30
لقد مات أبي ميتة الكريم الشجاع، كان يجود بنفسه وسيفه في يمينه يضرب به ذات اليمين وذات الشمال. - قل لي كيف مات بحقك؟
فزفر زفرة طويلة، وأطرق إطراقة المفكر الحائر كأنه يريد أن يجمع شوارد نفسه، أو أن يتخلص من الظنون التي كانت تغاديه وتراوحه منذ شهد المعركة، وقال: تعرفين يا أماه ما كان بين أبي والخليفة الراضي العباسي من أواصر المودة، وتعلمين خبر تلك الرسالة التي أرسلها إليه الخليفة منذ ستة أشهر، يستدعيه إليه، ويتعجل رحيله، ويشير فيها في خفاء وإبهام إلى أنه في حاجة إلى عونه، والاستظهار به
31
على أعدائه من الترك والعرب، وقد كان أبي إلى إجابة الخليفة أسرع من رجع الصدى كما تعلمين، فرحلنا إلى بغداد في قلة من عبيدنا ورجالنا، فلما وصلنا إلى دار الخلافة لقي أبي من الخليفة من صنوف الإكرام، وحسن الوفادة، وتقريب المنزلة، ما ملأ قلوب الحاشية حقدا وضغنا، وفي ذات ليلة همس أبي في أذني بأن الخليفة ولاه إمارة الموصل وطلب منه السفر إليها بعد يومين. - يوليه إمارة الموصل وهي في يد ابن أخيه ناصر الدولة! هذه مكيدة خسيسة من هذا الخليفة الضعيف الماكر، يريد بها أن يوقع العداوة والبغضاء بين رجال هذه الأسرة الباسلة، التي أقضت مضجعه، وأخذت تبتر أوصال مملكته في العراق والشام، فلم يجد هذا الخبيث من وسيلة إلا أن يغري أبناء العمومة بعضهم ببعض، وأن يحاربهم بسلاحهم، ويطعنهم برماحهم، فإذا انتصر أحدهم على أخيه هلل له وكبر، ونثر فوقه أزهار المديح والثناء، وهو يرى في دخيلة نفسه أنه قد استراح من فريق عظيم منهم، وأن الفرصة ستواتيه للقضاء على الفريق الآخر. هكذا أصبح دأب هؤلاء الخلفاء منذ دالت دولتهم،
32
وأصبحت نهبا مقسما بين الأمم، فإنهم حين فقدوا سلاح القوة، برعوا في الكيد والحيلة. والضعيف دائما يستعير لنفسه قوة من نصب الأشراك، ودس الحبائل. - هذا ما استطعت أن أبوح ببعضه لأبي؛ لأنك تعرفين ما كان له من الهيبة وعنف الشكيمة
33
التي تعقل اللسان دون مخالفته، فما كان منه إلا أن قال في استنكار وغضب: ماذا تريد يا فتى؟ أتريد أن تقول إن الخليفة لا يملك عزل أمير وتولية أمير؟ أتريد أن تقول إنه أصبح من الضعف والخور بحيث لا تتجاوز أوامره جدران قصره؟ نحن يا بني خدام الخليفة، وعدته في الشدائد، وقد بقيت الخلافة في أبنائها إلى اليوم بأسنة بني حمدان وسيوفهم. إن ابن أخي ناصر الدولة لا يملك إلا أن يطأطئ رأسه لحكم الخليفة. - فهل طأطأ رأسه حقا؟ - لا أدري. وقد ساورتني في هذا الشأن شكوك مبرحة اضطرب لها ميزان عقلي، وكادت تقضي علي.
فتنهدت سخينة ولمع في عينيها لهيب الغضب وقالت: امض في حديثك يا بني. - أتظنين أن لابن عمي يدا في مقتل أبي؟ - امض في حديثك يا حسين، قاتل الله المناصب، وقاتل الله الجشع، وقاتل الله الحرص الذي أذل أعناق الرجال؛ إن إدراك المسألة سهل هين، ما كان ينبغي أن يخفى على أبيك. ذلك أن الراضي جشع ماكر، وقد حرمه ناصر الدولة خيرات الموصل وذخائره واستأثر بها دونه، ولم يبعث إليه منها شيئا. وكانت جبايتها أيام المأمون آلاف الآلاف من الذهب والفضة، فأراد الخليفة أن يجعل من أبيك شبكة لاصطياد هذه الأموال على أن يلهيه بقليل منها، وأحس ناصر الدولة بأن الغنيمة ستطير من يديه، فثارت نفسه، وصمم على الاحتفاظ بها ولو قتل في سبيل ذلك أعز الناس لديه. وأكبر ظني أن عيونه وجواسيسه بدار الخلافة طيروا إليه الخبر فأخذ له الأهبة، وأعد له العدة. امض في حديثك يا حسين. - غادرنا بغداد في خمسين رجلا ... - في خمسين رجلا؟ يا له من جيش لهام!
Unknown page