وهذه الحياة الاجتماعية التي تلابسنا في البيت والقهوة والنادي والمكتبة، بل حتى في الجريدة والكتاب تحول دون التفكير المثمر، وتشغلنا بتوافه وصغائر تتبدد بها حياتنا، ولكن الخلوة تجمع تفكيرنا في بؤرة، وتفتح لنا نوافذ على فضاء آخر قد نجد فيه ما نتغير به إلى أحسن.
وليست الخلوة التي نقترح بالشيء الجديد؛ لأن الواقع أن كلا منا يخلو ويعتكف من وقت لآخر؛ فإن أحدنا يخرج إلى قهوة نائية كي يخلو ويفكر، وعقب الغداء قد ننسطح في الفراش لا لننام بل لنفكر في موضوع معين، بل ربما قصد أحدنا إلى طريق متنح كي يمشي فيه منفردا للتفكير، وهلم جرا. فنحن نحس الحاجة إلى الانفراد والخلوة، ونمارسهما دون أن نحتاج إلى إرشاد، ولكن إذا جعلنا خلوتنا معينة بمواعيد كان ذلك أنجع لتفكيرنا، وأنظم لحياتنا.
قيمة الحب للحياة الفنية
كلمة «الحب» من الكلمات التي تتعدد معانيها وتختلف؛ ولذلك احتاج مترجم الإنجيل إلى أن يستعمل كلمة «المحبة» للمعنى المسيحي الخاص. وهذا التعدد يتضح عندما يقول أحدنا: إنه يحب البرتقال، أو يحب زوجته، أو يحب النظام، أو يحب الله؛ فإننا هنا إزاء طائفة من المعاني المختلفة التي كان يجب أن يكون لكل منها كلمة خاصة.
ونحن نقتصر هنا على معنيين؛ هما: الحب الجنسي، والحب البشري؛ فإن كثيرين من المفكرين يرجعون حب البشر؛ الإخاء والصداقة والتعاون، إلى الحب الجنسي، كأن هذا هو الجذر الذي إليه ترجع عواطفنا البشرية السخية، ولكن الحقيقة أن كلا منهما يرجع إلى أصل منفصل عن الآخر؛ فغاية الحب الجنسي هي التناسل، وغاية الحب البشري هي تكبير الشخصية، والتعاون الاجتماعي، والرقي العائلي، والنمو الذهني.
وليس هذا الذي نسميه «حبا جنسيا» ضروريا للتناسل؛ فإن السمك - مثلا - يتناسل بالملايين، ومع ذلك لا يعرف الحب؛ لأن الذكر يلقي بجراثيمه في الماء، وكذلك الأنثى تلقي بويضاتها في الماء مثله، ثم يتم التلاقيح في الماء دون أن يعرف الذكر الأنثى.
وعندما نتأمل الحيوان وقت التلاقح نجد أن العاطفة الغالبة، والتي تتضح من سلوكه، هي عاطفة الافتراس والأكل والالتهام؛ فإن الذكر يفترس الأنثى، وليس بين الاثنين حنان، وأحيانا ينقلب التلاقح إلى شجار وقسوة وافتراس. وإذا كان الحب الجنسي بين البشر قد خالطته رقة وحنان أو عطف، فإنما مرجع ذلك إلى الثقافة الاجتماعية التي ارتقت بها عواطفنا.
أما الحب البشري فمرجعه إلى ينبوع آخر هو حب الأم لأولادها، وحب هؤلاء لها، وهذه العاطفة بعيده جدا عن الحب الجنسي؛ إذ هي تنضح حنانا ورقة، وهي تحمل الأم والأبناء على أن يترافقوا ويتعاشروا ويتعاونوا.
والإنسان البدائي كان دائم الارتحال، فكانت الأم مع أولادها ترعاهم وتربيهم، وكان تعلقهم بها يحملهم أيضا على أن يتعلق أحدهم بالآخر؛ فإذا ماتت الأم - مثلا - بقي الأبناء على قواعد رفقتهم السابقة يتعاشرون ويتعاونون. وهذه الأخوة بينهم هي أصل الإخاء البشري، بل أصل المجتمع.
بل نستطيع أن نزيد هذا التمييز بأن نقول: إنه إذا أحب الرجل المرأة حبا عميقا بشريا فإن هذا الحب يحول دون الحب الجنسي؛ كأن هناك تناقضا بين الاثنين: الأول كله حنان ورقة، والثاني بعضه افتراس وقسوة.
Unknown page