Farah Antun
فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
Genres
قال بعضهم: إن إنشاء الإنسان هو الإنسان نفسه. يعني بذلك أن كتابته تدل عليه؛ لأنها صادرة عن نفسه؛ وعلى ذلك يكون أسلوب الإنسان في الكتابة على نوعين: اكتسابي، وغريزي؛ فالأسلوب الاكتسابي: ما حصله الإنسان بكد الخاطر، وتهذيب النفس، ومعرفة الأصول، ومطالعة أشهر المؤلفين، والأسلوب الغريزي: ما يكون مغروسا في فطرة النفس. وهذا لا يشرى ولا يباع ولا يحصل؛ لأنه ملازم للنفس، وقد قال بوفون وغيره: إن قرائح النوابغ تنشأ عن الصبر والكد والمزاولة. وهو قول غير صحيح من بعض الوجوه، خصوصا في العلوم الطبيعية التي تقتضي من علمائها والمخترعين فيها الكد والصبر والجلد الشديد. وهذا نيوتن وباستور خير مثال على ذلك. ولكن العلوم الأدبية والفلسفية تختلف عن العلوم الطبيعية. وبما أن العمدة في تلك العلوم الأدبية والفلسفية على التأثير في النفوس، فالواجب أن يكون أسلوبها اللطيف أول أسلحتها، وماذا كان عمل روسو وبرناردين دي سان بيير ورسكن ورينان وغيرهم لو لم تكن فطرتهم مسلحة بذلك السلاح اللطيف، الذي كان يهز النفوس كما تهز الزوابع باسق الأشجار؟ فعلينا في الشرق أن نذكر أننا محرومون تلك اللذة الحقيقية التي تتناجى بها نفوس القراء والكاتب لاستطاعته تحريكها من أعماقها، ولا نلقين التبعة في ذلك على القراء، بل على الكتاب - وإن كان لهم بعض الأعذار - لأن أشجار الحدائق إذا بقيت ساكنة ولم تتحرك فالذنب للريح؛ لأنها لم تهب لتحركها.
ولكننا نرى أن هذه الريح محال أن تهب لتحريك الأشجار إذا لم تطلق اللغة العربية من أسر الاهتمام بالألفاظ والسجع والمترادفات وتحدي المتقدمين، ويقدم عليها الاهتمام بالمعاني المقصود إبلاغها إلى فهم القارئ؛ ذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن يعبر عن العواطف المختلفة التي تختلج في نفسه إذا كان يتعود صرف قواه حين الكتابة إلى الألفاظ لا إلى تلك المعاني. ألا ترى الكاتب إذا تكلم بلغته العامية اندفع اندفاع السيل، وأبرز بكل سهولة صورا جميلة من المعاني كانت تجول في نفسه؟ ولكن اطلب منه أن يبرز تلك الصور الجميلة باللغة الفصحى ملتوتة بالمترادفات الزائدة، والألفاظ الضخمة، والأسجاع الفارغة، فإنه يقيم يوما كاملا لكتابة ما عبر عنه في ساعة واحدة بلغته التي يتكلم فيها، وما يكتبه يجيء باردا.
ولا تقل إن سبب ذلك كونه لم يتعود الكتابة بلغة الهمذاني والحريري. كلا، ما من سبب لذلك سوى أنه مع اللغة العامية يفكر بالمعاني فقط، ومع لغة السجع والمترادفات يفكر بالألفاظ. ولكن أخبرونا من هو الكاتب؟ الكاتب كالشاعر؛ هو الذي يشعر بالمعاني شعورا أشد من شعور سواه، ويبرزها إلى القراء بأسلوب جميل لطيف سهل مفهوم لإبلاغها إليهم. ويتفاضل الكتاب كما يتفاضل الشعراء؛ أي إن أفضلهم أشدهم شعورا، وألطفهم إحساسا؛ ولذلك قالوا إن الكتابة صناعة من صناعات النفس، وما الكتاب العظام الذين أقاموا بني عصرهم وأقعدوهم بما كانوا ينشرونه بينهم سوى نفوس أدق شعورا من باقي النفوس. كانوا يجمعون العواطف التي تختلج في صدور بني عصرهم بوجه مبهم غامض، ويبسطونها واضحة جلية يتناولها القريب والبعيد؛ لأنهم كانوا أشد شعورا بها. فتأملوا في هذه الوظيفة التي هي وظيفة الكتاب الحقيقية، وقابلوها بوظيفتهم متى كان عملهم مقصورا على طلب الألفاظ الغريبة من قواميس اللغة، واقتناص التعابير البدوية والأساليب القديمة التي لم يبق ما يسوغ استعمالها في عصر كهذا العصر. ولا ريب عندنا أن هذا بمثابة ردم معادن المعاني في نفوس الكتاب، وجعل أذهانهم عبارة عن مخازن للألفاظ فقط؛ وبذلك يقضى على الكاتب العربي أن تبقى كتابته بلا تأثير في قرائه مهما أبدع وأجاد في تنسيق التعابير والألفاظ؛ لأن الألفاظ عبارة عن جماد لا يؤثر في النفس؛ إذ النفس لا يؤثر فيها إلا فيض المعاني الخارج من نبعها العذب. ولا تنس أننا قلنا في مقدمة الكلام إن وظيفة الكاتب الكتابة للأمة، لا لنفسه ولا لطبقة واحدة من طبقات الأمة، وإن حسن التأثير شرطها الأول، والفائدة العمومية أساسها الحقيقي.
إنشاء الروايات العربية
كثر في السنوات الأخيرة وضع القصص العربية، فقلما يمر شهر إلا وتصدر بضع منها في البلاد التي فيها مطابع عربية. وهم يسمونها «روايات»، وهذا خطأ في التسمية؛ لأن الروايات في اللغة: الأحاديث المنقولة بالتواتر من فلان عن فلان عن فلان، فيلزم أن يكون هناك راو ومروي عنه وحديث مروي؛ فاسمها الحقيقي إذا: قصة؛ لأنها عبارة عن أحاديث ووقائع يتخيلها المؤلف ويقصها على قرائه. ولكن هذا الخطأ - إذا كان هناك خطأ - كان الأصمعي المشهور أول من وقع فيه في قصة عنترة؛ فإنه يقول هناك في كل صفحة تقريبا: قال الراوي. وقصة عنترة أكثرها اختراع وابتداع، كما هو معلوم. والخطأ أو الاصطلاح الذي يجيزه رجل كالأصمعي يجوز أن يعد من الصواب المقبول. (1) ما يلزم الرواية
على أنه لو لم يكن في الروايات التي تنشر في اللغة العربية غير هذا الخطأ الاصطلاحي الصغير لكان الخطب هينا، ولكن هناك مآخذ لا يصح السكوت عنها وقد كثر انتشارها؛ فإن كل من أمسك قلما في هذه الأيام يرى نفسه قادرا على وضع رواية؛ لأن كل إنسان يقدر على قص قصة وسرد حوادث يتصورها. وجميعهم يعلمون أن فن الروايات علم بأصول، ولكنهم يجرءون مع هذا على وضع هذه الروايات لثلاثة أسباب؛ الأول: انعدام حرية النقد، أو بعبارة أخرى: الجهل بحقيقة هذا الفن للإقدام على نقده، والثاني: اعتبار القراء في الشرق الرواية عالما خياليا يلهى به ساعة أو نصف ساعة، فلا يطلبون فيه غير قطع الوقت، والثالث: قلة القراء في اللغة العربية؛ فالروايات التي تظهر فيها لا يستفيد منها مؤلفوها فائدة حقيقية إلا إذا كانوا أصحاب مكاتب ومطابع صناعتهم التجارة بالكتب؛ ولذلك قلما ترى كاتبا يجهد قريحته، ويكد فكره، وينضج رأيه في وضع رواية مهمة؛ لأنه يعلم أن الفائدة التي تنشأ عنها لا تعدل التعب الذي يبذل في تأليفها وطبعها، والجمهور لا يفهم منها سوى قصتها. وإذا قيل إن حافظ أفندي إبراهيم؛ الشاعر المشهور، قد عرب جزءا صغيرا من رواية الميزرابل فجنى منه - على ما قال - ألف جنيه (5000 ريال)، فالجواب أن ما جناه المعرب من هذه الرواية لم يكن ثمنا للرواية ولا جزاء تعبه فيها، ولكنه كان تنشيطا له من بعض سراة المصريين الذين دفع بعضهم ثمن النسخة الواحدة 50 جنيها (200 ريال).
وقد يظن بعضهم أن الروايات الموضوعة تعريبا تسلم من تلك المآخذ التي تقع في الروايات الموضوعة تأليفا؛ لأن شروط الرواية مستوفاة في الروايات الإفرنجية الكبرى، وما على المعرب إلا أن ينحو نحوها، وينسج بردتها العربية. والحقيقة أن بعض الروايات الموضوعة تعريبا قد تجد فيها من التشويه، وفساد الوضع، والخرق في الرأي، ما لا تجد مثله أحيانا في الروايات الموضوعة تأليفا. وسبب ذلك أن المعرب يتناول قلمه ويغير على تلك الرواية، فيتصرف فيها حذفا وإضافة، فيقطع سلسلة أخلاقها السيكولوجوية، ويشوه طبائع أشخاصها، وينقص فيها ويزيد عليها من الحوادث ما لو رآه مؤلفها لقطع أذنه، وجدع أنفه، ورض ساقيه، وبقر بطنه، تشويها له، وتمثيلا به، كما شوه روايته ومثل بها. وما زلنا نذكر مباحثات كثيرين ممن شهدوا تمثيل رواية «ابن الشعب» في مصر، وقولهم في الجرائد وغير الجرائد أنهم لم يفهموا أغراض هذه الرواية ومرامي مؤلفها، وحقهم أن يقولوا ذلك ؛ لأن الذي ينظر في هذا الفن ولا يكون من أهله لا يدرك منه سوى سياق القصة، وتفوته أغراضها الحقيقية التي بنيت الرواية عليها، وكانت سببا في إنشائها.
وقبل بيان أغراض المؤلف في هذه الرواية، نأتي على بيان الصفات اللازمة للروائي؛ ليصح أن يكون ما يكتبه معدودا في جملة الروايات الحقيقية؛ أي عوالم خيالية تنطبق صفاتها وأخلاقها على العوالم الحقيقية انطباقا كليا كأنها صورة لها، وكأن أشخاصها أشخاصها مع زيادة في الصبغة الأيدياليستية فيها؛ ليكون غرضها رفع النفوس بدل انحطاطها: (1)
قوة الاختراع: أولى تلك الصفات قوة الاختراع، والمراد بها أن تكون مخيلة الكاتب قادرة على اختراع حوادث وأخبار تجعل في الرواية فكاهة ولذة. وبهذه القوة تنشأ في الرواية المشاهد والمواقف الكبرى التي تحتك فيها العواطف والأميال والمبادئ احتكاكا شديدا يستأسر لب القارئ. وكان ديماس رأس المبرزين في هذه القوة، إلا أنه يجب ألا تتجاوز هذه القوة حد المعقول المقبول، وإلا عدت من سقط المتاع، كروايات بونسون دي ترايل. ولما سئل تولستوي منذ مدة عن رأيه في رواية غوركي «الطبقة السفلى»، التي جعلت له بين كتاب أوروبا منزلة سامية، أجاب: إنها جيدة، ولكن ينقصها قوة الاختراع. ولكن كثيرين يقولون عن روايات تولستوي نفسه مثل هذا القول؛ لأنها إنما تمتاز بمبادئها وآرائها وصبغتها الفطرية، لا باختراع حوادثها. (2)
قوة الحركة: والقوة الثانية «قوة الحركة»؛ فإن تلك الحوادث التي يجيد المؤلف في اختراعها إذا لم يجعلها متحركة سئم قارئها ومل قراءتها. والحركة كانت مزية ديماس الكبرى، فإنك تعرف تاريخ أشخاص روايته، وأخلاقهم ومزاياهم، وماضيهم وحاضرهم مما يقوله غيرهم عنهم في الرواية، لا مما يقوله المؤلف نفسه. وكل من قرأ رواية لا يجهل أنه يفضل قراءة مباحثات أشخاصها على قراءة تعليقات مؤلفها. والإجادة هنا هي في جعل حوادث الرواية منبئة عن أخلاق أشخاصها. وكم من مرة قرأنا فصولا لكبار نقاد الروايات الفرنسوية يقولون فيها عن فصل في إحدى الروايات: إن حوادثه غاية في حسن الاختراع، ولكنه جامد تنقصه الحركة. وهم يعتبرونها في مقدمة شروط الروايات الجيدة . (3)
Unknown page