وقسم عمر هذا الفيء الذي أبكاه بين الناس على ملأ وتشاور وإجماع من المسلمين، ونفل من ذلك بعض أهل المدينة، وقد صنع في هذه القسمة ما صنعه حين قسم الفيء الذي بعث به سعد على إثر غزوة القادسية.
حضر زياد بن أبي سفيان قسمة هذا الفيء، ثم رجع إلى سعد بن أبي وقاص بكتاب عمر وأمره ألا يطارد الفرس داخل بلادهم، وقرأ سعد الكتاب فأكبر حكمة أمير المؤمنين، ذلك أنه يوم كتب إلى عمر باجتماع الفرس بجلولاء وإمداد يزدجرد إياهم بالقوات من حلوان، كتب إليه كذلك بأن أهل الموصل من الروم اجتمعوا بتكريت على دجلة إلى شمال المدائن، وأن كثيرين من نصارى العرب من إياد وتغلب والنمر انضموا إليهم ومالئوهم على مقاومة المسلمين، وكتب إليه عمر، فبعث عبد الله بن المعتم إلى تكريت في خمسة آلاف، ساروا إليها وحاصروها أربعين يوما، وأرهق الحصار المدافعين عن المدينة، فعزم الروم على الفرار في السفن بأموالهم، وعرف ابن المعتم نبأهم، فراسل العرب النصارى يدعوهم إلى الإسلام وإلى نصرته على أن يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، فلما أجابوه إلى ما طلب ألقى إليهم أن يأخذوا أبواب المدينة المؤدية إلى السفن على الروم، فإذا خرجوا ليركبوها قتلوا منهم من قدروا على قتله، وحمل المسلمون على المدينة، وكبروا وكبر الأعراب من الجانب الآخر، فاضطرب الروم وأخذوا في الخروج من الأبواب، فأخذتهم سيوف المسلمين من أمامهم وسيوف الأعراب الذين أسلموا ليلتئذ من خلفهم، لم يفلت منهم أحد، عند ذلك جرد عبد الله بن المعتم ربعي بن الأفكل العنزي ليسير إلى الموصل، تنفيذا لعهد عمر في كتابه إلى سعد، وسار ابن الأفكل مسرعا ومعه من أسلم من إياد والنمر وتغلب، ففجأ الحصنين نينوى والموصل قبل وصول أنباء تكريت إليهما، وأراد من بالحصنين المقاومة، فلما عرفوا ما أصاب تكريت أجابوا إلى الصلح والجزية، وقسمت مغانم تكريت فبلغ نفل الفارس ثلاثة آلاف ونفل الراجل ألف درهم.
بلغت هزائم الروم بتكريت والموصل سمع إخوانهم بالشام، وكانوا يلقون من بأس خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح ما سنقص نبأه بعد حين، فتولاهم الفزع أن يبلغ المسلمون بالعراق تخوم الشام فيأخذوهم من خلفهم، على حين يقاتلهم خالد وأبو عبيدة يدفعونهم متراجعين إلى تلك التخوم، بذلك يحصرون فلا يجدون ملجأ إلا الإذعان والتسليم؛ لذا بعثوا إلى أهل الجزيرة الموالين للروم يستعدونهم على من عندهم من المسلمين، وبلغت أنباؤهم هذه سعدا حين رجع هاشم بن عتبة منتصرا من جلولاء، كما بلغه أن جندا عظيما من أهل الجزيرة اجتمعوا بمدينة هيت على شاطئ الفرات، فأرسل إليهم بأمر عمر جيشا جعل عليه عمرو بن مالك، وألفاهم عمرو تحصنوا بالمدينة وحفروا خندقا حولها، فخلف الحارث بن يزيد على حصارهم بعد أن تبين منعة موقفهم، وسار هو شمالا إلى قرقيسياء عند ملتقى الفرات والخابور على تخوم ما بين العراق والشام، فأخذها عنوة على غرة من أهلها فأجابوه إلى الجزية؛ ثم كتب إلى الحارث بن يزيد أن يخلي عن الجنود الذين تحصنوا بهيت إذا هم خرجوا منها، وإلا حفر حول خندقهم خندقا وجعل أبوابه من ناحيته، وبعث الحارث إلى هيت بما عزم من ذلك، فأيقنوا أنه الحصار حتى الموت، فأذعنوا وانصرفوا عن المدينة واحتلها المسلمون.
عرف سعد أنباء هيت وقرقيسياء وانتصار جنوده فيهما، فازداد إيمانا بحكمة عمر إذ أمره ألا يتعقب جنود يزدجرد في جبال فارس وسهولها، فلو أنه تعقبهم بقواته ثم انتقض العراق أو حاول الفرس إثارته لتعذر عليه قمع الفتنة فيه، ولقد بلغه بعد انتصار هاشم بجلولاء أن قوات الفرس اجتمعت بماسبذان على تخوم ما بين العراق العربي من الشرق وفارس من الغرب، فأرسل إليهم ضرار بن الخطاب في جيش قاتلهم بسهل ماسبذان، فهزمهم وقتل قائدهم، ثم طردهم إلى مدينة ماسبذان فاستولى عليها عنوة ورأى أهلها فروا في الجبال، فدعاهم فاستجابوا إلى الجزية، فأقرهم في مدينتهم.
أدى انتصار هذه الحملات المتلاحقة في شمال العراق وشرقه إلى خضوع أهله لسلطان المسلمين وإذعانهم لأمرهم، وقد أذعن جنوب العراق قبل أن يذعن شماله وشرقه؛ ذلك بأن أهله رأوا بأس المسلمين منذ غزاهم خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة في عهد أبي بكر، وقد انتقض هذا الجنوب على سلطان المسلمين حين انتقض العراق كله على هذا السلطان، فلما وجه عمر سعد بن أبي وقاص إلى القادسية وجه عتبة بن غزوان لغزو الجنوب، فسار ومعه عرفجة بن هرثمة البارقي إلى الأبلة، على مقربة من موقع البصرة اليوم، فاستردها من الفرس بعد قتال ظل سجالا أسابيع عدة، وكانت الأبلة يومئذ مرفأ ترسو به السفن القادمة من الصين والهند والذاهبة إليهما، وكان به من الهنود المشتغلين بالتجارة عدد كبير، وحمل أهل الأبلة ما خف من متاعهم، وخرجوا منها حين انهزم المدافعون عنها، ودخلها المسلمون فغنموا ما فيها واقتسموه، ثم عبر عتبة النهر على أثر الجيش المنهزم وتعقبه، واستولى على دست ميسان وأخذ مرزبانها أسيرا بعث بمنطقته إلى المدينة، وعرف عمر ممن حمل المنطقة إليه أن العرب بالعراق شغفوا بأنعم الدنيا حبا، فخشي مغبة ذلك عليهم، ودعا إليه عتبة يسأله عما أصابهم، واستخلف عتبة مجاشع بن مسعود على الجيش والمغيرة بن شعبة على الصلاة، فلما عرف عمر استخلافه مجاشعا أظهر الغضب منه وقال له: تستعمل رجلا من أهل الوبر على أهل المدر! أتدري ما حدث؟ وذكر له أن المغيرة بن شعبة هزم الفرس بالمرغاب، وأنه برغم انتصار مجاشع بالفرات؛ قد أسند أمر الجند إلى المغيرة، حتى لا يكون لبدوي إمارة على قرشي أو على رجل من أصحاب رسول الله.
لم يكن انتصار المغيرة على الفرس يسيرا؛ فقد اشتد القتال وتداوله الفريقان واستمات فيه الفرس، وإنهم لكذلك إذ رأوا كتيبة حسبوها مددا للمسلمين فانهدت قوتهم فانهزموا، ولم تكن هذه الكتيبة إلا نساء المسلمين خرجن من أخبيتهن، واتخذن من خمرهن رايات وسرن بها يردن معاونة الرجال.
وأمر عتبة بالعودة إلى عمله، فاستعفاه من ذلك فأبى، وإن عتبة لفي طريقه إلى العراق إذ وافاه أجله، فظل المغيرة على إمارة الجند مكانه.
3 •••
اطمأن الأمر للمسلمين في العراق فآن لهم أن يفكروا في نظامه وفي موقفهم منه، أتراهم يتركونه مكتفين بأن يتركوا فيه من رجالهم من يفقهون أهله الذين أسلموا في دينهم، ومن يحصلون الجزية ممن لم يسلموا؟ ذلك ما كان يفعله رسول الله حين كان الناس من قبائل شبه الجزيرة ومن مدنها يعلنون إسلامهم، وكان يبعث إليهم من يفقههم في دينهم، ومن يقبض منهم الزكاة، ترى لو أن عمر فعل ذلك بالعراق أفكان يأمن العاقبة؟ إن رسول الله لم يكن غزا القبائل ولم يكن فتح المدن التي أسلمت، اللهم إلا مكة والطائف، مع ذلك انتهز المرتدون في أرجاء شبه الجزيرة أول فرصة فأعلنوا تمردهم قبيل وفاته، ثم انتشرت الردة حين بيعة أبي بكر كما تنتشر النار في الهشيم، هذا وأهل شبه الجزيرة كانوا عربا، فلم يكن سلطان المدينة ليثقل عليهم، ولم تكن نفوسهم لتنفر منه كما ينفر غير العرب، طبيعي وقد أدت ردة العرب إلى ما عرفت من حروب أن يخشى عمر تمرد الفرس من أهل العراق ولم يكن أكثرهم قد أسلموا، بل تمرد عرب العراق أنفسهم من أسلم منهم ومن بقي على دينه، فقد ألف هؤلاء جميعا سلطان الحيرة وسلطان المدائن وما كان يحيط بهذا السلطان من نعمة ورفاهية، كما ألفوا لونا من الحياة فيه ترف لا يتفق في كثير والحياة العربية في شبه الجزيرة، ولا يتفق في كثير وتعاليم الدين الذي أوحاه الله إلى النبي العربي، فلو أنهم تركوا وشأنهم لكانوا أدنى من عرب شبه الجزيرة إلى التمرد، وعمر أبعد نظرا وأشد حذرا من أن يدع الفتنة يذر قرنها في بلاد فتحها، وهي بعد تجاور شبه الجزيرة وقد يمتد إليها من هذه الفتنة شرر ما أغنى أمير المؤمنين عن التقدير لنتائجه.
لم يكن ذلك وحده ما يخلق بعمر أن يخشاه، فلو أنه أمن تمرد أهل العراق إذا تركهم وترك معهم من المسلمين من يفقه الذين أسلموا منهم في دينهم لوجب عليه أن يحسب الحساب للفرس الذين انهزموا أمام جيوشه إلى ما وراء جبالهم، لقد تمنى لو أن بينه وبينهم جبلا من نار فلا يخلص إليهم ولا يخلصون إليه، ولكن هذا الجبل لم يكن موجودا، وليس عجبا أن يفكر الفرس الذين انهزموا إلى سهول إيران في الرجعة إلى العراق ليثأروا لأنفسهم وليستردوا ما ضاع منهم، كما فعلوا بعد أن استولى خالد بن الوليد على الحيرة والأنبار ثم فصل إلى الشام مددا لجند المسلمين فيه، وثأر الفرس لأنفسهم أدنى إلى النجاح إذا انسحبت قوات المسلمين من العراق، أما إن بقيت به وعززت مراكزها فيه فسيتردد الفرس طويلا قبل التفكير في الثأر؛ فإذا أقدموا عليه كانت جيوش أمير المؤمنين في منعة وقوة وعدة للقائهم والقضاء عليهم وردهم إلى ما وراء جبالهم، بل كانت في عدة للتقدم في سهولهم والاستيلاء على بلادهم، كما استولت على العراق وأزالت عنه سلطانهم .
Unknown page