39

Fann Mucasir Muqaddima Qasira

الفن المعاصر: مقدمة قصيرة جدا

Genres

ربما يمكن لرؤيتين فرنسيتين حديثتين عن الفن المعاصر تقديم أمثلة على ذلك. من وجهة نظر نيكولا بوريو في كتابه المؤثر «الجمالية العلائقية»، اتصف فن التسعينيات في مجمله بأعمال جعلت من التفاعل الاجتماعي ميدانا جماليا، من خلال تقديم خدمات أو عقود للزائرين أو بتيسير الاتصال بينهم ببساطة. يشرح أحد الأمثلة التي أوردها الفكرة جيدا: يذيع ينس هانينج نكات بالتركية من خلال مكبر للصوت في ميدان في كوبنهاجن، مشكلا رابطا بين هؤلاء الذين يفهمونها ويضحكون. من وجهة نظر بول فيريليو، في محاضرات نشرت تحت عنوان «الفن والخوف» (واستقبلت على نحو سيئ عندما نشرت في فرنسا عام 2000)، ينشغل منطق الفن دوما بكسر المحرمات، وتضخيم المشهد، وتوسيع حدود ما يعد إنسانيا، حتى إلى حد الانشغال بالتلاعب الجيني الإبداعي. إن مثل هذا المنطق يتجه في النهاية نحو اغتيال الغايات الجمالية، وكما رأينا في

الفصل الثاني ، صنع سيرجي بوجايف أفريكا فيلما يصور حدثا حقيقيا لمحبي الجمال. إن مثل هذا العمل يصادق على موقف فيريليو حول انعدام الرحمة وسيادة الجلبة بالفن المعاصر، ورغم أن الحقيقة والجمال والأخلاق، بصورة تقليدية ومثالية، قد اجتمعت معا، فإن فيريليو يطرح السؤال التالي: «الأخلاق أم الجمالية؟» كما لو أن الواحد منهما يستبعد الآخر.

إن الانقسام الهائل بين وجهتي النظر يعود جزئيا إلى خلفيات الكاتبين؛ فبوريو مشرف معارض، وهو حاليا مدير مساعد لموقع مخصص للفن المعاصر تديره الدولة في «باليه دو طوكيو» بباريس. وقد تشكلت آراؤه من خلال العمل مع الفنانين والحديث معهم؛ فكتابه لا يقدم نقاشا فحسب، بل ترويجا لأعمال فنية يوصي بها بأسماء أصحابها؛ مثل أعمال فانيسا بيكروفت وليام جيليك وفيليب بارينو، وروكريت تيراوانيت، وغيرهم. أما فيريليو، فهو فيلسوف ومتخصص في التخطيط العمراني وناشط سياسي محنك، وتعود مساهمته في العالم الفني إلى عمله على الزجاج الملون مع براك وماتيس، كما أن أفكاره - لا سيما المتعلقة بالرؤية والسرعة والحرب - مالت إلى الكابوسية، وليس من المثير للدهشة أنه يكتب عن الفن الحالي باعتباره غير منتم إليه.

من وجهة نظر بوريو، فإن الفن الذي يحث على التفاعل الاجتماعي بين متابعيه يتحرك مباشرة ضد اتجاه عام لزيادة التشظي الاجتماعي ، بدءا من تخصص وظيفي متزايد باستمرار إلى ميل الناس لحبس أنفسهم داخل منازلهم في صحبة الإعلام بدلا من صحبة أشخاص آخرين. يهون الفن من هذه الحالة: «عبر تقديم خدمات بسيطة، يستطيع الفنانون ملء الفراغات بالرابطة الاجتماعية.» لا يقدم الفن تعليمات نظرية فحسب، بل «يوتوبيا تقوم على المشاركة»، يوتوبيا صغيرة وخاطفة وذاتية يستطيع فيها الناس تعلم العيش بطريقة أفضل، إلا أن «ميدان التبادل» هذا يجب الحكم عليه من منظور جمالي عبر تحليل لنمطه، كما تعامل العلاقات الاجتماعية باعتبارها وسيطا فنيا آخر يسهم في الفوتوغرافيا والفيديو والتجهيز في الفراغ. إن هذه الأعمال ربما تتضمن أشياء تبدو أنها قطع فنية تقليدية وربما تشترى وتباع، رغم أنه ينبغي أيضا الحكم عليها في النهاية باعتبارها جزءا من المشهد الكلي للنشاط الاجتماعي. إن هذا النموذج من الفن - كما يزعم بوريو - هو إنساني وديمقراطي.

ثمة مثال معبر عن نوع الفن الذي يحبذه بوريو، وهو عمل جافين تيرك «قصة تشي جيفارا». أعقب هذا الحدث سلسلة من الأعمال التي قدمها تيرك، والتي أدخل فيها وجهه الخاص في صور شهيرة لتشي على لوح إعلانات بالأحمر والأسود وتمثال شمعي بالحجم الطبيعي للصورة الشهيرة التي التقطت لإثبات وفاة الثائر.

شكل 6-1: جافين تيرك، «تشي جيفارا».

1

في عام 2001، في ابتعاد طموح عن المسار السابق في العمل، قدم تيرك سلسلة من الاجتماعات والجلسات النقاشية عن حياة تشي وإرثه في قاعة فسيحة في شورديتش. أعقب اجتماعات الاستراتيجية السياسية جلسات نظم فيها نشطاء تظاهرة من المفترض أن تكون ذروة السلسلة. كانت الفكرة وراء هذا العمل - كما ذكر تيرك - استخدام مكانته بوصفه فنانا يحظى بأهمية إعلامية لإعداد مساحة للنقاش والفعل تحظى بفرصة الظهور في وسائل الإعلام.

إن الانجذاب المتجدد لتشي يعود إلى أن حياته وصورته تمزج سحر الشباب مع الالتزام الثوري الراسخ، وتضفي واحدة شيئا من الخطر شبه الغائب عن البال على الأخرى. من بين أسباب فكرة هذا العمل تسليط الضوء على التباين بين السياسات الثورية لأمريكا اللاتينية والابتذال المحتدم «للفن البريطاني اليافع»؛ ومن ثم التركيز - من وجهة نظر تيرك - على إشراقات التاريخ التي تشع في الحاضر. إن النضالات اليسارية القديمة بدأت في التوهج ثانية نظرا لظهور حركات مناهضة للرأسمالية، والتي طورت سبلا جديدة لإنشاء تحالف بين العمل السياسي والثقافي؛ فهي تجسد ذلك الدمج الخطير للراديكالية الثقافية والسياسية والتي تذكر بها صورة تشي.

دفع تشي عصاباته الثورية إلى قراءة رواية «دون كيشوت»، ومشروع تيرك كان بالفعل كيشوتيا؛ فلا يمكن إحضار مجموعة قليلة متنوعة من الناس على مدى أسبوعين وتصميم برنامج سياسي من لا شيء. كانت المناقشة التي حضرتها مشوقة لكنها كانت أيضا بلا هدف ويعوزها التركيز، وكان آخرون ممن تحدثت معهم وحضروا الجلسات النقاشية يتملكهم شعور مماثل. ومما يدعو للغرابة أن الحدث الختامي هيمن عليه جدال مؤيدي التعري حول حقهم في التعري في العلن.

Unknown page