نواري فيه أحيانا.
وكما أن شعر الوجدان الذاتي لم يكن بد من أن يتخذ لون الروح المتميزة لكل شاعر، وتتنوع نغماته بتنوع المزاج الفردي ونوع الثقافة وظروف الحياة الخاصة والعامة، فإن شعر الوجدان الجماعي لم يكن بد هو الآخر من أن تتنوع نغماته وتتعدد ألوانه، ونحن هنا إزاء قصيدة نعيمة لا نحس بثورة صاخبة متمردة ولا بنغمات خطابية مجلجلة، بل نحس بنغمات هامسة يسكبها الشاعر العربي في أذن أخيه العربي، ليعبر بها عن حزنه وأساه في روح هادئة تكاد تكون صوفية من شدة الألم، ولكنها مع ذلك روح قوية نافذة تستثير النفس وتهز أعماق الوجدان الجماعي للشعب العربي كله. فالشاعر منفعل بأحداث مجتمعه الكبرى وما نزل به من محن وآلام - لا في محاربة من ناصبهم العداء فعلا فحسب - بل وفي مجالدة أصدقاء الأمس المخادعين، وأعداء اليوم من أولئك الحلفاء الغادرين الذين لم يكادوا يفرغون من حربهم الطاحنة وينتصرون فيها حتى وجهوا نيرانهم إلى العرب الأوفياء؛ ليخمدوا ثوراتهم ويفرضوا عليهم استعمارهم البغيض وسيطرتهم الخانقة.
والظاهر أن هذه القصيدة الرائعة قد استهوت بوزنها ونغماتها الموسيقية ، ومضمونها الجماعي أفئدة الأجيال التالية من شعرائنا الشبان، وربما كانت حماستي لها في مطلع حياتي الأدبية ونضالي الحار في سبيل كل ما سميته عندئذ بالأدب المهموس، وتفضيلي له على الأدب الخطابي التقليدي؛ لها أثر في لفت أنظار شبابنا الشعراء إليها، فبين أشعار الأستاذ مختار الوكيل نلتقي من الوزن نفسه ومن القافية نفسها التي اختارها نعيمة للمقطوعة الأخيرة من قصيدته، وفيها يوجه الوكيل الخطاب أيضا بلفظة أخي؛ حيث يقول:
أخي قد شاء رب الكون أن يجمع قلبانا،
فأسكننا بواد فاض بالخيرات ألوانا،
وأجرى بيننا نهرا براح الخلد أحيانا،
ووحدنا على الأيام وجدانا وإيمانا،
وأنزل في جوانحنا هدى يغذو طوايانا.
ومن الواضح أن هذه القصيدة تصدر أيضا عن الوجدان الجماعي، أو هي على الأصح تحاول أن تجلي أسس هذا الوجدان الجماعي، وهي بلا ريب لا توغل في الوجدان كما توغل قصيدة نعيمة الرائعة، فالأستاذ مختار الوكيل غير منفعل فيها بأحداث معينة حتى إننا لا نحس فيها بعاطفية متقدة كعاطفية نعيمة، ومع ذلك فالقصيدة تدخل بلا ريب في شعر الوجدان الجماعي بحكم ما نستشعره فيها من بهجة بعناصر الوحدة التي تجمع بيننا وتوحد قلوبنا وتسهم في التقريب بين ألوان روحنا.
ويمضي الزمن ويقوى الوعي الجماعي وتتسع آفاقه، فلا يعود وجداننا الجماعي قاصرا على وطننا المحلي، بل يمتد إلى قوميتنا العربية العامة، ومن جهة أخرى لا يظل هذا الوجدان الجماعي قاصرا على الناحية السياسية في قضايانا الوطنية أو القومية، بل يمتد أحيانا إلى حياتنا كلها فيشمل النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبخاصة بعد أن أخذنا نحل قضايانا الوطنية والقومية تباعا مع الدول الاستعمارية، ونحقق استقلالنا السياسي دولة بعد أخرى، ونحرر سياستنا الخارجية من كل تبعية للغير، ونقف في المجال الدولي هذا الموقف الحيادي المشرف الذي ترتضيه الشعوب العربية كلها وتعتز به.
Unknown page