بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
إِنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ.
أما بعد،،،
فإن العبادة والزهد وترقيق القلوب وتزكية النفوس وتطهيرها من الأمراض ومعالجتها من الأهواء: يجب فيها اتباع الصحابة ﵃، فهم أعرف الناس وأفقههم بالقرآن والسنة، فقد زكّاهم الله ﷿ في القرآن العظيم وعلى لسان رسوله الكريم ﷺ بأفضل التزكيات، فلا توجد هذه التزكيات في أحد ممن جاء بعدهم، ونحن مأمورون باقتفاء آثارهم والاقتداء بهديهم والتمسك بسننهم، فهديهم هو الفارق بين السنة والبدعة، فكان الصحابة ﵃ يستدلون على ضلال أهل البدع بمفارقتهم للصحابة ﵃، كما قال عبد الله بن مسعود ﵁ لأهل الحلق إنكارًا عليهم: لقد فضلتم أصحاب محمد علما (١).
_________
(١) رواه الدارمي (٢١٠) وابن وضاح في البدع والنهي عنها (٩) واللفظ له.
1 / 4
وكما قال ابن عباس للخوارج الذين خرجوا على علي ﵁: أتيتكم من عند أصحاب النبي ﷺ المهاجرين، والأنصار، ومن عند ابن عم النبي ﷺ وصهره، وعليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد (١).
فعلامة الإحداث في العبادات: حينما لا ترى الصحابة ﵃ يتعبدون بها، فالشيطان يزيّن العبادة ويُبهرجها في نظر العابد من حيث الذوق والوجد لا من حيث الوحي، فينبغي الحذر من إحداث منسك يُتنسك به مبني على ما تهواه النفس، قال حذيفة ﵁: كل عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله، فلا تتعبدوا بها؛ فإن الأول لم يدع للآخر مقالًا؛ فاتقوا الله يا معشر القراء، خذوا طريق من كان قبلكم (٢).
فلو كان خيرًا لكانوا أسبق الناس إليه، فما تركوا من خير إلا ودلّونا عليه، فإنه ما حدثت البدع ولا ظهرت الأهواء إلا لما اتخذ الناس مسلكًا وطريقًا غير طريق الصحابة ﵃.
_________
(١) رواه النسائي في السنن الكبرى (٨٥٢٢).
(٢) الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع (ص: ٧٧).
1 / 5
وقد تنوعت تصانيف أئمة السلف في الزهد ورقائق القلوب مثل كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وأبي داود السجستاني وأبي حاتم الرازي وغيرهم، فكانوا يحرصون أشد الحرص على ذكر آثار الصحابة والتابعين وضمّها مع أحاديث المرفوعة إلى النبي ﷺ لعلمهم أن العبادات لا تقبل إلا ما جاء عنهم.
بخلاف المتنسكين بالتزهد البدعي فإنهم يعظّمون شيوخهم ويتبعونهم ويُعرضون عن آثار الصحابة والتابعين، ويرققون قلوبهم بالمحدثات من العبادات كالأذكار المحدثة والسماع البدعي الذي يسمونه بالأناشيد، فأصبحت تلك شعارات الجماعات الحركية والطوائف البدعية كالتبليغية الصوفية وغيرهم.
وتلك الجماعات الحركية السياسية يجمعون بين التظاهر في التدين والحث على العبادات وبين الخروج على الحكام والأمراء وتكفيرهم، وهذا الذي أخبر به النبي ﷺ في هيئة الخوارج وأنهم لهم من النسك والعبادات مما يُغتر بهم، فقال: «يخرج فيكم، أو يكون فيكم، قوم يتعبدون ويتدينون، حتى يعجبوكم وتعجبهم أنفسهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» (١).
_________
(١) رواه ابن أبي عاصم في السنة (٢/ ٤٦١) وصححه الألباني.
1 / 6
وفي رواية: «يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، ويقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» (١).
فإخلاص العبادة لله تعالى وخشيته واتباع سنن النبي ﷺ على فهم الصحابة الأخيار هو من أعظم ما تتزكى به النفس، ولذا خاف النبي ﷺ على أمته من الرياء فقال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال: «الرياء» (٢).
فيُبتلى العابد بشيء من الرياء فيحب أن يختص بعبادة ويتميز بها عن الناس، وهذا حال بعض السالكين والمتنسكين لا يطلبون التقرب الى الله بل مطلوبهم نوع من العلو على الخلق (٣) فكم من مذنب عاصي يكون محبًا لله ورسوله ﷺ، كما قال النبي ﷺ في شارب الخمر الذي أمر بجلده: «إنه يحب الله
_________
(١) رواه البخاري (٥٠٥٨) ومسلم (١٠٦٤).
(٢) رواه أحمد (٣٩/ ٣٩) وابن أبي شيبة (٨٤٠٣) وابن خزيمة (٩٣٧) وغيرهم من حديث محمود بن لبيد ﵁ وحسنه ابن حجر في البلوغ (١٤٨٤) وجوده الألباني في الصحيحة (٩٥١).
(٣) انظر الرد على الشاذلي (ص ٢٤).
1 / 7
ورسوله» (١)، وكم من عابد زاهد قد يكون في قلبه من البدعة والكبر ما يكون منحرفًا عن السنة، فالبدعة أشد من الكبائر كما قال سفيان الثوري: «البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها» (٢).
فنسأل الله تعالى أن يهدينا ويثبتنا على دينه وسنة نبيه ﷺ ويجعلنا لآثار أصحابه ﵃ مقتدين متمسكين بهم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وصف الرسالة:
هذا الفصل جزء منه مطبوع من ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ ويقع في المجلد (١٠/ ٦٢٥)، والجزء الآخر قد سقط منه قرابة النصف الثاني من الرسالة، وزاد الاهتمام بها حيث قد حصل سقط من الكلمات والجُمل
_________
(١) رواه البخاري (٦٧٨٠).
(٢) رواه ابن الجعد في مسنده (١٨٠٩) قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: ومعنى قولهم إن البدعة لا يتاب منها: أن المبتدع الذي يتخذ دينا لم يشرعه الله ولا رسوله قد زين له سوء عمله فرآه حسنا فهو لا يتوب ما دام يراه حسنا لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه. أو بأنه ترك حسنا مأمورا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله. فما دام يرى فعله حسنا وهو سيئ في نفس الأمر فإنه لا يتوب. ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق كما هدى ﷾ من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال. مجموع الفتاوى (١٠/ ٩).
1 / 8