صلى الله عليه وسلم
بيت المقدس صلى على أطلال هيكل سليمان إماما لإبراهيم وعيسى وموسى، ومن يوم تمت هذه المعجزة بإذن الله لم يذهب رسول الله إلى فلسطين ولم يرد المسجد الأقصى، وخلفه أبو بكر فلم يجعل الله من حظه أن يرده، وقد أوتي عمر هذا الحظ؛ فتحت له بيت المقدس أبوابها، واستقبلته استقبال الظافر المحبوب لعدله وتسامحه وحرصه على ألا يكره أحد في دينه، وبيت المقدس هي من بعد أول قبلة للمسلمين، وهي للنصارى مكان قبر المسيح، ولليهود أرض المعاد، أفنعمة أكبر من هذه النعمة يشكر عمر ربه عليها! فإذا أقام الليل بطوله مصليا، فلن يقضي إلا بعض ما عليه من حق، و
إن ربك من بعدها لغفور رحيم .
أصبح عمر فجاء إليه صفرنيوس فسار معه خلال المدينة يريه آثارها ومواضع الحج منها، وكم ببيت المقدس من آثار! فهو بلد الرسل والأنبياء: إليه سار كليم الله يوم خرج من مصر ومعه بنو إسرائيل؛ وبه كانت قصة صلب المسيح، وتقوم لذلك فيه كنيسة القيامة، يذكر المسيحيون أن جثمانه دفن بها ثم رفع إلى السماء منها، وبه من آثار الأنبياء محراب داود وصخرة يعقوب، وهي الصخرة التي تذكر كتب السيرة أن رسول الله صعد منها في المعراج، هذا إلى أطلال هيكل سليمان التي بقيت تذكر ملكا عظيما وأنبياء عدة، ولقد قام الكثير من هذه الآثار على أطلال معابد وثنية شادها حكام فلسطين من قبل رومية، وشاد مثلها قبلهم حكام فلسطين من قبل مصر، ولعل صفرنيوس لم يضن على عمر فذكر له ما كان معروفا من قصص هذه المعابد، وهو كثير، وبينما الرجلان بكنيسة القيامة أدرك عمر موعد الصلاة، فطلب البطريق إليه أن يصلي بها فهي من مساجد الله، واعتذر عمر بأنه إن يفعل يتبعه المسلمون على تعاقب القرون، إذ يرون عمله سنة مستحبة، فإذا فعلوا أخرجوا النصارى من كنيستهم وخالفوا عهد الأمان، واعتذر للسبب نفسه عن الصلاة بكنيسة قسطنطين المجاورة لكنيسة القيامة، وكانوا قد مدوا له عند بابها بساطا يصلي عليه،
7
وإنما صلى في مكان قريب من الصخرة المقدسة على أطلال الهيكل، وفي هذا المكان شيد المسلمون من بعد مسجدا فخما، هو المسجد الأقصى، أما في عهد عمر فقد كان هذا المسجد ساذج البناء كمسجد النبي بالمدينة يوم أقيم.
يذهب بعض المستشرقين إلى أن عمر إنما اعتذر عن الصلاة بكنيسة القيامة لما كان بها من صور وتماثيل، وأنه أبدى العذر الذي ذكرناه سترا للسبب الحق، وحرصا على ألا يجرح شعور البطريق الشيخ، وهذا تفسير غير صحيح لحادث تاريخي جليل الخطر في علاقة أهل الأديان المختلفة بعضهم ببعض في مختلف بقاع الأرض، ومما يشهد بعدم صحته أن عمر زار كنيسة المهد ببيت لحم مع صفرنيوس بعد زيارته كنيسة القيامة، فلما أدركه موعد الصلاة صلى بها، وفيها من التماثيل والصور والصلبان ما بكنيسة القيامة بل ما يزيد عليه، ثم إنه خشي أن يتخذ المسلمون صلاته بها سنة فيخرجون منها أصحابها، فكتب للبطريق عهدا خاصا يجعل هذه الكنيسة للنصارى، وألا يدخلها من المسلمين أكثر من شخص واحد في المرة، هذا، وقد رأينا سعد بن أبي وقاص اتخذ إيوان كسرى مصلى للمسلمين ولم يحرك ما به من التماثيل، وكان في مقدوره أن يزيلها بعد أن فتح المدائن وأصبح صاحب الإيوان، وما كان لعمر أن يتحرج من الصلاة في الكنيسة وبها من الصور والتماثيل ما بها وكان رسول الله قبل هجرته إلى يثرب يصلي عند الكعبة وبها من الأصنام والأوثان ما لم يصده أو يصد مسلما عن الصلاة عندها، ولقد جاء إلى مكة بعد سبع سنوات من هجرته ومعه ألفان من المسلمين لعمرة القضاء، فطاف بالبيت والأصنام لا تزال تعمره، وعلا بلال سقف الكعبة وأذن لصلاة الظهر، وصلى محمد وصلى الألفان معه عندها صلاة الإسلام، وما كان لمحمد والذين اتبعوه ألا يصلوا بمكان فيه صور أو تماثيل، والإسلام إيمان بالله، والأعمال فيه بالنيات، فمن صدق إيمانه وخلص لله وجهه فأينما ولى فثم وجه الله، وإنما حطم محمد الأوثان والأصنام حول الكعبة وفي جوفها يوم فتح مكة حتى يكون بيت الله حراما على كل دين إلا على الدين الذي أوحاه الله إلى نبيه بينات من الهدى والفرقان، كي لا تذكر هذه الأصنام والأوثان أحدا بجاهليته فيثور في نفسه إليها حنين، أما الذين صفت قلوبهم لله وتطهرت نفوسهم من كل عبادة إلا عبادته جل شأنه فأولئك لا خوف عليهم أينما صلوا، وأولئك يرون وجه الله في كل خلقه، جل ثناؤه وتباركت أسماؤه!
وكان اعتذار عمر عن الصلاة بكنيسة القيامة حادثا جليل الخطر في تاريخ الأديان وعلاقة أهلها بعضهم ببعض في مختلف بقاع الأرض، فهو يصور تسامح الإسلام وصدق عمر في تمسكه بأن لا إكراه في الدين، ويصور سياسة المسلمين لذلك العهد وقيامها على أساس من حرية العقيدة، وأن الدعوة إلى سبيل الله إنما تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالمجادلة بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، عجب أن يحدث ذلك على يد الفاروق في بيت المقدس لأكثر من ثلاثمائة وألف سنة خلت، ثم يظل بيت المقدس مدار الحروب التي اتصلت من بعد على الأجيال والقرون، ويبقى إلى عصرنا الحاضر مثارا للنعرة الدينية والتعصب المذهبي في شتى أرجاء العالم، وموضع النزاع المستمر بين النصارى واليهود والمسلمين، ولو أن الملوك والساسة من أهل الأمم المختلفة أدركوا ما أدركه عمر في ذلك العهد، ورأوا مثله أن لا إكراه في الدين، وجعلوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ولم يزعموا لأنفسهم حقا على فلسطين باسم أرض المعاد أو هيكل سليمان، إذن لاستراح العالم من عناء يقاسيه في شتى أرجائه، لا تخلو منه قارة من القارات ولا أمة من الأمم، قد يجيبك منصف بحق: ومتى أراد الناس أن يستريحوا؟ وهل لهم في غير المنازعات وسيلة إلى الجاه والمجد والرخاء؟ أليس تاريخ العالم سلسلة متصلة الحلقات من الحروب أثارتها الأهواء باسم الدين تارة، وباسم حرية العقيدة أخرى، والدين وحرية العقيدة مما يزعمون براء، وإنما يتخذان تعلة لتسويغ الحروب إطفاء لشهوات وأهواء لا يعنيها من الدين ولا من حرية العقيدة إلا أن تتحقق! وهذا جواب حق، وهو يدل على أن ضمير الإنسانية ما يزال في طفولته، وأن تعاليم الأنبياء والرسل والفلاسفة والحكماء لما تثمر في نفس الإنسانية الأثر الذي أراده أصحابها.
أما وشأن عمر في معاملة المسيحيين ما قدمت فلا حاجة بي إلى إدحاض ما زعم بعضهم من أنه أثبت في صلح بيت المقدس عهدا على النصارى ألا يمنعوا المسلمين من دخول كنائسهم في الليل أو في النهار، وألا يتحدثوا عن دينهم أو يحاولوا إقناع غيرهم باعتناقه، وألا يلبسوا لباس المسلمين ولا يتزينوا بزينتهم، وألا يتكلموا العربية لغة الفاتحين ولا يتسموا بأسمائهم، وألا يركبوا الخيل ولا يحملوا السلاح، وأن يقفوا إذا مر بهم مسلم، فإذا أقبل عليهم ظلوا وقوفا حتى يجلس، وألا يبيعوا الخمر ولا يرفعوا على كنائسهم صلبانا ولا يدقوا أجراسها، وألا يتخذوا خادما كان في خدمة مسلم، فلا شيء من هذا أو من مثله يتفق وموقف عمر بكنيسة القيامة وكنيسة المهد، ولا شيء من مثله يتفق وما أبداه صفرنيوس وأهل إيلياء جميعا من الغبطة لصلح عمر، وموقفه بالكنيستين واستقبال البطريق وكبراء المدينة له وإقبالهم عليه قد فصله المؤرخون المسيحيون الأولون ولم يرد في كتب المتقدمين من مؤرخي العرب عنه شيء يذكر، وإنما ينسب هذه الأمور إلى عمر دعاة هم الذين دفعوا الصليبيين لغزو فلسطين، ودعايتهم ذات الهوى تضيف إلى الفاروق عن عمد كل ما حدث، في العصور المتأخرة عنه، من مساوئ الحكم أو مظاهر التعصب، وقد أدت عوامل التدهور التي دبت من بعد في كيان المملكة الإسلامية إلى مساوئ في الحكم، وقد كان بين المسلمين ومن انتسبوا إليهم في ذلك العهد المتأخر متعصبون ودعاة إلى التعصب، لكن عمر كان بريئا من هذا كله، وكان ساميا عليه غاية السمو، وما حاجته إليه وقد فتح الله له كل أبواب العالم، وقد كان الكثيرون يدخلون في الإسلام أفواجا غير مكرهين ولا مضطهدين، وكانت جيوش الإمبراطوريتين الفارسية والرومية لا تثبت لجيوشه ولا تملك أمامها إلا الهزيمة والفرار، فلو أن عمر لم يكن السياسي المحنك البعيد النظر لهدته مع ذلك فطرته إلى أن يحسن معاملة أولئك الذين تفتح له أبواب مدنهم ويسلمونه مقاليد أمورهم، ما بالك به وقد كان ملهما في السياسة، فلم يكن الظفر ينسيه الحذر أو يدفعه إلى التعاظم والبطر، ولم يكن الحزم ينسيه أن العدل والرحمة أبلغ أثرا في نفوس الأمم المحكومة ما ظلت ساكنة إليهما، فلم تدفعها النعرة إلى ما يوجب البطش والجبروت، ولذا أجمع المنصفون من المؤرخين المسيحيين على الإشادة بعدل عمر وتسامحه ورفقه، وعلى إكبار موقفه ببيت المقدس واعتداله في الصلح مع أهله.
ولم يغير من إجماع هؤلاء المنصفين ما روي من أن عمر قام يوما يخطب المسلمين ببيت المقدس، فذكر في خطبته قوله تعالى:
Unknown page