم لا يكفرون، وأما إذا كانوا عالمين بأن الله في السماء ولكنهم استكبروا وأبوا إلا أن يقولوا: إنه في الأرض فهم كفار، ولا يخفى أنه يلزم على هذا القول لوازم باطلة جدًا جدًا؛ لأنك إذا قلت: إن الله في كل مكان لزم من هذا أن يكون في المراحيض والعياذ بالله والحشوش والمواضئ والأماكن القذرة ومن يصف ربه بهذا؟ لا يمكن لمؤمن أن يصف ربه بهذا أبدًا. وأما ما يوجد من بعض الناس في هذه المسألة الواجب أن يجادل بالتي هي أحسن كما قال الله ﷿: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) . ***
إبراهيم أبو حامد يقول: فضيلة الشيخ ما هو خطر النفاق على العبد المسلم؟ فأجاب رحمه الله تعالى: النفاق نفاقان: نفاق أكبر مخرج عن الملة، ونفاق أصغر لا يخرج من الملة. أما الأول فهو: إظهار الإيمان وإبطان الكفر- والعياذ بالله- كالذي حصل في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأشار الله إليه في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) . فهؤلاء يظهرون أنهم مسلمون: فيصلون مع الناس، وربما يتصدقون، ويذكرون الله، ولكنهم لا يذكرون الله إلا قليلًا، ويقرون بالرسالة ولكنهم كاذبون، يقول الله ﵎ فيهم: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) . هذا النفاق والعياذ بالله نفاق أكبر صاحبه في الدرك الأسفل من النار. واختلف العلماء ﵏ هل يكون له توبة أو لا؟ فمن العلماء من قال: إنه لا توبة له، وذلك لأنه لو قلنا بأنه يتوب فإنه لا يبدو من إيمانه إلا ما أظهره لسانه، وهو يظهر الإيمان من قبل. ولكن الصحيح أن إيمانه مقبول إذا تبين من تصرفاته أنه غير منهجه الأول، وأنه تاب توبة نصوحًا، ويدل لذلك قول الله ﵎: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) . أما النوع الثاني من النفاق فهو: النفاق الأصغر الذي لا يخرج من الإيمان، مثل قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) . وقال: (أربع من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كان فيه واحد منها كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها) . فهذا نفاق أصغر لا يخرج من الملة، لكنه يخشى أن يتدرج بصاحبه حتى يصل إلى النفاق الأكبر. وإنني بهذه المناسبة أحث إخواني على الصدق في المقال، والوفاء بالوعد، وأداء الأمانة على الوجه الأكمل. أما الأول- وهو: الصدق في المقال- فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حث عليه ورغب فيه وحذر من الكذب، فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا. وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا) . وأما الوفاء بالوعد فإن الله ﷾ مدح الموفين بعهدهم إذا عاهدوا. وأما أداء الأمانة فإن النصوص دلت على وجوب أداء الأمانة، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) . وكذلك أوصيهم بالقيام بما أوجب الله عليهم من أداء الواجبات: سواء كان ذلك بين الزوجين، أو بين المتعاملين، أو بين العامل المستأجر ومن استأجره، أو غير ذلك من المعاملات، حتى يسلم الإنسان من أن يتصف بشيء من صفات النفاق. ***
هل الفاسق هو صاحب كبائر الذنوب؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يقول العلماء ﵏ إن الفاسق هو من أتى كبيرة ولم يتب منها، أو أصر على صغيرة. وعللوا ذلك بأن الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة، ولعل دليلهم في ذلك قول الله ﵎: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فحكم الله بفسق القذفة مع أنهم لم يفعلوا مكفرًا ولكنهم فعلوا كبيرة من كبائر الذنوب. ***
يقول السائل: من هو الفاسق في الشريعة الإسلامية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الفاسق هو الخارج عن طاعة الله ورسوله، وهو نوعان: فسق أكبر وهو الكفر، وفسق دون ذلك. مثال الأكبر قول الله ﵎ في سورة ألم تنزيل السجدة: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) . هذا الفسق بمعنى الكفر فسق آخر دون ذلك لا يصل إلى الكفر ومثله قوله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) . فذكر الكفر وحده والفسوق وحده والعصيان الذي هو دون الفسوق وحده. وقول الفقهاء ﵏ في كتبهم: لا تقبل شهادة الفاسق، يعنون بذلك الفسق الذي دون الكفر. ***
السائل يقول: سمعت وقرأت قصيدة البردة، والذي أعرفه أن مؤلف هذه القصيدة عالم، فهل تضر في عقيدته؟ فأجاب رحمه الله تعالى: إني سأتلو من هذه البردة ما يتبين به حال ناظمها: كان يقول مادحًا للنبي ﷺ: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن آخذًا يوم المعاد يدي عفوًا وإلا فقل يا زلة القدم فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم هل يمكن لمؤمن أن يقول موجهًا الخطاب إلى رسول الله ﷺ: مالي من ألوذ به سواك إذا حلت الحوادث؟ لا يمكن لمؤمن أن يقول هذا ورسول الله ﷺ لا يمكن أن يرضى بهذا أبدًا، إذا كان النبي صلى الله عليه وعلى آله سلم أنكر على الرجل الذي قال له: ما شاء الله وشيءت، فقال: (أجعلتني لله ندًّا بل ما شاء الله وحده) فكيف يمكن أن يقال: إنه يرضى أن يوجه إليه الخطاب بأنه ما لأحد سواه عند حلول الحوادث العامة، فضلًا عن الخاصة؟ هل يمكن لمؤمن أن يقول موجهًا الخطاب للرسول ﷺ: إن لم تكن آخذًا يوم المعاد يدي عفوا وإلا فقل يا زلة القدم؟ ويجعل العفو والانتقام بيد الرسول ﵊؟ هل يمكن لمؤمن أن يقول هذا؟ إن هذا لا يملكه إلا الله رب العالمين. هل يمكن لمؤمن أن يقول: فإن من جودك الدنيا وضرتها، الدنيا ما نعيش فيه وضرتها الآخرة، فإذا كانت الدنيا والآخرة من جود الرسول ﵊ وليست كل جوده بل هي من جوده فما الذي بقي لله؟ إن مضمون هذا القول: لم يبقَ لله شيء لا دنيا ولا أخرى، فهل يرضى مؤمن بذلك أن يقول: إن الدنيا والآخرة من جود الرسول ﵊، وإن الله جل وعلا ليس له فيها شيء؟ وهل يمكن لعاقل أن يتصور أن الرسول ﵊ الذي جاء بتحقيق التوحيد يرضى أن يوصف بأن من جوده الدنيا وضرتها؟ هل يمكن لمؤمن أن يرضى فيقول يخاطب النبي صلى الله وسلم: ومن علومك علم اللوح والقلم؟ من علومه وليست كل علومه علم اللوح والقلم، هل يمكن لمؤمن أن يقول ذلك والله تعالى يقول لنبيه: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)؟ فأمر الله ﷿ أن يعلن للملأ إلى يوم القيامة أنه ليس عنده خزائن الله ولا يعلم الغيب ولا يدعي أنه ملك وأنه ﷺ عابد لله تابع لما أوحى الله إليه (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) . فهل يمكن لمن قرأ هذه الآية وأمثالها أن يقول: إن الرسول يعلم الغيب، وإن من علومه علم اللوح والقلم؟ كل هذه القضايا كفر مخرج عن الملة، وإن كنا لا نقول عن الرجل نفسه إنه كافر- أعني: عن البوصيري- لأننا لا نعلم ما الذي حمله على هذا، لكنا نقول: هذه المقالات كفر، ومن اعتقدها فهو كافر، نقول ذلك على سبيل العموم. ولهذا نحن نرى أنه يجب على المؤمنين تجنب قراءة هذه المنظومة؛ لما فيها من الأمور الشركية العظيمة، وإن كان فيها أبيات معانيها جيدة وصحيحة، فالحق مقبول ممن جاء به أيًا كان، والباطل مردود ممن جاء به أيًّا كان. ***
من السودان السائل فرح يقول في هذا السؤال: ما حكم من يطوف بالقبة أو الضريح وهو جاهل الحكم، هل يكون مشركًا شركًا أكبر يخلد في النار؟ وماذا يجب عليه؟ جزاكم الله خيرًا فأجاب رحمه الله تعالى: الطواف بالقبور والأبنية المبنية عليها ينقسم إلى قسمين: القسم الأول أن يطوف لا لعبادة صاحب القبر ولا لدعائه والاستغاثة به، ولكن عادة اعتادها فصار يفعلها، أو كان يظن أن هذا مما يقرب إلى الله ﷿، فهذا ليس بمشرك ولكنه مبتدع، ويمكن أن نسمي بدعته هذه شركًا أصغر؛ لأنه وسيلة إلى الشرك الأكبر. أما إن كان يطوف بالقبر أو بالبناية عليه تعبدًا وتقربًا وتعظيمًا لصاحب القبر، أو كان يطوف به ذلك ويدعو صاحب القبر ويستغيث به فإن هذا مشرك شركًا أكبر مخرجًا عن الملة، يستحق عليه قول الله ﵎: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) . ***
من كان ينطبق عليه حكم الكفر هل يجوز مناداته بالكفر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الأولى أن لا ينادى بالكفر؛ لأن هذا يوجب الفتنة والشر، لكن يقال: أنت إذا لم تتب إلى الله فإنك كافر، يبين له هذا الكلام، وأما مناداته بياكافر وما أشبه ذلك مما يثير الفتنة فهذا لا أراه. والحمد لله مادمنا في غنىً عن هذا الأمر وبإمكاننا أن نمسكه ونقول له: إن هذا الأمر كفر وارجع إلى ربك وارجع إلى دينك وننصحه. ***
يقول السائل: قلت لأخي: يا كافر لأنه لا يصلى أثناء شجارٍ وقع بيني وبينه، فما حكم ذلك مأجورين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الذي لا يصلى كافر كفرًا مخرجًا عن الملة، فإذا مات على الكفر وإذا كان يوم القيامة صار مع فرعون وقارون وهامان وأبي بن خلف. ولكن لا يقال للشخص المعين: يا كافر حتى تقام عليه الحجة، ويتبين له أن فعله كفر، وهذا الذي حصل بينه وبين أخيه شجار وقال له: يا كافر لأنه لا يصلى نقول له: إن هذا لا ينبغي منك، ولكن عندما تحادثه وتتكلم معه كلامًا عاديًا بين له أن ترك الصلاة كفر، وأنه إن أصر على ذلك فهو كافر، وأما أن تصفه بالكفر حين المنابزة والمخاصمة فهذا أمرٌ لا ينبغي منك. وخلاصة القول: أن تارك الصلاة كافرٌ كفرًا مخرجًا عن الملة، وأنه إن مات على ذلك فإنه ليس من المؤمنين، ويحشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف، ولكن لا ينبغي لنا عند المنابزة أن نصفه بالكفر فنقول: يا كافر، بل نبين له في الكلام العادي أن ترك الصلاة كفر، وأنه إذا أصر على تركها فهو كافر، لعل الله يهديه ويرجع إلى دينه. ***
من المستمع عبد الحميد البربري مصري ومقيم في الرياض يقول في رسالته: هل المسيحي يعد في عداد الكفرة، علمًا بأنه من أهل الكتاب، ومن هم أهل الكتاب؟ أفيدونا بارك الله فيكم فأجاب رحمه الله تعالى: أهل الكتاب هم اليهود والنصارى الذين تسموا بالمسيحيين، هؤلاء هم أهل الكتاب، وإنما سموا أهل كتاب لأن الله تعالى أنزل كتبًا على رسله: فأنزل على موسى ﵊ التوارة التي يدين بها اليهود، وأنزل على عيسى ﵊ الإنجيل الذي يدين به النصارى. والذين يسمون أنفسهم الآن بالمسيحيين ودين اليهود منسوخ بدين النصارى، أي: إنه يجب على اليهود أن يتبعوا النصارى في دينهم حين كان دين النصارى قائمًا، ودين النصارى وغيره من الأديان نسخ بدين الإسلام الذي بعث به النبي ﷺ، فكان دين الإسلام ناسخًا لجميع الأديان، فلا دين مقبول عند الله إلا الإسلام، قال الله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام) وهذه الصيغة تقتضي الحصر وأنه لا دين عند الله سوى الإسلام. وقال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) . وهذا دليل على أن جميع الأديان غير الإسلام غير مقبولة عند الله، وأن أصحابها في الآخرة خاسرون لا حظ لهم فيها في الآخرة، وهذا لا يكون إلا للكافرين. وعلى هذا فإن النصارى واليهود كلهم ليسوا على دين مقبول عند الله، وإذا كانوا ليسوا على دين مقبول عند الله كانوا كفارًا، ويزول كفرهم بالإيمان بالنبي ﷺ واتباعه، وهم إذا آمنوا بالنبي ﷺ فإن هذا هو مقتضى ما تدل عليه كتبهم، كما قال الله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) . فدلت هاتان الآيتان على أن النبي ﷺ معروف في التوراة والإنجيل، وأنه يجب عليهم الإيمان به واتباعه، وقد قال عيسى بن مريم ﵊ لقومه: (يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) . فبشارة عيسى عليه الصلاةوالسلام بالنبي محمد ﷺ تدل على أنه يجب على أتباعه أن يتبعوه، ولو لم يكن الأمر كذلك ما كان لبشارته به فائدة، بل إن الإنسان لا يبشر إلا بما يعود إليه بالخير، فكل من كفر بالنبي محمد ﷺ من اليهود والنصارى وغيرهم فإنه كافر بالله؛ لأن الله تعالى أمر جميع العباد أن يؤمنوا به وبرسوله النبي الأمي، وبين أن هذا هو سبيل الفلاح والهدى والرشاد، وأن ما سوى ذلك فإنه ضلال نسأل الله العافية والهداية. ***
وردتنا من منطقة خريسان من الجمهورية العراقية محافظة ديانا بهز أو قرية أبو خميس بعث بها المرسل أخوكم في الإسلام علوان منصور جسام القريشي يقول: بسم الله الرحمن الرحيم أصحاب الفضيلة العلماء المحترمين قال الله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ)، وقال: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ) . فهل معظم سكان البشرية غير المسلمين هم في الآخرة مطرودون من رحمة الله، حتى ولو كانوا ينتمون إلى أديان سماوية أخرى مثل الديانة اليهودية والمسيحية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: فإن خير الكلام وأصدقه وأحكمه كلام الله ﷿، والسائل قد صدر سؤاله بكلامٍ محكمٍ صدق وهو قوله تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) . فهذه الآية فيها عموم في قوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ) فإن من شرطية وأسماء الشرط للعموم، وكذلك قوله: (دِينًا) نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم، يعني: أي دين، فأي إنسانٍ يبتغي أي دينٍ من الأديان غير الإسلام فإنه لا يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، والإسلام هو ما بعث الله به محمدًا ﷺ؛ لأن الإسلام عند الله ما بعث به رسله، ومن المعلوم أن محمدًا ﷺ خاتم الرسل كلهم، وأنه هو الذي جاء بالإسلام، وأن ما سوى ذلك فهو كفر، وعلى هذا فكل من دان بغير الإسلام- سواءٌ دان بكتابٍ سماويٍ نسخ، أو اتبع رسولًا نسخت رسالته، كاليهود والنصارى، أو لم يكن على دينٍ سماوي- فكل هؤلاء أعمالهم حابطة وسعيهم ضائع، وهم في الآخرة من الخاسرين. ولا تستغرب أيها السائل أن يكون عامة البشر من أهل هذا الوصف، فإنه قد ثبت في الصحيح: (إن الله ﵎ يقول يوم القيامة: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك. فيقول أخرجْ من ذريتك بعثًا إلى النار. فيقول: يا ربي وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون) . يعني في الألف واحد من أهل الجنة والباقون كلهم من أهل النار، فعلى هذا فلا يبقى في المسألة شكٌ ولا ارتياب بأن كل من ليس على دين الإسلام الذي بعث الله به محمدًا ﷺ فإنهم خاسرون، خاسرون دنياهم وآخرتهم، وأنهم يوم القيامة في نار جهنم خالدون، ثم إنه ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهوديٌ ولا نصرانيٌ ثم لا يتبع ما جئت به إلا كان من أهل النار) . فضيلة الشيخ: لكن هل هذا الواحد الذي يؤخذ من الألف في كل يوم وفي كل أسبوع وفي كل سنة أم أنه يزيد وينقص تبعًا للعصور وتبع قوة المسلمين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أنت إذا عرفت النسبة ليس هو بالنسبة يعني لأمة محمدٍ فقط، بالنسبة لكل بني آدم، كل بني آدم من أولهم إلى آخرهم ما يدخل الجنة منهم إلا واحدٌ في الألف، هذا الواحد قد يكون غالبهم من هذه الأمة وهو الأظهر؛ لأن أكثر الأمم اتباعًا هم أمة محمد ﷺ، هم أكثر الأمم اتباعًا للوحي وقبولًا له، فعلى هذا تكون هذه النسبة واحدٌ من الألف أكثرها من هذه الأمة ولله الحمد. ***
يوجد عندنا بعض الناس يزعمون أنهم فقهاء، ليسوا فقهاء علمًا، بل يزعمون أنهم يضرون وينفعون من يشاؤون، بحجة أن لهم شرهة يصيبون بها من يريدون، ويكررون هذا القول في كثير من المناسبات فهل ذلك صحيح أم خرافات جاهلية؟ وكيف نتخلص من ذلك؟ علمًا بأن بعض الناس يصدقونهم فيما يقولون مثل كبار السن والجهال؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هؤلاء الذين يدعون أنهم ينفعون أو يضرون هؤلاء كذبة، لا يجوز لأحد أن يصدقهم ولا أن يسألهم عن هذه الأشياء، ويجب على من علم بهم أن يبلغ أمرهم إلى ولاة الأمور ليتخذوا اللازم، فلا أحد يملك النفع والضرر إلا الله وحده لا شريك له، حتى النبي ﷺ قال الله له: (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) . وأمره الله أن يقول: (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ) . ومن زعم أن أحدًا يملك الضرر أو النفع بغير أسباب حسية معلومة فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ لأنه مكذب لله تعالى ولرسوله ﷺ. وإني أقول لهؤلاء الذين يتوهمون صدق ما قاله هؤلاء الدجاجلة أقول لهم: اثبتوا على إيمانكم ودينكم، واعلموا أنه لا يملك أحد الضرر والنفع إلا الله وحده لا شريك له. وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال لابن عباس قال له: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) . وفي القرآن الكريم لما ذكر الله السحرة قال: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) . فالمهم أن هؤلاء كذبة فيما يدعون من كونهم يملكون النفع والضرر، فإن ذلك إلى الله وحده لا شريك له، وعليهم أن يتوبوا إلى الله من هذا العمل، وأن يعترفوا بقصورهم وبتقصيرهم، وأنهم ضعفاء أمام قدرة الله، وأنهم لا يملكون دفع الضرر عن أنفسهم هم فضلًا عن غيرهم، كما لا يملكون لأنفسهم جلب نفع فضلًا عن جلبه لغيرهم إلا ما شاء الله ﷾، وعلى من حولهم ممن يتوهمون صدقهم أن يتوبوا إلى الله تعالى في تصديقهم، وأن يعلموا أنهم كذبة، ولا حق لهم ولا حظ لهم أيضًا في مثل هذه الأمور. ***
جزاكم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء يا شيخ محمد حفظكم الله هذا السائل يقول: لقد خاب وتاه الكثير من الشباب في مسألة العذر بالجهل، متى يعذر الجاهل بجهله؟ ودلونا على مراجع في هذه المسألة التي أثيرت، وهل وقع خلاف قديم بين السلف؟ وهل هو معتبر أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: العذر للجهل ثابت بالقرآن وثابت بالسنة أيضًا، وهو مقتضى حكمة الله ﷿ ورحمته، يقول الله ﵎: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) . ويقول الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) إِلَى قوله: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) . ويقول الله ﵎ (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) . ويقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) . والآيات في هذا عديدة، كلها تدل على أنه لا كفر إلا بعد علم، وهذا مقتضى حكمة الله ورحمته، إذ إن الجاهل معذور، وكيف يؤاخذه الله ﷿ وهو أرحم الراحمين، وهو أرحم بالعبد من الوالدة بولدها- على شيء لم يعلمه؟ فمن شرط التكفير بما يكفر من قول أو عمل أن يكون عن علم، وأن يكون عن قصد أيضًا، فلو لم يقصده الإنسان بل سبق لسانه إليه لشدة غضب أو لشدة فرح أو لتأويل تأوله فإنه لا يكون كافرًا عند الله ﷿. يدل لهذا أن النبي ﷺ قال: (لله أشد فرحًا بتوبة عبده من أحدكم كان في فلاة من الأرض ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فأضلها- أي: ضاعت منه- فطلبها فلم يجدها، فاضطجع تحت شجرة ينتظر الموت وهو آيس منها، فإذا براحلته عنده فأخذ بخطامها وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) . وهذا خطأ عظيم هو في نفسه كفر، لكن الرجل ما قصده، لكن لشدة الفرح سبق لسانه إلى هذا، ولم يكن بذلك كافرًا؛ لأنه لم يقصد ما يقول. وكذلك أخبر النبي ﵊ (عن رجل كان مسرفًا على نفسه، وخاف من الله تعالى أن يعاقبه، فأمر أهله إذا مات أن يحرقوه ويذروه في اليم، ظنًّا منه أنه يتغيب عن عذاب الله، ولكن الله تعالى جمعه بعده وسأله: لم فعل هذا؟ قال: يا ربي خوفًا منك. فغفر الله له)، مع أنه كان شاكًّا في قدرة الله، والشك في قدرة الله كفر، لكنه متأول وجاهل فعفا الله عنه. وليعلم أن مسألة التكفير أصلها وشروطها لا يأخذها الإنسان من عقله وفكره وذوقه فيكفر من شاء ويعصم من شاء، الأمر في التكفير وعدم التكفير إلى الله ﷿، كما أن الحكم بالوجوب أو التحريم أو التحليل إلى الله وحده، كما قال تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) . فالأمر في التكفير والعصمة إلى الله ﵎، وأعني بالعصمة: يعني الإسلام الذي يعصم الإنسان به دمه وماله، هو إلى الله، إلى الله وحده، فلا يجوز إطلاق الكفر على شخص لم تثبت في حقه شروط التكفير. وقد ثبت عن النبي ﵊ (أن من دعا رجلًا بالكفر أو قال: يا عدو الله، وليس كذلك فإنه يعود هذا الكلام على قائله) يكون هو الكافر وهو عدو الله. فليحذر الإنسان من إطلاق التكفير على من لم يكفره الله ورسوله، وليحذر من إطلاق عداوة الله على من لم يكن عدوًّا لله ورسوله، وليحبس لسانه فإن اللسان آفة الآفات. ولهذا لما حدث النبي ﷺ معاذ بن جبل بما حدثه به عن الإسلام قال له ﵊: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قال: بلى يا رسول الله. فأمسك النبي ﷺ بلسان نفسه وقال: كف عليك هذا، كف عليك هذا) . يعني: لا تطلقه، احبسه قيده. فقال: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ يعني: هل نحن مؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال النبي ﷺ: (ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم- أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم)؟ ولهذا يجب على الإنسان أن يكف لسانه عن ما حرم الله، وأن لا يقول إذا قال إلا خيرًا؛ لقول النبي ﷺ: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت) . والخلاصة: أن مسألة التكفير والعصمة ليست إلينا، بل هي إلى الله ورسوله، فمن كفره الله ورسوله فهو كافر، ومن لم يكفره الله ورسوله فليس بكافر، حتى وإن عظمت ذنوبه في مفهومنا وفي أذواقنا، الأمر ليس إلينا، الأمر في هذه الأمور إلى الله ورسوله. ولا بد للتكفير من شروط معلومة عند أهل العلم، ومن أوسع ما قرأت في هذا ما كتبه شيخ الإسلام رحمه في فتاويه وفي كتبه المستقلة، فأنصح السائل وغير السائل أن يرجع إلى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه- وأقولها شهادة عند الله- أوفى ما رأيت كلامًا في هذه المسألة العظيمة. ***
متى يعذر الإنسان بالجهل ومتى لا يعذر به، من ناحية العقيدة والأحكام الفقهية؟ مأجورين فأجاب رحمه الله تعالى: هذا السؤال سؤال مهم سؤال عظيم لا يتسع المقام لذكر التفصيل فيه؛ لأنه يحتاج إلى كلام كثير قد يستوعب هذه الحلقة كلها وزيادة، ولكن على سبيل الإجمال لدينا آيات من القرآن وأحاديث عن رسول الله ﷺ تدل على أن الإنسان معذور بالجهل في كل شيء، لكن قد يكون مقصرًا في طلب العلم فلا يعذر، وقد تبلغه الحجة ولكنه يستكبر ويستنكر فلا يعذر في هذه الحال، ومن الآيات الدالة على أن الإنسان معذور بالجهل قوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) فقال الله تعالى: (قد فعلت) . وقال الله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) . وقال الله تبارك تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) . وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) . وقال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) . وقال الله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) . وقال الله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) . والآيات في هذا المعنى عديدة، وكذلك في السنة، فقد روي عن النبي ﵌ أنه قال: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) . ولكن قد يكون الإنسان مقصرًا بطلب العلم، بحيث يتيسر له العلم ولكنه لا يهتم به ولا يلتفت إليه، وقد يكون الإنسان مستكبرًا عما بلغه من الحق، فيبين له الحق ولكنه يقول: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) . كما يوجد من كثير من العامة المعظمين لكبرائهم من أمراء أو علماء أو غير ذلك، يستنكفون عن الحق إذا دعوا إليه، وهؤلاء ليسوا بمعذورين، فالمسألة مسألة خطيرة عظيمة يجب التأني فيها والتريث، وربما نقول: لا يقضى فيها قضاءً عامًّا بل ينظر إلى كل قضية بعينها، فقد نحكم على شخص بكفره مع جهله وقد لا نحكم عليه، والناس يختلفون في مدى غايتهم في الجهل: منهم الجاهل مطلقًا جهلًا مطبقًا لا يدري عن شيء كأنه بهيمة، ومنهم من عنده فطنة وحركة فكر لكنه عنده استكبار عن الحق، ومنهم من هو بين ذلك. فعلى كل حال الجواب على وجه عام فيه نظر، ولكن تذكر قواعد وتطبق كل حال على ما تقتضيه هذه الحال. ***
أسأل وأنا أعتقد بأن علي إثمًا في هذا السؤال، وهو: أن لدينا ناسًا يقولون: إن عبد الله أبا محمد ﷺ هو في النار، وناس يقولون: لا بل هو في الجنة؛ لأنه أبو نبي، أفيدونا جزاكم الله خيرًا، وهل عليّ إثم في هذا السؤال، وإذا كان علي إثم فهل له كفارة؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا ودمتم فأجاب رحمه الله تعالى: أولًا ليس عليك إثم في هذا السؤال، لكن هذا السؤال ليس من الأسئلة التي يستحسن أن يسأل عنها؛ لأنه لا فائدة منها إطلاقًا، ولكن بعد السؤال عنها لابد من الجواب فيقال: إن أبا النبي ﷺ مات على الكفر وهو في النار، كما ثبت في الصحيح (أن رجلًا جاء إلى النبي ﵊ فقال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: أبوك في النار، فلما انصرف دعاه النبي ﵊ فقال له: أبي وأبوك في النار) . وهذا نص في الحديث عن النبي ﷺ، وعلى هذا فيكون أبو النبي ﷺ كغيره من الكفار فيكون في النار، والأخ السائل يقول: إن بعض الناس يقولون: ليس في النار؛ لأنه أبو نبي، وهذا لا يمنع إذا كان أبا نبي أن يكون في النار، فهذا آزر أبو إبراهيم كان كافرًا وكان في النار، ولهذا لما استغفر إبراهيم لأبيه قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) . ***
السحر
ما حكم فعل السحر وتعلمه؟ فأجاب رحمه الله تعالى: السحر نوعان: نوع يكون كفرًا، ونوع يكون فسقًا. فالسحر الذي يكون بالاستعانة بالشياطين والأرواح الخبيثة هذا كفر؛ لقول الله ﵎: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) . والنوع الثاني يكون فسقًا، وهو السحر بالأعشاب ونحوها مما يضر المسحور، فهذا عدوان وفسق، لكن لا يصل بصاحبه إلى حد الكفر. وأيًا كان الساحر فإنه يجب قتله؛ لقول النبي ﷺ: (حد الساحرضربة بالسيف) . ولأن عدوانه وضرره عظيم على الأمة. ثم إن كان كافرًا- أي: إن كان سحره مكفرًا- فإنه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين، وإن كان غير مكفر فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن مع المسلمين. ***
حصل خلافٌ حول وجود السحر حقيقةً وأن الرسول ﷺ قد سحر، فهم ينكرون ذلك محتجين بقوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) . فما هو الحق في هذا؟ وكيف نفسر هذه الآية؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الحق في هذا أن السحر ثابتٌ ولا مرية فيه وهو حقيقة، وذلك بدلالة القرآن والسنة. أما القرآن فإن الله ذكر عن سحرة فرعون الذين ألقوا حبالهم وعصيهم وسحروا أعين الناس واسترهبوهم حتى إن موسى ﵊ كان يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، وحتى أوجس في نفسه خيفة، فأمره الله تعالى أن يلقي بعصاه فألقاها فإذا هي ثعبانٌ مبين تلقف ما يأفكون، وهذا أمرٌ لا إشكال فيه. وأما أن الرسول ﵊ سحر فإنه حق، فقد ثبت عن النبي ﵊ أنه سحر من حديث عائشة وغيرها، وأنه كان يخيل إليه أنه أتى الشيء وهو لم يأته، ولكن الله تعالى أنزل عليه سورتي: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، فشفاه الله تعالى بهما. وأما قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فلا ينافي هذا، هذا إن كانت الآية لم تنزل بعد، وأنا الآن ما يحضرني هل هذه الآية قبل سحره أو بعده، والظاهر لي أنها بعد السحر، وإذا كانت بعد السحر فلا إشكال فيها. ***
ما حكم الذهاب للسحرة والدجالين والكهنة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الذهاب إلى هؤلاء محرم، ولا يحل الذهاب إليهم، ولا خير فيهم، وقد قال الله ﵎: (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) . والكهنة كذابون؛ لأنهم لهم عملاء من الجن يسترقون السمع ويخبرونهم، ثم يكذبون مع ما أخبروا به من أخبار السماء، يكذبون كذبات كثيرة مائة كذبة أو أكثر أو أقل، فهم كذبة لا يجوز الذهاب إليهم. وقد قال النبي ﷺ: (من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) . وإنما كان ذلك كفرًا لأنه تكذيب لقول الله تعالى: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) . ***
المستمعة م. ع. من سوريا بعثت برسالة تقول فيها: فضيلة الشيخ هل يؤثر السحر لدرجة أنه يوقف مشروع الزواج؟ وإذا كان هذا التأثير صحيحًا فهل له علاج من الكتاب والسنة دون الذهاب للدجالين والمشعوذين؟ نرجو التوجيه مأجورين فأجاب رحمه الله تعالى: الجواب على هذا السؤال: أن السحر بلا شك يؤثر تأثيرًا مباشرًا بدليل القرآن والواقع، أما القرآن فقد قال الله تعالى: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) . وقوله تعالى في قصة موسى ﵊: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) . وأما الواقع فشاهدٌ بذلك، فإن السحر يؤثر في المسحور، يؤثر في عقله وفي بدنه وفي فكره وفي اتجاهه. والسحر من كبائر الذنوب، بل شعبةٌ منه تكون من الكفر المخرج من الملة، وعلى هذا فالواجب على المسلمين البعد عن السحر والحذر منه اتقاءً لعقاب الله ورحمةً بعباد الله. وأما العلاج بالنسبة للمسحور فيكون بقراءة القرآن: يقرأ على المصاب بالآيات بآيات الحماية، مثل: آية الكرسي، قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، وغيرها من الآيات التي فيها الحماية من شر الخلق. أو يؤتى بماء فيدق سبع ورقات من ورق السدر وتوضع في هذا الماء، ويقرأ فيه أو ينفث فيه بمثل قوله تعالى: (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ) وغيرها من الآيات التي تفيد بطلان السحر، ويسقى المريض المصاب بالسحر. وكذلك يمكن أن يعالج المريض بالسحر بالأدوية المباحة المتخذة من الأشجار أو غيرها. وكذلك يعالج السحر بحل السحر، بأن يوصل إلى المكان الذي فيه السحر، وتؤخذ الوسيلة التي جعل فيها السحر فتنقض وتحرق، وما أشبه ذلك من أنواع الحلول المباحة. وأما الذهاب إلى السحرة لحل السحر: فإن كان ذلك لضرورة فقد اختلف العلماء في جوازه، فمنهم من أجاز ذلك وقال: إن الضرورة تبيح المحرم، ولا شك أن المصاب بالسحر إذا نقض سحره يزول ضرره، فما كان وسيلة لأمرٍ نافع بدون أن يتضمن ضررًا في الدين فإنه لا بأس به؛ لقوله تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ)، وقد ذهب إلى هذا بعض التابعين ومنهم من منع الذهاب إلى السحرة لحل السحر، واستدل بأن النبي ﷺ سئل عن النشرة فقال: (هي من عمل الشيطان)، وبأنه إذا فتح الباب للناس صار وسيلةً لإغراء السحرة واتفاقهم على هذا العمل، فأحدهم يسحر والثاني يحل السحر، وما يحصل من المكاسب تكون بينهما؛ لأنه من المعلوم أن المصاب بالسحر سوف يبذل الشيء الكثير لأجل التخلص منه، وفي هذا مفسدةٌ عظيمة. والحقيقة أننا إذا نظرنا إلى الضرورة الشخصية المعينة مِلْنا إلى الإباحة، أي: إباحة حل السحر بالسحر للضرورة، كما ذهب إلى ذلك من ذهب من السلف والخلف. وإذا نظرنا إلى المصلحة العامة مِلْنا إلى القول بالمنع، لا سيما وأنه مؤيدٌ بالحديث الذي أشرنا إليه: أن النبي ﷺ سئل عن النشرة فقال: (هي من عمل الشيطان)، والمسألة عندي فيها توقف. والعلم عند الله. ***
بارك الله فيكم تقول بأن لها ابنة متزوجة، وهذه الابنة تكره زوجها وزوجها يحبها، وهي الآن حامل وعند أهلها، وهي تكره أن ترى هذا الزوج، ويقال بأن هناك كاتبًا يكتب كتابًا يسمى بالعطف أن يجعل الزوجة تحب زوجها، فهل هذا العمل جائز؟ فأجاب رحمه الله تعالى: لا يجوز للمرأة أن تعمل عملًا يكون به عطف الزوج عليها، ولا يجوز للزوج أن يعمل عملًا يكون به عطف الزوجة عليه؛ لأن هذا نوع من السحر، ولكن الطريق إلى ذلك أن تسأل الله ﷿ دائمًا أن يحبب زوجها إليها وأن يؤلف بينهما، وتقرأ من القرآن ما يعينها على التحول من الكراهية إلى المحبة، وتستعين بأهل الخير والصلاح أن يقرؤوا عليها لتحويل بغضها إلى محبة. هذا ما أراه واجبًا عليها، ونسأل الله تعالى أن يؤلف بينها وبين زوجها وأن يبارك لهما وعليهما وأن يجمع بينهما في الخير. ***
ما حكم الإسلام في نظركم في الشخص الذي يستخدم شيئًا من السحر لكي يوفق بين زوجين أو اثنين متنافرين؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا أيضًا محرم ولا يجوز، وهذا يسمى بالعقد، وما يحصل به التفريق يسمى بالصرف، وهو أيضًا محرم، وقد يكون كفرًا وشركًا. ***
هل الساحر كافر؟ وما هو الدليل؟ وهل تجوز الصلاة خلفه؟ ماذا علي أن افعل إذا صلىت خلف مثل هذا الإمام في الوقت الذي لا أعلم أنه ساحر؟ هل صلاتي السابقة تكون باطلة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: السحر نوعان: نوع كفر، ونوع عدوان وظلم. أما الكفر فهو الذي يكون متلقىً من الشياطين، فالذي يتلقى من الشياطين هذا كفر، ودليل ذلك قوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) . وهذا النوع من السحر كفر مخرج عن الملة يقتل متعاطيه، واختلف العلماء ﵏ لو تاب هذا الساحر هل تقبل توبته؟ فقال بعض أهل العلم: إنها تقبل توبته؛ لعموم قوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) فإذا تاب هذا الساحر وأقلع عن تعاطي السحر فما الذي يمنع من قبول توبته، والله ﷿ يقول: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)؟ لكن إذا كان قد تسبب في سحره في قتل أحد من الناس أو عدوانٍ عليه فيما دون القتل فإنه يضمن لحق الآدمي، فإن كان بقتل قتل قصاصًا، وإن كان بتمريض نظر في أمره، وإن كان بإفساد مال ضمن هذا المال. النوع الثاني من السحر سحر لا يكون بأمر الشياطين، لكنه بأدوية وعقاقير وأشياء حسية، فهذا النوع لا يُكفِّر ولكن يجب أن يقتل فاعله درءًا لفساده وإفساده. ***
ما هي الحصون والوقاية من السحر ليتقي الإنسان شرها؟ وما حكم عمل السحر وحكم الذين يذهبون إلى السحرة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا السؤال يتضمن ثلاث مسائل: الأولى الوقاية من السحر، والوقاية من السحر تكون بقراءة الأوراد التي وردت عن النبي ﷺ، مثل: آية الكرسي، والآيتين الأخيرتين من سورة البقرة، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، يقرؤها الإنسان وهو موقن بأنها حماية له، فإن من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح، ومن قرأ الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة في ليلة كفتاه، وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس فيهما الاستعاذة من السحرة: (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) . فينبغي للإنسان أن يستعمل هذه الأوراد الواردة عن النبي ﷺ في كل يوم وليلة لتقيه من شر أهل الحسد ومن شر السحر. أما المسألة الثانية فهي: عمل السحر، وعمل السحر إن كان بواسطة الاستعانة بالشياطين فإنه كفر، بدليل قوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) . أما إذا كان السحر بالأدوية وما أشبهها مما لا يكون استعاذة بالشياطين فإنه لا يصل إلى حد الكفر، ولكن يجب على ولي الأمر أن يقوم بما يجب عليه من الحيلولة دون هؤلاء. وأما المسألة الثالثة فهي: الذهاب إلى السحرة، ونقول في الجواب عنها: إنه لا يجوز للإنسان أن يذهب إلى الساحر من أجل أن ينقض السحر؛ لأن هذا يؤدي إلى مفاسد كثيرة، منها إعزاز هؤلاء السحرة وكثرتهم؛ لأنه من المعلوم أن النفوس مجبولة على حب المال، وأن الإنسان إذا كان يأخذ أموالًا ربما تكون أموالًا طائلة على نقض السحر فإن ذلك إغراء للناس بتعلم السحر من أجل نقضه، فيحصل في هذا ضرر كبير وابتزاز لأموال الناس، وهنا نقول: إن في الأدوية المباحة والأدعية الواردة عن النبي ﷺ والآيات القرآنية ما يغني عن هذا بإذن الله. ***
سمعت في برنامجكم أنه يمكن التداوي من السحر بتلاوة الآيات القرآنية وبعض الأدوية الحلال، فهل هناك آيات خاصة تقرأ لمثل هذه الحالة أو هناك أدعية خاصة لهذا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم الآيات الخاصة بهذا مثل: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)؛ لأنه ما تعوذ أحد بمثلهما. والأدعية الخاصة بأن يدعو الإنسان ربه بالشفاء: اللهم اشفني من هذا الداء، أو كذلك يدعو له من يقرأ عليه بمثل هذا الدعاء المناسب. ***
بالنسبة للسحر هناك من يربط بين الزوج أي يمتنع عن الاجتماع مع زوجته، فكيف يصرف الإنسان هذا السحر بدون أن يذهب إلى ساحر أو دجال أو مشعوذ؟ فأجاب رحمه الله تعالى: يصرف هذا السحر باللجوء إلى الله ﷿ ودعائه وقراءة سورة الإخلاص وسورة الفلق وسورة الناس، فإنه ما تعوذ متعوذ بمثلهما، أي: بمثل سورتي الفلق والناس، ويكرر هذا، ولا حرج أن يذهب إلى رجل صالح يقرأ عليه ويدعو له. ***
امرأة قيل لها: إنك معمول لك سحر ويحتاج إلى فك، ولكن ادفعي مبلغ أربعة آلاف ريال وأنا أفكك من هذا السحر، فما هو الحل في ذلك وفقكم الله؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الحل في هذا أن نقول: إن حل السحر ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون بوسائل محرمة، كأن يُحل بالسحر، مثلما يستعمله بعض البادية من صب الرصاص في الماء على رأس المسحور حتى يعلم بذلك من سحره، فهذا لا يجوز. فإذا كان حل السحر بوسائل محرمة فإن ذلك حرامٌ ولا يجوز؛ لأن النبي ﷺ سئل عن النشرة فقال: (هي من عمل الشيطان) رواه أبو داود بسندٍ جيد. والقسم الثاني: أن يكون حل السحر بالطرق المباحة كالأدعية والقراءة على المريض والأدوية المباحة، فهذا لا بأس به ولا حرج. ***
المستمع م. ع. ي. من العراق محافظة ذي قار يقول: السؤال حول موضوع أو ظاهرة تعرف بالدروشة، يقوم بها بعض الناس الذين يدعون بأن نسلهم يرجع إلى الرسول ﷺ، حيث يقوم هؤلاء بإيذاء أنفسهم وضربها بالأسلحة النارية والجارحة وأمام جمعٍ من الناس دون أن يصيبهم أي أذى أو خروج دم من أجسامهم. فهل هذه كرامةٌ أم هو سحرٌ؟ أم إن هناك حديثًا قدسيًا شريفًا أو نصًا قرآنيًا يثبت ذلك؟ وهل هذه الظاهرة موجودةٌ في الأقطار الإسلامية الأخرى؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا السؤال حقيقة هو نفسه دروشة. وهؤلاء الدراويش الذين يعنيهم أولًا لا تقبل دعواهم أنهم ينتسبون إلى النبي ﷺ إلا ببينة تاريخية تثبت ذلك، ولو قبلنا هذه الدعوى لادعاها رجالٌ كثير، فدعواهم أنهم من نسل الرسول ﵊ غير مقبولة حتى يثبتوا ذلك بالطرق الصحيحة التي يثبت بها مثل هذا الأمر. وأما كونهم يضربون أنفسهم بالحديد أو غير الحديد ولا يتأثرون بذلك فإن هذا لا يدل على صدقهم ولا على أنهم من أولياء الله ولا على أن هذا كرامةٌ لهم، وإنما هذا من أنواع السحر الذي يسحرون به أعين الناس، والسحر يكون في مثل هذا وغيره، فإن موسى ﵊ لما ألقى سحرة فرعون ألقوا حبالهم وعصيهم صارت من سحرهم يخيل إليه أنها تسعى وأنها حياتٌ وأفاعٍ، وكما قال الله ﷿: (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) فهذا الذي يفعلونه لا شك أنه نوعٌ من أنواع السحر وأنه ليس بكرامة. واعلم أيها السائل أن الكرامة لا تكون إلا لأولياء الله ﷿، وأولياؤه هم الذين استقاموا على دينه، وهم من وصفهم الله في قوله: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) . وليس كل من ادعى الولاية يكون وليًا، وإلا لكان كل أحدٍ يدعيها، ولكن يوزن هذا المدعي للولاية يوزن بعمله إن كان عمله مبنيًا على الإيمان والتقوى فإنه ولي، لكن مجرد ادعائه أنه من أولياء الله هذا ليس من تقوى الله ﷿؛ لأن الله تعالى يقول: (فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) . فإذا ادعى أنه من أولياء الله فقد زكى نفسه وحينئذٍ يكون واقعًا في معصية الله، فيما نهى الله عنه، وهذا ينافي التقوى، وعلى هذا فإن أولياء الله لا يزكون أنفسهم بمثل هذه الشهادة، وإنما هم يؤمنون بالله ويتقونه ويقومون بطاعته على الوجه الأكمل، ولا يغرون الناس ويخدعونهم بهذه الدعوى حتى يضلوهم عن سبيل الله. ***
ماذا يعمل الإنسان الذي قد كتب له سحر ومتضرر من جراء ذلك؟ وما العمل مفصلًا للذي قد عمل له عقدة أيضًا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: السحر من كبائر الذنوب، ومنه ما يكون كفرًا، قال الله ﷿: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) لم يكن له خلاق أي نصيب في الآخرة، فهذا هو الكافر بل في الآية السابقة يقول الملكان: (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) . فلا يحل لأحد أن يتعاطى السحر؛ لأنه إما كبيرة وإما كفر على حسب التفصيل الذي ذكره أهل العلم، وأما النشرة وهي حل السحر عن المسحور: فإن كانت من القرآن والأدوية المباحة فإن هذا لا بأس به، وإن كانت بسحر فإن هذا قد اختلف فيه أهل العلم، فمنهم من جوز حل السحر بسحر للضرورة، ومنهم من منع ذلك، والأقرب المنع، وأنه لا يحل حل السحر بالسحر؛ لأننا لو قلنا بذلك لانفتح علينا باب تعلم السحر، وصار كثير من الناس يتعلمون بحجة أنهم يريدون أن يحلوا السحر من المسحور، وهذا باب يفتح شرًّا كبيرًا على المسلمين، وفي الأدعية المشروعة والقراءات المشروعة والأدوية المباحة ما يغني عن ذلك لو اعتمد على الله ﷿ وتوكل عليه. ***
هذه السائلة ع. أ. م. من الأردن تقول: فضيلة الشيخ ما هو العلاج الشرعي للسحر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: العلاج الشرعي للسحر هو الرقية بكتاب الله ﷿، بأن يقرأ على المصاب: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، وكذلك الآيات التي فيها بيان أن الله تعالى يبطل السحر مثل: (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)، ومثل قوله: (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) . وكذلك ما جاءت به السنة من الأدعية التي يستشفى بها من المرض. هذا إذا لم يمكن الاطلاع على محل السحر، فإن أمكن فإنه إذا اطلع عليه ينقض. ونسأل الله السلامة. ***
ما هو العلاج الشرعي للسحر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: العلاج الشرعي يكون بالآيات القرآنية كالفاتحة والمعوذتين، وما جاءت به السنة من الأدعية، وكذلك بالأدعية المباحة التي يدعو بها الإنسان ربه، هذا هو العلاج الشرعي للسحر. ***
أنا شاب مسلم وعلى علم اليقين أن السحر حرام، ومع هذا فإني أجد في هذه الأيام أناسًا كثيرين يتعرضون لنوبات مرضية ويترددون على عدة أطباء ولم يفدهم أي علاج، بينما يذهبون في النهاية إلى أحد المنجمين السحرة فيتبين أنهم مسحورون من قبل أناس آخرين، فيشفيهم من آلامهم بطريقته الخاصة، أي: باستعمال بعض الكتب. أفيدوني في ذلك أثابكم الله فأجاب رحمه الله تعالى: ما ذكره السائل معناه النُشرة وهي حل السحر عن المسحور، والأصح فيها أنها تنقسم إلى قسمين: أحدهما: أن تكون بالقرآن والأدعية الشرعية والأدوية المباحة فهذه لا بأس بها؛ لما فيها من مصلحة وعدم المفسدة، بل ربما تكون مطلوبة؛ لأنها مصلحةٌ بلا مضرة. وأما إذا كانت النشرة بشيءٍ محرم كنقض السحر بسحرٍ مثله فهذا موضع خلافٍ بين أهل العلم، فمن العلماء من أجازه للضرورة، ومنهم من منعه؛ لأن النبي ﷺ سئل عن النشرة فقال: (هي من عمل الشيطان) رواه أبو داود بإسناد جيد وعلى هذا يكون حل السحر بالسحر محرمًا، وعلى المرء أن يلجأ إلى الله ﷾ بالدعاء والتضرع لإزالة ضرره، والله سبحانه يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) . ويقول تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) . ***
المستمع رمز لاسمه بالأحرف ز. ل. م. ع. من جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية يقول: عندي صديق سُحرت زوجته من قبل أناس أعداء له ولأهله، وحاول أن يعالجها بشتى الطرق مثل الكي وغيره ولكن دون فائدة، ودلنا رجل على إنسان يعالج السحر بالسحر، فهل عليه إثم لأنه يستخدم السحر في نفع الناس من السحرة الآخرين، ولم يضر به أحدًا وهل على صديقي هذا إثم لأنه ذهب إلى هذا الساحر لعلاج زوجته مما أصابها من السحر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: قبل الإجابة على هذا السؤال أود أن أبين أن السحر من أكبر المحرمات، بل هو من الكفر إذا كان الساحر يستعين بالأحوال الشيطانية على سحره أو يتوصل به إلى الشرك، وقد قال الله ﵎: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُواْ اَلشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) . فهذا دليل على أن تعلم السحر كفر، السحر متلقى من الشياطين، وعلى هذا فيجب الحذر منه والبعد عنه، حتى لا يقع الإنسان في الكفر المخرج عن الملة والعياذ بالله. وأما حل السحر عن المسحور فإنه ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون بالأدعية والأدوية المباحة وبالقرآن، فهذا جائز لا بأس به، ومن أحسن ما يقرأ به على المسحور: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، فإنه ما تعوذ متعوذ بمثلهما. وتارة يكون حل السحر بسحر، وهذا مختلف فيه سلفًا وخلفًا، فمن العلماء من رخص فيه لما فيه من إزالة الشر عن هذا المسحور، ومنهم من منعه وقال: إنه لا يحل السحر إلا ساحر، وهذا أحسن؛ لأن النبي ﷺ سئل عن النشرة فقال: (هي من عمل الشيطان)، وعمل الشيطان هو ما كان بالسحر، أما ما كان بالقرآن أو بالأدعية المباحة فإن هذا لا بأس به ولا حرج فيه. وعلى من ابتلي بهذا الأمر أن يصبر وأن يكثر من القراءة والأدعية المباحة حتى يشفيه الله تعالى من ذلك. فضيلة الشيخ: الشخص الذي يستخدم السحر أو يزاول السحر ماذا عليه؟ فأجاب رحمه الله تعالى: سبق أن قلنا: إذا كان سحره بواسطة الشياطين أو لا يتوصل إليه إلا بالشرك فإن هذا شرك مخرج عن الملة. فضيلة الشيخ: والتصديق به؟ فأجاب رحمه الله تعالى: التصديق بالسحر نوعان: أحدهما: أن يصدق بأثره أن له تأثيرًا، وهذا لا بأس به؛ لأن هذا هو الواقع. والثاني: أن يصدق به إقرارًا، أي: مقرًا له وراضيًا به، فهذا محرم ولا يجوز. ***
يقول المستمع: إنني أعلم أن الذهاب إلى الكهنة والسحرة حرام شرعًا، فماذا يفعل من ابتلي بالسحر أي عمل له سحر وسبب له تعبًا وإعياءً؟ فهل يجوز له أن يذهب إلى السحرة لفك السحر؟ أم أن هناك آيات معينة في فك السحر أو التحصن من السحرة؟ وماذا يفعل هذا الشخص تجاه هذا الساحر خاصةً إذا كان يسكن بجواره؟ هل يتركه أم ينتقم منه؟ ماذا يفعل؟ أفيدونا مأجورين فأجاب رحمه الله تعالى: حل السحر يكون بأمرين: الأمر الأول: القراءات والتعوذات الشرعية، واللجوء إلى الله ﷾، وكثرة الدعاء والإلحاح فيه، وهذا لا شك أنه جائز، ومن أحسن ما يستعاذ به سورة الفلق وسورة الناس: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ) الآيات. فإذا داوم الإنسان على هذا فإنه يشفى بإذن الله ﷿. وأما النوع الثاني من الدواء مما يحل به السحر فهو: أن يحل بسحرٍ مثله، وهذا فيه خلافٌ بين أهل العلم، فمن أهل العلم من أجازه ومنهم من لم يجزه، والأقرب أنه لا يجوز؛ لأن النبي ﷺ سئل عن النشرة فقال: (هي من عمل الشيطان)، وإذا كانت من عمل الشيطان فإنه لا يجوز لنا أن نفعلها؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) . وأما ما ذكره عن جاره الذي يقول: إنه ساحر، فعليه أن يقوم بنصيحته ويخوفه من الله ﷿، ويبين له أن السحر كفرٌ وردة، وأن فيه أذيةً للمسلمين، فإن انتهى ومنَّ الله عليه بالهداية فهذا هو المطلوب، وإلا وجب أن يرفع إلى ولاة الأمور، ليقوموا بما يلزم نحو هذا الساحر. ***
هل يجوز الذهاب إلى السحرة لفك السحر؟ فأجاب رحمه الله تعالى: سئل النبي ﷺ عن النشرة فقال: (هي من عمل الشيطان) . وقسم العلماء ﵏ النشرة إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون نشرة بالأدعية أو بالرقى من القرآن والسنة، أو باستعمال مأكول أو مشروب مباح، فهذه جائزة ولا بأس بها. والثاني: أن تكون بالسحر، بمعنى: أن نفك السحر بسحر، فهذه هي التي أرادها النبي ﵊ في قوله: (هي من عمل الشيطان) . ***
أبو هبة من المغرب يقول: اضطر شخص إلى أن يذهب إلى أحد السحرة ليفك عن ابنه سحرًا فهل يجوز له ذلك؟ فأجاب رحمه الله تعالى: السحر لا شك أنه داء عضال، وأنه جناية من الساحر عظيمة، والساحر الذي يستعين بالأرواح الشيطانية أو بالشياطين أو بالجن كافر- والعياذ بالله -كفرًا مخرجًا عن الملة وإن صام وصلى؛ لقول الله ﵎: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) . فالساحر الذي يستعين بالشياطين والأرواح الشيطانية والجن كافر عليه أن يتوب إلى الله وأن يرجع إليه، وأن يقلع عن ما يفعل. أما المسحور فقد ابتلي ببلية ابتلاه الله بها على يد هذا الساحر، وله أن يسعى بقدر ما يستطيع لفك السحر عنه، وأحسن ما يكون في فك السحر كتاب الله ﷿ والآيات القرآنية التي جاءت بفك السحر، مثل: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، وقل هو الله أحد، وآية الكرسي، والآيتين في آخر سورة البقرة. فإذا قرأها قارئ مخلص مؤمن بها وكان المصاب بالسحر متقبلًا لها معتقدًا نفعها فإنها تنفعه بإذن الله ﷿، ويوجد ولله الحمد من يقوم بهذا بكثرة، وفي هذا غنى عن الذهاب إلى السحرة. نسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين السلامة من الآفات، وأن يقينا شر عباده. ***
إذا سحر أحدهم يذهبون إلى شيخ كما يسمي نفسه، ويكتب لهم ورقة فيها آيات من القرآن، ثم يحرقها في النار، ويجعلها تحت الشخص المسحور، حتى إذا اشتم رائحة الدخان نطق باسم من سحره، فيقول: سحرني فلان بن فلان ويذكر السبب الذي سحره من أجله. وقد أحدثت هذه الحالة الكثير من المشاكلات حتى وصل بعضها إلى السلطات، فما الحكم في هذا العمل من الفاعل والمفعول له؟ فأجاب رحمه الله تعالى: الحكم أن هذا لا يجوز، لو كان هذا الرجل الشيخ يكتب القرآن ويعطيه المريض فيشربه لكان هذا مما ورد عن السلف وكان هذا جائزًا وتأثيره ظاهر، أما كونه يكتب الآيات ثم يحرقها حتى يشم هذا المسحور دخانها فأخشى أن يكون هذا الإحراق امتهانًا للقرآن أمام الشياطين التي تريد من بني آدم أن يمتهن كتاب الله ﷿ حسًا ومعنى، وإلا فلا وجه للإحراق؛ لكونه يشم دخان هذا الورق الذي احترق، فالذي أرى في هذه الحال أنه لا يجوز أن يذهب إلى هذا الرجل ويؤخذ منه هذا الدواء، وأن يستعين المسحور بالأدوية الحسية الطبيعية المعروف تأثيرها، وبالدعاء، وبالآيات القرآنية، ومنها: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، فإن هاتين السورتين ما تعوذ متعوذ بمثلهما. ***
من السودان الطيب م. م. يقول: ما حكم الشرع في نظركم فضيلة الشيخ فيمن يترددون على الكهان والسحرة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: رأينا أن هذا لا يجوز؛ لأن النبي ﷺ قال: (من أتى عرافًا فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يومًا، أو قال: أربعين ليلة) . وهذا الأسلوب من أساليب التحريم؛ لأن منع قبول صلاته أربعين ليلة يدل على أنه أتى إثمًا، وكذلك من أتى كاهنًا، فإن إتيان الكاهن من جنس إتيان العراف، على أن بعض أهل العلم يقولون: إن العراف اسم لكل من يدعي معرفة الأمور عن طريق الغيب. فإن أتى كاهنًا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ، وذلك لأنه إذا سأله عن أمر من أمور الغيب فصدقه به، فقد كذّب قول الله تعالى: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّه) . فلا أحد يعلم المستقبل أبدًا، ومن ادعى علمه فقد كذب هذه الآية. ***
ف. ع. البارقي تقول: فضيلة الشيخ ما حكم الشرع في نظركم في رجلٍ يقول مثل هذا القول: لولا تحزين الناس لأخبرت كل إنسان باليوم الذي يموت فيه هذا الرجل. تقول: بأن والدي يصدق هذا الرجل ويقول بأنه عالم ولم يأتِ بعده أعلم منه، علمًا بأن هذا الرجل قد مات، ولكن والدي لم ينس هذا الرجل، فما حكم الشرع في نظركم في هذا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أقول: إنه إذا صدق هذا الرجل فقد كفر بما أنزل على محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأنه صدق بأمرٍ يناقض قول الله تعالى: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ) . ومعلومٌ أن وقت موت الإنسان غيبي لا يعلمه إلا الله ﷿، فمن ادعى علمه فهو كاذب، فالرجل الذي يدعي أنه يعلم متى يموت الناس كاذبٌ بلا شك، ومن يصدقه كافرٌ؛ لقوله تعالى: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ) . فنصيحتي لوالدك أن يتوب إلى الله ﷿ من تصديق هذا الرجل، وأن يعتقد أنه رجلٌ كذاب خرافي، لا يجوز أن يصدق بما يدعيه من علم الغيب. ***
المستمع أحمد الرفاعي له سؤال يقول فيه بالنسبة للشعوذة والدجل توجدان رغم ثقافة المواطنين بكثرة، وما زال الناس يرزحون تحت وطأتها، والإيمان بها عند ضعاف العقول. هل من نصيحة أو توجيه حول هذا السؤال؟ فأجاب رحمه الله تعالى: نعم النصيحة هو أن نلتزم بما دلت عليه السنة النبوية التي صدرت عن أنصح الخلق للخلق وأعلم الخلق بما ينفع الخلق محمد ﷺ، وقد نهى النبي ﷺ عن الكهانة وحذر من إتيان الكهان وقال: (من أتى عرافًا فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يومًا، ومن أتى كاهنًا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ .ونهى عن الطيرة، وهي: التشاؤم بمرئي أو مسموع أو زمان أو مكان. ونهى عن السحر وقال: (ليس منا من تكهن أوتكهن له، أو سحر أو سحر له) . كل هذا من أجل أن يسير الناس في حياتهم على حياة الجد وعدم التعلق بالمخلوقين، وأن يكلوا أمرهم إلى الله ﷿، وأن يكون تعلقهم به وحده حتى يكونوا في سيرهم راشدين مرشدين. والله الموفق. ***
المستمع نشوان حميد من العراق نينوى يقول: ماذا يعني تحضير الأرواح؟ وهل هذا موجود حقيقة أم خرافة؟ حيث يقال: إن هناك أشخاصًا يحضرون أرواح الأموات ويلتقون معهم ويكلمونهم، فهل هذا صحيح؟ ويقال: إنه توجد كتب عن تحضير الأرواح، فما رأيكم؟ وما حكم ممارسة مثل هذا العمل؟ فأجاب رحمه الله تعالى: هذا التحضير لأرواح الموتى لا يصح ولا يمكن أن يكون ثابتًا، وإذا قدر أن أحدًا زعم أنه حضر روح فلان وخاطبها وخاطبته فإن هذا شيطان يخاطبه بصوت ذلك الميت، فإن الأرواح بعد الموت محفوظة، كما قال الله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة.حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) . أي: لا يفرطون في حفظ هذه الروح. ثم إن الأرواح تكون بعد الموت في مقرها، ولا يمكن أن تحضر إلى الدنيا بأي حال من الأحوال. وتعاطي مثل هذا العمل محرم؛ لما فيه من الكذب والدجل وغش الناس وأكل المال بالباطل، فالواجب الحذر منه والتحذير أيضًا؛ لما فيه من المفاسد الكثيرة العظيمة. ***
رسالة من الأخوين يونس ومحمد ابني صالح بن سالم التوبي من سلطنة عمان يقولان: نحن نعلم علم اليقين أن الإسلام حرم الشعوذة وحاربها، ولكن يحدث أحيانًا أن يصاب شخص ما بأحد الأمراض فيراجع كل الأطباء المختصين بذلك المرض ولكن دون جدوى، وأخيرًا يقال له: إننا لم نعرف هذا الداء من قبل وليس عندنا له دواء، إلى أن يزداد عليه المرض أكثر فأكثر، وأخيرًا يقرر أن يذهب لأحد المنجمين مع أنه يعلم أن ذلك حرام، ففعلًا ذهب وما هي إلا أيام حتى بَرَأَ بحمد الله. فما رأيكم في مثل هذه الأحوال؟ فأجاب رحمه الله تعالى: رأينا في هذه الأحوال أن السائل حكم على نفسه بأنه فعل محرمًا؛ لأنه ذكر أنه يعلم أنه حرام، وأن الإتيان إلى الكهان والمنجمين محرم، وإذا كان محرمًا فإنه لا يجوز للإنسان أن يذهب إليهم؛ لأن الله تعالى لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها، والواجب على هذا الذي فعل ما فعل، الواجب عليه أن يتوب إلى الله ﷾ من هذا العمل، وأن يكثر من الاستغفار والتوبة والعمل الصالح لعل الله ﷾ أن يعفو عنه. ومن أصيب بمثل هذه الأمور فإن له طريقًا مفيدًا جدًا بل هو أفيد الأشياء لمن وفق له، وهو: القراءة على هذا المصاب بالآيات القرآنية، وبما صح عن النبي ﷺ من الأحاديث النبوية التي يستشفى بها، ففيها الشفاء وفيها الكفاية وفيها العافية. ***
أسمع كثيرًا عندنا بوجود كنوز مدفونة وموضوعة قديمًا في باطن الأرض وعليها رصد من الجن، ولكي يستخرجوا هذا الكنز يذهب العارفون لأماكنها للشيخ الفلاني وعنده علم كافٍ بعلم استخراج الكنز وعلم التعامل مع الجن، فيقرؤون عليه نوعًا من آيات القرآن الكريم والطلاسم ويقال بأنهم فعلًا يستخرجونها ويظهرونها ويقدرون على هزيمة الجن، هل هذا العمل جائز أم شعوذة؟ أرجو بهذا إفادة فأجاب رحمه الله تعالى: هذا العمل ليس بجائز، فإن هذه الطلاسم التي يحضرون بها الجن ويستخدمونهم بها لا تخلو من شرك في الغالب، والشرك أمره خطير، قال الله تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) . والذي يذهب إليهم يغريهم ويغرهم، يغريهم بأنفسهم وأنهم على حق ويغرهم بما يعطيهم من الأموال. فالواجب مقاطعة هؤلاء وأن يدع الإنسان الذهاب إليهم، وأن يحذر إخوانه المسلمين من الذهاب إليهم، والغالب من أمثال هؤلاء أنهم يلعبون على الناس ويبتزون أموالهم بغير حق ويقولون القول تخرصًا، ثم إن وافق أخذوا ينشرونه بين الناس ويقولون: نحن قلنا وصار كذا نحن قلنا وصار كذا، وإن لم يوافق ادعوا دعاوي باطلة أنها هي التي منعت هذا الشيء. وإني أوجه النصيحة بهذه المناسبة إلى من ابتلوا بهذا الأمر وأقول لهم: احذروا بأن تمتطوا الكذب على الناس والشرك بالله وأخذ أموال الناس بالباطل، فإن أمد الدنيا قريب والحساب يوم القيامة عسير، وعليكم أن تتوبوا إلى الله تعالى من هذا العمل وأن تصححوا أعمالكم وتطيبوا أموالكم. والله الموفق. ***
رسالة وردتنا من شخص من اليمن وهو مقيم بالسعودية في الدمام يقول المرسل محمد بن علي الجبلي: في مدينة عمران باليمن امرأة تدعى السندية لها عشرون عاما ً تسلب أموال الناس، ويقصدها الكثير من الجهال يسألونها عن المغتربين ما بهم ومتى يأتون؟ ويقصدها المرضى للشفاء. وإذا حضروا عندها جاءت بغطاء ووضعته على نفسها ثم تقول بصوت متغير: فلان يأتي بعد كذا يوم أو شهر أو لا يأتي، والمريض فلان يشفى وهذا حرز له أو لا يفيد معه الحرز، وتخبر النساء عن ما يكنه لهن الأزواج، حتى إن زوجتي ذهبت لها وقالت لها: إن زوجك يفكر في الزواج فأرسلت لي زوجتي ورقة تطلب طلاقها، فأرسلتها لها وفيها الخلوع بالثلاث هل هذا الطلاق صحيح أم باطل؟ علمًا أن له ستة شهور ولا أعلم ما السبب. وهذه المرأة تدعي أن معها أشرافًا يخبرونها، وكثيرًا ما تقول للرجال: إن لزوجاتكم رجالًا غيركم لتوقع بين الزوجات وأزواجهن. فهل في الجن أشراف يعلمون الغيب؟ أفيدونا بدقة عن هذا الموضوع. فأجاب رحمه الله تعالى: هذه المرأة من الكهان؛ لأنها تدعي أنها تعلم عن المستقبل، وكل من يدعي أنه يعلم المستقبل فإنه كاهن كاذب لا يجوز الإتيان إليه ولا يجوز تصديقه، بل إن تصديقه تكذيب للقرآن، فإن الله تعالى يقول: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) . والغيب ما غاب عن الإنسان من الأمور المستقبلة فلا يعلمه إلا الله ﷿، وهذه المرأة التي تدعيه هي أيضًا مكذبةٌ للقرآن، فيجب على ولاة الأمور أن يمنعوا مثل هذه الأمور في بلادهم، حتى لا يوقعوا الناس فيما يخالف عقيدتهم وفيما يكذب كلام الله ورسوله ﷺ، أما ما تدعيه هذه المرأة من علم الغيب فإنه لا يجوز تصديقه أبدًا، وإذا قدر أن ما تخبر به يقع منه شيء فإنما ذلك عن مصادفة أو عن أمر استمع من السماع وتضيف هي إليه عدة كذبات لتموه على باطلها. وأما بالنسبة لما تدعيه من مكالمة الأشراف من الجن لها فهذا أيضًا دعوى كاذبة؛ لأن الكاهن بجميع ما يقول وجميع ما يذكر من مؤثرات لكهانته يجب تكذيبه، والجن لا يعلم الغيب بنص القرآن، يقول الله تعالى: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ "يعني: سليمان" مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ "يعني: عصاه" فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) . فلا أحد يعلم الغيب لا من الجن ولا من الملائكة ولا من الإنس: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ) . وقال ﷾: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) . وأما بالنسبة لقوله: إنه خالع زوجته ثلاثًا فهذه مسألة الطلاق الثلاث، وإذا كان يريد الرجوع إلى زوجته فإنه موضع خلاف بين أهل العلم، هل له أن يراجعها إذا لم يسبق له طلقتان على هذه المرأة أو ليس له أن يراجعها؟ والراجح أنه يجوز له أن يراجعها إذا لم يسبق له طلقتان على ه