كلمة المؤلف
المقدمة
الباب الأول
1 - القبض على القائد بانشيوان1
2 - لقاء مع الملك وي
3 - محاورات الملك وي1
4 - مناقشات تيانجي بشأن التحصينات1
5 - انتقاء القوات1
6 - الحرب والطوالع الفلكية1
7 - توزيع التشكيلات1
8 - أهمية أرض العمليات1
9 - القوة الضاربة1
10 - قيادة القوات1
11 - الموازنة الذكية والاختيار الصائب1
12 - التجنيد والتعبئة1
13 - التوجيه المعنوي1
14 - مهام القادة1
15 - طرائق التدريب الخمس1
16 - تقوية الجيش1
الباب الثاني
1 - التشكيلات القتالية العشرة1
2 - الأسئلة العشرة1
3 - ضرب نقاط القوة عند الخصم1
4 - القوات السيادية والقوات الزائرة1
5 - البراعة القتالية1
6 - خمسة أنواع من الجيوش1
7 - خسائر المعارك1
8 - استقامة القائد1
9 - أخلاقيات القائد1
10 - مثالب القائد1
11 - هزيمة القائد1
12 - المدن المنيعة والأسوار المخترقة1
13 - القواعد الخمس والمغانم التسعة1
14 - التمركز والانتشار1
15 - الثوابت والمتغيرات1
كلمة المؤلف
المقدمة
الباب الأول
1 - القبض على القائد بانشيوان1
2 - لقاء مع الملك وي
3 - محاورات الملك وي1
4 - مناقشات تيانجي بشأن التحصينات1
5 - انتقاء القوات1
6 - الحرب والطوالع الفلكية1
7 - توزيع التشكيلات1
8 - أهمية أرض العمليات1
9 - القوة الضاربة1
10 - قيادة القوات1
11 - الموازنة الذكية والاختيار الصائب1
12 - التجنيد والتعبئة1
13 - التوجيه المعنوي1
14 - مهام القادة1
15 - طرائق التدريب الخمس1
16 - تقوية الجيش1
الباب الثاني
1 - التشكيلات القتالية العشرة1
2 - الأسئلة العشرة1
3 - ضرب نقاط القوة عند الخصم1
4 - القوات السيادية والقوات الزائرة1
5 - البراعة القتالية1
6 - خمسة أنواع من الجيوش1
7 - خسائر المعارك1
8 - استقامة القائد1
9 - أخلاقيات القائد1
10 - مثالب القائد1
11 - هزيمة القائد1
12 - المدن المنيعة والأسوار المخترقة1
13 - القواعد الخمس والمغانم التسعة1
14 - التمركز والانتشار1
15 - الثوابت والمتغيرات1
فن الحرب عند سونبين
فن الحرب عند سونبين
تأليف
سونبين
ترجمة
محسن فرجاني
كلمة المؤلف
بمناسبة صدور الطبعة الإلكترونية من ترجمة الكلاسيكيات الصينية إلى العربية، يسعدني ويشرفني أن تصدر الطبعة الإلكترونية من عيون التراث الصيني، التي ترجمتها إلى العربية، عن مؤسسة هنداوي للنشر؛ لأسباب كثيرة، منها أن اللغة العربية كانت وسيطا للتعريف بالصين على مستوى عالمي، في فترة مهمة من تاريخ الحضارة العربية، إبان عصور مضت، وقد جاء الوقت المناسب لمواصلة هذا الدور في عصر حاضر، خصوصا عن طريق مؤسسة تتيح تقديم النصوص المترجمة إلى القارئ باللغة العربية عبر وسيلة إلكترونية أكثر حداثة وانتشارا؛ ومنها أيضا أن المطبعة العربية الورقية، على مدى تاريخها، كانت مخلصة لجهود الكتابة عن الصين، في مدونات الرحالة والجغرافيين، لكنها تأخرت طويلا في الترجمة عن الصين، وقد حانت فرصة تدارك ما فاتها، عبر وسيلتين متوازيتين، هما: تلبية حاجة المكتبة العربية إلى هذه الترجمة التي تركزت على مصادر الفكر والإبداع الصيني القديم، وتجاوز حدود النشر الورقي بالتطور إلى آفاق إلكترونية، وصولا إلى ساحة اطلاع أكبر، وتعويضا عما فات المكتبة العربية ترجمته من الكلاسيكيات الصينية. وفي تقديري أن قراءة مصادر الفكر الصيني في مدارسه الأساسية؛ الكونفوشية والطاوية والموهية والتشريعية ... إلخ، يمكن أن تفيد، على نحو ما، في التعريف بالشخصية الثقافية والحضارية للصين، وفي دعم جسور الاتصال التاريخي معها، فضلا عن شيء آخر أظنه من ضمن واجبات أو مسئوليات النشاط الترجمي في الحضارات العريقة، ومنها مصر، وهو الحفاظ على الذاكرة الثقافية للحضارات الإنسانية الكبرى، وهو مجهود يتجاوز حدود أي فرد مهما حاول، ومهما ادعى من إجادة أو إتقان في أدوات النقل بواسطة الترجمة. وبالمناسبة، فربما يلزم هنا التنويه، أو الاعتراف، بأن ما قمت به من ترجمة لأهم كتب التراث الصيني، مثل: كتاب الحوار، والطاو، وسياسات الدول المتحاربة، وكتاب الأغاني (أو الشعر القديم)، وفن الحرب، وغيرها؛ كان يهدف إلى تعريف القارئ العام بمحتوى هذه النصوص، وذلك حين تبنت صحيفة «أخبار الأدب» (دار أخبار اليوم) هذا المشروع ودعمته، منذ اللحظة الأولى؛ ومن هنا فقد روعي في مستوى الترجمة البساطة والوضوح والسهولة، قدر الإمكان، دون الغوص فيما تستوجبه ضرورات النقل الأكاديمي المتخصص، أو التحقيق العلمي الدقيق لنصوص شكلت الخصائص الذهنية لمنطقة ممتدة في شرق آسيا، أوسع كثيرا من حدود الصين الجغرافية، لتشمل اليابان وكوريا وفيتنام، بل ربما ما هو أبعد من ذلك. ولعل هذا هو الدافع الأساسي الذي شجعني على التعاون مع مؤسسة هنداوي؛ ذلك أن مساحة النشر الإلكتروني بمداها الواسع وآفاقها الرحيبة، يمكن أن تسهم في تحقيق الهدف الأصلي لترجمة هذه النصوص. مع تحياتي وتقديري للقارئ وللمؤسسة، معا!
محسن فرجاني
القاهرة، في يناير 2022م
المقدمة
ليس في التاريخ كله أمة أشد صلابة وتماسكا مثل الأمة الصينية، كما إن التاريخ كله لم يشهد أمة طالت بين أهلها النزاعات والحروب مثل الأمة الصينية أيضا. فالعبارة الأولى صحيحة برغم الثانية، بمثل ما أن العبارة الثانية سبب ونتيجة للأولى، ولا تناقض هناك أو تضاد، بل مجرد تعيين لقاعدة من قواعد الفكر الفلسفي في الصين القديمة ترى أن الأضداد يمكن أن تخلق تجاذبا أو تنافرا بين حدود متقابلة مثلما يمكن أن تراوح بين أطراف متعادلة تحفظ للأشياء والناس حركة دائمة ومتصلة ، وتحافظ على طبيعة متأصلة في الحياة الصينية الاجتماعية والفكرية. ترى في الثنائيات المتقابلة أساسا راسخا من أسس البقاء، فمن لقاء الأرض والسماء يأتي الملوك، أبناء السماء، لكنهم ليسوا من الآلهة ولا هم على شاكلة البشر، ومن رحم الجبال والأنهار تولد الطبيعة، وبين الملوك والدهماء يكتب التاريخ الصيني صحائف بقائه ملء الزمان. وكانت مخططات الفكر الكونفوشي تنتظم ثنائية طرق وأساليب التعامل بين الآباء والأبناء، والإخوة الكبار والصغار، والرجال والنساء، والحكام والمحكومين ... إلخ.
بين الحرب والسلام قامت التسويات، وبين كل ألوان الصراعات قامت حدود وسطى للتسوية، بل إنك تستطيع القول بأن التسوية هي جوهر الفكر الصيني كله. وليس غريبا أن يزعم دارسو الفلسفة بأن السمة الغالبة على الثقافة الصينية طوال عهودها هي «الوسطية»؛ فتاريخ الصين عبارة عن حركة جدل بين متناقضات متقابلة تنتج دائما تسويات مؤقتة لا تلبث أن تسلم قيادها إلى طرفي صراع جديد. كان ذلك حال الفكر في الصين حتى قبل أن تفد إليها «المادية الجدلية» في العصر الحديث. «الوسطية» إذن هي طبيعة الفكر الصيني، و«التسوية» بين طرفي نقيض أو أطراف متنازعة هي جوهر التاريخ الاجتماعي والفكر الفلسفي في الصين (هذا إذا تجاوزنا عما يثار أحيانا ومن مفكرين ومحللين هنا وهناك من أنه لم يكن لدى الصين، يوما، فلسفة على أي نحو!) تاريخ الصين هو حكاية التسويات لنزاعات متواصلة، فالصراعات، في حقيقة الأمر، مجرد آراء متضاربة بين أبناء بيت واحد، والبنية الفكرية (أو «البيت الذهني») للصين على حد تعبير صحيح وواع للمترجم القدير الأستاذ شوقي جلال، اعتادت المواءمة بين أطرافه المتصارعة بتسويات متجددة، حتى لقد يحار المرء متسائلا عما يسبق الآخر في أحوال تاريخ الفكر في الصين، هل هو النزاع أم التسوية؟
خرج الفكر الفلسفي الصيني من قلب الصراعات، وعرف كيف يتعامل معها وكيف يحترم شئون البشر بكل ما فيها من تناقضات، فتاريخ الفكر في الصين غارق حتى أذنيه وسط حشود البشر، يعيش بينهم ويكتب سجل الحياة بأيديهم، ويصوغ مقولاته فلاسفة لا يعلم أحد أين عاشوا بالضبط، ولا متى وكيف ولدوا وماتوا. والفلسفة الصينية، على عكس مثيلتها في اليونان، لم تتعال على الناس ولا سخرت من الدهماء، ولا اعتبرت الفكر ترفا للسادة المهذبين أو حكرا عليهم وحدهم دون العبيد، ولا وضعت فوق البشر مثالا أرفع وأكمل، ولا سبحت في غياهب ما وراء الطبيعة.
قامت الفلسفة الصينية على أساس الصيغة الوسطى، والتسوية بين أطراف المتناقضات، والاعتداد بشئون البشر وسياسة أحوالهم. ف «السياسة» بمعنى تدبر أمر ما ينشأ بين الناس والمجتمعات والدويلات من نزاع أو تعارض والالتفات إلى ما يتصل بمعاشهم وعلاقاتهم الاجتماعية من مصالح وتعيين الحدود «الوسطى» العادلة فيما يتوجب عليهم من قواعد معاملات. كل ذلك يمثل العنصر الأساس في الفكر الصيني. ولطالما انشغلت الفلسفة الصينية بما هو قائم في هذه الدنيا دون أن تتطلع إلى ما هو أبعد من حدود المجتمع الإنساني، وإذا كان صحيحا أن حدود اهتمامها بالإنسان لم تتطابق كثيرا مع الشروط الواجبة لمراعاة حقوق أفراده من منظور الفلسفة الأوروبية، فقد كانت النزعات الفردية وجموح الجماعات القليلة الخارجة عن نمط الثقافة السائد والأعراف الاجتماعية تؤدي دائما إلى الفوضى، وتبدد قيمة الحياة في مجتمع لم يعرف لبقائه قيمة إلا في حياته؛ فلم يكن لدى الصينيين مثال أفلاطوني خارج وجوده، متعال عليه، ولا جوهر أرسطي (شبيه بالمثال في تعاليه) يتجاوز قيمته وتمثيله لحقائق حدود المجتمع الإنساني، وإنما كانت الصين ترى في الناس وحياتهم ومجتمعهم الكبير أكبر قيمة وأهم وجود، بالدرجة التي يتضاءل معها أي وجود آخر غيره، من ثم لا نستغرب ما يبديه الصينيون من استنكار عندما توصف سياسة بلادهم بأنها تنتهك حقوق الإنسان، فالتجربة التاريخية والحضارية استوجبت تنوعا في رؤيتها لقيمة الوجود الإنساني، ولا يبدو غريبا لدارس الثقافة الصينية أن يرى ثمة فرقا بين من يعد مثال الفرد الأقرب للمثال/الحقيقة هو النموذج المكتمل لمعنى الإنسانية مقابل تصور آخر يرى في الحشد الاجتماعي أو الكتلة الحضارية الهائلة المتحركة عبر التاريخ مشهد حقيقة كاملة.
كثيرا ما كانت الحقائق في الصين تسكن وسط حشود البشر، الذين لم يحدث قط أن جاءهم مبشر بمثال ولا بعالم وراء هذه الدنيا (ولا كانت الدنيا دنيئة بهذا اللفظ!) بل إن كونفوشيوس نفسه كثيرا ما كان يقرر لمستمعيه أنه لم يأت بقواعد أو تصورات أو أنماط أخلاقيات من عنده، بل هو مجرد ناقل للتراث، ولطالما أكد على ذلك المعنى في تحقيقاته للكتب القديمة، وقصارى ما كان يمكن أن ينسبه لنفسه هو أنه مجدد لقيم المجتمع القديم!
غريب حقا أمر أولئك الذين يشايعون تصورات لحقوق الإنسان القائمة، في حقيقتها، على مقولات مستمدة من مجتمع كانت مواريثه تنتقص من كمال الوجود الإنساني لصالح مثال ضبابي غائم هو أكثر من رمز متعال، وأغرب منه هو محاولة فرض ذلك التصور بشيء أقرب لما كان يفعله أحد المهرجين في الأساطير الصينية القديمة، ممن كانوا يبيعون الأحذية للغرباء ويطالبونهم - عندما تضيق على أقدامهم مقاسات الأحذية فتبرز منها رءوس أصابعهم - بأن يقطعوا الأصابع بالمقص لعلها تنضبط مع قالب الحذاء!
ليس في نماذج الفكر نمط أفضل، لكن التصورات المقتطعة من سياق تجعله يبدو كذلك، والمفارقة أن مشاهد الحياة في المجتمع الإنساني - الصيني - كانت تنفر من التجريد وتتأبى على الخضوع لمثال متجاوز حدود الملموس في علاقات الناس بعضهم ببعض، ولم تستدع تعقيدات الواقع مثالا أرفع وأكمل بقدر ما استدعت مفاهيم تقوم على قواعد للسياسة والأخلاق.
فالسياسة والأخلاق هما أركان البناء التقليدي في الفلسفة الصينية، ومن عباءتهما خرجت كل الأفكار والفلسفات الصينية، على أن أهم المدارس الفكرية ظهرت في فترة اصطبغت بالصراع الدامي بين أجزاء الوطن الذي انقسم إلى دويلات تناوئ بعضها بعضا، تتحارب تارة وتتصالح أخرى، حتى قام بين حدودها جدار دفاعي عظيم ، وتاريخ الأمة الصينية شاهد على أن النزاع - حتى العسكري منه - بين أقاليم يضمها تاريخ مشترك وثقافة واحدة ولغة ووجدان ومصير واحد يمكن أن يكون عرضا لتقلبات كيان تاريخي تعتريه التقلبات والهزات وتقع بين قطاعاته من آن لآخر شقوق غائرة، وتدمي أطرافه الجروح النازفة ثم لا تلبث أن تلتئم، خصوصا أن الحروب التي جرت سجالا بين الأقاليم كانت تنبع أصلا من قاعدة في الأخلاق والسياسة الصينية ترى بأن هدف الحرب هو الوصول إلى الحل السياسي، وقصارى ما يسعى إليه المقاتل هو التسوية بإخضاع الأطراف المناوئة للقبول من بين اختيارات متاحة، وليس بالإبادة أو التفرقة أو الاستغلال أو الاستعباد، فقد كانت الحرب، في الفكر الصيني، هي السياسة بوسائل أخرى، حتى قبل أن يقرر تلك المقولة «كلاوزفيتز» بما يقرب من ألفي عام، لكن كيف؟
من يقرأ التاريخ الصيني القديم يلاحظ أن معظم المدارس الفكرية نشأت - أو نشطت، في الواقع - في فترة من أكثر فترات التاريخ اشتعالا بالحروب والمواجهات بين الدويلات الصينية القديمة، حتى ليقال بأن «المائة مدرسة فكرية» التي ترمز إلى التنوع الهائل في ساحات الجدل الصيني القديم بين اتجاهات الفلسفة المختلفة، تشكلت كلها على وجه التقريب، في الفترة الممتدة من العصر التاريخي المسمى ب «الربيع والخريف» (770ق.م.) إلى العهد الذي يطلق عليه «الدول المتحاربة» (475-221ق.م.) وهي الفترة التي تحققت في نهايتها وحدة الصين الكبرى في كيان شامل إبان عهد تشين (221-206ق.م.). ليس صحيحا، تقريبا، أن اشتعال الحروب بين دويلات أمة واحدة كان سببا لفنائها، ولم يحدث على مر التاريخ في الصين أن تبدد الإيمان ببقاء الأمة أو باستمرار الكيان الحضاري الذي صنعته الأجيال، لم يكفر أحد بمواريث الوحدة ولا بهويته برغم عهود النزاع والصراعات الطويلة، لم يكفر أحد بالأمة ولا صالح أعداءه عبثا في لحظة طيش، وأقصد هنا أعداء وحدته ومسيرة حياته (أعداء الخارج، كان لهم شأن آخر) صحيح أنه كان هناك على الحدود أعداء من القبائل المتاخمة، وكانت الصين، بكل ما هو راسخ في أعماقها من إحساس بالتفوق على كل ما هو خارج تلك الحدود، تنظر إليها في إباء وشموخ، فمن ثم لم يكن ممكنا لها أن تصالح أحدا من أولئك الأدنى منزلة وحضارة، وكانت لحظة الطيش الوحيدة التي ارتكبها أحد الأباطرة القديسين - ولم يسامحه فيها المؤرخون - هي ارتداؤه زي إحدى تلك القبائل الهمجية، أثناء حفل عشاء أقيم احتفالا باتفاق تم توقيعه بين كل الأطراف ضمانة لاستقرار الأحوال.
كانت الصين، وقبل أن تتمخض نزاعاتها عن تسوية كبيرة بحجم الوحدة الكبرى بين دويلاتها، قد مرت بفترة تألق فكري ازدهرت فيها العلوم ونهضت ثقافة «المائة مدرسة فلسفية» التي تنتسب إليها ركائز الاتجاهات الفلسفية الكثيرة التي اشتهر بها تاريخ الفكر الصيني طوال عهوده وحتى اليوم، وأشهرها أربعة مذاهب كبرى صارت علامات على مذاهب في الفكر ولخصت حوارها الحضاري كله في اتجاهاتها الفلسفية الأربعة: الكونفوشية - الطاوية - الموهية - القانونية. وبالطبع فقد بقي منها فرسان اثنان ما زالا يتنازعان حلبة السباق حتى الآن، وهما: الكونفوشية والطاوية.
وعلى أساس هذه القاعدة الفلسفية أسس المفكرون العسكريون - الذين دأبت التصنيفات المذهبية على استبعادهم من السياق الفكري الكبير - أصول أفكارهم وتصوراتهم ومنطلقاتهم النظرية، برغم براعتهم في بلورة قواعد وأصول الفكر السياسي والعسكري، مما تميزت به الحضارة الصينية دون غيرها من سائر حضارات العالم القديم، وهي الأفكار التي كتب لها الرواج والانتشار فيما بعد، خارج إطار إقليم الحضارة الصينية ليشمل معظم مناطق شرق آسيا: اليابان، كوريا، الهند الصينية ... إلخ.
قد يمكن القول بأن رجال العسكرية جزء لا يتجزأ من البناء الفلسفي الصيني، سواء بما هو مقرر من الخصائص العامة للأصول الفكرية التي استندوا إليها في إقامة نظرياتهم، أو فيما قرروه هم بأنفسهم أو ابتكروه من مقولات عامة، مثلهم كمثل الفلاسفة القدماء في استخدامهم للأفكار وسيلة لبناء الدول والإمبراطوريات، وفي الحفاظ على الكيان الوطني، إذ بقيت العسكرية الصينية - تقليديا وعلى مر التاريخ - أعظم عنصر في منظومة الخدمة الوطنية الصينية بما رأته من توظيف للسلاح يستهدف غايات سياسية بالأساس [وبالطبع فهذا يقود إلى استنتاج بأن الفلسفة الصينية، هي الأخرى، كانت ابنة بيئتها الضيقة، لصيقة موطنها بالدرجة الأولى، مع موجة انتشار ضئيلة في الجوار المتاخم] ويمكن ملاحظة ذلك من مقولة يعدها النقاد استقراء عاما أو حكما شاملا، في حين أنها تتعلق بخصوصية الداخل الصيني أكثر من أي معنى آخر. تلك هي مقولة سونزي التي فحواها «إن الحرب مسألة ذات شأن بالنسبة للدولة، وهي تتعلق ببقاء وبناء الأمم (اقرأ الدويلات).»
وفي تقديري - وقد أكون مخطئا - فإن أهم أركان الفكر الاستراتيجي الصيني القديم يتركز فيما قامت عليه أفكار مدرستين اثنتين لا ثالث لهما:
أولاهما:
مدرسة رجال الفكر المعروفين باسم «تسونغ هنغ» أي: «مدرسة المناورات السياسية» وهم رجال التخطيط السياسي والعسكري الصيني القديم [وقد قدمت لهم في ترجمة كتاب «سياسات الدول المتحاربة» الجزء الأول، الصادر عن المركز القومي للترجمة، وزارة الثقافة، القاهرة] وكانوا قد لعبوا أدوارا مهمة في الصراع الدائر بين الدويلات الصينية إبان فترة الدول المتحاربة.
ثانيتهما:
مدرسة المفكرين العسكريين الذين صاغوا نظرياتهم في مؤلفات نظرية وكانت لهم إسهامات بارزة في مجال التطبيق الفعلي لآرائهم بحكم ما تولوه من وظائف عسكرية أو سياسية في فترات مختلفة، وهم أولئك النفر الذين استبعدتهم تصنيفات النقاد من خانة الفلاسفة لتضعهم في صفوف الإدارة، باعتبارهم موظفين رسميين لا أكثر، في حين أنهم بمنطلقاتهم النظرية كانوا أقرب للفلاسفة والمنظرين منهم لرجال الحرب المحترفين.
وبهذا المعنى أقدم لهم، هنا، وأترجم محتويات هذا الكتاب الماثل بين يديك، سيدي القارئ، بوصفه نصا فلسفيا لمفكر عاش في العصر القديم، كغيره من الفلاسفة، بغير اسم معروف ولا تاريخ ميلاد أو وفاة، ولا حتى قبر يضم رفاته، للدرجة التي حدت بكثير من الدارسين إلى التشكيك في وجود مثل هؤلاء العباقرة أصلا.
على رأس كوكبة من رجال العسكرية الصينية يبرز خمسة من هؤلاء الفلاسفة (كعدد عناصر الكون في الفكر القديم!) وهم: سونزي [أو: سون تسي، أو سون تزي .. لا يهم، فالترجمات صوتية، ومعظمها يقترب بدرجات من النطق الأصلي] وهو الأكثر شهرة، في العصر الحديث، بعد ذيوع ترجمة كتابه «فن الحرب»، ويأتي بعده الفيلسوف الرائع «سمارانجيو»، ثم «أو تشي»، ف «سونبين» (صاحب الكتاب الذي بين أيدينا)، وأخيرا وليس آخرا، بالتأكيد «ويلياو»، صاحب أهم كتاب في التراث العسكري الصيني، وهو الكتاب الذي يحمل اسمه «ويلياو تسي»، علما بأن مقطع أو كلمة «تسي» أو «تزي» أو «تزو»، يعني - في الصينية القديمة - «السيد»، «الأستاذ»، «الشيخ»، واللقب يأتي في الصينية الكلاسيكية، على غرار الخواص التركيبية للغة التركية، في باب المناداة، بحيث يتم إطلاق اللقب على الشخص بعد ذكر الاسم الأول مباشرة، فلفظة «سونزي» تعني: الشيخ سون تقريبا، أو تعني: سون أفندي، سون بك تحديدا! أما لفظة «كونفوشيوس»، أو «منشيوس» فهي تسميات جرت بمنطق الاستدخال ضمن ثقافة النخبة، حيث كان المبشرون الأوروبيون بخلفيتهم الثقافية وتفضيلاتهم للنمط اللاتيني في التسميات هم الذين أضافوا إلى أصل الكلمة لواحق تجري مجرى اللاتينية في تسمية تنطق بعلامات دالة على المذكر في أسماء الأعلام، ومثلا فكونفوشيوس يعرف في الأصل الصيني، قديما وحديثا أيضا، باسم «كون تسي»، مثلما يشار إلى منشيوس في الصينية باسم «منغ تسي»، لكن تلك مسألة أخرى.
المهم في هذا الصدد ملاحظة أن معظم هؤلاء الفلاسفة (وبرغم أنهم، مثل الكثير من الفلاسفة القدماء، ظهروا وكأنهم طلعوا من رحم الغيب فجأة مثلما ماتوا وقبروا غفلة وفي منتهى الغموض، إلا أنهم ...) قدموا إسهاماتهم تلبية لمهام تاريخية ألقيت عليهم أعباؤها، بحكم ما شهدته عصورهم من حروب ونزاعات قتالية بين الدويلات الصينية، مما تطلب منهم النزول إلى معترك الفكر بكل ما لديهم من رصيد في الفكر، وذهب بعضهم إلى جبهات القتال، مثل سونبين صاحب هذا الكتاب، وبقي آخرون داخل ردهات القصور الإمبراطورية يشرفون على سير القتال، لكنهم جميعا كانوا يسعون وراء غاية سياسية غلبت ما عداها، وهي: «إصلاح أحوال البلاد، كمقدمة ضرورية لكسب المعارك على الجبهات»، حتى لقد يقال بأنهم كانوا عسكريين ذوي رءوس سياسية؛ لأن اهتمامهم الأساسي كان يكمن في البحث حول الكيفية التي يمكن بمقتضاها استخدام السياسة في حل النزاعات العسكرية، فكان سونزي، على سبيل المثال، يقول في كتابه «فن الحرب» (باب التخطيط للهجوم): إن أعظم إنجاز يمثل قمة الوعي والحكمة هو إخضاع العدو بغير حرب، والخطة الممتازة هي تلك التي تهدف، أولا إلى إحباط خطط العدو ونزع أفكاره وقناعاته، ثم تسعى في النقطة الثانية إلى هدم صرح علاقاته الخارجية، وفي الخطوة الثالثة تستهدف هزيمة قواته العسكرية واحتلال مدنه الحصينة (... عند الضرورة).
فأنت ترى أن تلك كلها دلالات تصطبغ بألوان مستمدة من أجواء الفكر السياسي، وهو ما منح أفكار ذلك الصنف من العسكريين الطابع الذي يميز الرؤى (الاستراتيجية) التي تتعامل مع القضايا من زاوية أكثر شمولا، اهتداء بمبادئ أساسية. ثم إن الكثير مما قاله سون زي - وغيره - يمكن التماس وجه الإبداع فيه، من تلك الزاوية. خذ مثلا عبارة «الانتصار بغير حرب»، ألست تجد فيها توسلا بنهج يتجاوز المفاهيم الفنية الجامدة في إدارة المعارك على ساحات القتال؟
إن من يطالع النصوص الأصلية لمؤلفات الحرب القديمة في التراث الصيني، يصادف الكثير من الرؤى والصياغات الفلسفية، من ذلك مثلا أنه يطالع باستمرار مصطلحا مشهورا في الفلسفة الطاوية، وهو «الطريق»، ولا يخفى ما له من ظلال في الفكر «الطاوي»، لكنه أيضا يشير في اصطلاح الفكر العسكري إلى «السياسة». اقرأ أي كتاب تصادفه في المكتبة العسكرية القديمة، تجد هذه الكلمة أمامك، عند السطور الأولى، وهي من مشتقات الأهمية المعطاة لوسائل الحل السياسي، وكان أول من اتضحت لديه ملامح تلك التصورات الفلسفية هو سونزي نفسه، ثم جاء من بعده نفر من المفكرين العسكريين الذين تأثروا بهذه التأملات الفلسفية، منهم: «أوتشين» الذي راح يؤكد في مؤلفاته، قائلا: «من المهم لبلد يرغب في تحصيل عناصر القوة والاستقرار أن يدعم سياساته داخل حدوده، في الوقت الذي يعد فيه قواته على جبهات المواجهة»، هذا بالإضافة إلى أنه اهتم بتناول الأصول الاجتماعية للحرب في موضع آخر - وقدم أفكارا قيمة حول الفرق بين الحرب العادلة والجائرة متعمقا في فهم طبيعة الصراع من الناحية العسكرية (وهو الجانب الذي لم يلق اهتماما كافيا، في التراث الصيني القديم؛ لأن غلبة التناول التطبيقي/العملي لمفاهيم القتال أقصت جانبا التأمل في طبيعة الحرب، هذا من ناحية) ومن ناحية أخرى، فلا بد أن نتذكر طوال الوقت أن الفكر الصيني لم يتطرق إلى التساؤل حول الميتافيزيقيات، وبالتالي فلم ينشغل بالبحث في صور أو مثال أو جوهر يستصفي السمات أو الطبائع الأصيلة للظواهر المختلفة، ومن ثم فلم يجتهد المفكرون العسكريون في تحديد أو مناقشة طبيعة الحرب، فتأمل ذلك. ونلاحظ أن سونبين يردد الكثير من النصائح التي تستلهم تلك الرؤية كذلك، فاقرأ له وهو يقول: «من الأمور ذات الأهمية القصوى للدولة أن تكتسب القدرة على إحراز النصر في المعارك، وقت الحرب، وأن تحافظ على قدراتها العسكرية، وقت السلم؛ فتلك هي الوسيلة لتحقيق النفوذ والهيمنة وسط الممالك.»
وكما هو مفهوم في الفكر الصيني، فالدولة هي أحد مرتكزات البناء الكونفوشي (بل هي قاعدته الأساسية) وبالتالي، فقد كانت تلك الاجتهادات الفكرية لفلاسفة الحرب، تراعي خصوصية مجتمعها ودواعي بيئتها الاجتماعية وسماتها الأصيلة، ولم يكن ممكنا لأي نظرية أو اجتهاد بالفكر أن ينأى بعيدا عن ساحته الحضارية، حتى أكثر الاتجاهات الفلسفية تمردا (الطاوية، مثلا) لم يكن لها أن تخرج عن إطار مفهوم في صياغة صينية تقليدية، غير أنه من اللازم أن أشير هنا إلى أن تلك التوجهات السياسية للفكر الصيني، لم تكن مخلصة - طوال الوقت - لقواعدها المذهبية، فكانت الأعمال النظرية - أحيانا - (وبرغم ابتكاراتها وجوانبها الإبداعية) كانت تبالغ في تقدير أهمية دور القائد - بالمعنى الحرفي - دون مجموع الجنود وحشود التشكيلات، فقد لوحظ أن عددا لا بأس به من الاجتهادات النظرية العسكرية في التراث الصيني تحرص على وضعية أدنى للمقاتلين والجنود، بالنسبة إلى قادتهم، وفي حين أوصت ببذل كل جهد ممكن لتوعية القادة وتنمية قدراتهم المعرفية، نراها حريصة - للغرابة - على تعمية أذهان الجنود، بحرمانهم من فرص الوعي والنبوغ والترقي، ومن ثم فقد أقرت مفهوما خرافيا للتاريخ القديم يقوم على الزعم بأن حفنة من الأبطال هم وحدهم الذين صنعوا المصير وسطروا صفحات من البطولة والمجد، ولو أن سونبين - صاحب الكتاب الذي بين أيدينا - يقر في غير موضع من مؤلفه المشهور بأهمية الدور البشري في الحرب (في زمن لم يكن يعتد فيه كثيرا بهذا الجانب)، وكان قد طرح عناصر ثلاثة ذات أهمية كبيرة في حسم الحرب، وهي: المكان الملائم، الزمان المناسب، العنصر البشري.
لكن سونبين - في معرض تأكيده لقيمة البشر في المعارك - يبرز تأثره بما نقله عن كتاب «سيما فا» (أحد النصوص العسكرية التراثية) خصوصا في الجانب الذي يتعلق بمبادئ الإنسانية والعدل (على النحو المفهوم فيما تقرره الأفكار الكونفوشية).
واحد آخر من المفكرين العسكريين ذوي الاتجاه الفلسفي، مثل «ويلياو تسي»، كان ينطلق فيما وضعه من نظريات بوجهات نظر متأثرة برؤى اجتماعية، ففي آرائه التي يعرض لها في كتابه المشهور باسمه - وهو بالمناسبة أحد أهم المؤلفات السبعة في التراث العسكري الصيني - يؤكد أن الحرب إحدى وسائل إدارة الشأن الاجتماعي الداخلي في البلاد، وأنها تتميز بطابع خاص في النهوض بالاقتصاد (وأفكاره في هذا الصدد تبدو مشايعة لمذهب فلسفي متفرع عن الكونفوشية، تمثله مدرسة فلسفية تسمى ب «القانونية») وفي تصوره للأسس التي يقوم عليها إصلاح البلاد وتنظيم شئونها، فهو يطرح قاعدة من ثلاث نقاط، على النحو التالي:
أولا:
الأرض، وهي أصل معاش الناس وكسب أقواتهم.
ثانيا:
أسوار المدن باعتبارها الدرع الواقي.
ثالثا:
الحرب بوصفها وسيلة الدفاع عن المدن.
وهكذا، فهو يرى «أن تطوير أدوات الزرع والحصاد، يضمن أسباب العيش، وبفضل أسوار المدن تبقى الأرض مصونة، والتمرس في الحرب والقتال يحمي المدن من مخاطر الوقوع تحت الحصار.»
فهذه النقاط الثلاث ركائز مهمة في سياسات إصلاح الوطن الصيني القديم ومعالجة شئونه الداخلية على ما يقرر هذا السيد ويلياو تسي، ثم إنه يعد الحرب أهم هذه العناصر (وبالطبع، فالأكفاء والمؤهلون هم وحدهم الذين تنصلح على أيديهم شئون البلاد، وعلى رأسهم أمراء الدويلات باعتبارهم الذين يملكون سلطة تعيين النظريات المفيدة والصحيحة في هذا الشأن، ولطالما كان كبار العسكريين والقادة والفلاسفة رهن إشارة هؤلاء إذا ما لزم الأمر ... إلخ.)
هذا فيما يتصل بالخلفيات الفكرية والمذهبية التي تصنف انتماء أولئك النفر من الفلاسفة، لكن ماذا عن الاعتبار الأول الذي ظهروا به على مسرح التاريخ، أقصد بذلك طبيعة ما تخصصوا به في نظر الناس جميعا، بوصفهم رجال حرب، سواء على مستوى التنظير أو في الممارسة الفعلية لمهام أنيطت بهم كقادة عسكريين في ميادين المعارك.
ولنتناول أبرز أولئك القادة بشيء من الإيجاز، وبترتيب أهميتهم وشهرة آرائهم في مبحث التراث العسكري وثقل ما قاموا به من أدوار ساهمت في صياغة ملامح الفكر العسكري الصيني على مر التاريخ: (1) «سونزي»: وهو من مواطني دولة تشي القديمة، عاش في نهاية الفترة التاريخية التي تسمى ب «الربيع والخريف» (770-446ق.م.)، ويعد مؤسس العسكرية الصينية، وكان قد هاجر إلى دولة «لو» [تنطق كما في: «لوركا»]، والتقى بحاكمها ولقي منه التشجيع والتقدير لمواهبه العسكرية فعينه قائدا عاما للجيش، فأبلى بلاء حسنا في الحرب ضد دولة تشو، إذ تغلب على قوات تعدادها مائتا ألف مقاتل بجيش لا يزيد عدد أفراده على ثلاثين ألف جندي، ووصل به الأمر أن استطاع اقتحام عاصمة تشو، ويهدد الدولتين المتاخمتين «تشي»، «جين» فذاعت شهرته، ونعمت دولة لو بزمن من المجد والقوة. أما هو فقد ترك للتاريخ واحدا من أهم الكتب العسكرية - ليس فقط في تاريخ الصين بل أيضا في تاريخ الإنسانية كلها - وهو كتاب «فن الحرب» [مع ملاحظة أن الكتب التي تحمل مثل هذا العنوان، وهي كثيرة، تنسب الفن لصاحبه، فيقال: «فن الحرب عند سونزي»] وهو أشهر الكتب القديمة في موضوعه ويبلغ محتواه ثلاثة عشر فصلا، بالإضافة إلى عدة فصول أخرى تم اكتشافها أثناء أحد الحفائر الأثرية بإقليم شاندونغ (الصين الشعبية) عام 1972م.
كان سونزي هو القائل بأهمية استغلال المواقف الطارئة، وهو ما أحسن الاستفادة منه خليفته (وربما كان في الوقت نفسه، أحد أحفاده) سونبين الذي جاء بعده بنحو قرن كامل من الزمان، حيث أخذ على عاتقه تطبيق مقولة مفادها إنه «من اللازم جعل الموقف الواحد مفيدا لقواتنا، وضارا بالعدو»، كما يعزى إليه إرساء مبدأ «هزيمة العدو بالهجوم المباغت». صحيح أن سونزي كان يؤكد على أهمية الهجوم، لكن سونبين استطاع تطوير تلك النقطة في مقولته الشهيرة: «كن دائما المهاجم، ولاتكن الطرف المدافع أبدا.» وقد يمكن فهم الفارق في هذين الاتجاهين على خلفية التطور التاريخي الذي شهد أيام سونبين، أحوال مجتمع تصدرته قوى وشرائح اجتماعية وأجيال طامحة إلى النفوذ والسيطرة بدرجة فاقت ما كان سائدا زمن فيلسوف الحرب الأول سونزي، واستطرادا من هذه النقطة فقد كان سونبين يؤكد على أهمية حصار المدن، على عكس سونزي الذي رأى في مثل هذا التصرف تبديدا للجهد وتجاوزا للحنكة وأصول المهارة، والفارق هنا يرجع، بالطبع، إلى ما شهدته الفترة الوسطى - زمن الدول المتحاربة - من انتعاش أحوال وازدهار اقتصادي ضاعف من أهمية المدن، وبالتالي فقد تبدت ضرورة حصارها وقت الحرب، لا سيما أن التقدم في الوسائل الفنية بفضل درجة متطورة من الصناعة وطفرة في وسائل التسلح عالية الكفاءة، جعل الفرصة مواتية لاقتحام المدن الحصينة، في ذلك الزمان البعيد ... إلخ.
وينسب إلى سونزي الفضل، كذلك، في إرساء مبادئ أساسية في فنون القتال ألهمت الأجيال اللاحقة بإمكانات مبدعة للتطور، فهو حين قال بضرورة جذب انتباه قوات العدو بانطباعات زائفة، تمهيدا للقضاء عليها، كان يمنح تابعيه فرصة هائلة للإبداع، فهذا «أوتشي» - أحد أخلص التابعين - يطبق تلك المقولة بتطوير ملائم لظروف معركة «مالين» - أشهر معارك العصر القديم - فيوقع بأعدائه في شر هزيمة، كما استفاد سونبين من فكرة سونزي حول تجنب قوات العدو القوية، وقدم رؤية متطورة لها في مبدأ جديد يقوم على «العمل بكل وسيلة على تشتيت قوات العدو، في الوقت الذي يجري فيه الحفاظ على تماسك قواتنا بهدف مهاجمته.»
كان سونزي قد أشار إلى ضرورة الحصول على معلومات موثوق بها عن العدو، دون اللجوء إلى الكهانة والعرافة، وإنما عبر العالمين ببواطن الأمور، وهو اتجاه يعكس رؤى متحررة من جمود الكهنوت الفكري السائد، وقتئذ، ومن بعده جاء «أوتشي»، ليركز على أهمية إلمام القائد بشتى ألوان الفنون الحربية؛ للتعامل مع مختلف الظروف تفاديا للهزيمة، وهو نمط من التفكير يختلف تماما عن الأعراف المستقرة في زمانه، والتي كانت تعزو النصر أو الهزيمة إلى أقدار السماء التي لا يمكن تجنبها بأي حال. (2) «أوتشي»: (تقريبا 440-381ق.م.) من مواطني دولة «وي»، عاش في بداية عصر «الدول المتحاربة»، وكان قد هاجر إلى دولة «لو»، وتحول عن دراسة الفلسفة الكونفوشية إلى التخصص في فن الحرب، وتولى قيادة قوات دولة «لو»، واستطاع التغلب على جيش «تشي»، ثم عاد إلى «وي» ليبقى فيها مدة سبعة وعشرين عاما في منصب المحافظ، حيث أجرى العديد من الإصلاحات العسكرية والسياسية والاقتصادية؛ ردعا لدولة تشين عن مد حدود أطماعها صوب «وي»، وإعلاء لمكانة البلد بين جارتيها القويتين «هان»، «جاو»، مما مكن ل «وي» أن تمد نفوذها وتفرض سيادتها فوق أراضيها المترامية، لكن - ولسوء حظ الرجل - فقد حاصرته الوشايات، ليلقى مصيره في المنفى بعيدا (في دولة «تشو») حيث عينه حاكمها في منصب رسمي رفيع، يشرف من خلاله على إصلاحات عامة بالبلاد، وفجأة، يتم اغتياله على يد أحد نبلائها، بعد أن وضع كتابه «فن الحرب عند أوتشي»، ملخصا آراءه وتجاربه في ستة فصول كاملة. (3) «سونبين»: من مواطني إحدى الدويلات الصينية القديمة التي كانت تسمى ب «تشي»، قيل إنه أحد أحفاد المفكر العسكري الأشهر «سونزي»، بيد أن الفارق بين الجد والحفيد - إذا كان هذا الزعم صحيحا - بلغ مائة سنة تقريبا، وقد درس سونبين في سن مبكرة كتاب «فن الحرب» وتردد على الفيلسوف المشهور [أحد أعلام السياسة الصينية القديمة] «كويكوتزي»، وتعلم على يديه وكان يحضر معه حلقات الدرس فتى صغير في مثل سنه، اسمه «بانشيوان»، وتصادف أن زميله هذا استطاع الحصول على وظيفة مرموقة بالجيش، في دولة «وي»، وذلك بفضل جهود حاكمها الملك «هوي»، الذي أبدى استعدادا لتأهيل ورعاية كل صاحب موهبة، تحت إشرافه الشخصي، وبرغم ما وصل إليه بانشيوان من مركز رفيع وما بلغه من منصب قيادي، فإنه ظل يحمل في طيات نفسه شحنات من الغيرة والكراهية المكبوتة ضد زميل دراسته القديم سونبين الذي أبدى، منذ وقت مبكر، نبوغا لا حدود له في فنون القتال، وخشي بانشيوان أن تتاح لزميله النابغة فرصة مزاحمته، لا سيما أن ملك البلاد لا يدخر وسعا في استقصاء أحوال النابهين، متعهدا بحسن رعايتهم وكفالة ترقيتهم، فسارع إلى استدعائه، بالخديعة، وأقنعه بضرورة القدوم إليه، سرا، دون أن تشعر به عيون الملك؛ لئلا يحولوا بينه وبين ما قد هيأه له من فرصة اللقاء بجلالته، عساه أن يقربه إليه أو أن يتخذه مستشارا له، فاغتبط لذلك صاحبه الذي لم يكذب خبرا، وأسرع يطوي المسافات إليه، فلما انتهى به المطاف عنده، فوجئ بحرس الملك يطوقونه، ويزجون به في غياهب السجن، وما كاد يفيق من ذهوله حتى فوجئ بأشنع آلات التعذيب تمزق أوصاله (... قيل في الحوادث إنهم قد نزعوا ركبتيه - حسب طريقة صينية قديمة في العقاب البدني - ووسموا وجهه بميسم يلاحقه أينما حل، بوصفه من «معتادي الإجرام»، تجنيا وافتراء على ماضيه ومستقبله معا) ثم لما أدرك أنه يمكن أن يلقى مصيرا أسوأ من هذا بكثير، تظاهر بالجنون، فتغافلت عنه العيون المترصدة، فانتهز الفرصة واتصل، سرا، بمن أتاحوا له الالتقاء خفية، برسول من دول تشي، كان يزور البلاد في تلك الأثناء، فتحادث وإياه تحت جنح الليل، وقام المبعوث بتهريبه إلى دويلة تشي، فلقي فيها منتهى الترحيب، واستقبله القائد العام هناك، والملقب ب «تيانجي» وأحسن استقباله وأكرم وفادته، واحتفى به للغاية، حتى كان يلازمه في رحلات الصيد بصحبة بعض الأمراء والنبلاء، وقيل إن سونبين - لفرط ذكائه - كان يقترح عليه ما يتفوق به على سائر رجال المعية في القنص، بل إن نصائحه العابرة أثناء حفلات القمار كانت خير مغنم لأسعد حظوظه، فلم يسع «تيانجي» إلا أن قدمه إلى جلالة الملك الذي تحادث معه مستفسرا عن الكثير من أمور الحرب، فحاز إعجاب جلالته، فتكرم عليه بتعيينه مستشارا في الشئون العسكرية، وفي الفترة من 354 إلى 353ق.م. شنت دويلة وي الحرب على دولة جاو التي طلبت المساعدة العاجلة من تشي، وأراد الملك أن ينصب سونبين قائدا عاما لجيش بلاده (دولة تشي) لكنه اعتذر بأدب، متذرعا بما أصاب وجهه من آثار التجريس على إثر ما تعرض له من الوسم المشين، فاختير تيانجي بدلا منه، على أن يبقى سونبين مستشارا له أثناء المعارك ، فذهب وعمل جهده، من وراء ستار، على متابعة سير المعارك من البدء إلى المنتهى، لكن لوامع شهرته الحقيقية تألقت إثر أحداث عام 340ق.م. عندما اتحدت كل من دولتي «جاو»، و«وي» لضرب دويلة «هان» التي طلبت مساعدة تشي، فأرسل ملكها جيشا تحت قيادة تيانجي لمهاجمة وي التي فزع قائد جيشها «بانشيوان» (زميل سونبين القديم، الحاقد عليه) وكان شديد الاحتقار والاستهانة بقوات تشي، فنصح سونبين لهذه الأخيرة بخطة ماكرة أوقعت بغريمه بانشيوان تحت الحصار، فاضطر إلى الانتحار، بعدما سقطت عاصمة بلاده، ومن ثم ذاعت شهرة سونبين حتى فاقت حد الأسطورة، وتواترت عنه الحكايات التي رددت صيته في المعارك؛ إذ وصفته بأنه الرجل ذو الخطط الماكرة («الذي أجبر خصمه العنيد على الانتحار» هكذا قالوا!) وجاء عنه في سجلات ما سمي ب «أرشيف دولة هان» [إحدى حوليات التاريخ القديم] ما مفاده: إن كتاب - فن الحرب - الذي ل «سونبين»، كان مشتملا على تسعة وثمانين فصلا، فقدت كلها إبان عهد أسرة «سوي» الملكية [القرن 6 إلى 7 الميلادي، وهو أيضا القرن الذي شهد - بالمناسبة - تألق العلاقات العربية الصينية، في العصر القديم] وضاعت الكثير من مواريث ذلك الفيلسوف، المحارب، السياسي القديم، ومضت مئات من السنين قبل أن تظهر نسخة مهلهلة من الكتاب أثناء إحدى الحفائر الأثرية في 1972م وكان قد مضى سونبين قبلها، بعد أن تحققت لدولة تشي القديمة أسباب القوة والازدهار على يديه. وما زال المؤرخون، حتى الآن، لا يهتدون إلى تدوين معروف لسيرة حياته، فلا أحد يعرف تاريخ ميلاده أو وفاته، ليس سوى ما تذكره السجلات التاريخية المتاحة من أن القائد تيانجي «اعتزل الحياة العامة، ولحق به سونبين، وقد دأب على العزلة آخر أيام حياته» لا أكثر ولا أقل.
الأغرب من ذلك كله هو أن اسمه الحقيقي مجهول، فالمعلوم من لقبه الأول «سون» أنه يمكن أن يكون سليل عائلة اشتهرت على مر التاريخ بإنجاب العسكريين، أما المقطع الثاني من التسمية «بين» [تنطق كما في قولك «موبينيل»] فهو ليس من الأسماء في شيء، بل هو لقب آخر معناه «الأعرج» كما هو مفهوم مما يمكن أن يكون قد ألصق به بسبب عاهته التي تمثلت في عرج دائم نتج عما تعرض له من تعذيب وحشي، ظل يعاني من جرائه تشوهات أصابت قدميه، طوال حياته، وعلى هذا يكون معنى اللقب حرفيا: «سون الأعرج»، أو بمعنى أدق: «حفيد آل سون الأعرج»، أو هكذا يمكن الزعم، فيما بلغنا من التقديرات التي لا تتعدى أشباه الحقائق!
ولما كان سونبين قد أصاب من المجد مثل حظ رفيقه ومعاصره «أو تشي» (الذي قدمنا له فيما مضى) فقد أطلق عليهما، معا، لقب «سون أو». وبمناسبة حكاية الألقاب والتسميات هذه، فإن تسمية الفيلسوف العسكري الأول «سونزي» أو «سون زي» أو «سون تزو» - أيا ما كان - لا علاقة لها باسمه الأصلي، في واقع الأمر، وإنما يقرأ لقبه في الكتب القديمة، وفي سجلات التاريخ هكذا «سون وو»، ومعناه («سون» المنتسب إلى دولة «وو») أو بصيغة مفهومة عربيا «سون ابن البلد وو» (سون الويهي - إذا جاز التعبير - كتسميتك الفقيه المولود ببخارى «البخاري»، وبالمثل «القرطبي»؛ بنسبة الرجل إلى موطنه الذي عاش، أو ولد فيه)؛ وذلك لأنه هرب من دولة تشي، مسقط رأسه، إلى دولة «وو» [تنطق كما في: «داوود»] حيث نبغ وذاعت شهرته، وعلى النحو نفسه تمت تسمية سونبين، أحيانا، وفي أماكن متفرقة من سجلات التاريخ القديم (وأنا هنا أتحدث إلى من يعنيهم أمر ملاحظة طرق تدوين الأسماء في التراث الصيني القديم، وهي أعقد من أن تحصى، ويدق فهمها على المتخصص، فما بالك بالجمهور؟! لكن ما يعنينا منها - هنا - هو ما يمكن أن نصادفه في ترجمات سابقة أو لاحقة لمدونات تراثية.)
أقول إن سونبين يرد اسمه أحيانا في صيغة مختلفة، إذ يطلق عليه «سون تشي»، والسبب مكرر والعلة مستعادة، فالكل يهرب من موطنه ساعيا إلى جوار أكثر كرما، والكل ينبغ ثم يلمع نجما ساطعا في سماء المجد، ثم يتحول إلى أسطورة، ومثل كل حكايات الأساطير، تتعدد الأسماء للبطل الواحد، وتسقط ساعة الميلاد والوفاة، لتسقط معها حسابات الزمن بالأيام والسنين، ويحتوي الدهر الداهر بقاء الجميع في تحد مع النسيان إذا طغى، وقد ينكر وجود السابقين جملة، عندما يسخر من ذاكرة التاريخ الكهل ليفضح عبث التدوين واهتراء الأوراق وصحف الماضي وفوضى التراكم في جعبة التواريخ. فنحن أمام رجلين تنحصر بينهما جملة اعتراضية مقدارها مائة سنة كاملة، لكنهما صنوان في لعبة المصير، ذلك أن سونزي - وبالقدر نفسه - كان قد هاجر إلى بلد الجوار وترقى حتى اقترب من تخوم المناصب العسكرية العليا، وحقق انتصارات هائلة بفضل خططه الموضوعة لقوات دولة وو، حتى استطاعت أن تتوغل مسافة ألف «لي» في أرض غريمتها «تشو» إثر هجوم مباغت وفي العام الثاني عشر من حكم الملك «فوتشاي» (484ق.م.) أحرزت وو بفضل سونزي النصر على دولة تشي، لتتسنم بذلك ذرى المجد وتبلغ آفاق الإمبراطورية فوق الممالك، وبرغم كل سجلات الانتصار، يضيع أثر سونزي وسط الزحام ولا يعرف أحد ما الذي حدث له بعد كل ما ناله من رفعة شأن وذيوع صيت، ليس هناك سوى اضطراب الرواية وحيرة المؤرخين «لا أحد يعرف إن كان قد مات بعد ذلك مباشرة أو أنه اغتيل أو أحيل إلى التقاعد، أو حتى إذا كان قد عاش في عزلة بمحض إرادته!»
وبعد، فلم يعد سوى الأقلام والصحف، هي التي استطاعت أن تصمد للبقاء طويلا، أطول من عمر أصحابها، ومع ذلك، فلم تسلم مصادر التراث من التشكيك بسبب تلك الغلالة الضبابية التي تلف سيرة الماضي وأهله، وعلى سبيل المثال، فقد ظل كثير من الدارسين وكبار المتخصصين والثقات في العلوم العسكرية على مدى ألف عام، ومنذ بداية عصر دولة سونغ (960-1279م) يعتبرون كتب التراث العسكري الكبرى، مثل: «ليو طاو» [أي: الفنون الستة (فنون الحرب الستة)]، «فن الحرب عند سونزي»، «ويلياو تسي»، «قوان تسي»، «يان تسي»، وغيرها من المدونات الحربية القديمة مجرد محررات مزيفة لا ترقى إلى مرتبة التراث الذي يستحق الاعتبار والتقدير، ثم ذاعت في فترة من ذلك العهد نفسه آراء بين الدارسين لعلوم الحرب تقول بأن كلا من سونزي وسونبين لم يكتبا عملين منفصلين عن الحرب، بل هو كتاب واحد بعنوان «فن الحرب»، وظلت تلك الظنون تراود أذهان الدارسين حتى اكتشفت نسخة تامة ل «فن الحرب عند سونزي» ونسخة ناقصة ل «فن الحرب عند سونبين» في حفائر إقليم شاندونغ سنة 1972م.
كثيرة جدا هي الكتب التي تحمل عنوان «فن الحرب» في المدونات العسكرية الصينية، وفيما عدا الكتاب المشهور ل «سونزي»، فهناك «فن الحرب عند سيمافا»، «فن الحرب عند كونمين»، «فن الحرب عند ليجين» ولولا خشية الإطالة والملل الذي قد يصيب حضرات القراء، لمضيت إلى آخر هذه التقدمة في ذكر كتب ومذاهب فنون الحرب والاستراتيجية الموروثة عن الحضارة الصينية القديمة، حتى لنكاد نقرر بأن التراث الصيني لم يبدع سوى فنون القتال أو نصل إلى انطباع بأن الصين هي أمة الحرب والقتال، وليس عجيبا في تاريخ أمة أن تشتهر بالقتال (الحضارة الرومانية انتشرت بحد السيف!) لكن الحق أن الحرب هنا جزء، كما سبق وأشرت، من فلسفة سياسية واجتماعية شاملة تهدف إلى التسوية، وانظر مثلا لكل تلك الفترة المشتعلة منذ عصر «الدول المتحاربة» وصولا إلى زمن أسرة تشين، تلك السنين التي بلغت أكثر من مائتي سنة أو تزيد (تقريبا، من 470 إلى 206ق.م.) وتأمل، ألا تجد أن صيغة الوحدة الصينية الشاملة هي التي كانت النتيجة الخاتمة على الإمبراطور تسين شيهوانغ؟ حتى إنك لتقول بأن الصين مرت بالحرب بحثا عن تسوية لنزاع انتهى في المطاف الأخير بالوحدة الأولى على مر تاريخها الطويل، لم تأت أعظم وحدة إلا بعد أطول صراع (بين جنبات الأمة الواحدة) أو هكذا تبدو المسألة باختصار شديد.
أغرب وأعجب شيء هو أن كل المدارس الفكرية والفلسفية التي تميز الصين عن غيرها من الأمم هي تلك التي تمخض عنها ذلك الزمان البعيد «زمن الدول المتحاربة»، وقد ترافق الإنتاج الفكري في المجال العسكري مع النظر في شئون المجتمع على المستوى النظري التأملي في الإنتاج الفلسفي، وكان رجال الحرب جزءا من التركيبة الثقافية والإبداعية، والفارق بين المفكر والمثقف والشاعر والمفكر الاستراتيجي والمنظر الحربي، ليس كبيرا للدرجة التي يمكن أن تبدو للوهلة الأولى [كان «ماو تسي تونغ» أشهر رجال القرن العشرين، مثقفا، وسياسيا، وزعيما، وشاعرا (له إنتاج أدبي متميز) وناقدا للكتب الكلاسيكية - بحكم قراءاته الواسعة منذ أن كان يعمل أمين مكتبة عامة أول حياته - وكانت كتاباته العسكرية تمثل قمة نضجه، بل إنها تأتي في الصدارة من بين أهم الكتابات والتحليلات العسكرية، خصوصا كتاباته حول «حرب العصابات» ... إلخ، ولا غرو فهو في جزء من تكوينه الفكري، نتاج ثقافة صينية تقليدية - لنتفق على ذلك، بدون كبير اعتراض - تعتد كثيرا بالكتابة في نظريات الحرب، بوصفها إبداعا ذا درجة عالية من الرقي، لكن تلك مسألة أخرى.]
أقول: إن كتب التراث العسكري أدخل في نطاق الفلسفة الاجتماعية منها في حساب مهارات الحرب وتكتيك القتال، وبرغم كثرتها، فلم يكن مقررا منها على المشتغلين بمهام التخطيط، سوى سبعة فقط، وهو تصنيف كان ساريا منذ عهد أسرة سونغ، برغم شكوك النقاد حول صحة نسبة بعض هذه المؤلفات إلى أصحابها، أما تلك المؤلفات المعتبرة، فهي - على سبيل الحصر -: (1) «فن الحرب عند سونزي»، (2) كتاب فنون الحرب الستة (ليو طاو)، (3) «كتاب أوتسي»، (4) «كتاب ويلياو تسي»، (5) كتاب الخطط الثلاث (سان لو)، (6) «كتاب سيما فا»، (7) «كتاب محاورات لويقون».
ويظل كتاب «فن الحرب» ل «سونزي» أشهرها جميعا، ولو أنه ليس أشملها معرفة ولا أعمقها تناولا أو أكثرها وعيا، من الجائز أن تكون سيرة كاتبها الشخصية بأحداثها المأساوية، التي تشابهت مع سيرة الملوك القديسين وقصص نبوغهم وكفاحهم وإسهامهم في خدمة الوطنية الصينية بمعناها المستمد من قواعد الفكر الكونفوشي، هي التي ساهمت في إبراز أهمية محتوى كتاباته، وعلى كل حال، فلم يكن كتاب «فن الحرب» الشهير، يخلو من مثالب - حسب ما يردد بعض النقاد - فمما يؤخذ على اجتهاداته النظرية أنها:
أولا:
وبرغم تناول سونزي للعلاقة بين الحرب والسياسة، فهو لم يتطرق إلى تحليل طبيعة الحرب (صحيح أن المؤرخين اتفقوا على أن حروب فترة الربيع والخريف لم تكن لتوفر الأساس لمناقشة مفاهيم حرب طبيعية وعادلة) لكن يبقى أن نظرية سونزي، كما عبر عنها في كتابه، يشوبها ذلك المأخذ.
ثانيا:
فقد يؤخذ على سونزي أنه رفع من قيمة القائد وأكد على أهمية دوره - أكثر مما يمكن تبريره - معتبرا إياه، وعلى حد تعبيره «سيد حياة الممالك وسبب أمنها أو ترويعها» بينما احتقر شأن الجندي المقاتل، مما يعد خطيئة لا تغتفر، وليس مجرد سوء تقدير.
ثالثا:
مما يعاب على سونزي أنه، وكنمط عام في كتاباته، يصدر أحكاما مطلقة فيما يتصل بمبادئ الحرب، دون تخصيص يستند إلى حكمة ورؤية التجربة الشخصية التي عاشها بنفسه.
وبرغم كل شيء، فقد كان - وسيظل - كتاب فن الحرب لسونزي هو الكتاب العمدة في تراث الفكر العسكري الصيني بل العالمي، وتشهد سجلات التبادل الثقافي بين الصين والعالم الخارجي أن أول محاولة لنقل الكتاب إلى لغة أجنبية كانت إلى اليابانية، وذلك في عهد أسرة طانغ الملكية (734م) على يد طالب ياباني كان في رحلة دراسية، وحاول نقل الكتابين العسكريين: «فن الحرب عند سونزي»، «أوتزي» إلى بلاده، وذلك بعد أن قام - في زمن بعيد كانت تحكمه مفاهيم في نقل الأفكار وتقاليد مختلفة - بإخفاء المدونتين في لوحات مصورة؛ اتقاء للظنون التي كان يمكن أن تتوصل لكشف محاولته السرية. وفي عام 1782م ترجم الكتاب إلى الفرنسية على يد «أميوت»، عضو الجمعية التبشيرية، والمترجم المشهور، ثم ترجم إلى الإنجليزية، لأول مرة في عام 1908م بقلم أحد الدارسين البريطانيين من المبعوثين إلى اليابان (وهو الرائد البحري: «كالثروب») وجرت ترجمته للمرة الثانية وعلى نحو أكثر دقة في سنة 1910م على يد «ليونيل جايلز» المتخصص في الدراسات الصينية، وتلك هي النسخة المعتمدة في الترجمة الإنجليزية - حتى اليوم - ثم جاءت ترجمة الأمريكي «غريفيث» - في عام 1963م - لتسد النقص الذي وقع فيه «جايلز» وتنتج نصا سليما، ولا غرو، فقد أنفق المترجم سنوات طويلة من عمره في مراجعة نصوص «فن الحرب» وشروحه، بل كان هذا الكتاب وحده هو مجال تخصصه حينما عكف على دراسة الثقافة الصينية القديمة، هذا بالإضافة إلى ما حظي به الكتاب من ترجمات إلى لغات عدة من بينها اللغة العربية، لا سيما ما صدر فيها عن المركز القومي للترجمة (وزارة الثقافة، القاهرة) على يد الأستاذ الدكتور هشام المالكي، وهي واحدة من أفضل الترجمات الصادرة حتى الآن في اللغة العربية إن لم تكن أشمل وأوفى الترجمات على الإطلاق - في العربية أو غيرها - فهي قد شملت بجانب النص الأصلي ترجمة الشروح المصاحبة وأضافت إليه هوامش وإحالات توضح مختلف الظروف والأحوال التي تنعكس فيها تطبيقات النصوص الواردة في الكتاب، مستعرضا في ذلك مجالات متعددة، تتجاوز مجرد الاقتصار على الجانب العسكري وحده، لتشمل ميادين تبرز فيها نماذج الصراعات أو المنافسات كالتبادل التجاري أو العلاقات الدبلوماسية أو أنشطة المال والاستثمار وفنون إدارة الأعمال، مما يمكن أن تكون موطن احتدام لإرادات متنافسة ... إلخ، فهي ترجمة ذكية أدركت مغزى النص في محتواه اللغوي المباشر - وإشاراته التي تنطوي على إحالات مرجعية محتملة - وهذا ليس غريبا على مترجم يملك أدوات الاقتراب من نص في معجمه اللغوي والثقافي بحكم أستاذيته، فقط أرجو أن يستكمل سيادته ترجمة باقي أجزاء الكتاب الذي لم يصدر من ترجمته سوى الجزء الأول.
وبالطبع فإن باقي الترجمات، ولو أنها عن لغات وسيطة، أسهمت في إضاءة الوعي بقيمة هذا الكتاب، ولطالما كنت أعتقد - بمناسبة الكلام عن الترجمة غير المباشرة - بأن التصورات الكهنوتية الجامدة التي تتبناها دوائر الترجمة حول القيمة (المبالغ فيها) للترجمة عن لغات أصلية، بالإضافة إلى كثير من المفاهيم الأخرى المتحجرة عن النشاط الترجمي، يمكن أن تتسبب في تراجع عملية الاتصال الحضاري بصورة خطيرة، فلماذا الإصرار على تفضيل الترجمة عن لغة مباشرة؟! ألا يعلم أولئك المتشددون أن الكثير من روائع الفكر والأدب في مختلف ثقافات العالم عرفناها أولا عبر تلك اللغات الوسيطة، ولولا الترجمة عن الإنجليزية والفرنسية لما عرفنا مثلا قيمة كتاب مثل «الطاو» أو «محاورات كونفوشيوس» في التراث الصيني، لولا الترجمة الإنجليزية ما كنا لنقف على روعة رباعيات الخيام في الفارسية، ولا الكاماسوترا الهندية، ولا كنا عرفنا أن كتبا مثل «كوليانمول» في الهندية أو «ليتزو» - في الصينية - يمكن أن تحمل قيمة تتوازى مع «ألف ليلة وليلة»، و«المواقف والمخاطبات» في التراث العربي. إن كتابا مثل «فن الحرب» عرفته أوروبا أولا عن لغة وسيطة هي اليابانية - أول الأمر - وكانت اليابانية أيضا، وللغرابة، هي اللغة التي قدمت إلى الصينيين أحد أهم عيون التراث العربي «ألف ليلة وليلة». إن الترجمة عن لغات وسيطة، في رأيي، يمكن أن تكون وسيلة لاكتشاف أهمية نص لم يقرأ أو لم يعرف في لغة الأصل، أقول هذا، وأنا أحد الذين يقدمون أنفسهم للقارئ العربي باعتبار التخصص في الترجمة عن لغة أصلية هي الصينية، لكن المسألة، هنا، لا تتصل بما يراه فرد واحد من قيمة لما يملك من مؤهلات، وإنما يرتبط بما ينبغي أن تملكه أمة كبرى من جسور اتصال ثقافي مع الدنيا من حولها، لكن تلك قضية أخرى.
ولنرجع إلى ذلك العبقري الصيني، العسكري الداهية سونزي، ولو أن حفيده سونبين هو مدار بحثنا موضوع هذه المقدمة والكتاب كله، لكن نبذة عن الرجل الأول يمكن أن تفيد في فهم أفكار الثاني، خصوصا أنه ترسم خطاه وسار على نهجه. وقد قيل في مجال تبيان أهمية كتاب «فن الحرب» التي تأكدت بكثرة وتعدد ترجماته إلى اللغات الأوروبية [ترجم إلى 29 لغة أوروبية] إن مقدمة إحدى الترجمات (عن الإنجليزية) كان قد قدم لها «ليدل هارت» وهو أحد أشهر المفكرين العسكريين في القرن العشرين. وقيل إنه اقتبس الكثير من كلمات سونزي وهو يضع مقدمة مؤلفاته العسكرية، وقيل كذلك إن القادة العسكريين الأمريكيين إبان حرب الخليج كانوا يحملون في جيبهم نسخة منه وهم في قلب ميادين القتال إلى آخره، وهي حكاية تثير التأمل في طريقة استقبال نصوص في وسط ثقافي مغاير وزمن استدعاء له طرق إدراكه وأهدافه وتأويله، وقد يكون فن الحرب الذي كتبه سونزي سعيا للتصالح مع مفهوم جمعي لبيئة حضارية هددتها النزاعات الدامية في مقتل وأوشكت أن تضيع مواريثها الفكرية المقدسة (لاحظ أنه لم يكن مشايعا للخطط الهجومية)، مختلفا عن فن الحرب الذي قرأه ليدل هارت وسط ظروف غابت فيها فكرة البيت الصيني الواحد الذي يدرك أزمته بوعي تاريخي وليس من منظور جغرافي (الصين صيغة تاريخية أساسا في حين أن بريطانيا كيان جغرافي رغم أنفه)، لكن تلك مسألة ثانية، على كل حال، وعموما فلا بد من الإشارة إلى أن ظروف التدوين التي صاحبت عهود التوثيق التراثي في الصين كانت تضع نصوصا مكتملة هذا صحيح، لكنها أيضا نصوص متحركة غير ثابتة في أطر تصنيفية محددة، فأنت تجد شيئا من فن الحرب في كتاب الطاو، وهو مدونة فلسفية، بالدرجة الأولى، ثم تجد فصولا بحذافيرها من كتاب منشيوس واردة في كتاب «حدائق الكلمات» للمؤرخ الأديب «ليو شيانغ»، وتجد في كتاب سونبين اقتباسات مطولة من كتاب «أوتسي»، ومعظم الكتب لا يعرف أصحابها الحقيقيون؛ لأنها من وضع التابعين والدارسين، كلها تقريبا، وهكذا تلاحظ أن الكتب تبدو انعكاسا للمشهد الطبيعي والتاريخي للصين، هي أيضا جزء من ملامح موطنها الثقافي، ممتدة في الزمان بشكل رأسي وفي المكان، متنوعة الخصب والأقاليم، تنتظمها هياكل من تصورات تضع لكل منطقة خصائصها وقد تحيطها بسياج شاهق في ارتفاع السور العظيم، لكنها في نهاية المطاف مجرد حدود وهمية، تخلي مكانها لروابط المتصل التاريخي الكبير. نعم، قد نكون أمام كتاب واحد في التراث الصيني، لكن من الصحيح أن ندرك أننا لسنا أمام نص واحد بأي حال. وكان المترجمون اليابانيون هم الذين أدركوا هذه السمة، فحرصوا على نقل مجموعات من الكتب التي تتناول موضوعات قائمة بذاتها، ففي الموضوع العسكري مثلا نلاحظ أن كتابا مثل «ويلياو تسي» - بموسوعيته وشموله - قد استحق ترجمات بلغ عددها الثلاثين. من هنا، فقد رأيت أنه قد يكون من المفيد أن نطالع مع القراء العرب أكثر من كتاب في فنون الحرب الصينية (وما هذا الكتاب الذي تقرأه الآن إلا بداية لمشروع ترجمة الكتب السبعة الرئيسة في هذا المجال) ليس فقط لأهميتها بالنسبة للدارس المتخصص في تاريخ الفكر العسكري، وإنما أيضا للقارئ في الثقافة الصينية، بل الكتلة الحضارية الكبرى في منطقة أقصى شرق آسيا (فالتراث الصيني مؤثر، بقوة ووضوح، في اليابان وكوريا وغيرهما).
أما عن كتاب سونبين في فن الحرب، فهو ليس كسابقه العظيم سونزي ؛ ذلك لأن نسخته الأصلية كانت قد فقدت تماما في أواخر عصر أسرة هان الشرقية (25-220م) حتى تشكك الناس في العصور اللاحقة في وجود من يحمل هذا الاسم «سونبين» وظنوا أنه يمكن أن يكون مجرد شخصية خيالية، بل نسبوا هذا اللقب إلى سونزي، باعتباره أحد التسميات التي أطلقت عليه معتقدين أنه ليس هناك سوى كتاب واحد فقط، ورثوه عن الأقدمين، بعنوان «فن الحرب» وأن مؤلفه هو سونزي وليس هناك لا كتاب آخر ولا مؤلف غيره، أو بمعنى أدق صادروا على فكرة وجود سونبين وكتابه من الأساس.
وفي السابع من فبراير عام 1972م، وأثناء البحث في إحدى الحفائر الأثرية، بمنطقة «شاندونغ» في الصين، عثر على نسخة من كتاب «فن الحرب لسونبين» وجد على هيئة ثلاثمائة وأربع وستين قطعة من رقائق الخيزران، مقسمة محتوياتها إلى بابين كبيرين، في كل منها خمسة عشر فصلا، وبرغم ذلك، فلم يسلم الكتاب المكتشف من الشك والمزاعم التي لم تدع فيه شيئا إلا اتخذته ذريعة لإثارة الريبة حول صحته، فمن قائل بأن الباب الثاني من الكتاب مقحم على المتن، وآخر زاعم بأن هذا الباب مجرد جزء هامشي من الملاحق المضافة إليه، وثالث يرى بأنه فصل زائد على النص الأصلي، مقتبس من كتاب آخر، وتعليل ذلك أن هذا الباب ليس كسابقه الذي كان يورد في أول كل فصل عبارة «قال سونبين: ...» أو «قال ملك وي: ...» إلخ. وهو الزعم الذي لاقى اقتناع الكثير من الباحثين والدوائر العلمية ذات الصلة، وبناء عليه فقد صدرت طبعة ثانية منقحة في 1985م مشتملة على الجزء الأول فقط بعد أن حذفت الجزء الثاني بفصوله جميعا، إلا فصلا واحدا رأت إضافته إلى الجزء الأول باعتبار أنه صحيح النسب إلى الكتاب، وتصورت أن ما اتخذته من تعديلات هو عين الصواب، بحجة أنها بذلك تكون قد انتهت إلى إقرار نسخة ذات مادة موثوق بصحتها، ومنذ ذلك الوقت توالى صدور طبعات جديدة من الكتاب تنحو هذا المنحى، في الوقت الذي أصرت فيه دور نشر أخرى على تقديم الجزءين معا ، اعتمادا على ما تمخضت عنه جهود الكشف الأثرية من نتائج، وهو الاتجاه الذي انحزت إليه منذ البداية، مقتنعا بأن من حق القارئ العربي أن يطالع نسخة تجمع الجزءين، ولتختلف مدارس النقد وتحقيق التراث الصيني ما شاء لها أن تختلف، هي أدرى بما تدركه وتحتاجه من معالجات لهذا النص، لكن حين يتقرر حذف جزء كامل من كتاب مهم بهذا القدر، فليس أقل من أن يعرف قارئنا ما هو ذلك الجزء الذي يراد له الاستبعاد، ولماذا؟ وربما كان التقدير الصحيح يفرض علي أن ألحق هذا الجزء بالهامش بدل المتن، لكني عدلت عن هذه الفكرة بسرعة، ما دامت بعض دور النشر الصينية قد سبقت إلى احتواء ذلك الجزء داخل النص الأصلي، هذا بالإضافة إلى أن مثل هذا التصرف قد يعد إملاء لقيمة محددة يجري إقحامها على النص من خارجه، والأسوأ أن يتم ذلك على يد المترجم، وبالتأكيد فهناك من المترجمين من يملكون هذا الحق بحكم التخصص أو الأهلية التي يكتسبونها لكونهم متضلعين أو خبراء في المادة موضوع الترجمة، ولست واحدا من هؤلاء، ثم كان الأمر يتطلب، قبل الإحالة إلى هوامش، أن أقدم موضوع الكتاب في إطار خطة بحثية أطرح فيها ما يبرر التصرف في النص على أي وجه كان، باعتباري باحثا أو مصنفا، قبل أن أكون مترجما، وهو ما لم أقصد إليه بأي حال، بل اجتهدت دائما ألا أتجاوز حدودي كمترجم ناقل، لا مترجم متصرف، أو حتى مفسر أو شارح.
وعموما، فقد استبدت بي روح النقل المباشر، حتى إني - ولا أدري إن كان ذلك مفيدا في شيء - حرصت على ترجمة بعض ما ورد من فقرات قليلة بين الفصول، قيل إنها وجدت منبثة بين ثنايا الفقرات والأبواب، دون أن تكون جزءا مكملا للمتن، ولم يترجمها المحققون إلى الصينية الحديثة (التي أترجم منها أساسا) فعمدت إلى ترجمتها معتمدا على ما لحق بحواشيها من تعليقات وشروح، وما توافر لي من معرفة - ضئيلة - بالصينية الكلاسيكية (هل النسبة إلى «كلاسيك» هكذا، ممكنة دون لفظ «كلاسي»؟)
ومفهوم، طبعا، إحجام المحققين عن ترجمة تلك الفقرات وغيرها، ومفهوم أكثر ما قامت به كثير من الطبعات من حذف لفقرات مطولة أو أبواب كاملة لأن المستقر في ذهن النقاد والدارسين أن الكثير من نصوص كتاب فن الحرب لسونبين، تم تدوينه على يد تلاميذه. الكل متفق على ذلك، الاختلاف ينشأ، فقط، حول تقدير الوقت أو الفترة الزمنية التي شهدت تلك الإضافات.
النص نفسه يحمل السمات الفكرية لسونبين، بطبيعة انحيازه إلى الكونفوشية، فكثيرا ما طرح وجهات نظره من زاوية مراعاة مبادئ «العدل والاستقامة»، على النحو الذي أقرته الفلسفة الكونفوشية؛ ولأنه فيلسوف سياسي أكثر منه مفكر عسكري فقد كان يؤكد على أن «الانتصار هو أهم دعامة للقوة والمجد [مجد الدولة يعني]»، ثم يقترح في موضع آخر من الكتاب بأن تكون الحرب وسيلة لتحقيق وحدة الأمة؛ لأنها (أي الحرب) هي الطريقة المثلى لإخضاع الممالك، ثم ما يلبث أن يفطن إلى ما تنطوي عليه الحرب من سلبيات تحول بينها وبين إيجاد الحلول لمختلف المشكلات، فيوصي القادة والأباطرة بضرورة التعمق في فهم ما تمثله الحرب من وسيلة مهمة لتحقيق السيادة للممالك.
وقد تطرق نفر من النقاد، أثناء عكوفهم على استكشاف الخصائص الفكرية والفلسفية لنصوص الكتاب إلى فكرة أن سونبين - وفي أنحاء متفرقة من كتابه - كان يتناول، وبشكل بدائي أو بصورة جنينية ملامح قريبة الشبه بالمادية الجدلية - أو قل إنها أقرب ذات مضامين جدلية وإن لم تنهض بطريقتها في التحليل - إذ يقرر، مثلا، في موقع ما من النص بأنه «لا بد من فهم طرق السماء وطبائع الأرض، ولا بد من ضمان تأييد الأهالي في الداخل، والتأثير في مشاعر الأعداء في الخارج، والإلمام بالطرق الثمانية، على النحو الذي يحقق النصر وقت الحرب، والاستقرار زمن السلم ...»
وفي تناوله لفكرة أهمية الهجوم، وحسب سياق محدد أثناء عرضه لأفكاره في الكتاب، راح سونبين يتقدم خطوات أبعد وأكثر تطورا مما عرض له الفيلسوف العسكري الأول سونزي؛ إذ إنه يؤكد على أهمية الهجوم على نحو مطلق، بل إنه يضع لهذه الفكرة/القاعدة مكانا بارزا في فلسفته ، ويعدها الأساس النظري والمبدأ الأول وأهم ركن في أي بناء فكري لفن القتال. وتلك النقطة التي يختلف فيها عن الكتاب العمدة (فن الحرب لسونزي) بما يحققه من طفرة أو درجة عالية من التطور بذلك الطرح النظري.
ميزة ما يقدمه سونبين في كتابه هو أنه يلخص تجارب سابقة على درجة عظيمة من الأهمية، على ضوء ما خاضه هو نفسه من معارك، ومثلا ففي فصل بعنوان «أحوال الجيش»، يتحدث عن أسباب النصر والهزيمة ويرى أن الحرب ليست هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن الارتكان إليها ولا هي الطريقة التي يمكن تجنبها بالمرة. أما الأساس الذي تتحدد عليه أسباب النصر أو الهزيمة فهو مدى توافر الاحتياطي والمؤن وعدالة الحرب. وفي فصل «التشكيلات القتالية العشرة» يتحدث عن أهمية الاستعداد القتالي ويتناول، بالتفصيل، أنماطا متباينة من التشكيلات القتالية. ولما كانت الظروف قد اقتضت، زمن الدول المتحاربة، اتخاذ قادة محترفين على رأس الجيوش، فقد صارت معايير انتقاء القادة محل اهتمام كبير ومن ثم راح سونبين يستعرض في بعض فصول الكتاب الصفات الواجب توافرها في القادة العسكريين.
أما بشأن ترجمة الكتاب إلى العربية، فقد حاولت، كعادتي عندما أشرع في ترجمة نص تراثي أن أبحث أولا عن عدة نصوص محققة. وثانيا عن ترجمات في اللغة الإنجليزية أو الفرنسية للتعرف على أفكار المترجم وكيفية تعامله مع النص، خصوصا أن لدى الدارسين في كلتا الثقافتين وعيا جيدا بالتراث الصيني (هناك مدرسة أوروبية وأخرى أمريكية في مبحث الدراسات الصينية لهما خصائصهما وتاريخهما الطويل، ولا يمكن أبدا وبأي حال ومهما كانت الظروف أو الأسباب أن نتجاهل جهودهما أبدا). وثالثا مراجعة أية ترجمات تكون قد صدرت للكتاب موضوع النقل، أو الاستعلام عن وجودها من عدمه. وبالنسبة لهذا الكتاب فقد تحققت الخطوة الأولى بتوافر ثلاثة مصادر محققة له بالصينية، بيد أني لم أعثر على ترجمة له في الإنجليزية أو الفرنسية، ولا ترجمة سابقة في العربية، سواء بالنقل المباشر عن الصينية أو عبر لغة وسيطة. ولما كانت معظم النسخ المتاحة تضرب صفحا عن ذكر الباب الثاني من الكتاب بذريعة أنه مقحم على المتن وليس من أصوله، فقد اهتديت - بالصدفة السعيدة - إلى نص واحد من بين الثلاثة، يشتمل على الجزءين معا، بل يزيد عليها بضع فقرات في الهامش قيل إنها وجدت في النصوص بالحالة التي اكتشفته بها بعثة الآثار عام 1972م. فاعتمدتها مصدرا أصليا للترجمة وجعلت باقي النسخ مراجع ثانوية أعود إليها للتحقق أو الاستيضاح في الحالات التي استوجبت ذلك. وفيما يلي - وعلى سبيل التوثيق - أنقل للقارئ فقرة مما جاء في مقدمة الناشر، تبين أحوال النسخة المعتمدة للترجمة بشهادة أهلها .
أولا:
صدرت هذه الطبعة طبقا لما قامت به مجموعة (يين شياو سان هان مو) من ضبط وتحقيق للنص الأصلي المدون على رقائق الخيزران (البامبو) متخذة من النسخة الصادرة سنة 1985م عن دار نشر «أون وو» مرجعا أصليا، ستجري الإشارة إليها، فيما يلي ب «مرجع أصلي»، كما تم الرجوع إلى ...، ...، ...
ثانيا:
وإضافة ما ورد في النسخة الصادرة سنة 1987م، عن دار النشر المذكورة ومجموعة التحقيق المشار إليها من نصوص كملحق طبق الأصل وهو عبارة عن هامش موجز يحتوي على الفصول الخمسة عشر التابعة للباب الثاني. انتهى الاقتباس.
ولم أحاول الإشارة، ولو بإيجاز، إلى النسخ الثلاث بشكل مستقل، مكتفيا بمبلغ ما أستفيده منها كمترجم فيما يلقي الضوء على جوانب خافية من المعنى [وأعد القارئ بأن أحاول إلحاق صورة وثائقية لبيانات تلك الكتب الثلاثة. ذلك أوقع من مجرد كتابة عناوينها بحروف لاتينية، أو مجرد الاكتفاء بتوثيقها المرجعي، أليس كذلك؟ لكن ذلك مرهون بما تقرره إمكانات الإخراج الفني للكتاب]. ثم إني - وبشكل عام - أتجنب الإحالة الدائمة إلى هوامش ملحقة بعجز الكتب أو بقاعدة الصفحة، صحيح أني أقدم الترجمة للمتخصصين بالدرجة الأولى وذوي الاهتمام بالدراسات الصينية القديمة، لكني بتقديم هذه المترجمة للمتخصص أو للجمهور، فقد كنت أتخذ النص الأصلي قاعدة أساسية للقراءة، تحتوي في سياقها المباشر على كل ما يتصل بالمعنى العام، سواء بشكل رئيسي أو هامشي، المتن وإحالاته في صعيد واحد، فوضعت بين قوسين هلاليين (...) ما يتعلق بالمتن بشكل مباشر، كأن تكون هناك صياغة محتملة أو توضيح من داخل الشروح المصاحبة أو إضافة من إحدى النسخ المحققة رأيت إلحاقها على سبيل الاستطراد، ثم أضفت بين قوسين مربعين [...] هوامش جانبية من خارج النص، من قبيل ما قد ينشأ من ثغرات تتطلب التعريف بأحد الأعلام أو إضافة إشارات توضيحية موجزة، من باب التعريف والاستزادة، دون أن تكون سندا ثابتا متضمنا في تركيب المعاني العامة للكتاب لكنها إضافات من عند المترجم، لا أكثر، يمكن للقارئ الباحث عن الأفكار الرئيسة في النص تجاوزها دون إخلال بتدفق السياق في مساره.
سيجد القارئ أني وضعت بين قوسين مربعين كلمة «فراغ» أو «فراغ في الأصل»، إشارة إلى البياض الذي ورد في النص الأصلي. ونظرا لأوجه الاختلاف بين استخدام بعض علامات الترقيم في الصينية عنه في العربية (حيث يرد البياض في النص الصيني برسم ست نقط متتالية) فقد أوردت مكان الفراغ مصحوبا بلفظه أو ما في معناه بين قوسين كما ذكرت، علما بأن النص مليء جدا بمثل تلك الفجوات، وهو نقص لا حيلة للمحققين في إصلاحه، ولا للمراجعين في سد خلله؛ لأنه راسخ في بنية المتن المكتشف، وجزء أصيل من حالته، ساعة العثور عليه، لم تحدثه يد العبث أو التهاون، وإنما هو عوار نشأ - فيما يبدو - عن تقادم السنين، ومنه ما أمكن للمحققين تقدير معناه، فأوردته مترجما مع الإشارة إليه في موضعه مع ملاحظة أن مكان الفراغ قد يتراوح بين الكلمة المفردة أو الجملة أو العبارة القصيرة، دون إشارة واضحة إلى تلك الفروق عند إيراد خانة الفراغ سواء في النص الأصلي أو النص المترجم، وقد اكتفى الناشر لتوضيح ذلك الجانب، بأن جاء في ملحق الكتاب بصورة منقولة عن شرائح البامبو التي ورد عليها النص الأصلي في النسخة المكتشفة بالحفائر الأثرية، وسأحاول أن أنقل هذا الملحق في النسخة المترجمة إذا أمكن ذلك، حسب ما تسمح به الإمكانات الفنية في إخراج الكتاب. ويبقى أن أوضح للقارئ الكريم أني اضطررت إلى الترجمة التفسيرية اضطرارا ألجأتني إليه الضرورة الشديدة، عند نقل الفصل الثامن ، وهو بعنوان «أهمية أرض العمليات»، نظرا لما احتشد به الأصل من أسماء لنباتات عشبية تنتمي إلى فصائل وأنواع لا عهد للحياة النباتية الطبيعية في البيئة العربية بمثيلها، فأتيت بترجمة شارحة للمعنى، ونظرا لأن نقل المكافئ هو المحك في تقدير قيمة الترجمة، فقد حرصت على الإتيان به دون خلل أو نقصان.
لكن، لماذا نترجم هذا الكتاب، والآن؟ الأسباب فيها ما هو عام وما هو شخصي، أحدثك أولا بما هو عام، ثم تستطيع أن تمضي إلى النص مباشرة، بعد ذلك، دون أن تشغل نفسك بما قد لا يتصل، إلا عرضا، بأجواء إنتاج نص مترجم.
في السبب العام، فهذا كتاب تراثي يقع ضمن مجموعة الكتب العسكرية القديمة، وهي إحدى أركان مكتبة متفردة في موضوعها، حتى في مبحث المدونات الصينية التاريخية، فهي جزء من تاريخ الفكر العام، حتى بالمعنى الإنساني الكبير؛ لأن المادة التراثية الصينية ملك للبشرية كلها، وكتب الحرب الصينية شاملة لدلالات إنسانية عريضة، تتجاوز مفاهيم الصراع المسلح، فمحتواها يتسع لمجالات متنوعة في معنى التنافس والصراع، ليشمل كل ما يمكن أن يتصل بنوازع الإنسان إلى التفوق والغلبة حتى في ميادين السلم، ففي التجارة والدبلوماسية وإدارة الأعمال، بل الرياضة ومساجلات الانتخابات السياسية لون من المنافسة الحامية التي تتوسل بأساليب القتال، وإن بطرق أخرى، وقد أختلف مع الذين يقصرون قيمة الكتاب على الجوانب الفنية (العسكرية)، دون أن يمدوا أبصارهم إلى ما يحفل به من عناصر أخرى لتقدير مزاياه بوصفه مادة تراثية ذات مضمون فلسفي، بالإضافة طبعا، إلى ميزته الجوهرية باعتباره وثيقة أثرية تكشف عن جانب من تاريخ الفكر الصيني، بوجه خاص؛ والإنساني، بوجه عام. هذا ومن نافلة القول التأكيد على أهمية الوعي بذلك التراث الثقافي، لا سيما أننا على وشك بدء زمان جديد يمتد الوعي الثقافي فيه، نحو آفاق الإبداع في منطقة تمثل بطبيعتها قطبا من أقطاب التميز الثقافي والحضاري والإنساني، وهي منطقة أقصى شرق آسيا. إن وجودا جديدا - حتى بالمعنى الأنطولوجي! - يضاف إلى حصيلة الوعي الإنساني بهذه الإطلالة إلى الشرق البعيد، وأظن أن من المفيد، بهذا المعنى، إتاحة الفرصة للقارئ العربي للتعرف إلى مصادر التراث الصيني مترجمة عن أصولها (كلما أمكن).
أما في الدافع الشخصي للكتاب، فذلك جانب لا ينفصل كثيرا عما هو عام؛ ذلك أني كنت وما زلت أرجو بمثل هذه الترجمات عن الصينية (وتأثرا بنماذج الجهود التبشيرية الأوروبية في الصين منذ القرن السابع عشر) أن أكون قد ساهمت بنصيب في التمهيد لفكرة تأسيس مدرسة فكرية عربية للدراسات الصينية. ومثلما بدأت الأنشطة الأوروبية مشروعها بالاهتمام بترجمة التراث الصيني، فهكذا أحاول، وإن بجهد ضئيل، صحيح أني أشعر بكثير من الخجل عندما أمد قلمي لترجمة موضوعات تتسع الهوة بينها وتبتعد فواصل التخصص بين حدودها: فن عسكري، فسلفة، رواية، شعر، تاريخ أفكار ... إلخ، بل قد ينتابني إحساس بالعار [كذا] وأنا أتناول بجرأة أعتذر عنها، مقدما، موضوعات تخصصات شتى، كأنني واحد من أولئك الحواة والباعة الجائلين في الأزقة والحارات، ممن يفقهون كل صنعة وحرفة، بما يحملون في جعبتهم الجاهزة من أدوات سحرية. وصحيح أن بيننا، اليوم، وسيبقى إلى الغد القريب أيضا، من حازوا الجرأة على ترجمة كل مجالات الإبداع - وغير الإبداع - من الفلسفة والأدب والسياسة والتاريخ، بل تحضير الأرواح، وكل ما يخطر على البال، باعتبار أن الترجمة مهنة أي واحد من الناس فتح عليه الله القدير بشيء من فهم الرطانة، ويبدو أن شيئا من توابع عهود الاستعمار الطويل في عالمنا العربي أورث مفهوما شائعا عن المترجمين بأنهم أولئك النفر من الوسطاء بين الأجنبي والوطنيين، ممن يملكون قدرا من ظلال السلطة، باعتبار أنهم المفسرون لرطانتها، والتابع بطبيعة الحال يكتسب شيئا من اقتدار السيد الأقوى، فمن ثم شاعت فكرة المترجم القادر، بقدرة خارقة، على كل شيء، ولو أن الهندسة الوراثية لم تستطع إنتاج سوبرمان خرافي، لكن تاريخا عبثيا من زمن بغيض أنتج لدينا ذلك الصنف من المترجمين/السحرة، القادرين على كل شيء. والحق، فإن الترجمة رديف التأليف، وهي، وإن لم تفز بموهبة ابتكاره، إلا إنها باءت بسيئ خصاله، لا سيما في مسألة التخصص هذه، فالترجمة تفرض، في ظني، حدودا للاجتهاد داخل إطار من اصطلاحات مقيدة، وفكرة «المكافئ»، تلك التي صدع بها المنظرون للترجمة رءوس الدارسين، تكمن - ما زالت - في كل جهد ترجمي بالدرجة التي تقيد كل محاولة للترجمة داخل ألوان محددة من أطياف الإبداع. والتخصص التزام ومسئولية أمام الذات والقارئ، ولئن كانت الصحافة في عصورها الحجرية القديمة قد ساهمت في إشاعة ذلك المفهوم الخرافي للمترجمين، فمن واجب الجميع اليوم أن يتواضع أمام طبيعة زمن تحض على التخصص، منذ وقت طويل.
ولقد جاء حين من الدهر بدا فيه أن الترجمة المباشرة، والترجمة الضمنية (التناص) تناوبتا العمل على تركيبة ثقافية تأثرت بمشروعات النهضة في المستعمرات القديمة، وهي المشروعات التي اعتمدت الترجمة، ضمن برامج التحديث الثقافي، لكن شيئا من طاقات الرصيد الثقافي القديم لم ينمح، هناك دائما ما يتشبث للبقاء بعناد، لكننا - أنت ترى - نكتب الآن في زمن مختلف، والقراء يسمعون ويرون وفي عالم تغلب على دنيا تأملاته أطر مربعة للصورة الواحدة، يصبح من المجازفة فيه أن تحتل صورة الكتابة فيه أكثر من إطار، ومع ذلك فسيظل الكثيرون يمارسون الترجمة، بعد الظهر، وفي غير أوقات العمل الرسمية، وسنقرأ كثيرا عن المبدع الذي يشتغل شاعرا ومترجما، لأن جانبا مهما من التصورات الأسطورية الباقية في الضمير الجمعي (بكل ما تحتمله من رموز) لا يفصل الإبداع عن فكرة الخلق، حتى بتجليها المادي في تلك الصور الخرافية للأيقونات التي نصفها ذكر والنصف الآخر أنثى، ولو أن الأمر، هنا، بكل ما يحتويه من ارتجال وعبث، أكثر خرافة حتى من تلك المناظر الأيقونية، فهو أقرب شيء لصخب الموالد الشعبية وألاعيب الحواة، لكن هذا ليس موضوعنا. (الغريب حقا، أن الترجمة على يد الشيخ الطهطاوي، في بداية مشروع التحديث كانت تقوم على مفهوم التخصص، ولم يكن المترجم في الشئون العسكرية، مثلا، يدس أنفه فيما يتجاوز مجال اصطلاحاته، بل إن الشيخ رفاعة نفسه لم يترجم سوى رواية واحدة، وتقريبا، وحسب ما بدا لي من مراجعة أوراقه الخاصة المودوعة في دار الوثائق القومية، بالقاهرة، فلم يكن يترجمها للجمهور، وإنما كان يواسي بها نفسه، في وقت أزمة نفسية عصفت به لفترة ما، لكن تلك حكاية بعيدة عما نحن بصدده ...)
وإذا كان تلامذة الشيخ ممن ترجموا في الموضوع العسكري، التزموا بحدود إبداعهم، حسبما تيسر لهم من طرائق معالجة المفاهيم العميقة في إطار تخصصاتهم، فها أنا ذا أحد أحفاد تلامذته أخرج، آسفا، عن تلك القاعدة، بما أترجمه في الرواية والفلسفة والسياسة ونظريات الحرب من التراث الصيني.
وإذا كنت لم أفلح في أن أرث عن الألسن القديمة انضباطها، فقد ورثت عن الشيخ شيئا من أزمته التي كادت تعصف به، مع أني ابن زمان ثان، زمان لم تنفتح فيه طاقة إدراكي للدنيا إلا على مشهد الحرب، وكنت أنتقل - مثل سونبين - من بلد إلى آخر مهاجرا ضمن المهجرين، الذين غادروا مدينة القناة المشتعلة تحت القصف، ليلة الخامس من يونيو، لم أستغرب سوى المشهد، الذي سأظل أذكره طوال العمر، حتى ينتهي العمر، وما زلت كلما ذهبت إلى هناك، برغم كل تلك السنين، ما زلت كلما سرت في تلك الأنحاء، أنظر مليا إلى الشارع، والمقهى، ومزلقان السكة الحديد عبر الثلاثيني، وأري تلك الحشود الراجلة، حتى في عز النهار، تعود المناظر معتمة مثلما رأيتها في الوقائع، لم أكن أستغرب إلا المشهد، نعم؛ لأني وعيت حكاية الحرب منذ الطفولة، منذ كان الوالد - المحارب القديم، الضابط بالقوات المسلحة - يحكي وقائع تلك المسيرة الليلية الطويلة من «الكنتلة» إلى «بير لحفن» ثم مهتديا بدرب غائم في صحراء سيناء حتى انتهى به المسير عند «القنطرة شرق» بعد أن أعلن استشهاده مدة ثلاثين يوما - إثر معركة العدوان الثلاثي على مصر - واتخذ الأهل الحداد. كانت تلك سنوات مضت، وكان الأب عائدا بعدها من حرب اليمن، ثم من حرب الاستنزاف، وكثيرا ما قص علي، أنا الابن الأكبر، وقائع المعارك التي خاضها، حتى ظننت أن كل الحكايا تتضمن بالضرورة سيرة حرب. ثم كنت في سنوات الدراسة الجامعية قد التقيت بالدكتور يانغ شي تشيوان - الذي أدين له بالعمر كله، فهو الأب الروحي - وكان هو الآخر شاهد عيان على سنوات حرب - الحرب الكورية - وكانت تجربة عمره هناك، وقد لقنني إياها كاملة، ومنه عرفت تراث الحرب الصيني، وعرفت أبطال الملاحم القديمة، تصو ساو، جو كي ليانغ، أوسونغ، وعرفت كيف أن الحرب تصنع التاريخ، وأنها تجربة جديرة بالتأمل، بين هؤلاء الرجال عشت سنوات، لم تكن كثرة السنوات هي المحك، لكن العمق. لقد تأثرت بكل ذلك العمر، بكل كياني، حتى عشت أياما فوق عمري، وقد يمتد بي الزمان، أو يقصر، لكني لم أعش سوى تلك الأيام «ولم يكن سهلا أن يعيش المرء بعد الحرب» هكذا قال أبي، وكثيرا ما كان يقطع حديثه، فجأة، ليخرج لفافة قديمة تحمل بقايا شظيات متفرقة وقطعة ضئيلة من بقايا عظام مهشمة، ويحكي كيف استطاع أطباء «دار الشفاء» أن يستخرجوها من مرفق الساعد الأيسر، ذلك الساعد الذي تشوهت ملامحه، لكنه ظل يتحرك، لا بأس، بيد أنه ظل يكره القمصان طويلة الأكمام، وأورثني تلك الحساسية حتى الآن، حتى ظللت أحمل ساعدا مصابا بغير حرب. ظل الرجل، من حين لآخر، يتحسس شظية وحيدة متبقية وراء ألياف الكتف الأيسر، غائرة لكن محسوسة بضغط الأنامل «أنظر، لن تراها، فقط، بالضغط الخفيف تجدها، لا تتكئ كثيرا؛ فهي موجعة، هكذا، برفق»، تحدثنا عمرا بأكمله، وكان ذات يوم استرسل حانقا؛ لأني أسلك مستقبلا لا يراه سديدا، وكانت المرة الأخيرة التي تكلمنا فيها، وافترقنا غاضبين، ثم كان الرحيل، ثم مضت ثلاث سنوات، وأغلق دفتر الوقائع الماضية، وبقي التذكار غصة غائرة. انظر، هي ذي أيضا آلام موجعة، لا تتكئ كثيرا، فمجرد انتباهة ضئيلة تكفي لإيقاظ الألم، ثم إنك رحلت سيدي، وما عاد يؤلمك شيء، وكل الحكايات انتهت، وتناثرت آثار الشظايا وراء السنين. تحدثت طويلا، ولم أصغ إليك، فلما انتبهت، كنت قد ذهبت. كذا تمضي الحرب بالسنين، وتكتب مدونات الوقائع على هامش ساحات الصراع، كنت تريد أن نكتب معا مدونة تلك الأيام، وأمليت علي شطرا، ثم أطبق الصمت، ولم يعد سوى الأوراق الذابلة، ولفافات تطوي الألم، فإليك أهدي ترجمة هذا الكتاب.
محسن فرجاني
القاهرة، فبراير، 2010م.
الباب الأول
الفصل الأول
القبض على القائد بانشيوان1
كان الملك «هوي» (حاكم دولة «وي») فيما مضى من الزمان، قد أعد العدة لمهاجمة مدينة «هاندان» عاصمة دولة «جاو»، ومن ثم، فقد أصدر أمرا إلى قائد القوات، بانشيوان، بأن يخرج على رأس جيش قوامه ثمانون ألف مقاتل ليرابط في منطقة «شا تشيو». فلما ترامت الأنباء بذلك إلى الملك «وي» (حاكم دولة تشي) أرسل «تيانجي» قائد الجيش، على رأس قوات تعدادها ثمانون ألف فرد للتمركز عند منطقة الحدود بين دولتي «وي»، و«تشي» (وذلك لمساندة دولة «جاو». ثم إن قوات دولة «وي»، تحت قيادة «بانشيوان » كانت في تلك الأثناء قد هاجمت واحتلت مدينة «ويشيو»، عاصمة دولة «ويه») وأراد تيانجي، القائد العام لقوات «تشي» مهاجمة دولة «جاو» بقواته؛ أملا في صد المحاولات الهجومية ضد كل من «ويه» و«جاو»، وتوجه بسؤاله إلى «سونبين»، قائلا: «ألا يمكن دعم ومساندة دولة «ويه»؟» فأجابه: «إن محاولة إنقاذ دولة «ويه» تعد خرقا لمبادئ الحرب، ف (اعلم أنه) لا ينبغي لمن بادر إلى حل عقد حبال متشابكة أن يتصرف بطريقة خرقاء، وإلا زاد الأمور تعقيدا، ولا يجب لمن يريد أن يصفي النزاع بين طرفين متحاربين، أن يهوي بقبضة يده وسط العراك، وإلا انغمس فيما كان أجدر به أن ينأى بنفسه عنه، ومن ثم فإني أرى تجنب مواطن قوة عدوك البادية لتستغل بواطن ضعفه، فتهاجم حيث تريد أن تنقذ، فتلك هي وسيلتك لترغمه على تغيير خططه، ولعلها تفيد في تبديد أجواء الأزمة المحيطة بدولة جاو، وصد الهجوم المباغت عليها»، فسأله تيانجي ثانية: «فما الذي يتوجب عمله، إذن، بدلا من التحرك مباشرة لإنقاذ دولتي «ويه»، و«جاو»؟»، فأجابه سونبين، قائلا: ازحف بجيشك مهاجما منطقة «بينلين» في الجنوب، وهي منطقة تتميز بوفرة السكان وكثافة وجودة التسلح، برغم صغر مساحتها، هذا بالإضافة إلى أنها إحدى أهم القواعد العسكرية في إقليم «دونيان» [أي في المنطقة الشرقية من البلاد] بمعنى أنها ذات موقع منيع يصعب احتلاله، وأقصد من تحركك على هذا النحو، أن تقوم بتضليل العدو، فتلقي في روعه أنك غير فاهم لمخاطر إقدامك على هذا التصرف (ذلك، أن مهاجمتك لهذا الإقليم تعرض طرق إمدادك للخطر، بل تجعل من الصعب استمرار تدفق المؤن والعتاد أصلا؛ بسبب وقوع قواتك بين دولتي «ويه» في الشمال، و«سونغ» في الجنوب، ومدينة «شا تشيو» في المنتصف بينهما، وكلها عناصر تقطع خطوط إمدادك)، لكنك بهذا الشكل، توهم عدوك بعدم فهمك الكافي لهذا الأمر، وتشيع في تقديراته أنك سيئ التصرف، لا تجيد التخطيط للقتال. وعندئذ، فستتحرك قوات دولة «تشي» صوب منطقة «بينلين».
وعندما اقتربت حشود دولة تشي من هذه المنطقة [ورد في هامش إحدى النسخ المحققة، ما يلي: «لما رابط تيانجي بقواته قريبا من منطقة بينلين، فقد ...»] ... أرسل في استدعاء سونبين، وسأله: «بماذا تشير علي أن أفعل في الخطوة القادمة؟» (... قل لي، كيف ستدور رحى الحرب بين قواتنا والقوات المقابلة؟) ... فقال له سونبين: «أريد أن أعرف منك، أولا، ما إذا كان هناك أي من رؤساء المدن ممن يمكن أن يساعد في تحقيق خطتنا؟» [... في هامش التحقيق، بإحدى النسخ، نقرأ هذا النص ... «ترى هل نجد من بين رؤساء المدن عندنا من يجهل تماما [كذا] أمور الحرب والقتال؟»] ... فرد عليه تيانجي، قائلا: نعم، لدينا اثنان من رؤساء المدن، رئيسا مدينتي: «تشيجن»، و«قاوطان»، فقال له سونبين: أرسلهما بسرعة على رأس قوتين عظيمتين لمهاجمة بينلين، على أن تقوم إحداهما بحصار مدينة «هوانتو»، بينما تدور الأخرى بخفة وسرعة حولها لتهاجم بينلين بقوة، على شرط أن تكون أجناب القوة ومؤخرتها مواجهتين لمدينة هوانتو؛ لأن هذه الأخيرة هي قاعدة تمركز قوات العدو [في هامش إحدى النسخ، ورد ما يلي: «وإذ تتجه القوات لمهاجمة بينلين، فلا بد أن تمر بمدينتي «هوانغ»، و«جيوان»، من أعمال دولة وي، فهما مدينتان تتميزان بأرضهما السهلية، وتعدد طرقهما وخطوط اتصالهما من الاتجاهات كافة] فتلك هي المنطقة التي تحتشد فيها قوات دولة وي، بوصفها أفضل مكان لنشر القوة العسكرية، هذا وينبغي على طليعة قواتنا أن تحتفظ بقدرتها القتالية العالية، وأن تحذر تشرذم وحداتها الأساسية، وسوف تقوم هذه الطليعة بمهاجمة بينلين في أسرع وقت ممكن، على أن يتم تعزيز القوات بلا انقطاع، غير أن قوات دولة وي الرابضة في هوانتو [تحت قيادة «تسوانتو»] لن تتوانى عن ضرب مؤخرة القوات لقطع المؤن وإمدادات الحبوب، وهو ما يعني هزيمة القوات التي تحت قيادة رئيسي مدينتي تشيجن، وقاوطان.»
ثم ما لبث تيانجي أن جعل رئيس كل مدينة من المدينتين المذكورتين على رأس جيش، وأمرهم بالتوجه للإغارة على مدينة بينلين، فتقدما في تشكيل من قوات أمامية وخلفية، وبادرا بالهجوم مباشرة على المدينة المذكورة، وتسلقا أسوارها، غير أن قادة العدو، من المنطقتين «شياتيه» و«هوانتو» قاما بمهاجمة مؤخرة هذين الجيشين، فأنزلا بهما الهزيمة، تماما مثلما توقع سونبين، واضطرت القوات إلى التراجع. وهنالك قام القائد تيانجي باستدعاء سونبين، وقال له: «قد فشل الهجوم على بينلين، وقتل القائدان، رئيسا المدينتين أثناء محاولة الاقتحام، بل تعرضت قواتهما لأضرار جسيمة خلال الاشتباك، فكيف نتصرف الآن؟» فأجابه: «أرى أن تدفع على الفور بقوات خفيفة الحركة صوب الغرب؛ لضرب مشارف مدينة «طاليان» عاصمة دولة وي؛ وذلك بهدف استثارة غضب العدو [في إحدى النسخ، وردت العبارة «لإثارة سخط القائد بانشيوان»] لكن ضع في اعتبارك، قبل كل شيء، أن تتعمد تقليل أعداد القوات المكلفة بهذه المهمة، فاحرص على أن تعطي الانطباع لأعدائك بأن ما تبقى من القوات محدود الكثرة (بيد أن الوحدات الرئيسة ستظل مرابطة - خفية - في منطقة «قويلين» لتباغت أعداءك بها في معركتك القادمة، مع دولة وي).» ... وبالفعل، فقد سلك تيانجي على أساس هذا التصور الذي اقترحه سونبين.
وكان أن ثارت حماسة بانشيوان للدفاع عن طاليان، فتخلى عن عدد كبير من المؤن والعتاد وراح يواصل الليل والنهار في مسيرته نحو العاصمة المستهدفة بالهجوم، وعندئذ، تحرك سونبين بسرعة وإلى جانبه [القائد تيانجي] دون أن يعطي القوات التي تحت قيادته فرصة التقاط الأنفاس، وبادر إلى مهاجمة قوات دولة وي، على مشارف العاصمة طاليان، وقام بأسر القائد بانشيوان، حيا؛ فمن ثم قيل إن خطة سونبين في خوض تلك المعركة تميزت بالإتقان والروعة. (أربعمائة وستة )
2
الفصل الثاني
لقاء مع الملك وي
لما التقى سونبين بالملك وي، حاكم دولة تشي، قال لجلالته: لا ينبغي أن تكون الحرب هي الحل الدائم على طول المدى ... (واعلم، يا مولاي، إن هذا الرأي ليس من ابتكاري بل هو ...) نتاج ما توصل إليه الأباطرة بالتجربة على مدى السنوات الطويلة ... (ذلك أنه) ... إذا تحقق النصر بالقتال، تجدد البقاء لأمة كانت على حافة الخطر، وكتب لأهلها وعشائرها حياة باقية ووجود جديد، أما إذا منيت في الحرب بالهزيمة، تنازلت عن أرضها صاغرة مستسلمة، وتعرضت الأوطان وأهلها لمخاطر تتهدد الوجود والحياة. ومن ثم فالحرب مسألة تستحق كل الاهتمام والتأمل الجاد والدراسة الدقيقة. (وعلى مر الزمان، منذ العصر القديم وحتى اليوم ...) كان المولعون بالحرب والقتال هم الذين جلبوا على الأوطان الدمار والضياع، وكان الساعون وراء النصر بأي ثمن هم الذين حاق بهم الخزي والعار. إن دفع القوات إلى الحرب ليس مسألة عبثية، كما إن السعي إلى النصر ليس مجرد أمل أعمى. إن الشيء الوحيد الذي يعود بنفع حقيقي هو اتخاذ الاستعداد التام للحرب مسبقا وقبل الشروع في أي تحركات (... فذلك قمين بأن يجلب الانتصار) [وهكذا ... نستطيع أن نفهم كيف كانت ...] مدينة صغيرة تستبسل في الصمود، لا لشيء إلا لأنها تعتمد، بشكل أساسي، على موارد وفيرة ولديها مدد كاف بفضل الاستعداد الدائم. [... ونستطيع أن نفهم أيضا كيف كان ...] عدد محدود من الجند يناضلون بقوة وصمود وثبات، لمجرد أنهم يقفون في الصف الذي يحارب لأجل قضية عادلة. لن يثبت في قتال كل من أراد المثابرة دون سند من استعداد ورصيد من المؤن، ولن يحقق أي نصر، من شن حرب جائرة. (... وأذكر لجلالتك، فيما يلي، طرفا من سيرة الأباطرة القدماء، فعندما ...) تولى الإمبراطور «ياو» زمام الحكم فوق الممالك قديما، أعلنت سبع قبائل العصيان ورفضت الإذعان لسلطته، كانت اثنتان منهما تقعان في المنطقة الشرقية (... حيث تقطن القبائل الهمجية)، بينما كانت أربعة منها تقيم في المنطقة الوسطى. وكان أن قام الإمبراطور بالإغارة على المناطق البعيدة المتاخمة لساحل البحر، فأغناه ذلك عن بسط نفوذه في الأقاليم الشمالية؛ ذلك أن أهل تلك الأقاليم أذعنوا للسلم (دون قتال)، ثم ما لبث أن أغار على أحد أكبر زعماء القبائل (المتمردة)، ويدعى «قون كونغ»، فكان في ذلك الكفاية، حتى أنه لم يعد في حاجة إلى إعلان الحرب بعد ذلك على أحد من المتمردين، (لدرجة أن بقي الجيش غير منشغل بأعباء قتال بعدها ...)، وظل الحال على ذلك بضع سنين حتى هرم الإمبراطور وأدركته الشيخوخة، فلم يعد يقوى على حكم البلاد، فسلم زمام الملك للإمبراطور «يوشون» من بعده، وحدث أن يوشون هاجم القبائل المتمردة تحت زعامة «هواندو»، وقبض عليه ونفاه إلى منطقة نائية تسمى «تشونشان»، ولم يكد يتم له ذلك حتى قاد هجوما آخر ضد «قون»، وهو أحد متمردي القبائل وحكم عليه بالنفي إلى منطقة «يوشان». وبالإضافة إلى ذلك، فقد غزا تجمعات القبائل في «سان مياو» وطارد فلولها حتى إقليم «سانوي»، ثم ما لبث أن قام بسحق العصاة والخارجين عليه في المناطق الوسطى من أهالي قبيلة «يوخو» القديمة، غير أن بعضا ممن بقي على قيد الحياة من قبيلة «سان مياو» اتحدوا فيما بينهم، واشتد ساعدهم وقويت شوكتهم مرة ثانية، وصاروا قوة لا يستهان بها. وهنالك كان الإمبراطور يوشون قد تقدم به العمر كثيرا وعجز عن تسيير دفة الحكم في البلاد، فسلم السلطة إلى خلفه الملك «شيا يو» الذي مهد الطرق عبر المناطق الوسطى، وأزال الحشائش والأعشاب البرية والغابات الكثيفة (بغرض استصلاح الأرض للزراعة) وطارد قبائل «سان مياو» حتى نزحوا تجاه الغرب ومن ثم (... وهكذا، فاعلم أنه ...) لا غلبة للقاعدين؛ فالنصر لا يتحقق لمن ركنوا إلى الاسترخاء والدعة، ولا تنقاد الجموع وتذعن بالخضوع إلا لمن قهر أعداءه، وتحقق له الرسوخ والتمكين.
ومما تشهد به وقائع التاريخ البعيد أن الإمبراطور «شينو نغ» قاد معركة ضارية ضد قبائل «بوسوي» [يقال بأنها أول المعارك الصينية الموثقة تاريخيا]؛ أما الإمبراطور الأصفر (هواندي) فقد أحرز نصرا مظفرا على القبائل المتمردة تحت زعامة تشيو، وذلك في معركة «جولو»، وكذلك قاد الإمبراطور «ياو» حملة تأديبية ضد قائد المتمردين «قونكونغ»، ويذكر أن الملك شون قد أغار على «جوقوان» [اسم قبيلة أو زعيم متمردين ...] هذا، وقد قام الملك «طانغ» بإقصاء الملك «جيه» عن العرش ونفاه بعيدا [«جيه»، آخر ملوك أسرة «شيا» الملكية، كان طاغية غشوما]، ولم يتوان الملك «أو» عن الإغارة على الملك «جو» [آخر حكام أسرة «يين» الملكية، وقد خلعه الملك «أو» عن الحكم وأجبره على الانتحار حرقا]، بل إن القون (لقب، بمعنى الوالي أو الأمير) «تشو» قد قام على رأس قوات ذات عدة وعتاد ليسحق التمرد الذي تردد في جنبات دولة «شانيان» [وهو التمرد الذي شجع عليه سليل أسرة «يين» البائدة، الأمير «أوكن»، حيث قام بعقد تحالفات بين الإمارات: «شيو»، و«يان» وغيرهما للوقوف في وجه أسرة «جو» الحاكمة].
ونخلص من ذلك كله إلى نتيجة مفادها أن أولئك الذين يزعمون أنهم يهدفون إلى تجنيب اللجوء إلى القتال واهمون في زعمهم؛ فأفكارهم في هذا الصدد محض تصورات جوفاء، (والغريب في الأمر أنهم يزعمون هذا الزعم برغم أنهم ...) ليسوا على شيء مما كان يملكه الأباطرة الخمسة من الحكمة [تندرج كثير من الأسماء تحت مسمى «الأباطرة الخمسة»، لكن المؤكد منها ثلاثة استحقوا هذا اللقب المقدس عن جدارة، هم: «الإمبراطور الأصفر»، «ياو»، «شون»]، ولا حازوا شيئا مما كان يملكه القون تشو من العلم والمعرفة، وحجتهم في هذا القول أنهم سيطبقون سياسات قائمة على المبادئ الإنسانية، والتعاليم والآداب وقواعد السلوك القويم؛ للحيلولة دون قيام أسباب الحرب من الأساس.
إلا أنهم يجهلون أن الأباطرة والملوك القدامى [حرفيا: الملوك، وهم: «طانغ»، «ياو»، الأباطرة، هم: «يو»، «شون»]، قد سبقوهم إلى انتهاج تلك الوسائل والسياسات، لكنها لم تغنهم عن اللجوء إلى القتال؛ فلا مفر من الحرب وسيلة لتسوية الأزمات.
1
الفصل الثالث
محاورات الملك وي1
طرح الملك وي، حاكم دولة تشي، على سونبين سؤالا يتعلق بفنون القتال، قائلا: «ماذا لو أن جيشين وقفا على قدم المساواة، من حيث القوة العسكرية، وإرادة المواجهة والتحدي بين قادتهما وأفرادهما، وصلابة وثبات تشكيلاتهما القتالية، دون أن يبادر أحدهما إلى الهجوم على الآخر، ترى كيف يمكن التصرف إزاء هذه الحال؟» فأجابه سونبين، قائلا: «لك أن تختبر عدوك بأن تدفع إليه قوة مشاة خفيفة التسليح، تحت قيادة أحد صغار الضباط ممن يميزون بالإقدام، بحيث تقوم هذه القوة بالهجوم، على ألا تحرز تقدما عليه، بل يمكن لها أن تتلقى ضرباته وتنهزم من تلقاء نفسها، في الوقت الذي تدفع فيه بكتيبة عسكرية تتقدم تحت ستر الخفاء؛ لتهاجم أجناب العدو، فتلك هي أفضل وسيلة لاختبار أحوال العدو تمهيدا للتغلب عليه.» وسأله الملك وي: «هل هناك قاعدة تحكم الفرق بين استخدام قوات كبيرة وأخرى صغيرة؟» فلما رد عليه سونبين بالإيجاب، واصل الملك أسئلته، قائلا: «فكيف الرأي إذا كانت قواتنا أوفر قوة وأكثر عدة وعتادا، ما هي القاعدة التي نلتزم بها في قيادة القوات في مثل تلك الحال؟» وهنالك انحنى سونبين أمام جلالته، قائلا: «أصبت يا مولاي، فهذا سؤال حكيم بعيد النظر؛ وإن من الفطنة والسداد أن يكون لديك الجيش القوي الوافر العدة والعتاد، ثم تفكر في الطرق المناسبة للتحرك والقتال، فذلك أدعى إلى التصرف على أسس راسخة، وتوخي الوسائل الكفيلة بمراعاة مصالح البلاد وأمنها، وأرى أن الطريقة الملائمة، في هذا الصدد، هي تلك التي تسمى ب «تسانشي» [التغرير بالعدو] ومفادها العمل على تشكيل وحدات القتال، على نحو مضطرب عمدا بما يعطي الانطباع للعدو بارتباك الصفوف وتغلغل الفوضى والتسيب وسط قواتك، وهو بالطبع ما سيجد لديه صدى طيبا، ولا بد أنه سيبادر على الفور إلى البروز إلى القتال (مما يتيح لك أن تحسم المعارك لصالحك).» وواصل الملك أسئلته، قائلا: «هب أن العدو أقوى وأكثر حشدا، فكيف أتصرف إزاء هذا الموقف؟» فأجابه: «هناك طريقة مثلى يمكن تطبيقها في مثل تلك الظروف، وتسمى ب «وانوي» [تفادي هجوم العدو]، فالمعنى الأساسي لهذه الطريقة يتمثل في التعتيم على تحركات القوة الرئيسة، بحيث يسهل عليها (وقت الضرورة) الانسحاب من مواقعها، على أن تتمركز أسلحة الضرب البعيد في خطوط المواجهة الأمامية، أما أسلحة الضرب القصير فيتم توزيعها فيما وراء ذلك، وخلف الخطوط يجري نشر مجموعات خفيفة الحركة من الرماة لتكون جاهزة في الحالات الطارئة التي تستدعي مساندة القوات، (وعموما، وكمبدأ أساسي) فلا ينبغي إصدار أمر تحرك للقوات، ريثما يكشف العدو عن مخبوء مقدرته القتالية، فتلتحم به وتحسم المعركة.» وسأله الملك وي: «فماذا لو التقى الجيشان دون أن أعرف مدى ما تصل إليه قوة العدو (مقارنة بما عندي)؟» فقال له سونبين: «إن الطريقة المناسبة لمثل هذا الظرف تسمى ب «شيان تشنغ» وهي عبارة عن أسلوب (تكتيك) قتالي يمكن اللجوء إليه عندما يشرع العدو في عملياته على النحو المعهود في المعارك حيث تستطيع أن تتخذ ثلاثة تشكيلات قتالية، وهي: أولا [فراغ في الأصل] وهكذا يتحقق التعاون فيما بينها، على النحو الذي تملك به خيار التقدم أو التراجع، دون الإلحاح على [فراغ في الأصل].» فعاد الملك يسأله: «فكيف يكون القتال مع عدو في وضع يائس وقد سدت أمامه طرق النجاة؟» فأجابه بقوله: «... [فراغ في الأصل] لا تلهث في إثر العدو الهارب، لكن دعه يعتقد أن أمامه طريقا للنجاة (ثم اسحقه عندما يعثر على مثل ذلك الطريق).» وإذا بالملك يسأله: «فكيف أحارب عدوا يكاد يتكافأ معي في القوة حينئذ؟» فأجاب سونبين، قائلا: «حاول أن تسبب له الإرباك، بحيث يفقد السيطرة على قواته مقابل تركيز السيطرة التامة، في يدك، على قواتك لمهاجمته، على ألا يتنبه إلى نواياك مطلقا، فإذا لم تتبدد قواته ولم يفقد سيطرته عليها، فعليك أن تجمد تحركاتك لأنه من التهور أن تهاجم عدوا غير معلوم الأحوال.» وكان أن سأله الملك وي: «هل تعرف قاعدة يمكن بمقتضاها أن نواجه جيشا أقوى منا عشر مرات؟» فرد عليه سونبين بالإيجاب، قائلا: «القاعدة النافعة في هذا الشأن تتطلب أن تبادر بالهجوم على العدو قبل أن يأخذ أهبته للمواجهة، بمعنى أن تفاجئه بالقتال، فيؤخذ على غرة من أمره دون أن يدور بخلده أنك مهاجمه.» فقال الملك: «فلماذا تقع الهزائم (أحيانا) برغم توافر الظروف الملائمة في أرض القتال [الطبيعة السهلية على أرض المعارك]، بالإضافة إلى الاستعداد القتالي الجيد للتشكيلات، ترى ما السبب في حصول الهزيمة برغم توافر الاستعداد ودقة الانضباط؟» فأجابه: «يرجع السبب في ذلك إلى الإخفاق في اختيار الطلائع المنتخبة والمؤهلة على نحو ممتاز.» ولاحقه الملك وي بالأسئلة، قائلا: «ما الوسيلة المناسبة لترسيخ سلوك الجند على أساس الطاعة المطلقة للأوامر؟» فأجابه: «(لتحقيق ذلك فإنه يتوجب على القادة) الالتزام الحقيقي والكامل بالصدق والتفاني.» وهنالك قال جلالته: «فما أبدع هذا القول، إذن، وإني لأعجب من تنوع وبراعة هذه الخطط والأساليب القتالية!» وحدث أن تقدم تيانجي إلى سونبين بأسئلته، قائلا: «ما الوسيلة إلى عرقلة تحركات القوات، وكيف يمكن توريط العدو في الأزمات، وما السبب الأساسي في تعثر الهجوم على المناطق الحصينة، ولماذا تضيع دائما الفرص الثمينة [حرفيا: لماذا يصعب دائما استغلال الزمان المناسب والمكان الملائم؟] فهل هناك قاعدة يمكن الرجوع إليها في كل من هذه النقاط الست؟» وكان رد سونبين بالإيجاب، إذ قال له: «وعورة التضاريس هي التي تعوق تحركات العدو، وليست هناك عقبة أو مأزق ينزل بالعدو قدر ما يجده أثناء تحركاته من تضاريس وعرة، ومن ثم فقد كان يقال إن منطقة مستنقعات يبلغ قطرها ثلاثة أميال تشكل أكبر صعوبة أمام تحركات القوات [فراغ] بالدرجة التي تحتم التخلي عن المعدات الثقيلة حتى يمكن عبور المجاري المائية والأنهار (بما في ذلك الدروع والمركبات)، أجل، فالأراضي الوعرة والطبيعة الأرضية غير الممهدة (كل ذلك) يمكن أن يعوق تقدم العدو؛ مما يضعه في مأزق، أما السبب في تعثر الهجوم على المناطق الحصينة وصعوبة اختراقها فيرجع إلى ما يحوطها من منشآت دفاعية أو خنادق وممرات مائية [فراغ]. وسأله تيانجي: «[فراغ] فما الذي يمكن عمله (في هذا الشأن)؟» فأجابه، قائلا: «تبادر فورا إلى دق طبول الهجوم، لكنك تدع القوات في وضع التهيؤ للقتال دون أن تبادر بالاشتباك، بل تحاول بشتى الطرق أن تورط العدو في الخروج إلى المعركة.» فسأله تيانجي: «ما هي الوسيلة التي تضمن انصياع الأفراد للأوامر على نحو تام وبمنتهى الحزم والانضباط؟» فأجابه سونبين، قائلا: «وسيلتك في ذلك تتمثل في أن تدع المقاتلين يدركون ما يمكن أن يعود عليهم بالفائدة والتقدير حال انصياعهم للأوامر، بالتوازي مع الالتزام الصارم بالانضباط العسكري.» وسأله محدثه: «فهل يمكن أن يعد العمل بقاعدة المكافأة والمجازاة بمثابة الركن الأساسي في الانضباط العسكري؟» فقال له سونبين: «كلا، ليس الأمر بهذا المعنى، فالمكافأة من شأنها أن تحث الجند وتبث لديهم الدافع على الإقدام والبذل، فأما المجازاة (فترسخ قيمة الانضباط) وتحول دون التسيب والفوضى، وتشيع روح الطاعة والاحترام بين الأفراد وقياداتهم، فهذه كلها سلوكيات تمهد الطريق للنصر، بيد أنها ليست العنصر الحاسم (الذي يتحقق به الظفر في المعارك).» ثم لم يلبث تيانجي أن توجه إليه بسؤاله، قائلا: «فهل تعد كل من القيادة (السلطة السيادية)، التفوق، التخطيط، والخداع هي أهم الأسس في استخدام القوات [تكتيكات القتال]؟» فأجابه سونبين، قائلا: «كلا، لا يمكن أن نعدها كذلك؛ فالغرض من إحكام السيطرة والقيادة هو حشد وتوزيع القوات، أما التمكن من التفوق القتالي فيهدف إلى حفز المقاتلين على خوض المعارك بشجاعة وإقدام، وبالنسبة لبراعة التخطيط، فالغرض الأساسي، هنا، هو تلهية العدو عن الحذر والانتباه، ثم إن المقصد الأساسي من الخداع يكمن في إرباك العدو وتضليله، وهي كلها وسائل تساعد على تحقيق النصر، لكنها لا تقع ضمن المادة الأساسية لفن استخدام القوات في الحرب.» وهنالك استولى الغضب على تيانجي، وراح يسأل سونبين وهو في غاية الانفعال، قائلا: «بل إن هذه النقاط الست التي ذكرتها لك هي أوجب ما ينتبه إليه ويهتم به المحارب الكفء، من فنون الحرب، ومع ذلك فيبدو أن لك رأيا مخالفا، فقل لنا؛ إذن، ما أهم ركائز [الوسائل التكتيكية في ...] استخدام القوات للقتال؟» فأجابه سونبين، بقوله: «(إن أهم جانب من فنون الحرب يتركز في ...) تحليل ومعرفة أحوال العدو، ودراسة تضاريس أرضه والتبصر [حرفيا: بالسهول والجبال والموانع الأرضية عنده] بطبيعة الأرض التي يتحرك عليها، وفحص ومراجعة الأطوال والمسافات في خطوط اتصاله، فتلك من أعظم مهام القائد المحنك (أما أهم نقطة في فن استخدام القوات للقتال، فهي ...) توجيه الضربات الحاسمة لدفاعات العدو الضعيفة.» وسأله تيانجي: «فكيف إذا احتشدت القوات بمواجهة بعضها بعضا، دون أن تكون عندي أية نوايا في البدء بالاشتباك، ما الطريقة المثلى التي ينبغي علي العمل بها، حينئذ؟» فرد عليه سونبين، قائلا: «في مثل هذا الموقف سيتوجب عليك أن تحرس مواقعك المنيعة، وأن تقوي حصونك وتلزم جانب الحذر، دون أن تكون البادئ بقتال، بل تحرص على أن ترابط قواتك بمواقعها ولا تغادرها مهما كانت الأسباب، دون أن تستثيرها استفزازات العدو للاشتباك.» فسأله تيانجي قائلا: «فكيف يكون التصرف عندما يتوجب علي الاشتباك مع خصم شديد المراس كثيف الحشود.» فأجابه سونبين: «تزيد منعة حصونك وتعمل على تعبئة وحشد قواتك، ولتكن حريصا على فرض الانضباط الصارم وتنظيم صفوف القوات بما يحقق لها الارتباط والوحدة، كما يجب عليك أن تتجنب كل ما من شأنه أن يقوي من صلف العدو واعتزازه بنفسه، بل سيكون محتما عليك أن تدفعه إلى حافة الإنهاك القصوى، ثم تفاجئه بهجومك وتباغته حيث لم يتخذ أهبته ولا بد عندئذ من أن تلتزم خطة حرب طويلة الأمد.» وتوجه تيانجي إلى سونبين بسؤاله، وهو يقول: «هلا ذكرت لي دواعي استخدام كل من التشكيل المخروطي [حرفيا: «جويشين»] وتشكيل «الإوز البري» [يانشين]، وأهمية انتخاب الوحدات القتالية الممتازة وأهمية وحدات الرماة المهرة، وتشكيل العاصفة العاتية، وكذلك وحدات الأفراد من عامة الجند؟» وكان رد سونبين عليه، كالتالي: «تكمن أهمية التشكيل المخروطي في قدرته على مهاجمة الوحدات القوية للعدو، والإحاطة بعناصر قوته الفائقة، أما تشكيل الإوز البري، فدوره الأساس هو الإطباق على أجناب العدو (مثل فكي الكماشة القابضة)، ولمواجهة [فراغ]. أما الهدف من انتقاء الوحدات القتالية المتميزة، فيكمن في اختراق تشكيلات العدو وأسر قادته، كما أن الأهمية المشار إليها لوحدات الرماة المهرة فتتمثل في دورها القتالي البارز في حرب طويلة الأمد مع العدو. فأما تشكيل العاصفة العاتية، فإن أهميته تتضح في [فراغ] وبالنسبة لتشكيل الأفراد من عامة الجنود فيسند إليه دور محدد من المهام القتالية، بهدف المعاونة [معاونة الوحدات المتميزة] في إحراز النصر.» وأضاف سونبين، قائلا: «ثم إن القائد الحكيم وداهية الحرب الذي يفقه أصولها ويجيد قواعدها، لن يعلق كبير أمل على حشود هائلة من الجنود (العاديين) لتحقيق إنجازات باهرة (انتصارات مدوية).»
فلما انتهى سونبين من حديثه مع جلالة الملك وي حاكم تشي وتيانجي، قام وخرج، والتقى في طريق خروجه ببعض من تلاميذه، فابتدروه بسؤالهم: «ما رأيك فيما طرحه جلالة الملك وتيانجي من أسئلة؟» فأجابهم قائلا: «سألني الملك تسعة أسئلة، بينما لم تتجاوز أسئلة تيانجي السبعة فقط، لكنهما صارا كليهما على دراية بجانب عظيم من فنون الحرب، ولو أني لا أستطيع الجزم بأنهما على مستوى فائق من إجادة الأصول وإتقان المبادئ، وقد بلغني (فيما قيل من الحكمة ...) أن الالتزام الأصيل والجاد بالإخلاص والثقة يعود على الأوطان بالنفع والازدهار، وأن استتباب أسس العدل [فراغ] ... (واعلموا) أن البراعة التامة في قيادة القوات دون الالتفات إلى إعدادها على نحو سليم للدخول في حرب، يعود على البلاد بالخسران، كما أن الولع بالعدوان والحروب يقود الأوطان - حتما - إلى الضياع والزوال [... فإذا ما انتهجت دولة تشي هذا السبيل]، فسوف تلقى، بعد ثلاثة أجيال، مصيرا يستحق القلق.» *** [وردت بعد هذه القطعة عدة عبارات غير مترابطة، قد تكون ذات علاقة بالمتن أو بجزء آخر من السياق في هذا الكتاب، لم تتم ترجمتها إلى الصينية الحديثة في النسخة التي أنقل عنها، بل لم يتم ذكرها في عدد من النصوص المحققة الأخرى، وأجتهد، هنا، في نقلها عن الصينية القديمة، كالتالي: ...] ... [فراغ]، فذلك مما يعمل له العدو ألف حساب» [فراغ]. قال سونزي: [فراغ]. قال سونزي: ثماني تشكيلات قتالية، [فراغ] ... على هذا النحو، وقال سونزي: إن الحرب [فراغ] ... وقال الملك وي: [فراغ] ... هكذا «[فراغ] ... ثم إن تيانجي [فراغ] ...»
الفصل الرابع
مناقشات تيانجي بشأن التحصينات1
توجه تيانجي إلى سونبين بسؤاله، قائلا: «ما الذي يمكن عمله، إذا كانت قواتي قليلة والاتصال بينها متعذرا؟» ثم أضاف سؤالا آخر، إذ قال: «وكيف يكون التصرف، وقد أصدرت الأوامر بتناول السهام وفرد الأقواس [فراغ] ... دون أن أملك العدول عن هذا الأمر.» فأجابه سونبين، قائلا: هذا سؤال لا يطرحه إلا قائد محنك؛ إذ إن القادة العاديين لا يستلفت انتباههم ما يمكن أن ينطوي عليه هذا الموضوع من دواعي القلق، فذلك هو ما يمكن - وبصورة حاسمة - أن [فراغ] ... فقال له تيانجي: «هلا أجبت على نحو محدد؟» فرد عليه سوبيني، قال: «تلك طريقة تستخدم لمواجهة عدو أصبح في موقف حرج أو ألقت به الظروف وسط تضاريس أرضية غير مواتية لتحركاته. (وبالمناسبة) فقد كانت تلك هي الطريقة التي تيسر لي استخدامها في هزيمة قوات دولة وي مما أتاح لي أسر القائد بانشيوان والأمير «شن».»
فقال له تيانجي: «هذا واضح تماما، لكن تلك حوادث مضت وانتهت بكل ظروفها وملابساتها، ولا سبيل إلى تكرارها.» فعلق سونبين على ذلك قائلا: (أستطيع أن أوضح لك المسألة، ف...) يمكن أن يكون شجر الحسك الشائك وسيلة لحماية الخنادق والمجاري المائية وأسوار المدن الدفاعية، ويمكن للعربات الحربية أن تستخدم كتحصينات دفاعية [فراغ] ... (في إحدى النسخ: عربات الركوب ذات الأسقف) ... تصلح لأن تؤدي دور الأسوار الدفاعية القصيرة، كما يمكن للدروع أن تقوم مقام الأسوار القصيرة ذات المزاغل، وإذا رصت مقابض الأسلحة بجوار بعضها بعضا، فيمكن أن تكون ذات عون عظيم في الحالات الطارئة. إن نشر وتوزيع العربات الحربية والحراب (الصغيرة)، يعد بمثابة دعم للأسلحة الأخرى (الكبيرة)، فالفائدة من تلك الأسلحة الصغيرة هو أنها تصد وتعوق تقدم قواته المنهكة، ثم إن الرماة يمكن أن يكون لهم دور حيوي وحاسم في مهاجمة العدو [فراغ] ... فإذا توافرت كل تلك العناصر، على الوجه الأكمل، تهيأت الظروف لاتخاذ شروط الدفاع عن المدن بواسطة الحصون، وقد ورد في نصوص «اللوائح العسكرية»، ما يلي: فليتخذ الرماة مواقعهم خلف أشجار الحسك ويطلقون السهام على العدو، بتقدير وقت محدد ومسافة محسوبة بدقة، بينما يشغل حاملو الحراب والسهام فوق أسقف الحصون مساحتين متكافئتين، كما جاء في كتاب «القواعد العسكرية»، ما نصه: «ينبغي الانتظار حتى تصل تقارير عناصر الاستخبارات، بعد عودتها من مهام التجسس على أحوال العدو [فراغ] ... كما أنه لا بد من إقامة نقاط استطلاع على مبعدة خمسة «لي» من مواقع تمركز القوات، بحيث تظل قريبة الصلة بمواقعها، وتقام تلك النقاط فوق ربوة عالية، ويكون تصميم مبانيها رباعي الشكل، أما إذا أقيمت في أماكن منخفضة، فتكون مبانيها دائرية التصميم، وتبلغ الإنذارات في الليل، بواسطة قرع الطبول، أما في الصباح، فتكون وسيلة الاتصال هي الأعلام والرايات.» *** [ثم يتلو هذا المتن نص آخر غير مكتمل العبارات وتتخلله فراغات في أماكن مختلفة، وتبدأ أولى فقراته بحوار بين تيانجي وسونزي، مؤلف كتاب «فن الحرب» المشهور، وتنتهي فقراته بعبارة، معناها «فمن ثم ندرك معنى الحرب، وبالتالي نمسك بزمام الفطنة والفهم ...»، ويتلو هذا النص جزء ثان من المتن، ترجمته كالتالي: ...] ... [فراغ ] (... فهذه هي فنون القتال ...) التي استخدمها سونزي في دولتي «أو» [تنطق كما في «أوليمبياد»] و«يوي»، وأخذها عنه سونبين، ثم نشر مبادئها في دولة تشي، ولا بد أن من يفقهون بواطن تلك المبادئ القتالية من آل سون، سوف يلتزمون في قيادة الجيوش والتشكيلات بما يتواءم مع طبائع الأمور، على النحو المعهود من مبادئ الأرض والسماء.
الفصل الخامس
انتقاء القوات1
قال سونبين: «يتوقف النصر العسكري، أساسا، على انتقاء القوات (الأصلح للقتال)، كما أن ما تتحلى به القوات من الشجاعة والإقدام يعتمد، بالدرجة الأولى، على ما تتميز به من الضبط والنظام. إن الأساس في المرونة القتالية يقوم على إدراك مزايا الأوضاع العامة [إدراك الموقف الاستراتيجي]، ولا شك أن صلابة القوات تصدر، أصلا، من صلابة إيمانها ومتانة عمادها من الثقة والإخلاص [... بما يقود معنويات المقاتلين للامتثال لتوجيهات قياداتهم].
إن التدريب هو القاعدة التي تدعم كفاءة القوات، (واعلم) أن انتصارا سريعا وحاسما هو أعظم مكسب للوطن، كما أن قوة الأوطان ومجدها الحقيقي يقاس بمدى ما تمنحه من الرفاهية واللياقة [حرفيا: ما تمنحه من الراحة واستعادة طاقاتها المهدرة]، ثم إن أسباب تدهورها واضمحلالها تنشأ عما تتردى فيه من حملات عسكرية متكررة.»
وقال سونبين: «إن المستوى الخلقي الرفيع يعد قاعدة صلبة تترسخ بتراكم التجارب ورصيد السنين والأيام. إن الإخلاص والإيمان والثقة تقوم جميعا على مبدأ من الجزاء العادل والمكافأة النزيهة. إن أعظم المبادئ العسكرية يقوم على كراهية الحرب، إن الفوز بثقة الجنود هو الضمان الحقيقي للنصر [فراغ] ...» وقال سونبين: «ثمة خمسة شروط لإحراز النصر على الدوام: (أولا)، أن يحوز القائد ثقة السلطة الحاكمة [حرفيا: الإمبراطور] بما يمكنه من إدارة معركته على نحو مستقل. (ثانيا)، أن يسبر القائد غور المعارك ويدرك طرائقها وأساليبها. (ثالثا)، أن يحوز القائد ثقة جنوده. (رابعا)، أن يقوم التكاتف بين القائد والأفراد. (خامسا)، أن يجيد القائد تقدير أحوال العدو بدقة، بالإضافة إلى إلمامه بخصائص وتضاريس أرضه، (فكل ذلك ضمان للنصر بلا جدال).»
وقال سونبين: «تنجم الهزيمة عن خمسة أسباب، وهي: (أولا)، أن يفقد القائد استقلاله وسلطته تحت تأثير خضوعه التام لسيطرة الحكم عليه [اقرأ: سيطرة الإمبراطور]. (ثانيا)، أن يجهل القائد فنون الحرب وقواعدها. (ثالثا)، أن يقع الشقاق بين القائد وزملائه. (رابعا)، أن يعجز عن الاستفادة من الجواسيس، (خامسا)، أن يفقد القائد ثقة جنوده.»
وقال سونبين: «مناط النصر في إخلاص القائد لبلاده، [في إحدى النسخ المحققة، يرد بعد عبارة «مناط النصر ...» فراغات في الأصل] وفي عدالته ونزاهته عند المكافأة والجزاء؛ وفي مقدرته على استغلال نقاط ضعف عدوه، [في إحدى النسخ المحققة يرد فراغ بعد عبارة «استغلال نقاط ...»، وهو ما استكملته النسخة التي أترجم عنها].»
وقال سونبين: لا ينبغي لمن تناءت عنه ثقة (جلالة الإمبراطور) أن يتولى قيادة القوات، [فراغ]. *** [يتلو المتن الأصلي للكتب، عدة فقرات غير مترابطة؛ لما يتخللها من فراغات، أكبر الظن أنها من إضافات النساخ في عصور متفرقة، ولم يحاول المحققون ضبط عباراتها وترجمتها، لكني سأحاول نقلها إلى العربية، فيما يلي: ...] «... فالباب الأول هو الأمانة، والثاني هو الإخلاص، أما ثالثهما فهو الجرأة ... فكيف بالإخلاص، ولمن يكون إذن؟ وأقول لك إن المعنى يعود إلى الإخلاص لجلالة الملك، وماذا عن الأمانة؟ وأجيب بأنها الأمانة في المكافأة والمجازاة، فماذا عن الجرأة ... إن من يحيد عن الإخلاص لمليكه، لن يجرؤ على قيادة جيشه، ومن لم يتوخ النزاهة في المكافأة والمجازاة، فلن تبذل له الجنود الاحترام، أما من يقتحم ساحة الحرب بغير اقتدار، فلن تهابه الجنود.»
مائتان وخمسة وثلاثون [كذا]
الفصل السادس
الحرب والطوالع الفلكية1
قال سونبين: «ليس أعظم من الإنسان قدرا، فيما بين الأرض والسماء [فراغ]، إن لم تؤخذ في الاعتبار، ثلاثة عوامل، وهي: التوقيت الزمني، وطبيعة الأرض، والتآلف بين الأفراد، (أو، بمعنى ما، التلاؤم بين العنصر البشري والظروف الزمانية والمكانية المعلومة)،
2
فلن يكون ثمة نفع من النصر إذا تحقق بل سيكون الانتصار، حينئذ، نذير كارثة. ومن ثم فلا بد من اتخاذ الاستعداد الكافي لتوافق هذه العوامل الثلاثة عند خوض الحرب، إذا لم يكن هناك مفر من خوض غمارها. إن من يحرص على الخضوع لشروط الزمان [حرفيا: التلاؤم مع أسباب السماء] لن يكرر حملاته القتالية، أما من لم يعمل لثلاثتها حسابا، فقد تواتيه أنصبة من حظوظ النصر، لا لشيء إلا لما توالى عليه من أنصبة الفوز من عند السماء [حسب اعتقاد قدماء الصينيين في أن مواقيت الازدهار والنصر والعمران والضعف والاضمحلال، كلها، تنزل بقدر من السماء].»
وقال سونبين: «ما نال امرؤ النصر في ست معارك، من بين عشرة معارك يخوضها، إلا بفضل الطوالع الفلكية المواتية، فإذا أحرز أحد النصر في سبع مرات - من بين عشرة اشتباكات - فلأن البرج الشمسي قد هيأت له الميقات الملائم، أما إذا كان النصر حليفه، في ثماني معارك؛ فذلك لأن البرج القمري كان يمده بأسباب التمكين، ثم إن الظفر في تسع معارك - من بين اشتباكات عشرة - [فراغ] (واعلم)، أن تحقيق النصر في المعارك العشر كلها يقوم على براعة القائد واقتداره بالدرجة التي أدت إلى الفوز العظيم الذي يفوق في أسبابه كل مقادير السماء وطوالع الأفلاك، وبمجرد أن [فراغ].» *** [ثم يتلو المتن قطعة صغيرة، باللغة الصينية القديمة، غير مترجمة إلى اللغة الحديثة، فاجتهدت في نقلها إلى العربية، على النحو التالي: ...] «... [فراغ]. هناك أسباب خمسة تحول دون تحقيق النصر، كل واحد منها كفيل بذاته (دون الباقي) بالحيلولة التامة دون كسب أي معركة. (فكثيرا ما تنشأ مثل هذه الحالات التالية، أثناء القتال ...) فهناك من يثخن في أعدائه فيصيب بالقتل عددا هائلا من الأفراد دون أن يتمكن من الإيقاع بالضباط والمقاتلين (من الطرف المناوئ) في الأسر، وهناك من يوقع بالضباط والأفراد في الأسر دون أن يتمكن من اقتحام مواقعه وثكناته، وقد تستطيع القوات أن تقتحم مواقع عدوها، لكنها تعجز عن أن تأسر قائدها، وهناك (أخيرا) من قد يقدم على إبادة خصمه - جنودا ومقاتلين - ويقضي على قادتهم بالكامل. (فمن ثم نخلص إلى نتيجة مفادها) إن من يجيد قواعد الحرب، لن يدع لأعدائه فرصة الفرار من الهزيمة أو تفاديها (بل سيدعهم يعيشون حتى يرونها رأي العين) ... [فراغ] ..»
الرقم ثمانون
الفصل السابع
توزيع التشكيلات1
قال سونبين: لا يغتر في ساحة المعارك إلا قائد جاهل غير بصير، ولا يتيه صلفا إلا قائد جبان [أو: ... من لا يقدر العواقب، ينطلق إلى القتال بكل خيلاء] إن من أعوزته التجربة والعلم وفنون القتال، لا بد سيعلق كل آمال النصر على المصادفات. (إلا أنه) لا مفر لمن أراد استتباب الأمن وتوطيد قواعد المجد، وحماية سلام وطنه وشعبه من أن يملك ناصية الحرب ويجيد أصول القتال، وينبغي لمن سلك سبيلا إلى قواعد الحرب أن يدرس (بادئ ذي بدء) علوم الفلك (ثم يثني عنانه إلى ...) علوم الجغرافيا وطبيعة الأرض، ولا بد له كذلك من أن يحظى بدعم ومساندة وثقة مواطنيه (في الداخل)، بالإضافة إلى فهم واستيعاب حقائق أحوال أعدائه (فيما وراء حدود الوطن). وإذا كان بصدد الاستعداد لتشكيل قتالي، فلا بد من أن يلم بمبادئ وأساسيات استخدام القوات وتوزيعها، فلا يدخل حربا إلا إذا رجحت لديه كفة النصر، أما إذا لم تتوافر لديه الثقة في الغلبة فسيعدل عن خوض القتال. إن مثل ذلك القائد، هو وحده الذي يملك - عن جدارة - المزايا التي تؤهله ليكون عونا للأباطرة في تدعيم قواعد استقرار الأوطان وتوطيد أسس أمنها وسلامتها. [وفي الجزء الثاني من هذا الفصل، يقول سونبين: «إن طرق توزيع ونشر واستخدام القوات يجب أن تتفاوت حسب طبيعة أرض وظروف المعركة، بمعنى أنه من الضروري أن يتم توزيع القوات بما يتلاءم مع طبيعة الأرض. (واعلم) أن القوة العسكرية يتم تقسيمها إلى ثلاث قطاعات، يحتوي كل منها على طليعة، وكل طليعة تتبعها قوة خلفية، وفي كل الأحوال، فلا ينبغي أن تتحرك القوات إلا حسب الأوامر.]
يتم دفع ثلث القوات إلى الاشتباك على أن يقوم ثلثا القوة بحماية الخطوط القاعدية باعتبارها قوات للاحتياطي، فيدفع إلى الهجوم بثلث القوة بينما يبقى الثلثان في المؤخرة. وإذا كانت قوات العدو بادية الضعف وصفوفه مرتبكة، فيتم دفع أفضل القوات لاستغلال ثغرات ضعفه ومهاجمته، أما إذا كانت قواته قوية دقيقة التنظيم عالية الكفاءة والانضباط، فيتم دفع قوات ضعيفة لاستدراجه.
عند اشتراك الفرسان والعربات الحربية في التشكيلات المقاتلة، يجري تقسيمها أيضا إلى ثلاثة أقسام: الميسرة، والميمنة، والمؤخرة، مع ملاحظة استخدام العربات الحربية على الأراضي السهلية المنبسطة، أما الأراضي الوعرة وغير الممهدة، فالأنسب لها قوات الفرسان. هذا، ويستخدم الرماة لدى المنحدرات الشاهقة والمواقع الكائنة في مناطق ممتنعة، وفي كل الظروف وسواء أكانت أرض المعارك سهلية مستوية أو غليظة حزنة، فلا بد من التمييز بين المناسب فيها للقتال وغير المناسب [حرفيا: التمييز بين الأرض «الحية»، و«الميتة»]، بحيث تستغل الأولى لتوزيع القوات عليها، بينما تتم منازلة العدو وهو على الأرض (الميتة) غير الملائمة للقتال.»
مائتان وأربعون
توزيع التشكيلات
2
الفصل الثامن
أهمية أرض العمليات1
قال سونبين: «تنقسم الخصائص العامة لأرض العمليات إلى: الجزء المواجه للشمس، وهو (ما أعتبره) الجانب الخارجي، والجزء الآخر المظلل، وهو (ما أعده) الداخلي، والطرق الرئيسة (التي تبدو على مثال المبادئ الأساسية) والطرق الصغرى (بوصفها الخطوط الثانوية الفرعية)، (واعلم ...) أن من يفهم خصائص وسمات هذين النوعين من الطرق، فسيمسك بناصية [التكتيك؟] فن استخدام القوات وتوزيع التشكيلات، بكل ثقة واقتدار.
إن الطرق الكبرى هي الأصلح للعمليات، لكن الدروب والمسالك الضيقة المتعرجة كثيرا ما تعوق التحركات العسكرية، ومن الأشياء التي ينبغي ملاحظتها والحرص عليها: درجة سطوع الشمس فوق مسرح العمليات، واتجاه الرياح وقوة اندفاعها، ومدى التغير الذي يطرأ عليها، فتلك نقاط تستدعي عظيم الانتباه دون إغفال أو تقصير.
إن عبور نهر، أو التحرك بمواجهة منطقة جبلية، أو الإبحار صوب أعلى النهر ، أو احتلال أرض غير صالحة للعمليات، أو المرابطة في منطقة مواجهة للغابات، هذه كلها خمس أحوال تمثل أعظم تهديد لعمل القوات، ومن شأنها أن تقود إلى الهزيمة، فمن الضروري تجنبها تماما.
إن الجبل الذي يرتفع شمالي موقع تمركز القوات يعد مكانا مفيدا للغاية [حرفيا: يعد «جبل الحياة»]، لكن من الخطر أن يقع الجبل جهة الغرب، والنهر الجاري صوب الشرق يعد ملائما للعمليات، على غير الحال إذا كان النهر يجري غربا، وبالمثل، فالمياه الراكدة ليست في صالح العمليات العسكرية.
وهناك أيضا، خمسة أحوال تشكل - مع أضدادها - النقاط الإيجابية (والسلبية) لنوعية الأرض [الجغرافيا]: (فلا بد أن يؤخذ في الاعتبار، عند مراجعة الأحوال الجغرافية أن ...) الجبال أفضل كثيرا من التلال، والتلال ذات الأشجار والنباتات أفضل من الهضاب القاحلة، ثم إن الهضاب القاحلة أحسن كثيرا من الكثبان والمرتفعات، وهذه تفوق في أهميتها السهول المنبسطة الخضراء. ويمكن المفاضلة بين الأراضي ذات الغطاء النباتي، حيث تعد المسطحات ذات الشجر الكثيف هي الأفضل، وتأتي أهميتها في الصدارة دائما، ثم تليها في الأهمية الأراضي ذات الكثافة الملحوظة من شجر السنط والنباتات الشوكية، وفي الدرجة التالية، تأتي الأراضي ذات الغطاء الغزير من النجيل؛ وأخيرا، تندرج في المرتبة الأدنى، الأرض ذات الحشائش العشبية القصيرة. ومن حيث درجة اللون الغالب على الأرض (المقترحة للعمليات)، فيفضل - بالدرجة الأولى - اللون الأخضر، الذي يفوق الأصفر إلى حد بعيد، ثم إن الأرض ذات اللون الأصفر تفضل الأرض السمراء، وهذه الأخيرة تعد أحسن من الأرض ذات اللون الأحمر، والأرض الحمراء أجود من البيضاء، بينما تفوق الأرض البيضاء أية تربة ذات لون أخضر.
كما أن هناك خمسة تضاريس أرضية يتعذر فيها القتال، وهي: الوهاد الجبلية، والمجاري المائية، والمستنقعات، والأراضي الملحية، والممرات الوعرة [... في نسخة أخرى محققة يوجد فراغ بدل الكلمة الأخيرة «الممرات الوعرة»].
ومن التضاريس الأرضية خمسة أنواع كفيلة بأن تهلك جيشا بأسره، وهي: منخفض أرضي ينضح قاعه بالماء، محوطا من الجوانب كلها بحواف جبلية عالية شديدة الانحدار، وسلاسل تلال متعرجة تكتنفها الهضاب العالية من جهاتها الأربع ، وهي تبدو سهلة الاقتحام، وتغري القوات بالدخول، لكن الداخل إليها لا يخرج بالسهولة نفسها. وثالثا، فهناك الأرض ذات الأكمات والأدغال، غزيرة الشجر كثيفة الأغصان، غير أنها (بهذا الشكل) تبدو كمصيدة للقوات (أكثر منها موقعا حصينا)، وهناك الأخاديد والمصارف المتداخلة التي تمثل عائقا أو انقطاعا أرضيا يستحيل عبوره، وأخيرا فهناك المنخفضات ذات الطرق الموحلة والبرك الآسنة، فهذه الأنواع الخمسة من التضاريس الأرضية تسمى ب «المقابر الخمس»؛ نظرا لما تمثله من خصائص جغرافية غير ذات نفع لقوات تسعى للمرابطة ونشر التشكيلات، مما يجعل من المستحيل أن [فراغ].
ولا ينبغي للجيش، في مواسم الصيف والربيع، أن يرابط في غور الأرض وما انخفض من منسوبها؛ نظرا لما تمتلئ به الأغوار، حينئذ، من الأمطار الموسمية، كما لا يجب للقوات أن تتخذ مواقعها، إبان الشتاء والخريف، فوق رءوس الهضاب؛ لما قد تعانيه من نقص المياه واشتداد الجفاف، وعند نشر القوات وإقامة المواقع فمن الواجب ألا تتخذ من الجبال والمرتفعات ساترا جهتي اليمين والأمام، مثلما يستحسن أيضا ألا تكون المرتفعات والتلال بمحاذاة أجنابها اليسرى والأمامية، بل يجب أن تقع جهة الخلف واليمين.»
الفصل التاسع
القوة الضاربة1
قال سونبين: كل المخلوقات من ذوات الأسنان [المناقير] القاطعة، والقرون المشرعة الصلبة فوق الرءوس والمخالب الحادة [كالطيور وأشباهها] يلتئم أفراد فصائلها معا عندما تطمئن بها الأحوال، أما إذا وقع بينها العراك، انتفضت غضبا وأنشبت في أجساد رفاقها مخالب الحرب وآذنت أبناء جلدتها بأشرس قتال (فتلك طبيعتها المركوزة في خصالها) ولا مبدل لمثل تلك الطبائع.
ثم إن بني البشر الذين لم تكن لهم مخالب حرب وأذناب قتال طبيعية (كتلك التي نجدها لدى فصائل الحيوان) صنعوا لأنفسهم أدوات يخوضون بها القتال، فكان ذلك من طبع الحكمة (كان علامة العبقرية الإنسانية)، وكان الإمبراطور «هواندي» [الإمبراطور الأصفر]، هو الذي صنع السيوف، مما يمكن اعتباره إشارة رمزية إلى فكرة التشكيل القتالي (البدائي)، ثم كان الزعيم القبلي الملقب ب «إي» [تنطق كما في «إيفان»] [أحد قادة القبائل في عهد أسرة «شيا» الملكية 2100-1600ق.م.] هو الذي اخترع القوس والسهم فيما يمكن أن يمثل صورة رمزية للقوة القتالية الضاربة، (وأخيرا) فقد كان الملك «يو» [عاش زمن أسرة «شيا» المذكورة آنفا] بما ابتكره من العربات والسفن الحربية، قد أضاف دلالة ترمز بوضوح إلى قوات الاحتياطي.
بل إن ما ابتكره كل من الإمبراطور «طانغ» [أسرة «شانغ» 1600-1100ق.م.] والملك «أو» [تنطق كما في «أوبرا»] من الرماح والحراب ذات المقابض، فيشير، رمزيا، إلى معنى السلطة السيادية. وهذه النقاط الأربع توضح أسس وقواعد العلوم العسكرية، لكن يثور، هنا، التساؤل حول السبب الذي دعاني إلى تشبيه السيوف بالتشكيل القتالي (وأجيب قائلا) بأن حقيقة الأمر تتمثل في أن السيوف دائما ما تكون لصيقة بأجساد المحاربين دون حتى أن يكونوا مشتبكين في قتال، وهو ما ينطبق تماما مع مسألة توزيع القوات والتشكيلات إلى وحدات دون اندلاع قتال، فمن ثم قام وجه الشبه بين الموضوع ودلالته.
إن سيفا رديئا منثلم النصل، لن يجدي [فراغ] حتى لو تقلده البطل «منغ بن»، وكذلك فإن تشكيلا مقاتلا بغير طليعة وقائد باسل (مثل القائد المشهور بالشجاعة، ذلك الملقب ب «منغ بن») لن يجسر على اقتحام صفوف العدو ودحر قواته، مما يفهم منه بوضوح أن أي قائد يقوم على رأس مثل هذه القوات، لا يمكن أن يكون على دراية بفنون الحرب، ثم إن سيفا بغير مقبض، لن يصلح [فراغ] حتى لو تقلده أمهر المقاتلين. وبالمثل، فإن رجلا يتولى قيادة جيش بغير مؤخرة وبغير أفراد مؤهلين للقتال، لا يمكن أن يكون مدركا لبديهيات أصول الحرب.
فمن هنا أقول إن تشكيلا مقاتلا ذا طليعة ومؤخرة يتناوبان التنسيق على نحو سليم، بما يشيع الثبات والصلابة في القوات، لا بد أن يهزم العدو ويدمر فلوله ويجبرها على الهرب. أما إذا لم يكن هناك طليعة ولا مؤخرة للقوات، ف [فراغ] وهو ما يخالف المبادئ العسكرية.
لكن كيف يمكن فهم الصلة بين الرماية والقوة العسكرية الضاربة؟ ألا ترى أن سهما منطلقا من بين رأس الكتف والصدر يمكن أن يصيب العدو على حين غرة، ولو على مبعدة مائة قدم، ومهما حاول العدو تحديد موقع الضرب ومكان الرامي، فلا يهتدي إلى شيء. بل كيف يمكن فهم وجه الشبه بين العربات والقوارب البحرية، والتكيف مع الحالات الطارئة؟ [فراغ] وعلى أي أساس تقوم المقابلة بين الرماح المشرعة وبين سلطة الأوامر الحازمة في ميدان القتال؟ (فاعلم أن أساس هذه المقابلة يتضح في ...) قدرة هذه الرماح على تكبيد العدو خسائر فادحة، سواء أكان المقاتل قاعدا على الأرض أم واقفا [فراغ]. فهي تصيب من العدو مقتلا؛ إذ تطيح برءوس أفراده أو تنشب في أجسادهم مباشرة، أيا كانت مواقع إطلاقها أو هيئة الضارب بها، وعلى أي مسافة؛ فلذلك صارت أقرب شبها ، في مزاياها، بما تتحلى به سلطة القيادة الحازمة وسط ميدان القتال. ومن ثم يتضح أن تلك النقاط الأربع [فراغ] الأساس الضروري الذي يتحتم الالتزام به لفهم فن استخدام القوات، ذلك أن من يتقن هذا الفن، فلا بد أنه سيحرز النصر المظفر الذي يذيع في الممالك شهرة جلالة الملك، أما من أهمل شأن تلك الأسس، فلن يخلد مأثرة أو يحرز إنجازا ذا قيمة. وتتلخص أسس استخدام القوات في أربعة، هي: تشكيل القوات، والقوة الضاربة [يمكن ترجمتها، حسب المفهوم الوارد في الهوامش إلى «التفوق الاستراتيجي»]، والمرونة مع الأحداث الطارئة، والسلطة الميدانية الحازمة، فمن أدرك أهميتها كانت له الغلبة على أعدائه، فأثخن في صفوفهم، ووقعت في قبضته رءوس المبرزين من مهاجميه [فراغ]. فالقوة الضاربة [... التفوق الاستراتيجي، في معنى ما ...] هو مباغتة العدو ومهاجمته، دون أن يتخذ للقتال أهبته [فراغ]، حيث يبدو في أعين الرائي قريبا، في حين أن إصابة الهدف أبعد ما يمكن تحقيقه.
أما المعنى المقصود من «السلطة التي تملك زمام المبادرة في ميدان القتال، فيقصد بها كيفية قيادة القوات باستخدام الرايات في الصباح، والطبول في الليل الدامس، فتلك الموضوعات الأربعة تمثل التطبيق المادي الملموس [للأسس الأربعة سالفة الذكر] أثناء القتال، وبرغم أن الجميع يعرفونها ويطبقونها في ميادين القتال، فإن (كثيرين لم يستطيعوا) فهم المغزى الكامن فيها على نحو تام ونهائي.» *** [حاشية] ... [فراغ]، فمن عمل بتلك النقاط الأربع فاز، ومن أهملها وتغاضى عنها، هلك [فراغ].
الفصل العاشر
قيادة القوات1
قال سونبين: إذا أردنا أن نفهم الطريقة التي تستخدم بها القوات وتدار بها الجيوش، فلنا أن نشبه الأمر بالأقواس والسهام. [ومثلا، فالتشبيه الممكن في هذا الإطار هو إننا يمكن أن نرى ...] الجندي أقرب شبها بالسهم، والقوس أشبه ما يكون بالقائد، أما الرامي فلربما كان، في كل الأحوال، شبيها بالإمبراطور الأعظم؛ فالسهم ذو رأس معدني وذيل مصنوع من ريش الطيور، فمن ثم تميز بالنفاذ والسرعة، ولما كانت مقدمة السهم أثقل من مؤخرته، فقد صار أطوع لمشيئة الرامي، أينما سدد به، انطلق سريعا. (لكن) الطريقة التي تدار بها الجيوش، كما تبدو لي، تجعل مركز الثقل في المؤخرة، فتعكس منطق الأمور، وهو ما من شأنه - عند إعداد التشكيلات القتالية - أن يصم آذان الجنود عن طاعة الأوامر الصادرة لهم، على نحو تبدو فيه الفائدة ضئيلة من مراقبة أحوال السهام [فتضيع فرصة تأمل وجه الشبه، وتنعدم الاستفادة بوجه من العلم في هذا المجال].
وما أشبه القوس بالقائد [كذا]، فإذا كانت ذراع القوس معوجة بما يؤثر على انحناء سهمها، اختلف مقدار القوة بين طرفيها، بما يحول دون تسديد الرمي مهما كانت قوة رأس السهم المندفعة نحو الهدف [فراغ]، حيث يصعب على القادة التفاهم فيما بينهم، ويفتقدون إلى التنسيق المشترك [فراغ]، ثم إنه يستحيل إحراز النصر، وقد يكون السهم سليما متناسب القوة والمتانة [... مقدمته أثقل من مؤخرته، حسب ما ورد من توضيح في الهامش]، معتدل شدة الجذب بين طرفيه، دون أن يكون الرامي نفسه مؤهلا، بدرجة جيدة لاستخدامه، فتضيع الرمية ويطيش التسديد، وهكذا فإن جيشا تم توزيع تشكيلاته على نحو متناسب، بين مقدمته ومؤخرته، بينما كانت قيادته [فراغ]، فلن ينال النصر؛ فلذلك قيل إنه لا بد من توافر الشروط الأربعة المذكورة؛ حتى ينطلق السهم ويصيب المرمى. فهذا هو السبيل الذي تحرز به الجيوش انتصارها [فراغ] فالقائد والجندي [والإمبراطور، ثلاثتهم، ينبغي أن يقوم بينهم التنسيق والتفاهم الجيد] وهو ما يدعو إلى القول بإنه ليس ثمة فرق كبير بين الطريقة المناسبة لتحريك القوات نحو قتال تحرز فيه النصر، وبين إطلاق رمية سهم تصيب الهدف؛ فهذه مسألة تشير، بشكل مباشر وبسيط، إلى كيفية إدارة الجيوش واستخدام القوات.
الفصل الحادي عشر
الموازنة الذكية والاختيار الصائب1
قال سونبين: ما أشبه قيادة الوحدات المقاتلة وتعبئة الحشود (الجماهير) بعملية الموازنة بين أثقال متباينة وأوزان مختلفة، الموازنة تجري، أساسا، بهدف المفاضلة عند اختيار الأكفاء من الناس، كما أن أساليب التنجيم والعرافة [التي تقوم على حساب موازين الأضداد (ال «ين» مقابل ال «يانغ»)]، تهدف إلى تركيز قوة التشكيلات لقتال العدو، فلا بد من المثابرة على الموازنة في كل الأمور [فراغ]، وصولا إلى درجة الحياد التام والاعتدال الذي لا غبار عليه حيث يمكن الاطمئنان، بشكل تام ونهائي، إلى النتائج (ويصير الشروع في إتمام المهام والواجبات ممكنا بغير عوائق)، ما دامت الشروط الملائمة قد توافرت (بموجب تلك الموازنة). إن ذلك الميزان العادل من التقديرات يظل مطلوبا في كل الأمور سواء ما يتصل منها بالمصلحة العامة أو الملكية الخاصة. (واعلم) أن من الناس من قد حاز الثراء والرفاه، فأحب الحياة وكره الممات، ومنهم من ضاقت به ظروف العيش حتى رخصت لديه الحياة - وهذه مسألة لا يفقه كنهها إلا ملك حكيم أو مفكر قديس - فبلغوا من التجرد مبلغا، استطاعوا به أن يجعلوا من ساحات القتال مواطن بذل وفداء، يقصدها الكافة بإرادتهم الحرة، دون أن ينفرهم الموت، أو يصدهم هلاك النفس أو المال، وذلك باب من أبواب الموارد والثروة التي لا تنفد [كذا].
إن ما يبديه الناس من استعداد للبذل والتضحية يصد الجيران المتربصين (الأعداء) عن الإغارة على الأوطان، ويحجب الأعداء البعيدين عن الطمع والاستيلاء على الأراضي. إن ازدياد الثروات كفيل بأن يشيع روح التنابذ والفرقة بين الأهالي، وهو الأمر الذي، إذا ترك وشأنه، فسيدفع النفوس إلى الجحود ونكران جميل السادة الأباطرة [كذا]، أما إذا شحت الأقوات وندرت الأموال ف... [فراغ]، وتطبع الأرض كلها بطابع العرفان والولاء لجلالته؛ لذلك، فقد طالما رأيت أن العمل على تراكم الثروة لخدمة الأهالي، ومضاعفة الموارد من أجل الوطن، يقود إلى دعم الأسباب المؤدية إلى قيام حرب طويلة الأمد، ويوفر الشروط الأساسية لتحقيق النصر [وفي الوقت نفسه، فتلك هي الطريقة المثلى (حرفيا: الطريقة السحرية)] التي تدخل بها البلاد ساحات قتال دامية.
الفصل الثاني عشر
التجنيد والتعبئة1
تعذر نقل نصوص المتن، هنا؛ لما أصاب عبارات الأصل من تلف وفقدان الكثير من خطوط الكتابة فيها، وإن كانت دلالة العنوان وبعض العبارات القليلة المتبقية تشير إلى أن الفكرة الأساسية للمحتوى العام، ربما، كانت تهدف إلى المهارات والفنون التي ينبغي على القادة اكتسابها، وذلك فيما يتعلق بتجنيد المقاتلين وتنمية استعدادهم على الإقدام والبذل، بينما يرى محقق النسخة، التي بين أيدينا، أن موضوع هذا الفصل يتصل بالإجراءات الواجب اتخاذها لتقليص عدد المقاتلين، مع تنمية كفاءتهم. وفيما يلي أقدم ترجمة حرفية للمتن على صورته الوارد بها في النسخة المترجم عنها، دون حتى إقحام كلمة «فراغ» بين قوسين:
قال سونزي: «إن الفاضل الحكيم ... فقدان الجنود. كما أن المكافأة والجزاء ... فقدان المقاتلين، وإقامة ... حيث ينبغي إقامة البرهان ... تضاءل عدد الجنود. ... فقدان الجنود ... بينما ... رغم أنف ... أو ... أهليهم، أو مدافن الموتى ... هل ... البعض يموت ... الغذاء ... فإذا توافرت الثقة في النصر، تقرر الدخول في مواجهة مع العدو، على أن يبقى الأمر في سرية تامة ... وقد تكون الوفيات بسبب الأمراض والأوبئة، أو ...»
الفصل الثالث عشر
التوجيه المعنوي1
قال سونبين: لا بد من العمل على إطلاق حماسة الجنود عند تجميع القوات وتنظيم الحشود، وينبغي رفع الروح المعنوية للقوات عند التحركات المتواصلة التي يتم فيها دفع الحشود تجاه ساحة المعركة، وكذلك عندما تقترب القوات من حدود الوطن للقاء العدو. فإذا حانت ساعة الالتحام وتحدد موعد الاشتباك، صار من اللازم حث المقاتلين على الاندفاع بجرأة الاقتحام، إيمانا بواجب التضحية. هذا، ويتم العمل - منذ الساعة الأولى التي يتقرر فيها موعد القتال - على دفع الروح المعنوية للجنود [فراغ]، فتلك هي الوسيلة إلى استثارة حماس المقاتلين وإيقاظ الشعور بالإقدام والقوة، فمن ثم كان من الضروري العمل على الدعم المعنوي.
إن أوامر القائد [فراغ]، هي الوسيلة التي من شأنها العمل على خلق أجواء من المعنويات القتالية المرتفعة قبيل الاشتباك، والقائد [فراغ] يرتدي زيا عسكريا متواضعا [حرفيا: ثوبا خشنا] لاستنفار إرادة المقاتلين وإثارة روح العزم والتصميم، فذلك ما اصطلح على تسميته ب «لي تشي» [أي: استثارة الحماس].
ويصدر القائد أوامره التي تقضي بأن تحمل القوات ما يكفيها من الحبوب والمؤن مدة ثلاثة أيام، ويلزم الأهالي جميعا [فراغ]، بحيث يمتنع وصول الرسل من القصر الحاكم، ويحظر القادة إيفاد المبعوثين والرسل من ميدان المعركة إلى القصر، وهذا هو الإجراء الذي اصطلح على تسميته ب «توان تشي» [أي: قرار الحسم].
ويقوم القائد بجمع أفراد الحراسة إليه، ويوجه إليهم حديثه، قائلا: «لا ينبغي أن يكون الإمداد (تعيينات الطعام والشراب) [فراغ]، فمن ثم كان من الضروري الحفاظ على الروح المعنوية المرتفعة لدى المقاتلين.» *** [يرد في بعض النسخ، نص آخر في أعقاب المتن، لكنه غير مكتمل العبارة، بالإضافة إلى أنه مجهول التوثيق؛ فلا يعلم، على وجه القطع، مدى ارتباطه بالمتن الأصلي، وأجرب، فيما يلي، ترجمته - قدر الإمكان - إلى العربية ...] ... [فراغ]، فذلك مما يثير الحيرة والارتباك، والغرض من ذلك حثهم على استصغار شأن العدو، غير أنهم إذا ركبهم الغرور واستصغروا شأن عدوهم، فالهزيمة هي قدرهم المؤكد.
وإذا فقدت قواتنا الحماس اللازم، فسوف تصاب تحركاتها بالإهمال والتراخي؛ وهو ما سيؤدي حتما إلى فقدان الفرصة الحاسمة، مما يعني - في آخر المطاف - الهزيمة الساحقة. وإذ تنهزم القوات [فراغ]، وعندما تذبل الإرادة ويتراجع الحماس، يحل الجبن، وإذ تخور طاقة الجنود ويجبنون عن الزحف، يتقهقرون [فراغ].
فإذا لم يتداركهم القائد، فسوف يضرب عنقه [كذا]، ويلقى الجميع مثل هذا المصير، (والمطلوب في مثل هذا الموقف ...) أن يصدر القائد أمره بإيفاد الرسل إلى الجبهة لتشجيع المقاتلين وحثهم على التقدم والهجوم [فراغ].
الفصل الرابع عشر
مهام القادة1
قال سونبين: يجب على كل من يقوم على توزيع القوات، وتقسيم الوحدات وقيادة الجيش، أن يتخير ذوي الاقتدار والكفاءة لشغل الرتب العسكرية. كما يجب (على المسئول في هذا الشأن) استخدام الشارات وعلامات الرتب التي تحدد كل درجة ورتبة، بالإضافة إلى استعمال الرايات المختلفة فوق العربات لتمييز أنواعها وأقسامها، [فراغ]، وكذلك استخدام [فراغ]؛ لتحديد المواقع والصفوف. ويتم تقسيم الوحدات العسكرية في البلديات والأحياء (حسب توزيع المناطق الإدارية على مستوى الإقليم) ويتولى الضباط مهام عملهم تبعا لتوزيع الهيئات البلدية الإقليمية، أما الوحدات العسكرية فيتم تمييزها بالرايات المختلفة الألوان، ويجري إعلان الأوامر بواسطة دق الطبول والصنوج النحاسية، ويراعى أن تتحرك الصفوف دائما بخطوات منتظمة، كما أنه من الضروري أن تسند مهمة الحراسة إلى أفراد ذوي شجاعة فائقة، على أن يكون التشكيل الهجومي الذي يقوم باقتحام صفوف العدو، هو تشكيل «سو جن» [تشكيل قتالي غير معلوم عند محقق النص]، بينما يستخدم تشكيل «تشيو ني» (ملاحقة العدو بالهجوم)، في محاول لإرهاقه واستنفاد طاقته، كما ينبغي استخدام تشكيل «يون» [غير مصحوب في النص المحقق بهامش توضيحي، ويقول المحقق إنه تشكيل غير معلوم]، عند دفع الرماة للاشتباك، أما التشكيل المعروف باسم «إينغ وي» (نشر القوات بكثافة عددية، في موجات متلاحقة من الجنود)، فيستخدم لصد محاولات التطويق التي يقوم بها العدو. ويوضع في الاعتبار استخدام تشكيل «ها سوي» (إغلاق الممرات والطرق)؛ للقضاء على وحدات العدو المتقدمة. ثم إن تشكيل «بيفو» يناسب الأحوال التي يجري فيها اتخاذ أهبة الاستعداد لمساندة قوات صديقة، أما تشكيل «تسو هانغ» (إجراء مناوشات أثناء التقدم)، فهو الأسلوب الأمثل لإعلان العزم على القتال [فراغ]، ويمكن دفع قوات خفيفة للقضاء على فلول العدو الشاردة، وبالإضافة إلى ذلك فإن تشكيل «شينغ تشن» [آلة حربية لمهاجمة التحصينات الواقعة على الأسوار أو في الأماكن المرتفعة] لمهاجمة المدن الحصينة [في نسخة أخرى، ترد ترجمة هذه العبارة، هكذا: «لمهاجمة العدو المرابط في أماكن عالية»] [فراغ]،
2
وإذ يتحصن العدو فوق أماكن مرتفعة، فيمكن مهاجمته من الأجناب. في الأحوال العامة للقتال، وعند الاشتباك المباشر بين الجنود في ساحة المعركة، لا بد من إطلاق العنان للطليعة المقاتلة، حيث يصير لها، حينئذ، دور فاعل ومتميز، فإذا كانت قوات العدو محاصرة وسط مواقع جبلية منيعة، فلا بد من استدراجها عبر فم الوديان خارج تلك المواقع؛ ليسهل القضاء عليها.
عند عبور القوات منطقة أحراش ومستنقعات، فلا بد أن يجري العمل - وفي وقت مبكر - على شق الدروب وتمهيد الطرق لتسهيل التحركات. وإذ يتحقق النصر للقوات، فيجب الحرص على الانضباط والالتزام بالنظام؛ بغية التحلي بمظهر مشرف يشيع المهابة على النحو الذي يليق ببلد وجيش منتصر [فراغ].
عند عبور طرق جبلية ملتوية، فلا بد من اتخاذ تشكيل «شان تشيو» (التشكيل الدائري)، وإذا كانت التحركات تسلك طرقا داخل الأحراش الكثيفة فوق أرض مليئة بالأشواك والحشائش البرية، فلا بد من اتخاذ تشكيل «وي» (تشكيل الطرق المتعرجة) بحيث تبقى الوحدات في خطوط متصلة.
ويمكن استخدام تشكيل «يا نشين» بغرض استنزاف طاقة العدو، أما عند القتال في المناطق ذات الأهمية الفائقة [الاستراتيجية] فلا بد من استخدام تشكيل «تسا قوان». وفي حالة الانسحاب، فيستخدم تشكيل «بنغ تسو»، وعند الاضطرار إلى عبور ممرات جبلية، فيستخدم تشكيل «تشيو تسي» (الطرق المتعرجة).
إن الهجوم على مدن العدو يجب أن يكون مكتسحا وصاعقا كأنه شلال هادر لا يدع شيئا إلا جرفه، وعند الانسحاب الليلي فلا بد من إبلاغ الأوامر عبر رسائل مختصرة [مشفرة] وواضحة. كما أنه من المهم جدا توخي الضبط والربط في إجراءات الأمن الليلي والسؤال عن كلمة السر أثناء نوبات الحراسة، وإذ يتقرر القيام بتشكيل الهجوم المباغت على العدو، فلا بد من انتقاء العناصر المدربة ذات المهارة القتالية العالية (لمباشرة التنفيذ).
ولا بد من تفعيل دور العربات العسكرية وتوظيف طاقات استخدامها القتالي عند الالتحام المباشر مع صفوف العدو، ثم إن المركبات يمكن أن تقوم بدور مهم في إشعال الحرائق في عتاد ومؤن ومعدات القوات المعادية. (واعلم أنه من الأهمية بمكان ...) استخدام التشكيل المخروطي عندما يراد للقوات أن تقوم باختراقات هجومية ذات فعالية. وإذا تناقص عدد القوات عن الحد المطلوب، فلا بد من تكثيف الطاقة القتالية وتركيز القوة العسكرية؛ وذلك للحيلولة دون تمكين العدو من تطويق القوات.
إن تنظيم الصفوف وضبط توزيع الوحدات واستخدام الشارات والأعلام والبيارق، وكل ما من شأنه فرض النظام والانضباط، يمهد السبيل لعمل التشكيلات القتالية. إن الغرض من عمل تشكيلات قتالية كثيفة، كقطع السحاب المتراكم، هو المبادرة إلى الإغارة على قوات العدو، على أن تتقدم الوحدات بسرعة البرق لتباغت أعداءها، فتضطرب صفوفهم تحت ضربات هجوم ساحق كالصاعقة.
الزم التعمية وتحرك تحت جنح الخفاء للإيقاع بعدوك في براثن الخديعة، وعليك أن تجعل من التخاذل والاستكانة كمينا توقع به قوات العدو، بحيث تجرها إلى ساحة القتال فوق الهضاب والمرتفعات [كذا] [فراغ]، وقد يمكنك أن تتظاهر بالوقوع في تحركات خاطئة؛ وذلك لاستدراج العدو في محاولة لعبور النهر، فتهاجمه وسط الماء [كذا] [فراغ]، ولا ينبغي أن تتسرب إلى الجنود خططك القتالية؛ لعلهم يثابرون على القتال، باذلين أرواحهم في الاشتباك، ولتقم الأودية والخنادق فاصلا بينك وبين العدو (فتتغلب بقواتك الأقل عددا على كثافة حشوده).
ثم إنك تستطيع أن تثير البلبلة والحيرة لدى القوات المعادية بما تنثره من هياكل خداعية للأسلحة والمعدات وما تقيمه من البيارق والأعلام (كوسائل خداع). اتخذ من تشكيلات «العاصفة» والعربات الحربية الخفيفة وسائل لمطاردة فلول القوات الشاردة. وإذ تنزل بالعدو التخريب والتدمير، الذي لا تقوم له من بعده قائمة، فعليك أن توجه تحركات قواتك صوب مواقع أخرى؛ حذر هجوم أعداء آخرين أقوى وأعتى. واحرص على أن تستخدم تشكيل «فو جيو» للانقضاض على قوات العدو لتجبرها على الانغماس في «حرب الأنفاق» [حيث تنحصر بين مرتفعات جبلية منيعة فتسهل إبادتها].
إن قوات تجوب الميادين بغير لباس حرب، تضرب على غير هدى في فوضى عارمة، يمكن أن تصلح كوسيلة مناسبة تماما لخداع العدو، ولا بد من انتقاء أكثر المقاتلين شجاعة ومهارة وجرأة لمقاومة طليعة العدو، واعمل على أن تتخذ تشكيل «جيان» (الصلابة والثبات) وأن تعبئ القوات مع تركيز طاقتها القتالية لضرب القوة الرئيسية للعدو.
ويمكن اللجوء إلى تدمير الأسوار والفواصل المصنوعة من الحشائش والنبات لإثارة البلبلة والحيرة وسط صفوف العدو، بل يمكن التظاهر بالتخلي عن بعض المؤن والذخائر، على سبيل الخداع وإيهام العدو بتصورات كاذبة. ولا بد من إيقاع العدو في المزيد بعد المزيد من العقبات لاستنفاد طاقته.
في القتال الليلي، تتم الاستعانة بالضوء الكاشف، وتجري التحركات على هدي الأصوات العالية الواضحة، ولا بد من تخزين كل ما هو ضروري من مواد وعتاد ومؤن عسكرية، في أماكن متفرقة؛ تسهيلا للتحركات الهادفة إلى تحقيق النصر، على أن يتم تجهيز قوات خاصة ذات مقدرة عالية؛ بهدف ملاقاة أي هجوم مباغت من جانب العدو [فراغ]. *** [هنا، انتهى النص الوارد في إحدى النسخ المحققة، بينما أضافت نسخة أخرى الفقرة التالية إلى المتن «إن تناوب القوات الخاصة على [فراغ]، ثم إن الابتعاد عن خطوط المواجهة مع العدو يرفع عن كاهلك الكثير من المشاغل ويخلصك من الأزمات.»] [ورد بعد هذا الجزء نص آخر، ملحق به، لكنه غير مكتمل العبارات، مليء بالفراغات يكاد يخلو من سياق مترابط، ومن ثم فقد تعذر نقله إلى العربية.]
الفصل الخامس عشر
طرائق التدريب الخمس1
قال سونبين: إن الخبير بشئون التدريب العسكري لن يقدم على المساس بالمبادئ الأساسية والقواعد العامة (التي تحكم هذا الباب من فنون الحرب) حال الإقامة في المعسكرات وعند بناء المخيمات والمواقع. ثم إنه لن يجرؤ على تعديل تلك المبادئ وفق هواه. وهي - في مجموعها - تتكون من نقاط خمس: الأولى: تدريب القوات في الجانب السلوكي وفي تنظيم التشكيلات. والثانية: التدرب على التحرك وإقامة المعسكرات. والثالثة: التدريب فيما يتصل بقواعد الضبط والربط داخل الوحدات. الرابعة: التدرب بخصوص التشكيلات القتالية. الخامسة: التدرب على التمويه والتخفي كوسيلة قتال للهجوم المباغت (ولنتحدث بتفصيل أكثر) فما هي الطريقة الأولى المتعلقة بتدريب القوات في النواحي السلوكية؟ [يفسر المحققون ذلك بأنها طريقة تتصل بكيفية تشكيل الوحدات بالإضافة إلى المعايير السلوكية.] إن ما يسمى ب [فراغ]، البر بالوالدين، احترام الأكبر سنا، حسن معاشرة الزوج، فهي خمس خصال أخلاقية يجب على المقاتل التحلي بها، فإذا لم تتوافر فيه (أي واحدة منها)، فلن يطأ بقدمه ساحة قتال، ولن يركب عربة حربية، حتى لو كان من أمهر الرماة طرا. وكل ماهر في الرماية فلا بد أن يكون مكانه إلى الجهة اليسرى من المركبة العسكرية، ومن برزت قدرته على القيادة، (فسيجلس في المنتصف، حيث ...) يقود المركبة، ثم يقعد في أقصى اليمين من لا يملك أيا من المهارتين المذكورتين، سعة كل مركبة ثلاثة جنود فقط. وكل خمسة أفراد يشكلون «أو» [جماعة]، بينما تتشكل ال «لي» [الصف العسكري] من عشرة أفراد، في حين أن مائة فرد يمكن أن يتشكل منهم «تسو» [تنطق كما في «داتسون»]، وكل ألف فرد يشكلون وحدة قيادية [حرفيا: وحدة ذات طبول حربية]، وكل عشرة آلاف فرد يشكلون «رونغ» [جيش]، وكلما زاد النطاق الذي يتسع لاستيعاب أعداد أكثر من الأفراد، أمكن تشكيل وحدات عسكرية مقاتلة. فتلك هي طريقة التشكيل الداخلية للقوات ، لكن ماذا عن الطريقة الثانية في التدريب على التحرك وإقامة المعسكرات؟ (ولشرح ذلك، أقول ...) ينبغي على قادة الوحدات تحمل المسئولية كاملة إذا ما تحطمت المركبات وأنهكت الخيول، ولتكن مسئوليتهم في ذلك أن يقودوا [فراغ]، إذا ما صادفتهم عقبات أو ظروف معوقة، بحيث يبادرون على الفور إلى [فراغ] وفي هذا الكفاية، فتلك هي، إذن، الطريقة المتعلقة بالتحرك وإقامة المعسكرات، لكن ما هي طريقة التدريب بشأن قواعد الانضباط داخل الوحدات؟ [فراغ]، فتلك هي قواعد الضبط والربط داخل الوحدات وكيفية التدرب عليها، فما هي طريقة التدرب على التشكيلات القتالية؟
إن الإمداد والتسليح أهم ركن في التشكيل القتالي وجزء لا يتجزأ منه، [فراغ]، بحيث يمكن تفعيل كل جوانبه. وهكذا، فعلى هذا النحو يمكن استخدام طرق متعددة لتنظيم القوات، بالإضافة إلى الكثير من الأشكال المختلفة لتوزيع الوحدات، وذلك فيما يتعلق بالحديث عن طرائق التشكيلات القتالية، فماذا عن أساليب التخفي كوسيلة من وسائل (اقرأ: تكتيك) القتال؟ ... [فراغ]. *** [ورد في خاتمة هذا الفصل عدة عبارات قصيرة بالصينية الكلاسيكية، غير مزودة بشرح أو تعليق، وقد أحجمت عن ترجمتها لغموض تركيبها وكثرة الفراغات البينية وسط مفرداتها القليلة المتناثرة.]
الفصل السادس عشر
تقوية الجيش1
[فراغ]، تكلم الملك وي - حاكم دولة تشي - إلى سونبين، وكان أن سأله مباشرة، قائلا: «نصح لي كثير من رجال العلم في بلادنا بتقوية الجيش وطرحوا علي الكثير من الأفكار، واقترحوا عددا من الوسائل المتباينة، واكتشفت أن كل فريق منهم يقول لي شيئا مختلفا عن الآخر [فراغ]، والبعض ينصح لي أن أبدأ بتقوية الجوانب السياسية والأخلاقية، بينما يؤكد لي نفر آخر أهمية البدء بمحاولة كسب رضا الناس ومودتهم بالإغداق عليهم بأسباب العيش الوفير [حرفيا: بتوزيع كميات من المحاصيل] في حين يرى آخرون بأن المدخل المناسب لذلك الغرض هو أن أدع الأمور تسير وفق نمط التطور الطبيعي للأشياء [حرفيا: أدع الأمور تسير وفق مبدأ «أو وي» (وهو أحد أهم المبادئ الطاوية الداعية إلى الخضوع لمسار التدفق الطبيعي لتطور الموجودات في الكون دون تدخل من الإنسان)]، [فراغ]»، قال سونبين: «[فراغ ]، لا يعد ذلك كله ضروريا لتقوية الجيش في هذه اللحظة.» فسأله ملك تشي، قائلا: «فما هو الضروري لتقوية جيشنا؟» فأجابه: «بادئ ذي بدء، فلا بد من تنمية البلاد وزيادة ثروتها.» فقال الملك: «إن تنمية البلاد [فراغ]» ... [فراغ]، على نحو وافر، فهذه هي الطريقة التي استخدمها كل من الملك وي والملك شيوان؛ مما مكنهما من التغلب على أمراء الدويلات ودحرهم، أما بالنسبة ل [فراغ]. *** [ورد في نهاية هذا الفصل، وعلى الهامش، عدة فقرات لم يقم المحققون بشرحها، وسأحاول فيما يلي ترجمتها إلى العربية حسب المعنى (الحرفي) الظاهر من السياق، علما بأن عباراتها غير مكتملة، في أكثر من موضع]: [فراغ]، وكانت على وشك الانتصار عليها، فذلك هو السبب فيما تغلبت به دولة تشي على مملكة يان [فراغ]، [فراغ]، وعندئذ، عرف الجميع بهذا الأمر، ووقفوا على مغزاه، وأدركوا أن هذا هو السبب في انتصار دولة تشي على دولة تشو [فراغ]، مما كان سببا في هزيمة دولة جاو أيضا، [فراغ]، ثم وقع القائد العسكري المشهور «فان قاو» في الأمر، [فراغ]، كما وقع في الأسر أيضا القائد «طانغ»، ووقع [فراغ].
الباب الثاني
الفصل الأول
التشكيلات القتالية العشرة1
هناك عشرة أنواع من التشكيلات القتالية (وهي على التوالي:) التشكيل المربع، والدائري، والمتفرق، والمكثف، والتشكيل ذو الانتشار المخروطي، وتشكيل جماعة الإوز البري، والتشكيل المعقوف، والتضليلي ، والناري (المستخدم في إشعال الحرائق)، والمائي (تشكيلات القوات البحرية)، ولكل منها خصائصه ومزاياه، فالتشكيل المربع يعمل على تحطيم القوات المعادية بطريقة حاسمة (نظرا لما يتميز به من تركيز كل طاقات التوجيه في يد القائد الأعلى). أما التشكيل الدائري فيهدف، أساسا، إلى صد هجوم العدو، ويتميز التشكيل المتفرق، بدوره البارز في إلقاء الفزع في روع العدو وإثارة هواجسه ومخاوفه.
ويستخدم التشكيل المكثف بغرض قيام حائط دفاعي منيع ضد هجوم العدو، كما أن الميزة الكبرى للتشكيل المخروطي أنه على درجة من الصلابة بحيث يساعد على اختراق صفوف العدو على نحو يؤدي إلى تفتيت تماسكه وتقطيع أوصاله. أما تشكيل الإوز البري فهو الوسيلة المثلى لحرب الرماية [بالأقواس والأسهم]. وتشكيل المشجب المعقوف يصلح للتعامل مع كل الاحتمالات الطارئة، بما يلزمه من استعداد دائم للرد بمنتهى الحسم. ثم إن التشكيل التضليلي يهدف إلى إيقاع العدو في حيرة تامة، فيضطرب وتنغلق دونه مسالك الفهم والتقدير الصائب.
ومن المقرر أن استخدام التشكيل الناري يقصد به إشعال الحرائق في تحصينات العدو وتدمير أماكن تجمعاته ووحداته المرابطة، كما يستخدم التشكيل القتالي المائي لهدفين: أولهما: تقوية التحصينات الخاصة بقواتنا. وثانيهما: إغراق منشآت العدو الدفاعية ومواقعه.
ويتخذ التنظيم المعتاد في التشكيل المربع الأوضاع التالية: تقليل أعداد القوات داخل المربع، بينما تزيد على نحو ملحوظ في الجهات الأربعة، وتتمركز القوة الاحتياطية في المؤخرة؛ والسبب في تقليل قوات المنتصف يرجع إلى طبيعة مهامها التي تنحصر في رفع الروح المعنوية للمقاتلين بواسطة النداء التحريضي الإمداد المعنوي، في حين تزداد الكثافة العددية للقوات على الحدود الأربعة [كذا] لمواجهة العدو وتدميره، مع ملاحظة أن القوة الاحتياطية المتمركزة في المؤخرة (تظل في موقعها لحين الاستفادة منها حيث تتمتع بمرونة وسرعة حركة عالية) [هذه العبارة التي بين القوسين الهلاليين لم ترد إلا في نسخة واحدة فقط، بينما أهملتها باقي النسخ التي جمعتها للاستعانة بها في ترجمة النص].
كما أن التنظيم الفعلي للتشكيل الدائري يتمثل في ... [فراغ]، أما التشكيل المتفرق، فيمكن ملاحظة أوضاعه كالتالي: يتميز هذا التشكيل بحشد عدد قليل من القوات مع اهتمام بارز بمظاهر القوة القتالية، حيث يتعين على الحشد القليل من القوات رفع الشارات والأعلام والبيارق؛ بهدف تعظيم مظاهر التفوق وشعار القوة، ومن ثم تحرص القوات، في هذا التشكيل، على توسيع المسافات بين صفوفها، إذ تتخللها أعلام وبيارق مختلفة الشارات والهيئات والألوان، وقد برزت على حوافها وبشكل ظاهر للعيان، صفوف متراصة من الرماح والسيوف المشرعة، بنصالها اللامعة وحدودها القاطعة. (واعلم أنه ...) من الضروري أن تملك القوات المتفرقة (المتناثرة، قليلة العدد من الجند) القدرة على التجمع السريع (لئلا تخترقها القوات المعادية)، وأن تكون القوات المحتشدة (المتجمعة) قادرة على التمدد والانتشار بمرونة (حتى تتفادى محاولات تطويق العدو لها)، فإذا عجزت القوات عن التجمع السريع أو الانتشار المرن، صار من الضروري الانتباه إلى الأسباب الكامنة واتخاذ الحيطة والحذر.
لا ينبغي للمركبات أن تتجاوز السرعة المتوسطة، ولا للمشاة أن يهرولوا؛ فالأساس في التشكيل المتفرق هو العمل على تقسيم القوة القتالية إلى جماعات مقاتلة ذات مرونة في التقدم أو الانسحاب، هجوما أو دفاعا، وسواء في الالتحام مع العدو لانتزاع مواقعه [كذا] أو في التصدي لفلوله المنهكة ووحداته المتهاوية، فتلك هي الوسيلة التي تتمكن بها التشكيلات المتفرقة من تحقيق النصر على قوات معادية فائقة التسلح شديدة البأس والقوة. وطريقة توزيع التشكيل المكثف تجري على النحو التالي: تتقلص الفواصل البينية، ويلتئم حشد القوات بكثافة ملحوظة، وهناك يصبح من اللازم أن تشرع القوات الأمامية (الطليعة) سيوفها المجردة على أن تكون نصالها بمواجهة العدو، وتحتفظ في الوقت نفسه بالتنسيق المتبادل بينها وبين قوات المؤخرة [فراغ] إذا استولى الخوف على الجنود، فلا بد أن ترابط القوات فوق أرضها مع التشبث بها، على أن يذاع شفويا [فراغ]، مع الحرص على تجنب: (1) مطاردة قوات العدو المنسحبة. (2) ملاقاة قواته المهاجمة، بل يجب النظر بعين الاعتبار إلى مهاجمة قواته الملتفة على الأجناب، أو أن توجه إلى طلائعه ضربة تحطم بها إرادته وتنال من كبريائه.
ولا بد أن تحتشد القوات بكثافة ودرجة تجمع عالية، يصعب معها إيجاد ثغرة للنفاذ منها، بحيث يتم صد القوات المعادية وردها على أعقابها كما لو كانت قد لاقت في طريقها جبلا منيعا [كذا، حرفيا]، فذلك هو التشكيل الذي لا يقهر ولا يجد العدو إلى مهاجمته سبيلا. والتشكيل المخروطي أكثر شبها بالسيف القاطع، فإذا لم تكن طليعة هذا التشكيل صلبة ماضية كحد السيف، فلن تقدر على التغلغل وسط العدو، وإذا لم تكن أجنابها قوية قاطعة (كحد السيف) فلن تضرب في كتلة العدو (وتشطره نصفين). ولا يمكن للقوات أن تقوم بتنظيم هذا التشكيل مالم تكن على درجة فائقة من القوة (بالدرجة التي تتماثل فيها قوتها الضاربة مع سيف ذرب)، فمن ثم كان من الضروري أن تتميز طليعة التشكيل بالقوة الماضية وأن تكون الأجناب على أهبة الاستعداد، متحفزة وثابة، بحيث يتوافر لكل عناصر التشكيل قدر هائل من الطاقة القتالية. فذلك هو السبيل الذي يتمكن به التشكيل المخروطي من اختراق العدو وتقطيع أوصاله.
أما ذلك التشكيل الذي يشبه الإوز البري الطائر، [فراغ] الاستخدام على غرار تشكيل مجموعة إوز طائر، بحيث تكون طليعة التشكيل أشبه شيء بجناحي نسر عظيم، مفرودين باتساعهما، وتنقضان على أجناب العدو، ثم تبادر المؤخرة بالوثوب على قوات العدو [حرفيا: تقفز من الخلف إلى الأمام، كما يثب القط الوحشي] وثبة الافتراس، فتنقض على العدو سريعا، دون أن تمهله، [فراغ] من ثلاث جهات فلا يجد مخرجا؛ إذ تضيق عليه الدائرة، فتأمل ذلك.
والنظام الذي يقوم عليه تشكيل المشجب المعقوف يمكن ملاحظته على الوجه التالي: تتخذ الطليعة وضع التشكيل المربع، في حين تكون الأجناب على هيئة مشجب معقوف وتحرص القيادة على استخدام بعض الأدوات كوسائط لإبلاغ الأوامر، مثل: الصنوج، والطبول، والأجراس. كما ينبغي أن تتوافر لها أعداد هائلة من البيارق والأعلام والشارات مختلفة الألوان والأشكال، ويكون لزاما على أفراد التشكيل التعرف على الموسيقى المميزة لوحدته وأعلامها وشاراتها، وهنالك يتيسر للقائد - أيا كان موقعه، سواء في الطليعة أو المؤخرة - إصدار أوامره إلى آذان صاغية، [فراغ].
ثم نلاحظ أن نمط التشكيل التضليلي يتحدد على النحو التالي: يقوم الأفراد بعرض العديد من الأعلام والبيارق والرايات، وبأعداد مبالغ فيها، مع احتشاد الطبول والأبواق بكثافة، حتى يكاد قرع الطبول وصفير الأبواق أن يتردد في الأجواء بغير انقطاع، ويبدو لعين الرائي أن الجنود في حالة فوضى عارمة، بينما هم - في الحقيقة - يتبعون خطة التشكيل بكل جدية وانضباط، وتظهر العربات كأنها شاردة، لكنها - في واقع الأمر - [فراغ]، حسب نظام صارم. ومن المتفق عليه أن تكون كل مظاهر الاضطراب والخلل متعمدة، بما في ذلك صوت العربات وسط الزحام والضجيج، ووقع أقدام المشاة واحتكاك العجلات ووقع سنابك الخيل، وثرثرة الجنود وصياحهم، فيصبح الجو مليئا بالصخب والضوضاء ويعج بفوضى هائلة، وأصوات منفرة كأنها رعود نزلت من السماء، أو كأنها أصوات المردة تشققت عنهم بطون الأرض، وإذ يمضي ركب الزاحفين قدما على هذا المنوال، يتهيأ في خاطر المشاهد أنها ضجة دائمة دوام الأبد، لا نهاية لها إلى آخر العمر، فبذلك تقع تقديرات العدو في الارتباك والحيرة، وهذا هو الهدف من التشكيل التضليلي.
أما تنظيم تشكيل الهجوم الناري، فيتم على النحو التالي: تحفر الخنادق بعد شق الوديان وإنشاء الحصون فوق المرتفعات [حرفيا: بعد الانتهاء من إعداد الوديان (في المنخفضات) والتحصينات (في المرتفعات)]، وتوضع أكوام من الحشائش الجافة بطول الخنادق، بفواصل مقدارها خمسة أقدام بين كل كومة وأخرى، مع مراعاة أن تكون كثافة وكمية التغطية بالحشائش متوازنة تماما، دون زيادة أو نقصان، ويراعى تقليل عدد الأفراد القائمين بإشعال الحرائق، وتوجه إليهم الأوامر بالبدء في الإشعال، بعد الاستعداد، بحيث يجري البدء بإحراق حزمة فحزمة من الحشائش الجافة، ويوصى الأفراد بمراعاة وخفة الحركة، [فراغ] [أوردت إحدى النسخ مكان هذه المساحة الخالية عبارة تامة، مفادها: ...] ويوصى بأهمية الانتباه إلى اتجاه الريح عند إشعال الحرائق، فلا بد على الأفراد تجنب الوقوف في الجهة التي تميل إليها تيارات الرياح وألسنة اللهب، لئلا تتعرض سلامتهم الشخصية للخطر، فإذا طالت النار أجسادهم وأصابتهم بسوء، عجزوا عن تحقيق النصر المأمول سقطوا في هاوية الخزي والفشل، ولا بد أن تكون مواقع العدو في الجهة التي تهب عليها الرياح وتميل إليها ألسنة اللهب ، وحبذا لو كانت الأرض، في تلك الجهة، مستوية غزيرة الحشائش بحيث إذا اندلعت النيران، أحاطت بالعدو وحاصرته حتى ضيقت عليه، وسدت دونه منافذ الخلاص والهرب.
فتلك طريقة سديدة لمهاجمة العدو بالنيران، (وعموما) فإن أنسب الظروف لشن غارات الهجوم بالنيران على العدو، هو الوقت الذي ينشط فيه هبوب الرياح في خلاء من الأرض تغزر فيه الحشائش البرية، بالإضافة إلى كميات أخرى من القش والحشائش الجافة المختزنة لأجل هذا الغرض، مع ملاحظة مدى ما يقع فيه العدو من التراخي والإهمال في الحراسة أو ضعف حماية ثكناته ومعسكراته، حيث يتم الهجوم عليه وإشعال النار في قواعده، فيقع في الاضطراب والارتباك ثم يجد نفسه تحت وابل من قصف الرماة لمواقعه، في الوقت الذي تهدر حوله طبول الزحف وتترامى إلى مسامعه صيحات المتدافعين نحو ثكناته، فتجتمع عليه صولة المهاجمين وقوة النيران، فذلك هو تشكيل الهجوم بالنيران. وبالنسبة للحرب البحرية، فالتشكيل القتالي المحدد في هذا المجال يجري كما يلي: ينبغي أن يزيد عدد المشاة على عدد المركبات، مع إصدار الأوامر بالتأهب التام، والاستعداد بالأسلحة المناسبة لهذا التشكيل، وهي: الطوافات البحرية، الخطاطيف، القوارب، الرماح القصيرة، المراكب، المجاذيف.
ولا بد أن تتقدم القوات في صفوف متتابعة، على أن تتفادى الفوضى والارتباك، سواء في التقدم أو التقهقر، وتبحر السفن، كل اثنتين معا، الواحدة في إثر الأخرى، بحيث يكون هدف الهجوم العام مركزا على قوات العدو، وطريقة الهجوم البحري، تتم على النحو التالي: يصعد القائد إلى طراد بحري ويتخذه طليعة متقدمة، بينما يصعد ضابط اتصال على ظهر قارب سريع، ويجري الاشتباك مع العدو بملاحقته إذا حاول الفرار، ومواجهته بكامل القوات إذا تقدم مبادرا بالهجوم، وفي كل الأحوال - وسواء كان الأمر يتعلق بالتقدم أو التقهقر - فلا بد من مراجعة أحوال القوات واستقصاء شئونها وترتيبها ودرجة استعدادها بكل دقة ونظام. ولا بد من إعاقة كل محاولة للتقدم من جانب العدو. وإذا ما قام القتال، [فراغ]، لا بد من تجنب الاشتباك معه، إذا كان جيد التنظيم والضبط، فمن ثم لزم استقصاء درجة تسليحه وعدد عرباته وجنوده؛ ولذلك فقد كانت العناصر الأساسية في قتال التشكيل البحري، هي مهاجمة بوارج العدو، وإغلاق المرافئ والمعابر، وشن الغارات عليه من القواعد البرية التي يرابط بها المشاة. *** [ورد في آخر المتن الرقم «سبعمائة وثمانون وسبعة»، ولا تعرف دلالة ذلك الرقم، ومدى تعلقه بالنص.]
الفصل الثاني
الأسئلة العشرة1
[سئل سونبين حول طرق استخدام القوات في القتال، فدار مع محدثه الحوار التالي:]
ألقى أحد الخبراء العسكريين سؤاله قائلا: «إذا تساوت درجة الاستعداد بين القوتين [قواتنا والعدو]، بما في ذلك مخزون الحبوب واحتياطي الغذاء وقوة التسلح وطاقة القتال، والتأهب والحذر، حتى قام العدو بحشد أقوى تشكيلاته (على النمط الدائري) استعدادا للاشتباك مع قواتنا، فكيف يمكن قهره والتغلب عليه؟» فأجاب (سونبين) قائلا: «إن مواجهة مثل هذا العدو تتطلب تقسيم القوات إلى أربع أو خمس فرق، تدخل في اشتباك سريع ثم تتراجع على الفور، متظاهرة بالارتداد والانسحاب، فتلحق في إثرها قوات العدو، إذ تطمئن أنها قصدت الفرار، لكنها تكون بذلك قد تخلت عن ترتيب صفوفها على النسق المبين، وينفرط التئام تشكيلها الدائري، وعندئذ، تحتشد الفرق الأربع أو الخمس التي يتكون منها جيشك وتدخل في اشتباك معها لتنتزع النصر، فتلك هي الطريقة التي تستطيع بها أن تضرب تشكيلا دائريا.» فسأله السائل، قائلا: «فماذا إذا كانت قواتنا - وهي في مواجهة حاسمة مع العدو - أقل منه عدة وعتادا وأضأل عددا، وأوهن طاقة ومقدرة، ثم إذا بها تفاجأ بعدو يباغتها بتشكيل قتال من النمط المربع، فكيف السبيل - ساعتئذ - إلى مواجهته ودحره؟» فأجابه (سونبين) قائلا: «في مثل هذا الموقف يمكن استخدام أسلوب القتال المشتت، بحيث تجبر العدو على بعثرة صفوفه وتفريق حشوده، وذلك بالتظاهر بالانخذال أمام هجماته، على أن تسارع بالالتفاف على أجنابه ومؤخرة قواته، دون أن يفطن إلى حقيقة نواياك، فتلك هي الوسيلة إلى مواجهة تشكيلاته المربعة.» وسأله السائل، قائلا: «فماذا إذا التقى الجيشان وقد اتخذا أهبتهما للقتال، وكان جيش العدو أقوى وأمضى وأشد بأسا وضراوة، خصوصا إذا كان قد أعد قواته في نمط قتالي (يسمى ب ) «التشكيل النافذ»؟ فكيف السبيل إلى ضربه والتغلب عليه؟» فأجابه: يتطلب الأمر لمهاجمة مثل هذا التشكيل أن تقوم بتقسيم قواتك إلى ثلاث فرق، فتقوم إحداها [بالوقوف بالعرض] باعتراض القوات المعادية، بينما تسارع الفرقتان الأخريان [فراغ] [ورد مكان النقط، في إحدى النسخ المحققة، العبارة التالية: «بمحاولة تشتيت صفوف العدو، وذلك بمهاجمة أجنابه ...»]، فيصاب قادته بالارتباك ويقع في قلب جنوده الرعب، وإذ يحل الاضطراب بقواته وتتخلله الفوضى، فالهزيمة قدره الذي لا مفر منه، فتلك وسيلة لمهاجمة أمضى التشكيلات، من ذلك النوع المسمى ب «التشكيل النافذ»، فكان سؤال السائل: «فهب أن قواتنا التقت بجيش العدو، فإذا هو أوفر عددا وعتادا، ثم فوجئت به ينشر قواته في تشكيل مستعرض [اعتراضي ]، فكيف السبيل إلى التغلب عليه، خصوصا إذا كانت قواتنا أقل منه عددا (وهي - مع ذلك - تتطلع إلى مواجهته بكل اعتداد)؟» وجاءت الإجابة: «لمواجهة عدو على تلك الشاكلة، فعليك أن تقسم القوات إلى ثلاث فرق تتكون أولاها من أشجع وأمهر المقاتلين، وتستميت الفرقتان الأخريان في الدفاع عن خطوط الجبهة، وتقوم في الوقت نفسه بحماية العمليات التي تهدف إلى تشتيت قوة وطاقة العدو، بينما تنطلق الفرقة المكونة من أشجع المقاتلين إلى قلب قوات العدو مباشرة، فتوقع به الاضطراب، فيختل توازن صفوفه، وتدور عليه الدائرة، فتلك وسيلة ناجعة لدحر قوات العدو والفتك بقادتها.» ثم سأله، قائلا: «فكيف إذا التقت قواتنا ذات العدد الأوفر من المشاة (لكن بعدد أقل من المركبات والفرسان) مع قوات تملك عشرة أضعافنا من العربات والخيالة، هل ترى وسيلة لقهرها والانتصار عليها (برغم ذلك)؟» فأجابه: «أرى أنه ينبغي - في مثل ذلك الموقف - أن يجري الاستيلاء على مناطق ذات أهمية [استراتيجية] فائقة، على أن تتجنب الأرض السهلية المنبسطة والمساحات العريضة المكشوفة؛ لأن التواجد في تلك البقاع يجعلها صيدا سهلا بالنسبة لقوات العدو، ثم إن الأماكن المنيعة ذات الأهمية، تعد أنسب وأصلح المواقع لقوات المشاة، فتلك هي الطريقة المناسبة للتغلب على عدو يملك العدد الوافر من المركبات والفرسان» وسأله: «فكيف يمكن مقاومة عدو يزيد عدد مشاته بمقدار عشرة أضعاف عما لدينا، علما بأننا نتفوق عليه في عدد المركبات والخيالة؟» فأجابه: «أهم نقطة في مسألة مواجهة مثل هذا العدو، هي تجنب الأماكن المنيعة، بحيث يبقى هناك مخرج ما [كذا] ويتم استدراج العدو إلى الأماكن الفسيحة ذات الطبيعة الأرضية المنبسطة المفتوحة، فهنالك تدور الاشتباكات معه، ومهما كانت قوات مشاته تبلغ أضعاف ما في صفوفنا، فسنستطيع أن نستغل قدرة وطاقة مركباتنا وفرساننا في القضاء على العدو، فتلك طريقة لمواجهة تشكيل تكثر فيه قوات المشاة.» فسأله: «فماذا إذا كان العدو أكثر منا عددا وأوفر عدة وأغزر احتياطا من الحبوب والمؤن وأقوى رجالا وعتادا، كيف نصمد في مواجهته، بل نتفوق عليه ونهزمه؟» فأجابه: أرى أنه ما دام العدو قد استغل ميزة تحصنه بمواقع منيعة، فيجب علينا أن [فراغ]، ومن ناحية أخرى نستقصي نقاط ضعفه لننفذ منها إلى مهاجمته، بمعنى أن [فراغ]، فتلك طريقة [فراغ] [في نسخة محققة أخرى من الكتاب، وردت عبارات تامة مكان الفراغات الخالية المذكورة آنفا، وذلك على النحو التالي: ...] (فأجابه: «إذا كان مطلوبا مواجهة عدو يحتل مواقع حصينة فوق أرض منيعة، فليس أمام قواتنا إلا أن تبحث عن كل الفرص الممكنة لاستغلال ثغرات في نقاط ضعف لدى العدو، فتنفذ منها لشن الغارة عليه، فتلك هي طريقة الهجوم على مواقع منيعة ذات أهمية حيوية.») فسأله: «فكيف إذا التقت قواتنا بعدو شديد البأس جريء النزعة، تتحرك قواته بإرادة قوية وعزم جبار (كالصخر والحديد) تحت قيادة ذائعة الجرأة والبسالة، ماضية إلى أهدافها عازمة على الفداء والتضحية، لا يردها شيء عن ذلك، [حرفيا: لا يردها نداء (كذا)] تدوس في طريقها المقاطعات والأقاليم، وليس من مناوئ لها، أترى هناك وسيلة لمواجهتها والتغلب عليها؟» فأجابه: «إن مواجهة مثل هذا العدو تقتضي أولا أن تنقل إليه الظن بأنك أقل كثيرا وأضعف من أن تتكافأ مع قوته، وتتخذ مظهر الخضوع لإملاءات سطوته، بينما تعمل (خفية) على ترقب الفرص السانحة للاشتباك معه، وهكذا، فأنت حين تلقي في روع العدو جدارة إحساسه بالزهو، توقع به في شرك الدعة والركون إلى التكاسل وتحجب عنه التعرف إلى نوايانا، ثم تباغته بهجومك، مع التركيز بقوة على نقاط ضعفه (واعلم) أن عدوا يركبه غروره، سيفقد حاسة الحذر والانتباه [حرفيا: يفقد الصلة بين طليعته ومؤخرة قواته] ومهما بلغت به الجرأة والبأس، فلن ينتبه إلى ما تفاجئه به من هجوم على مركز تجمعاته فتقطع ما بين أول زحفه وآخره، فتلك هي الوسيلة إلى إبراز نقطة ضعفه، وتبديد طاقته، والاستزادة من قوة الاندفاع نحوه بمدد يقوي البأس ويمنح الغلبة.» وسأله: «وكيف إذا كان الجيشان قد أعدا العدة للاشتباك، وتحصن جيش العدو بجبال منيعة، تبعد عن مواقع جيشنا بمسافات طوال، فإذا اقتربنا منه، انكشفنا وأصبحنا في مرمى سهل، وإذا بقينا، كما نحن ، امتنعت عنا فرص مهاجمته، أترى هناك وسيلة لمواجهته وهزيمته؟» فأجابه: «لما كان العدو - في مثل هذه الحال - يرابط في أماكن جبلية منيعة، فقد [فراغ]، فلا بد أن نجبره على التخلي عن الشعور بالأمان، وأن نفرض عليه الإحساس بأنه ما زال محفوفا بالمخاطر، وليكن الهجوم على الأماكن التي يعدها ملاذه الأخير أو سنده المنقذ وقت الحاجة، بحيث يضطر إلى مغادرة مواقعه الحصينة، وعندئذ، فلا بد من عمل تقديرات سريعة للتنبؤ بالمواقع والخطط التي سيلجأ إليها، وعمل الكمائن اللازمة وإعداد وتوزيع القوات اللازمة لذلك، على أن تتم مهاجمة العدو وهو على طريق تحركه، فهذه وسيلة ناجعة لضرب العدو وهو متحصن بأرض ذات تضاريس منيعة.» فسأله: «فانظر إذا أخذ الجيشان أهبتهما للقتال، وأعدا تشكيلاتهما القتالية لذلك الغرض، فإذا بتشكيل العدو يتخذ هيئة المجرفة، قاصدا إلى القضاء التام على قواتنا، فما الذي نستطيعه عندئذ، وبأي وسيلة نصمد له ونقضي عليه؟» فأجابه: إن مواجهة العدو - بموجب ذلك التشكيل - يقتضي منك السهر [حرفيا: السهر دون طعام أو شراب] لتستفرغ كل طاقتك في إعداد وتجهيز ثلثي قواتك لضرب مركز ثقل وقوة العدو، وعندئذ، فلا بد أنه [فراغ]، تعمل على اختيار أمهر المجموعات القتالية ثم تهاجم بها أجناب العدو، [فراغ] وتوقع الهزيمة بقواته [في نسخة أخرى محققة من الكتاب، وردت هذه الفقرة، على النحو التالي ...] «ثم تنتخب أفضل المقاتلين لتهاجم بهم أجناب العدو، على أن تعمد فيما بعد على التعمية عليه بأن توقع في ظنه أنك قد أوشكت على الوقوع تحت تطويقه، وإذ ينغمس في ذلك الظن، يفاجأ بالقوات في انتظاره لتكيل له الضربات. فتلك هي طريقة مواجهة التشكيل القتالي الذي يكتسح ميادين القتال كالمجرفة.» *** [جرى تذييل هذا الفصل في إحدى النسخ بالرقم «سبعمائة وتسعة عشر»، ولا تعرف مناسبة أو دلالة ذلك الترقيم.]
الفصل الثالث
ضرب نقاط القوة عند الخصم1
الطريقة المتبعة في ضرب عناصر القوة المنتقاة لدى العدو، تقوم على مواجهة تشكيلاته المربعة [فراغ] بغير [فراغ]، ولضرب هذه [فراغ]، وإذا كان المطلوب الهجوم بعنف، [فراغ]، استخدام قوات أقل عددا، [فراغ]. ... [فراغ]، وبالعكس، فلا بد من قيام مجموعات المقاتلين بمطاردته، حتى [فراغ]، [فراغ]، وتتقدم قوات الميمنة والميسرة بمحاذاته، وهو ما يطلق عليه تشكيل [فراغ]، فلا يستقر في الخفاء، وإنما تنطلق الجيوش الثلاثة، [فراغ] والدروع [فراغ]، يجري تقسيم [فراغ] الجيش [فراغ] وحده، بل الناس جميعا أو جمهرة [فراغ]. ... [فراغ]، والصعوبة في ذلك أن [فراغ]، ثم تقسم الجماعات، بينما [فراغ]، فإذا لم يكن التشكيل بالقوة الكافية، ف [فراغ]، فمسافة بعيدة، بحيث يطوي العدو المسافات [فراغ]، ويهزم قادته فيتفرق قلب العدو بددا [فراغ] بقوة رجاله، واحتشاد جنوده، [فراغ]، مقارنة بتلك الحشود [فراغ]، فتلك وسيلة الجنود [فراغ].
2
الفصل الرابع
القوات السيادية والقوات الزائرة1
يتقاتل، أحيانا، طرفان (يتساندان في جهد القتال) على جبهة واحدة، فيكون أحدهما الجيش الزائر (الغازي)، والآخر الجيش السيادي (المرابط)، ويلزم أن يكون الزائر أوفر عددا من السيادي، فيزيد عدده بما مقداره الضعف، على أن تكون درجة القوة متماثلة لكل من الجهتين [فراغ] [ورد في نسخة أخرى محققة، بدل هذا الفراغ عبارة، مفادها: وهو المقدار المتكافئ، الذي يسمح لهما بالمواجهة القتالية للتشكيلات (المعادية)]، ولا تتخذ القوات الزائرة مواقعها إلا بعد أن تتحدد التشكيلات ومواقع القوات السيادية التي ترابط في أنسب المواقع وأكثرها ملاءمة قتالية (من حيث طبيعة المكان والتضاريس الأرضية)، ويتوجب على القوات الزائرة أن تعبر الموانع [حرفيا: الجبال، والأنهار، والمستنقعات]، حتى تصل إلى ساحات القتال، [فراغ]، فلماذا تحجم، بعد ذلك، عن التقدم لملاقاة العدو، وتهرع إلى الانسحاب، غير عابئة بما قد تتعرض له من مخاطر؟ (والإجابة هي أنها ما كانت لتضطر إلى هذا، إلا بسبب ...) عدم ملاءمة التضاريس وطبيعة الأرض للتشكيلات القتالية. وما دامت تلك الأحوال تشكل عائقا، فلن يستطيع المقاتلون [فراغ]، ومن ثم يلجئون إلى الانسحاب؛ فلذلك أقول إن المحارب العبقري هو من يجيد استغلال التشكيلات القتالية المناسبة فوق تضاريس ملائمة.
عندما يتجاوز عدد المقاتلين في التشكيلات عشرات الآلاف، يسود بين عامة الناس إحساس بأن مثل هذا العدد الهائل سيلتهم خزائن الحبوب عن آخرها وأنها لن تكفيه، [فراغ]، ففي الأوقات العادية (وقت السلم) تصبح أقل زيادة في عدد الجند عبئا على الإعاشة، وفي ساعة التعبئة للقتال، تصير أعداد الجند المتضاعفة هي غاية الأمل، فأعداد الجنود وقت السلم كثرة ضاغطة على الإمداد والإعاشة، لكنها تبدو وقت الحرب حشودا قليلة يرجى لها المدد والزيادة [كذا].
آلاف مؤلفة من الجنود، ومئات الآلاف من المقاتلين يخرجون إلى ساحات القتال، أعداد مهولة منهم، [فراغ]، بل مئات الآلاف يشنون الغارة علينا، وليس سوى القائد المحنك هو وحده القادر على تشتيت حملاتهم وتفريق صفوفهم [حرفيا: فصم عرى ما بين رأس الجيش وذيله (كذا)] وتقطيع أوصالهم، كما يقطع القصاب أوصال الضأن والماعز. (فإذا تمكن القائد المظفر من ...) تفريق صف العدو وتبديد طاقته، والغلبة على قواته، فهو جدير بأن يكون قائد الجيش الهادر والفيالق الجرارة، حتى وإن كان جنوده هم الأقل عددا وعدة، أما إذا عجز عن تحقيق ذلك المستوى من الإنجازات، فسيكون قد أهدر قيمة مقاتليه وإن تجاوزت أعدادهم أقصى الحدود وآفاق المدى.
هل يمكن إحراز النصر لمجرد تفوق القوات من حيث الكثرة العددية؟ لو كان الأمر كذلك، لصار النصر مرهونا بعملية حساب دقيقة لعدد أفراد الجيش. فهل، إذن، يتحقق الانتصار لأكثر الأطراف حظا من الموارد والعتاد والثروة؟ لكن، لو كان الموضوع بهذه البساطة، لما احتاج الأمر أكثر من معرفة مقدار مخزون الحبوب ورصيد الاحتياطي العام لترجيح كفة النصر.
قد يكون، إذن، حجم التسليح وجودته ودرجة التسلح هي العوامل التي تجلب النصر، أيمكن أن يكون هذا هو السبب حقا؟ بيد أنه لو كان الأمر كذلك، لأمكن ضمان النصر بكل سهولة (حتى قبل بدء القتال، بزمن طويل). ومن ثم يمكن القول بأن وفرة عناصر الثروة وكثرة الموارد في بلد من البلدان ليست ضمانا مؤكدا لتحقيق الأمن والاستقرار، ولا كانت ندرة الموارد والافتقار إلى الثروات مجلبة للخطر، ثم إن كثرة الجند ليست شرطا للغلبة على العدو، ولا ندرة المقاتلين (... بالمقابل، سببا في الهزيمة) [سقطت هذه العبارة من المتن، في إحدى النسخ المحققة، واستكملتها بعض الشروح في الهامش؛ فلذلك أوردتها بين قوسين]، ذلك أن ما يقرر النصر أو الهزيمة (من ناحية)، والسلام وعدم الاستقرار (من ناحية أخرى) يكمن، حقا، في مدى فهم واستيعاب فن الحرب وطرق استخدام القوات، بالقدر الذي يمكن معه تفريق صفوف العدو - عندما يتميز بوفرة عدد المقاتلين في التشكيلات - وإعاقة تبادل العون والمساندة بين فيالقه المقاتلة، وبالقدر الذي يمكن به شن الغارة على عدو جيد التسليح والتعبئة والإعداد، على نحو يسبب له الإرباك والفوضى، وبالقدر الذي يبدد فاعلية الموانع والحصون [حرفيا: الخنادق والقلاع ...] ويبطل قيمتها الدفاعية للعدو، وبأسلوب ينزع قيمة وقوة التعبئة لدى عدو جيد التسليح، ويعوق جنود العدو عن حماية قادتهم، فتلك كلها مظاهر استيعاب فن ومنطق الحرب التي تمكن من إحراز النصر. (ومن ثم)، كان القائد المحنك هو الذي يملك ناصية فنون القتال، ويعرف مدى أهمية إعداد خطط القتال الدقيقة والتفصيلية قبل بدء المعارك، واتخاذ أهبة الاستعداد على أكمل وجه؛ فذلك هو السبيل إلى اكتساب الثقة في التقدم بخطى ثابتة نحو النصر (قبل المعارك)، بل التمكن من إحراز التفوق المظفر على العدو (في ختام جولات الاشتباك)، وهكذا، يمضي القادة إلى ساحات القتال، فيظفرون بالنصر، أو ينسحبون بقواتهم دون خسائر تذكر؛ ذلك بأنهم قد أحاطوا علما ودراية بفن استخدام القوات، [فراغ]، على القوات الزائرة أن تلتزم بما تفرضه القوات السيادية [فراغ]، حيث تنص قاعدة فن القتال على أنه: على القوات السيادية أن تواجه الأعداء عند المناطق الحدودية، [فراغ]. وهكذا، تؤدي القوات الزائرة خدمة جليلة [فراغ]، بحيث يتم إنهاك قوات العدو وتثبيط عزمها (حتى يبلغ بها الوهن والإحباط مبلغه) فيصير النصر أدنى من قطوف دانية، فإما أن يتم تثبيت الجناح الأيسر للعدو؛ لضرب الأجناب اليمنى، سعيا لإيقاع الهزيمة بها، وهي أبعد ما تكون عن أي قدر من المساندة، أو يجري تحطيم ميسرة العدو مع قطع الطريق بينه وبين أية تعزيزات يمكن أن يحصل عليها من قوات الميمنة، فتلك هي الوسيلة لإعاقة تحركات قوات العدو والعمل على دفعها للانسحاب، حيث تعجز عن التصرف بسبب قلة عدد القوات (في الجانب القريب [كذا])، ويحال بينها وبين الحصول على مساندة (من الجانب البعيد)، نظرا لما أصاب وحداتها من التشرذم والفوضى [فراغ].
الفصل الخامس
البراعة القتالية1
إن الخبير بإدارة المعارك، المتمرس بفنون القتال، هو ذلك الذي يقدر على تشتيت صفوف العدو مهما كانت قوته، [حرفيا: مهما بلغت كثرة جنوده وكثافة خيوله الراكضة] فتتفرق حشوده وتتشرذم وحداته، بما يتعذر معه أن تساند بعضها بعضا، وتتعرض للهجوم المتواصل الذي يدك قواعدها ويشل يدها، حتى، عن طلب النجدة وإبلاغ أحوالها لقيادتها، فتنقطع الصلة بين وحدات العدو المقاتلة، وتبطل من ثم قيمة تحصيناته الدفاعية بكل ما أقيم فيها من قلاع، وما حفر في وديانها من أخاديد، وتتبدد أهمية ما تكدس في خزائنه من احتياطي الغذاء، وتضيع مهابة جنوده مهما امتازوا بالشجاعة.
إن رجل الحرب المحنك، الحاذق فنون استخدام القوات، هو الذي يعرف كيف يلاحظ ويقيم التضاريس الأرضية [كذا]، ولا يفوته أن يحسن استغلال الأراضي المنيعة، ويرابط في مواقعه بقوات كثيفة، ويتقدم أو ينسحب من ساحات القتال بكل مرونة. (إن القائد العليم بفنون الحرب ...) هو الذي يجعل من الكثرة في جيش أعدائه شرذمة قليلة [... يقلل من قيمة الزيادة العددية في الجيوش المعادية، ويخصم منها هذه الميزة، بما يفرضه عليها من الشعور بالحاجة إلى مزيد من القوات]، ويجعل بطونها تتضور جوعا، حتى وهي تحوز خزائن الحبوب والغذاء [يقلل من قيمة ما تختزنه جيوش الأعداء من احتياطي الغذاء مهما عظمت كميته]، وينزل بنفوسها وأجسادها الإرهاق والتعب، حتى وهي قابعة مكانها، ويبدد ما التف حولها من جموع الناس، ويباعد بينها وبين قلوب المؤيدين لها من أبناء شعبه مهما عظمت حشودها، (إن قائدا حكيما يستطيع أن ...) يوقع الشحناء والكراهية بين فصائل جيوش وثيقة الصلة بين عناصرها، ويقطع أوصال قوات كانت، بالأمس، على قلب رجل واحد.
على كل جيش مشتبك في قتال أن يلاحظ طريقتين من طرق الحرب، أولاهما تسمى: «الطرق الأربعة»، وثانيتهما يقال لها: «التحركات الخمسة». فالطرق الأربعة هي طريق التقدم للأمام، والانسحاب والتقدم جهة اليمين ثم اليسار، أما التحركات الخمسة، فهي: دفع القوات للأمام، والانسحاب، والميل إلى اليسار، والركون إلى اليمين، والتوقف. وهذا الأخير يعد، أيضا، أحد عناصر التحرك (فلا تحسبنه مناقضا لذلك المعنى)، إن القائد العبقري هو ذلك الذي يجيد الاهتداء بالطرق الأربعة، والاسترشاد بالتحركات الخمسة، بكل وعي ومرونة، (فإذا استطاع، حقا، أن يبلغ هذا القدر من الإجادة ...) فلن يستطيع العدو أن يقف في طريق تقدمه ولا أن يقطع عليه خط الرجعة إذا ما أراد الانسحاب، ولا أن يعوق ميله إلى اليمين أو اليسار، بل سيستشعر إزاءه أعظم إحساس بالتهديد والخطر، حتى وهو مرابط بقواته في مواقعه، دون اشتباك في ساحة القتال [... جاءت الجملة الأخيرة، بهذا المعنى، في إحدى النسخ المترجم عنها، لكنها في كثير من النصوص المتاحة لهذا الفصل كانت مهملة من السياق، وورد مكانها فراغ خال من الكلمات].
إن المتمرس في فنون القتال سيعمل على إعاقة كل محاولات العدو للجوء إلى الطرق الأربعة، وعرقلة جهوده نحو «التحركات الخمسة»، فإذا أراد التقدم بقواته، وجد نفسه تحت هجمات معادية، وإذا رجع القهقرى، سدت عليه خطوط الانسحاب، وأحيط به من كل جانب، فلا يستطيع التحرك نحو الأجناب، ثم إذا لزم الثبات في مواقعه، لم يأمن شن الغارة عليه.
إن القائد المبرز في فن القتال يستطيع أن يجبر العدو على اجتياز المسافات الطوال، وهو تحت دروع القتال، وفوق عنقه آلة الحرب ينوء بها كاهله، فلا يجد سبيلا إلى الراحة، فيقع من الإرهاق والجوع والسهر في أسوأ حالات الإعياء، فتلك - إذن - وسيلة فعالة تؤدي حتما إلى هزيمته (في نهاية المطاف)، في حين يحتفظ القائد بجيشه وقد نال قسطا من الراحة وحظا هائلا من التزود بالماء والغذاء، منتظما في الصفوف، منضبطا رابط الجأش، على أتم استعداد للقتال، فإذا حانت ساعة اللقاء، تقدمت القوات بعزم وافر وإقدام شجاع، لا يردها شيء عن القتال، بل تمضي [حرفيا: تمشي فوق حد السيف] فوق الخطر، دون أن تلتفت إلى الوراء، أو تفكر في التراجع والفرار. *** [ورد في نهاية المتن الرقم «مائتان»، متبوعا بثلاثة فراغات، قد تكون تكملة الرقم المذكور ، ولا تعرف دلالته، في هذا السياق]
الفصل السادس
خمسة أنواع من الجيوش1
هناك خمسة أنواع من الجيوش المعادية: الأول: جيش يتسم بالجرأة والإقدام. والثاني: يتميز بالغرور والصلف. والثالث: يتصف بالتصلب والعناد. أما الرابع: فمتردد هياب. والأخير: ضعيف متخاذل. فكل نوع منها يتطلب، أثناء القتال، طريقة ملائمة تتناسب مع طبيعته. وبالتالي، فثمة خمس طرق لمواجهة تلك الطبائع المختلفة للجيوش. وهكذا فلا بد من مصانعة النوع الأول من الجيوش، بحيث يتطلب الأمر تكلف مظاهر الخضوع والضعف، أما النوع الثاني، فلا بأس من إظهار شيء من التقدير لمزاياه على أن يتم استغلال الفرصة السانحة لمهاجمته والقضاء عليه، وبالنسبة للجيش الذي يتسم بالعناد وجمود الرأي، فالمطلوب الإيقاع به والترصد له بالحيلة والخديعة، أما المتردد الحائر الذي لا يحزم أمره، فلا بد من مبادأته بالهجوم الأمامي، وإثارة القلاقل والاضطرابات على أجنابه ومحاصرته بالأخاديد المحفورة في الوديان أو الحصون العالية فوق التلال وقطع طرق إمداداته، وفيما يتعلق بذلك النوع من الجيوش التي يغلب عليها الضعف والتخاذل، فيمكن إثارة الفزع في صفوفها بواسطة دقات الطبول الهادرة ومصادمتها مع اتخاذ مظاهر القوة المناسبة، ثم الهجوم عليها عند أول بادرة لتحركاتها، أو التأهب لمحاصرتها في كل الأحوال، حتى وهي مقيمة في ثكناتها، مرابطة في مواقعها، دون أن يبدر عنها ما يفيد التحرك.
عندما تقتحم الجيوش أراضي أعدائها، فهي تلجأ، في العادة، إلى طريقة من اثنتين في التعامل مع العدو، أول هذه الطرق تسمى ب «السلوك الأخلاقي الرفيع»، والثانية توصف ب «الأسلوب الوحشي الإرهابي». ولكل منها خمس حالات، أو خمس مراحل متدرجة؛ فلذلك سميت ب «التيسيرات والتغليظات الخمس»، لكن ما هي التيسيرات الخمس؟
إن جيشا يقتحم أرض عدوه ثم يسلك نهجا يقوم على الفضائل، سوف تضيع مهابته وتسقط مكانته التي كان يتحلى بها في سابق الأيام، فإذا ضاعف من سلوكه الأخلاقي، فلن يجد ما يسد به رمقه من الغذاء، فإذا واصل (في المرة الثالثة) سلوكه الأخلاقي، فلا بد أنه سيخسر معركته، (وفي المرة الرابعة، فإنه ...) سيموت جوعا، فإذا تشبث بسلوكه هذا في المرة الخامسة، فلن يتمكن من إنجاز مهامه القتالية. (فإذا كان هذا هو أسلوب التيسير) فما هو سلوك التغليظ إذن؟ (اعلم) أنه إذا لجأت قوات الاحتلال إلى أساليب البطش والإرهاب، بادئ ذي بدء، فسوف ينظر إليها الناس بوصفها «القوات المعتدية»، وإذ يتضاعف توسلها بالطغيان، فسوف يقول عنها الناس إنها قوات الشر، وفي المرة الثالثة، وبتزايد توجهها الإرهابي، فسوف تطبع في النفوس إحساسا بالخوف والجزع، (وفي درجة رابعة ...) وإذ يتأصل سلوكها العدواني، فسوف يلجأ الأهالي إلى تضليل جنودها وتعمية عيونها، فتغيب عن القوات حقائق الأحوال، فإذا تضاعف سلوكها الإرهابي (إلى الدرجة الخامسة ...) كان حتما أن تتعرض لخسارة فادحة. فمن ثم، كان من الواجب على القوات المغيرة على أرض العدو أن تراوح بين تلك الملاطفات والتغليظات الخمسة (حسب الأحوال)، بما يضمن لها إحراز النصر. *** [ورد في آخر المتن العنوان التالي «المبادئ (الأخلاقية) الخمسة» وتحتها، مباشرة، كتب الرقم «مائتان وستة وخمسون»، دونما إشارة إلى دلالة هذا الترقيم، وعلاقته بالسياق.]
الفصل السابع
خسائر المعارك1
إن كل من أراد أن يجبر الأهالي في البلد الخاضع للاحتلال [حرفيا: بلد العدو] على اتباع عادات مستهجنة ومرفوضة بالنسبة لهم، فإنه يغامر بإبراز نقائصه مقابل ترجيح كفة مزايا العدو، بل يستهلك قوته العسكرية بغير فائدة [العبارة الأخيرة، بدءا من «فإنه يغامر بإبراز ...»، وردت في أحد النصوص المحققة، لكنها لم ترد في عدد آخر من النصوص]، وكذلك فمن أراد أن يسد ما لديه من حاجات على حساب موارد العدو [حرفيا: الزيادة في موارد العدو] فهو يسير بقواته نحو الهلاك.
إن العجز عن صد هجوم العدو [حرفيا: عن صد أسلحة العدو الماضية] برغم التحصينات الدفاعية القوية، يصيب القوات بالإحباط والكبت (هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى ...) وعندما تعجز الأسلحة عن أداء دورها المأمول فتفشل في اختراق دفاعات العدو، بمتانتها وجودة تحصيناتها، تكون الهزيمة هي النتيجة المحتومة. [في بداية الفقرة التالية، ورد في أحد المتون عبارة يتخللها فراغ، نصها كالتالي: «إن عجز القوات ... من الحكمة». غير أن مصادر أخرى محققة، أوردت له ترجمة بالصينية الحديثة، هي التي اعتمدت عليها وأخذت بها في نقل الفقرة كلها.]
إن عجز القوات عن تحقيق النصر، يرجع إلى جهل القائد بكيفية توزيع وتحريك التشكيلات، وعدم تحديده لاتجاهات الهجوم. إن وقوع القائد في مشاكل وعقبات شتى، برغم حنكته في توزيع التشكيلات وبراعته فيما يتصل بتوزيع الوحدات ووعيه التام بتضاريس الأرض، يعني أن مثل هذا النوع من القادة ليست لديهم دراية بالعلاقة بين النصر الحاسم [حرفيا: وحسب الترجمة الصينية «النصر الاستراتيجي» («جان لوي» تحديدا، بمعنى استراتيجي)] والنصر العسكري.
عندما تعجز القوات عن تحقيق النصر، برغم ما تحظى به من تأييد الأهالي لها [وردت عبارة «برغم ما تحظى به من تأييد»، في أحد النسخ المحققة، بينما خلت النسخ الأخرى من أي ذكر لها مكتفية بمساحة ضئيلة من الفراغ]، فالسبب في ذلك يرجع إلى عجز هذه القوات عن حشد وحداتها القتالية بالكثافة المطلوبة. أما إذا لم تستطع الجيوش الحصول على الدعم الشعبي، كان ذلك دليلا على عدم تبصر مثل هذه الجيوش ببواطن أخطائها. (ولا بد من الانتباه إلى أن ...) ندرة تحقيق النصر برغم كثرة الاشتباك وغزارة اللقاءات القتالية مع العدو إنما ترجع كلها إلى التقاعس عن استغلال الفرص السانحة، وإذا أفلتت من القوات فرصة التغلب على العدو فلأنها خالفت إرادة الناس . (واعلم) أنه لا يتزلزل كيان جيش إلا بما تردد حوله من الأراجيف والإشاعات، ثم إن وقوع الجيش في حيرة من أمره وعجزه عن تقدير احتمالات النصر أو الهزيمة، يعود، أساسا، إلى جهله بكيفية اتخاذ الاستعداد الكافي للقتال.
أما إذا ضيعت الجيوش فرصة مواتية دون أن تستغلها على النحو الأمثل، أو إذا حانت لها الفرص السانحة فتخاذلت ترددا وتهيبا، أو إذا أدركت ما شاب قيادتها من أخطاء، دون الإسراع في تلافيها بحسم، فذلك كله من أسباب الوقوع في التهلكة. (واعلم) أنه إذا أمكن للناهب الجشع أن يصبح عفيفا شريفا، أو للطائش أن يصبح رشيدا، أو للمتردد أن يصير حازما، وللجبان أن يغدو شجاعا جريئا، فذلك هو السبيل إلى النصر في ساحات المعارك. ولن تمنح السماء ولا الأرض مجدا لمن سار على طريق الهلاك، ولن تخيبا رجاء من سعى جادا إلى المجد والقوة والعنفوان، [فراغ]. *** [ورد في ختام هذا النص، وبعد فاصل ضئيل، فقرة مليئة بالثغرات، بدرجة يتعذر معها ترجمتها في عبارة مفهومة، ومع ذلك فقد آثرت نقلها، على علاتها، إلى العربية، على النحو التالي: ...] «جيش [فراغ]، وإذا أريد للبلاد أن [فراغ]، يحل بالقوات التعب والإنهاك، ويبذل الكثير من [فراغ]، فلا يصمد أمام العدو.
ثم إن الجيش [فراغ]، بلد ذو عدد وافر من الجند، [فراغ]، وهنالك لا يمكن للقوات أن [فراغ].»
الفصل الثامن
استقامة القائد1
لا بد أن يتسم القائد بالاستقامة، وإلا نبا طبعه عن الجد والعدل، مما ينزع عنه المهابة، فإذا سقطت مهابته في عين الجنود، تراجعوا عن البذل والفداء، فمن ثم كانت استقامة القائد بمثابة الرأس في جسد الوحدات المقاتلة.
كما أنه من الضروري للقائد أن يتصف بكرم الأخلاق، وإلا عجزت قواته عن مغالبة العدو، وهو ما يحول بينها وبين تحقيق النصر، ومن هنا كان كرم الأخلاق بمكانة القلب في جسم التشكيلات القتالية.
هذا، ومن الواجب أن يتحلى القائد بالفضائل، وإلا فقد نفوذه وسط رجاله، وهو ما يعود وباله على الجيش، إذ يقصر عن تحقيق النصر؛ ولذلك عدت الفضائل بموقع وأهمية اليدين في جسم الجيش المقاتل. ومن المهم جدا أن يتخلق القائد بالمصداقية، وإلا تعذر على مقاتليه تنفيذ أوامره، وهو ما سوف يؤدي - إذا ما حدث - إلى البلبلة وتشتت سلطة القيادة، مما يحول بين القوات وبين حسن البلاء وإنجاز الوعد ورفع هامة الشرف، ولهذا كانت المصداقية بمثابة القدمين من التشكيلات القتالية.
ثم إنه لا مفر للقائد من أن يتحلى بالمقدرة على التنبؤ بأحوال القتال (وتوقع النتائج المحتملة للعمليات)، وإلا صار من الصعب عليه أن يلتزم الحزم والجدية، [فراغ]، فمن هنا، كان الحزم بمثابة الذيل والجناحين (... للقوات). *** [لما كانت النصوص التراثية المكتوبة بالصينية الكلاسيكية تتميز بثراء محتواها وقابليته للتأويل بتقدير دلالات مختلفة وضروب متفاوتة من المعاني والصياغات، فقد أنتجت إحدى محاولات التحقيق لهذا النص صياغة مختلفة، خصوصا في ترجمة الفقرة الأخيرة من هذا الفصل، وإليك - سيدي القارئ - بيان هذه الترجمة، فيما يلي: ...]
لا بد للقائد من أن يتسم بدرجة عالية من الحكمة [كذا] تفوق كل من عداه من الناس، وإلا [فراغ]، وتعذر على القوات تحقيق النصر. ومن هنا، صار «الحسم» و«الثبات» سمات أساسية يفترض توافرها في شخص القائد، بل هي من ألزم وأهم الصفات جميعا [حرفيا: «من بين مجموع الصفات الواجب توافرها»]
الفصل التاسع
أخلاقيات القائد1
[فراغ]، وبخصوص أولئك الجنود الشجعان، فالواجب على القائد أن يبذل لهم المزيد من الاهتمام والود، بالقدر الذي يشعر به نحو أبنائه، وواجب عليه أيضا أن يبرز نحوهم التقدير والاحترام كأنهم أساتذته [حرفيا: أساتذته من ذوي الصرامة والجد ...] ثم إنه عند تعبئتهم للقتال لا بد أن يسيطر عليهم (بالقدر الذي يتصرف به نحو ...) حشائش الأرض وطينها، يابسها ووحلها، لا يستثني منهم أحدا، فالقائد [فراغ]، [فراغ] خارج السيطرة، ويمكن للقائد وهو مشتبك في القتال ألا يسمح لأحد بالتدخل في أوامره [في نسخة أخرى محققة من الكتاب: يمكن للقائد ألا يسمح بالتدخل في أوامره - وهو مشتبك في قتال - ولو من قبل جلالة الملك نفسه] فهو وحده الذي يملك سلطة القيادة، فذلك حقه المكفول له دائما أبدا [في نسخة أخرى، وردت العبارة التالية «فذلك مبدأ مقرر بشأن القيادة»] ... [فراغ]. ... [فراغ]، وإذ تدور المعارك بين جيشين، فلا ينبغي أن يبقى القائدان معا، على قيد الحياة، ولا أن يبقى الجيشان سليمين بقضهما وقضيضهما [في نسخة أخرى، جاء هذا المعنى، «وليعمل كل قائد أثناء القتال على أن تكون المعركة مع قوات العدو وقائدها معركة بقاء أو فناء]، [فراغ]، [فراغ]، فذلك هو المنحى الذي تسير فيه أفكار القائد، ولا بد أن تبذل المكافأة لصاحب الجدارة في الحال، وأن يوقع العقاب على من يستحقه بغير إبطاء، ومن دون استثناء، بعدالة تامة، ومهما كان شخص المحسن أو المخطئ. [فراغ]، تلك هي المزايا التي يتوجب على القائد التحلي بها حتى تصير علامة عليه [حرفيا: يتصف بها القائد حتى تبدو على سيماه كالنجوم التي يهتدى بها ليلا في السماء]، فيحظى بتأييد الجنود.
الفصل العاشر
مثالب القائد1
هناك عدة أسباب لما يمكن أن يوقع بالقائد في الهزيمة، وهي: (1) التبجح الطائش بما يملكه من مزايا. (2) الغرور. (3) السعي إلى الشهرة. (4) الجشع وحب المال. (5) [فراغ]. (6) الرعونة والطيش. (7) التبلد الذهني. (8) التخاذل والجبن. (9) الشجاعة المقترنة بالتهور والغفلة. (10) فقدان المصداقية. (11) [فراغ]، ...، ... (14) [فراغ]، التردد والتهافت الرأي. (15) التسيب وإهمال قواعد الانضباط. (16) الكسل واللامبالاة. (17) ... [فراغ]. (18) البطش. (19) الأنانية. (20) القيادة غير المتبصرة [في نسخة أخرى: «القيادة الارتجالية التي تناقض في المساء أوامر الصباح»]، مما يجلب الفوضى والتفسخ والانحلال، وتزداد الأمور سوءا باطراد انغماس القائد في المزيد من الأخطاء.
الفصل الحادي عشر
هزيمة القائد1
هناك عدة أسباب لما يمكن أن يوقع بالقائد في الهزيمة، وهي: (1) عدم وضوح الهدف أمام القوات (... يمكن أن يؤدي إلى الهزيمة). (2) حشد أخلاط من العامة والدهماء غير المؤهلين للقتال أو من الجنود الشاردين (المهزومين) من ساحات القتال ودفعهم للحرب، على أساس تصور خاطئ بأنهم عنصر قوة فعلية [حرفيا: قيام التصور الواهم بوجود قوة فعلية ...] قد يؤدي أيضا إلى الهزيمة. (3) كثرة النزاع والجدل حول صحة أفكار أساسية [حرفيا: حول ما يصح وما لا يصح]، وتهافت الرأي بشأن الخطط الأساسية، دون اتفاق على رأي واحد. (4) تقاعس الجنود عن تنفيذ الأوامر، وتشتت الآراء وانتشار الفوضى (قد ينجم عنه الوقوع في الهزيمة). (5) عصيان الرتب الأصغر للقادة العظام وشيوع اللامبالاة والتهاون بين الجنود [حرفيا: تقاعس المقاتلين عن القيام بدورهم وواجبهم الفدائي]. (6) كراهية الأهالي لقواتها المسلحة، (فذلك سبب يؤدي إلى الهزيمة). (7) طول أمد المعارك على جبهات بعيدة عن الوطن، مما ينهك المقاتلين ويضعف من حماستهم وروحهم المعنوية، (فهذا أيضا يمكن أن يتسبب في الفشل).
2 (8) مشاعر الحنين إلى الوطن التي تصيب الجنود وهم بعيدون في ساحات القتال (قد تتسبب في الهزيمة). (9) زيادة عدد الجنود الفارين من القتال (... يمكن أن يكون سببا في الفشل). (10) [ورد هذا البند خاليا من التدوين، في إحدى النسخ، بينما أوردت نسخة أخرى عباراته كاملة، كالتالي: ...] شيوع الانقسامات ومظاهر التفكك والاضطراب داخل الوحدات . (11) تعرض الوحدات لشحنات هائلة من الرعب والفزع. (12) وقوع الجنود في مشاق الترحال والتحرك عبر طرق موحلة، مع وعورة الدروب والمسالك، يمكن أن يكون سببا في وقوع الهزائم. (13) تعرض الجنود لمزيد من الإنهاك إثر بناء الاستحكامات وإنشاء القلاع والحصون قد يصيبهم بالإعياء ويوقع بهم، من ثم، في الهزيمة. (14) [فراغ]، قد يكون سببا في الفشل [لكن إحدى النسخ المترجم عنها هذا الكتاب، أوردت هذا البند مدونا، كالتالي: «شيوع الإهمال وسط الوحدات وإغفال اليقظة الواجبة، يمكن أن يكون له تأثيره في وقوع الهزيمة»] (15) شدة الإعياء بسبب كثرة التنقل عبر مسافات طوال ومكابدة المشاق المتوالية قد تصيب الجنود بالتذمر وتطلق السخط من عقاله، فتقع الهزيمة. (16) ... [فراغ]. (17) [فراغ]، مما يثير فزع الجنود فتقع الهزائم. (18) التراخي والإهمال الذي يصيب الأداء العام للجنود نتيجة كثرة تغيير القرارات والأوامر. (19) انخفاض الروح المعنوية لدى الجنود مما يدفعهم إلى عدم الامتثال لقواعد الاحترام مع قادتهم. (20) ميل القادة إلى المحاباة وانتهاك قواعد المعاملة العادلة، وما قد ينجم عن ذلك من تثبيط عزيمة الجنود. (21) تفاقم الإهمال والفوضى بين الجنود بسبب تأرجح قرارات القادة وكثرة ترددهم. (22) تحرش القادة ضد من يوجه إليهم أدنى لوم أو انتقاد. (23) إسناد المهام إلى غير الأكفاء (قد يعجل بحدوث الكارثة). (24) فتور حماسة الجند للقتال بسبب طول أمد العمليات بعيدا عن الوطن. (25) تراجع الروح المعنوية، وتفشي الفوضى الهائلة داخل الوحدات مع اقتراب وقوع الاشتباك مع العدو. (26) الركون إلى الحظ السعيد والأماني الطيبة في أن يحل بقوات العدو الضعف والانهيار، فتعجز عن المواجهة (... فمثل هذه التوقعات للصدفة السعيدة خليقة بأن تقود إلى الهزيمة). (27) اكتفاء القادة بالتطلع إلى الأمل فيما يمكن أن يقع بالعدو من تراجع للحماسة والروح المعنوية، مع تدبر الخطط والحيل الماكرة للإيقاع به. (28) [فراغ] [جاءت في إحدى النسخ فقرة تحت هذا البند، مفادها أن ...] العربات العسكرية [فراغ]، جنود سيئون للغاية، وسيكرهونه بشدة، (... مما يقود إلى هزيمتهم). (29) تنكيل القائد بجنوده، والسخرية منهم واحتقارهم، مما يشعل في نفوسهم البغضاء نحوه (30) مرور القوات عبر مضايق ومناطق وعرة، دون الانتظام ضمن تشكيلات على نحو منضبط وسليم. (31) غياب التنسيق المرن بين قوات المقدمة والمؤخرة، وافتقادها القدرة على تفعيل طاقاتها. (32) التفاوت في توزيع القوة على أجنحة الجيش بحيث إذا تمت تقوية دفاعات المقدمة، ثارت المؤخرة وضعفت إمكاناتها الدفاعية أو العكس، وإذا تم حشد دفاعات الميمنة، ضعفت دفاعات الميسرة أو العكس، مما يثير أجواء القلق أثناء العمليات، ويتهدد أداء القوات على نحو قد يقودها إلى الهزيمة.»
الفصل الثاني عشر
المدن المنيعة والأسوار المخترقة1
إن مدينة قائمة على أرض منخفضة ذات مستنقعات كثيرة منتشرة في جنباتها، سيصعب اختراقها، ما دامت تحيط بها تلال وكثبان متصلة تقيها الغارات الهجومية، حتى لو لم تكن المدينة محوطة بحواجز جبلية منيعة أو أخاديد عميقة، فوقوعها وسط مثل هذه التضاريس يوجب عدم شن الغارة عليها.
وإذا كان العدو المقيم بمدينة قادرا على أن يوفر احتياجاته من مياه الشرب عبر امتداد نهر جار، فمثل هذه المدينة يصعب اقتحامها، ومن ثم فلا حاجة لمهاجمتها. وكذلك فلا ينبغي مهاجمة مدينة تشرف، من الأمام، على واد جبلي عميق الغور، ويحوطها من الخلف جبل مديد الارتفاع، فهي مدينة منيعة تتحدى الاختراق (اقرأ في اصطلاح سونبين «مدينة ذكورية»).
إن مدينة قائمة على هضبة مرتفعة، تشرف من زواياها الأربع على منخفض من الأرض، تدخل في عداد المدن المنيعة التي يصعب اقتحامها، فليس ثمة موجب لذلك، ومدينة تتخللها تلال جبلية متعرجة ومتصلة، ستقف عقبة كأداء في طريق الهجوم.
إذا رابطت قوات العدو في موقع (على طريق زحفها) مكشوف من كل الأركان، لا تحيط به ممرات أنهار كبرى أو فروع جداول وقنوات، فهي هدف سهل للإغارة، خصوصا إذا كانت قد فقدت حماستها للقتال بعد أن تحطمت معنوياتها. إن مدينة تتكئ أسوارها الخلفية على حواف منخفض عميق من الأرض، وتخلو أجنابها من ستائر جبلية واقية، يمكن أن تكون هدفا للاختراق بكل سهولة، فلا بد عن مهاجمتها، فإذا كان موقع المدينة (المستهدفة بالهجوم) فوق أرض مجدبة، لا زرع فيها ولا نبات، فهي مدينة أنثوية [كذا، بتعبير المؤلف، حرفيا]، ومن الممكن مهاجمتها، وإذا ما كانت مياه الشرب المتوافرة لدى العدو بأرض جافة شحيحة المقدار، عزيزة المنال، فهي أرض يسهل اختراقها، وعندما تقع إحدى المدن وسط أرض مليئة بالمستنقعات، دون أن تحيط بها وديان عميقة أو أخاديد ممتدة أو تلال جبلية متصلة، فهي مدينة أنثى يسهل اقتحامها، وهو الأمر الذي ينطبق أيضا على أية مدينة يمكن أن تقع وسط جبال تكتنفها من كل جوانبها، لكنها تقبع مكانها دون أن تحيط بها أخاديد أو وديان أو تلال جبلية متصلة فوق بقاعها، تمدها بأسباب الأمن، فمثل تلك المدينة تصير سهلة الاختراق، ولا ينبغي أن تفوت فرصة مهاجمتها. كما أن مدينة تشرف واجهتها على جبل منيع، ويطل ظهرها [كذا] على واد جبلي عميق، (فتبدو) كأن سدا شامخا يقف قبالتها وجرفا مخيفا ينخفض عند ذيلها، يمكن أن تعد سهلة الاقتحام، فلا بد من مهاجمتها.
الفصل الثالث عشر
القواعد الخمس والمغانم التسعة1
[فراغ]، ثم تصل التعزيزات لكنها لا تلبث أن تلقى الهزيمة، كسابقتها؛ ولذلك استقرت القاعدة العسكرية التي تنص على عدم إرسال أي مساندة أو تعزيز لقوات تبعد مسافة تزيد عن خمسين «لي»، فما بالك بقوات تبعد [فراغ] مئات «لي» (ومن ثم، ف...) المسافة بين التشكيلات والنقاط التي تقصدها التعزيزات، هي المعيار الحاسم في تقرير منح المساندة من عدمها، وعلى هذا الأساس، قام المبدأ العسكري الذي ينص على الامتناع عن الدخول في حرب طويلة الأمد مع عدو يملك من مقادير الحبوب كميات ترجح بها كفة مخزونه من الغذاء، كما لا ينبغي الدخول في حرب (تلاحم مباشر) مع طرف يملك العدد الأوفر من المقاتلين، [فراغ]، ولا يجب أيضا خوض معارك مع عدو يتفوق في درجة الاستعداد والتدريب للقتال.
إن التقدير الجيد لهذه المبادئ الخمسة هو الذي يمكن القوات من الدخول إلى ساحة مائة معركة والانتصار في مائة حرب. ثم إن الاشتباك في معارك باستخدام القوات، يتطلب الاستيلاء على تسعة مغانم، وهي: (1) الاستيلاء على مخازن الحبوب. (2) الاستيلاء على مصادر المياه. (3) الاستيلاء على المعابر. (4) الاستيلاء على طرق المواصلات الرئيسية. (5) الاستيلاء على المواقع ذات الأهمية الجغرافية. (6) الاستيلاء على السهول. (7) [فراغ]. (8) [فراغ]. (9) المناطق ذات الأهمية القتالية بالنسبة للعدو. فتلك هي المغانم التسعة التي تمكن من قهر العدو وتحقيق النصر.
الفصل الرابع عشر
التمركز والانتشار1
[فراغ]، [(اعلم) أن تمركز القوات ...] أفضل من نشرها، وأن وافر القوة أفضل من هزيل الضعف، وأن المباغتة بالهجوم على العدو، أفضل من الإغارة المعتادة، وأن التحركات السريعة أفضل من التقدم البطيء، وأن كثرة الحشود أحسن من الاقتصاد في أعداد الجنود، وأن (استعادة اللياقة بواسطة ...) الراحة والاستجمام، أبقى من (تبديد الطاقة ب...) الإعياء والإنهاك. (وليكن الظرف هو الحاكم ...) فليكن التمركز هو المفروض إذا بدا أنه الأنسب، وإلا فلتنتشر القوات، إذا كان ذلك هو الأجدى، وكذلك فالظرف القائم هو الذي يحدد مدى ملاءمة زيادة الحشد، أو تقليص أعداد القوات، ويحدد أيضا سرعة المباغتة أو التمهل في الهجوم، مثلما يقرر كذلك سرعة التحرك أو بطء التقدم، وكثرة الحشد أو الاقتصاد في القوة، بالإضافة إلى مدى ملاءمة الراحة والاستجمام مقابل الكد واستفراغ كامل الطاقة والجهد.
على أن الظروف قد تفرض الانتقال إلى النقيض، (ومثلا)، قد يتحول التركيز إلى انتشار، والقوة إلى ضعف، وخطوط التحرك القصيرة إلى عبور طرق وممرات طويلة، والسرعة إلى بطء، وكثرة الحشود إلى ندرة في أعداد الجنود ، والراحة إلى إرهاق ومشقة زائدة. (واعلم أنه لا ينبغي ...) العمل على تمركز القوات في مواجهة عدو شديد الكثافة، ولا يجب أبدا اللجوء إلى نشر القوات في مواجهة انتشار آخر بالجهة المقابلة، ولا حشد بجيوش قوية، قبالة جيش بنفس الدرجة من القوة، ولا قوات ضعيفة قبالة مثيلتها، ولا سرعة تحرك مقابل ما يساويها، ولا بطء تقدم مقابل نظيره، ولا كثرة حشود أمام قوات كثيفة العدد، ولا ندرة جنود أمام مثيلتها. كما لا يصح أن تواجه قوات نالت قسطا من الراحة، ولا أن تجابه أعداء أخذوا نصيبهم من الاستجمام، ولا جيوشا أضناها القتال بأخرى فتك بها الإعياء وفرط المشقة.
إن تمركز القوات أو انتشارها مسألة نسبية، وكذلك قوة تسلحها أو ضعف مقدرتها وهجومها المباغت أو غاراتها الاعتيادية، وسرعة أو بطء تحركها، وكثرة أو ندرة حشودها وحيويتها أو سقوط همتها، كلها أمور نسبية. ولذلك فمن الممكن تشتيت قوات العدو ذات التشكيل المتمركز، ويمكن كذلك كسر قوة العدو وتحويل عنصر قوته إلى أحد عوامل ضعفه، كما يمكن إجباره على العودة إلى الطرق البعيدة، بعد أن اجتاز أشد الطرق اختصارا [كذا]، وإذ تزداد تحركاته سرعة، فيمكن إجباره على إبطاء اندفاعه، وعندما تكثر حشوده فيمكن تقليص عددها، وإذا كانت قد تمتعت بنصيب وافر من الاستجمام والراحة، فسيسهل تكبيدها صنوف المشقة والعناء [فراغ].
الفصل الخامس عشر
الثوابت والمتغيرات1
إن القاعدة التي تحكم كل الموجودات [حرفيا: «كل الأشياء التي تحت السماء»]، هي إن بلوغ تمام الحد نذير بالانقلاب إلى الضد، ولا بد لمنتهى النماء أن يصير إلى حضيض الفناء، فتلك هي القاعدة المعهودة (اقرأ: الضرورية، الحتمية) في تطور الأشياء. فالتبادل حتم بين كل ازدهار وانهيار، والتبادل متبادل بين فصول أربعة، وكل ما يؤثر في غيره من الأشياء ينقلب إلى متأثر ومنفعل بالغير تماما كما هي الحال، فيما يتطرق إلى العناصر الخمسة من تأثير متبادل بين بعضها بعضا [حرفيا: كما هي الحال بين المعادن، والخشب، والماء، والنار، والتراب] لكل الأشياء موت وحياة. لكل الموجودات نصيب من العجز والاقتدار، وفي كل حال من الأحوال وجوه من النفع وجوانب من المضار.
كل ما هو مادي ملموس، فهو قابل للمعرفة، وكل ما يمكن معرفته فهو خاضع للتطويع ورهن لمشيئة الاستخدام والتطبيق، ولذلك يستطيع الحكماء الراسخون في الحكمة والفهم، التحكم في كل الأشياء وإخضاعها تبعا لما يتبدى من خصائصها، وللعلماء في ذلك طرائق لا تنفد ووسائل إخضاع لا حدود لها.
والحرب تطبيق لكيفية الاستفادة من التأثير المتبادل في طبائع الأشياء. وكل مادي ملموس يقبل الإخضاع والتطويع، غير أن مدار الأمر كله على تدبر وسيلة الإخضاع؛ إذ ليس بالضرورة أن تكون الطريقة المستخدمة في تطويع الأشياء معلومة بادئ ذي بدء. كل الأشياء تتبادل التأثير في بعضها بعضا، وكلها يلحق به التغيير الذي هو طبع أزلي كطبيعة الأرض والسماء. وإذا أردنا أن نحصي الأمثلة والنماذج على ما يلحق الأشياء من تغيير جراء الاحتكاك والصراع بين بعضها بعضا، فلن تكفينا في ذلك كل الرقاع، وستنفد السجلات قبل تمام التدوين [حرفيا: لن تكفي لتدوين تلك الأمثلة كل أعواد البامبو النابتة في حدائق دولتي: تشو، ويوي (دولتان قديمتان في زمن الدول المتحاربة 475-221 ق.م.)]، كل الأشياء الملموسة تتبادل التأثير في بعضها بعضا بما هو مركوز في طبعها من خصائص، غير أنه من المستحيل أن نستخدم خصائص شيء واحد لإخضاع الأشياء كافة، ولئن كان التأثير المتبادل بين الأشياء صحيحا كقاعدة عامة، (فهناك - برغم ذلك - فروق دقيقة؛ لأنه ...) من اللازم تحديد الأشياء ونوع ما ينشأ بينها من تأثير؛ لأن الفروق قائمة. فمن ثم، يدرك الخبير في أمور الحرب ما يعتري (قوات) أعدائه من نقائص بمجرد أن يطلع على مزاياهم، ويمكنه أن يقدر نقاط ضعف أعدائه، أيضا، على ضوء ما يملكونه من مزايا، ويتنبأ بالنصر، كأنه يراه مرأى الشمس والقمر لعينيه، كما يستطيع أن يقهر عدوه ويحقق النصر، (بكل السهولة والثقة ...)، كأنه يطفئ جذوة متقدة بحفنة من الماء.
إن مواجهة حرب تقليدية بحرب مثلها يدخل ضمن نطاق ما هو ثابت ومقرر (في القواعد العسكرية)، أما مواجهة حرب تقليدية بأساليب قتال غير مفهومة وغير مستقرة، فذلك هو التقلب والتبدل.
إن التغيرات (الناجمة عن التقاء) القاعدة المستقرة بالتبدلات، كثيرة لا يحدها حصر، وكلها (تبرز بوضوح) وتستبين في (نظام) توزيع ونشر القوات. ويمكن توزيع المهام (الثابت منها والمتغير) على الوحدات حسب نسق ترتيبها، بحيث تشتبك مع قوات العدو مسترشدة بنموذج الصراع المتبادل بين العناصر الخمسة.
ويجب، عند الاشتباك مع العدو، أن يجري استخدام [فراغ]، وبعد نشر القوات وتوزيعها، يجري تنظيمها في تشكيلات، وإذ تنتظم في تشكيلات فستكون عرضة للاستطلاع [حرفيا: لعيون مستطلعة]، وعندما تكون مكشوفة لعين الرائي، فسيسهل - عندئذ - ضربها، [فراغ]، [أوردت إحدى النسخ المترجم عنها مكان الفراغ السابق عبارة، مفادها: ...] فمن ثم، لزم أن يؤخذ في الحسبان المداومة على تغيير أساليب القتال [اتباع أساليب مغايرة «متغيرات»]؛ لأنه إذا تماثلت تلك الأساليب في كل مرة، فسيتعذر إحراز النصر. وهكذا، ففي حين تعطي القوات الانطباع بأنها (كقاعدة ثابتة) هادئة، ساكنة، إلا أنها ستلجأ إلى الحركة المفاجئة (كأسلوب مغاير)، وإذ تعطي الانطباع بأنها في غاية الإعياء، فستكون قد نالت أعظم قسط من الراحة، وعندما تبدي (المظهر المتغير لأعراض تفشي الجوع بين الأفراد) فستكون - في الثابت من أحوالها - قد أخذت كفايتها من الطعام، وبينما تبدو على مظاهرها أعراض الفوضى، ستكون في جوهر حالها الثابت، شديدة الانضباط، بل ستنطلق من قاعدة الحشد الوافر للجند لكي تعطي مظهرا متغيرا لندرة أعداد المقاتلين، وسيفاجأ العدو باكتشاف تلك الثوابت في أحوال القوات، وإذ يؤخذ على حين غرة، فسيقع فريسة للارتباك، ويصبح التغلب عليه منالا سائغا. وكلما تنوعت أساليب القتال المتغيرة [... في نسخة أخرى: المفاجئة]، تعززت فرص النصر وزادت احتمالات الغلبة. (واعلم أنه كما ...) تتداعى مفاصل أطراف الجسد جميعا، لما أصاب جزءا واحدا منها، بطبيعة ما يؤلف بينها من نسيج وروابط جسد واحد، (فكذلك الأمر في التشكيلات المقاتلة، إذ ...) إن ما تقع فيه طليعة القوات من هزائم، يؤثر في الساقة؛ لأن الجيش كله كيان واحد (وبناء على ذلك، ف...) لا ينبغي أن تتعرض التشكيلات الكبرى للاختراق والانشطار، ولا الوحدات الصغرى للتفكك والانهيار ، ولتحذر الوحدات الخلفية أن تتقدم على، أو تتجاوز الوحدات المتقدمة، كما يجب أن تمتنع الوحدات عن التراجع إلى ما بعد الوحدات الخلفية؛ وذلك لأنه من المهم أن تبقى الطرق الأمامية مفتوحة قبالة الوحدات المتقدمة، وأن يظل وراء الوحدات الخلفية طرق تسمح لها بالانسحاب إلى الخلف.
وبالنسبة لما يلقى على الجنود من أوامر، فسوف يسارعون إلى تنفيذها ما دامت في حدود استطاعتهم، بغض النظر عن حوافز المكافأة أو جزاءات العقاب، لكنهم لن يتورعوا عن أن يصموا آذانهم دون الأوامر إذا كانت تطالبهم بما يتجاوز مقدرتهم حتى لو كانت المكافأة ثمينة (من جانب ...) أو كان العقاب مفزعا (... من جانب آخر).
إن دفع الجنود لمواجهة حتفهم تحت مخاطر غير محسوبة، لن يلقى استجابة [ورد تفسير آخر للعبارة نفسها، في نسخة أخرى ، ومفادها «إذا أمر الجنود بالتقدم والاشتباك تحت ظروف غير مواتية للقتال، دون السماح بالتراجع، فلن تكون هناك استجابة حتى لو كانوا في شجاعة القائد المغوار ...»] حتى لو كانوا في جرأة وشجاعة المقاتل المغوار «منغ بن» (أشهر الشجعان في الأساطير الصينية). إن توجيه أوامر مستحيلة التنفيذ إلى جنود عاديين [كذا] يكاد يشبه مطالبة تيار النهر بالجريان في عكس اتجاهه، فمن ثم، كان من الواجب، في المعارك، أن تدار الأمور على أساس تحقيق أقصى استفادة في ظل الأوضاع القائمة، (وبهذا المعنى، يمكن ...) تعزيز القوات التي حققت الانتصار، بينما يتم تغيير الوحدات التي لاقت الهزيمة، وتمنح القوات التي أصابها الإعياء نصيبا من الراحة، وتجري زيادة تعيينات المياه والمؤن الغذائية للقوات التي أنهكها الجوع والعطش، فبهذا تتسابق القوات إلى المعارك وتقتحم الأهوال وهي تدوس في طريقها مكامن الخطر [حرفيا: وهي تطأ بأقدامها نصال الرماح القواطع]، كأنها تيار نهر دافق، سريع الجريان باتجاه المصب، يطيح بالأحجار المعترضة مجراه، ويتقاذف السفن الراسيات، فإذا أمكن (للقائد) الفوز بقلوب ومشاعر الجنود، فسيجدهم طائعين منضبطين مسارعين إلى تنفيذ الأوامر (كأنهم تيار نهر جارف، يكتسح في طريقه كل العقبات).
القاهرة في أول فبراير 2010م
Unknown page