Fatawa Hadithiyya
الفتاوى الحديثية
Publisher
دار الفكر
وَالأٌّرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ﴾ [النَّمْل: ٦٥] . وَقَالَ عَن عِيسَى ﵊: ﴿وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ﴾ [آل عمرَان: ٤٩] الْآيَة، فَجعل ذَلِك من (دَلَائِل النُّبُوَّة)، فَلَو أمكن الِاطِّلَاع عَلَيْهِ بِنَحْوِ خطِّ مِنْ غير نَبِي لما كَانَ دَلِيلا، لِأَنَّهُ لم يكن معْجِزًا، فعلُم أنَّ ادِّعَاء معرفَة مَا يسره النَّاس، أَو ينطوون عَلَيْهِ أَو مَا يَقع مِنْ غلاء الأسْعار ورخصها، ونزول الْمَطَر وَوُقُوع الْقَتْل والفتن، وَغير ذَلِك من المغِيبات، فِيهِ إبِْطَال ل (دَلَائِل النُّبُوَّة) وَتَكْذيب لِلْقُرْآنِ الْعَزِيز، وَفِي الحَدِيث الْمَشْهُور: (من صدّق كَاهِنًا أَو عرَّافًا) وَفِي بَعْضهَا (أَو منجمًا فقد كفر بِمَا أنزل على مُحَمَّد) . وَقَالَ ﷺ أَيْضا حاكيًا عَن الله تَعَالَى: (أصْبح من عبَادي مُؤمن وَكَافِر) الحَدِيث، وَفِيه (أَن من قَالَ مُطِرْنا بنَوْء كَذَا فَهُوَ كَافِر بِي مُؤمن بالكواكب) وَمن الْمحَال أَن يَصح لغير النَّبِي ﷺ توالي الإخبارات بالمغيبات من غير أَن يَقع مِنْهُ غلط أَو كذب، بل مَا يَقع مِنْهُ صدق إِنَّمَا هُوَ مصادفة لَا قصد، على أَنه إِنَّمَا يكون فِي الْأَمر الإجمالي لَا التفصيلي، لَكِن المتعاطون لَهُ يَغْترون بذلك، ويعتذرون عَمَّا سواهُ، وَلَا يَنْفَعهُمْ ذَلِك إذْ لَو فاتَشْتَهم لم تَجِد لَهُم سَبِيلا إِلَى علم ذَلِك، إِلَّا مُجَرّد الحزر والتخْمين، وَهَذَا يشاركهم فِيهِ سَائِر النَّاس. وَقد خبأ النَّبِي ﷺ لِابْنِ صياد الكاهن قَوْله تَعَالَى: ﴿فَ ارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ﴾ [الدُّخان: ١٠] فَقَالَ هُوَ الدُّخ، فَقَالَ النَّبِي ﷺ: (إخسأ فلنْ تَعْدو قدرك) أَي لَا يمكنك الْإِخْبَار بالأشياء على تفاصيلها كَخَبَر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، ومِنْ ذَلِك نظر هِرقل فِي النُّجُوم فَرَأى أَن ملك الْخِتَان قد ظهر فَلم يخبر بِأَمْر تفصيلي وَإِنَّمَا أخبر بِأَمْر إجمالي أهمَّه وكدَّر حَاله، وَلم يظْهر لَهُ بنظره فِي النُّجُوم شَيْء من أَحْوَاله ﷺ وَمَا انْطوتْ عَلَيْهِ بعثته من التَّفْصِيل والْحَدِيث الْمَذْكُور فِي مُسلم لَكِن يتَعَيَّن تَأْوِيله على مَا يُطَابق الْقُرْآن وَمَا اتّفق عَلَيْهِ إِجْمَاع أهل السّنة، وَذَلِكَ بِأَن يحمل كَمَا قَالَه الْخطابِيّ وَغَيره قَوْله: (فَمن وَافق خطه) على الْإِنْكَار لَا الْإِخْبَار لِأَن الحَدِيث خرج على سُؤال من كَانَ يعْتَقد علم ذَلِك النَّبِي ﷺ بالمغيبات من جِهَة الْخط على مَا اعتقدتْ الْعَرَب فَأَجَابَهُ ﷺ من خَواص الْأَنْبِيَاء بِمَا يَقْتَضِي إِنْكَار أنْ يتشبَّه بِهِ أحدْهم، إِذْ هُوَ من خواصهم ومعجزاتهم الدَّالَّة على النُّبُوَّة فَهُوَ كَلَام ظَاهره الْخَبَر وَالْمرَاد بِهِ الْإِنْكَار. وَمثله فِي الْقُرْآن وَالسّنة كثير كَقَوْلِه تَعَالَى: ﴿فَ اعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ﴾ [الزمر: ١٥] وَكَقَوْلِه ﷺ: (نَحن أَحَق بِالشَّكِّ من إِبْرَاهِيم) فَظَاهره تَحْقِيق الشَّك فِي المعتقدات، وَالْمرَاد نفي الشَّك عَن إِبْرَاهِيم، أَو يحمل على أَنه علق الْحل بالموافقة بِخَط ذَلِك النَّبِي، وَهِي غير وَاقعَة فِي ظن الْفَاعِل إذْ لَا دَلِيل عَلَيْهَا إِلَّا بِخَبَر مَعْصُوم، وَذَلِكَ لم يُوجد فَبَقيَ النَّهْي على حَاله لِأَنَّهُ علق الْحل بِشَرْط، وَلم يُوجد، وَهَذَا أولى من الأول، ثمَّ رَأَيْت القَاضِي عياضًا قَالَ: وَالْأَظْهَر خلاف الأول لَكِن مِنْ أَيْن تُعلم الْمُوَافقَة، وَالشَّرْع منع التَّعَرُّض وادعاء الْغَيْب جملَة، وَمَعْنَاهُ عِنْدِي فَمن وَافق خطِه فَذَاك الَّذِي تَجِدُونَ إِصَابَته، لَا أَنه يُرِيد إِبَاحَة ذَلِك لفَاعِله على مَا تَأَوَّلَه بَعضهم، وَعَلِيهِ يدل ظَاهر كَلَام سَاقه عَن ابْن عَبَّاس ﵄، وَمِمَّا يدل على ذَلِك مَا جَاءَ فِي بعض الطّرق لذَلِك الحَدِيث (وإنْ وَافق خَطُّه عِلْمَ النَّبِي ﷺ عَلِم) وَفِي بَعْضهَا (أَن نَبيا من الْأَنْبِيَاء كَانَ يَأْتِيهِ أمره فِي الْخط فَمَنْ وَافق خطه عِلْمُ النَّبِي عَلِم) وَهَذَا يدل على أَنه لَيْسَ على ظَاهره وَإِلَّا لوَجَبَ لمن وَافق خطه أَن يعلم عين المغيبات الَّتِي كَانَ يعلمهَا ذَلِك النَّبِي وَأمر بهَا فِي خطه من الْأَوَامِر والنواهي والتحليل وَالتَّحْرِيم. وحينئذٍ فَيلْزم مساواته لَهُ فِي النبوّة، فَلَمَّا بَطل حمله لَهُ على ظَاهره لزم تَأْوِيله على مَا مر، وَعلم أَن الله تَعَالَى خص ذَلِك النَّبِي ﷺ بالخط وَجعله عَلامَة لما يَأْمُرهُ بِهِ وينهاه عَنهُ، مثل مَا جعل لنوح صلى الله على نَبينَا وَعَلِيهِ وَسلم من فَور التَّنور عَلامَة الْغَرق لِقَوْمِهِ، وفقد الْحُوت عَلامَة لمُوسَى على لِقَاء الْخضر صلى الله على نَبينَا وَعَلَيْهِمَا وَسلم، وَمنع زَكَرِيَّا تكليم النَّاس ثَلَاثَة أَيَّام عَلامَة على حمل زَوجته، وَمَا فِي سُورَة الْفَتْح عَلامَة لنبينا ﷺ على حُضُور أَجله وَمثله كثير، وَمن خَواص الْأَنْبِيَاء ومعجزاتهم وَمَا رُوِيَ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ﴾ [الْأَحْقَاف: ٤] أَنه الْخط فَغير مُتَعَيّن فِي الْآيَة، وبفرضه فتأويله أَن الْعَرَب كَانُوا أهل كهَانَة وزَجْر وعيافة فَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [الْأَحْقَاف: ٤] الْآيَات أَي ائْتُونِي بِكِتَاب يشْهد بِمَا ادّعيتموه بِلَفْظِهِ أَو أثارة من علم وَهُوَ الْخط على زعمكم أَنكُمْ تدينون بِهِ، فَلَا تقدرون على إِقَامَة حجَّة لعبادة الْآلهَة، وللمفسرين فِي هَذِه الأثار أقاويل أخر غير مَا ذكر وَتَفْسِير النُّجُوم بالخطوط الْوَاقِع
1 / 86