الوجود المادي الآن في شدة هذا الدور؛ تشعع مستمر تذوب به الشموس والأجرام ذوبانا، وعلى التمادي تفنى هذه الأجرام وتذهب فوتونات في الفضاء، في بحر الإيثر أو الفوتونات؛ فهي من الإيثر وإلى الإيثر تعود، وأخيرا يصبح الحيز الكوني أوقيانوس إيثر كما كان في الأصل. ثم ماذا؟
يعود الوجود المادي يكرر سيرته: يعود إلى التجمع فالتشعع الذي تذوب فيه الأجرام كما تقدم شرحه، وهكذا دواليك من دور إلى دور، فكم مرة مثل هذا الدور؟
هذه العملية - عملية النشوء من الإيثر، ثم إلى الفناء في بحر الإيثر - استغرقت بلايين لا تحصى من الدهور، ولا يعلم كم تكررت منذ الأزل وكم ستكرر إلى الأبد.
وهنا نسأل: متى ابتدأ الأزل ومتى ينتهي الأبد؟
ماذا كان قبل الأزل؟ وماذا يكون بعد الأبد؟ هل للأزل قبل وللأبد بعد؟
لا قبل ولا بعد، ولا بداية ولا نهاية، هو السرمد الذي لا أول له ولا آخر، هذه هي اللانهاية الثالثة. في الفصل القادم تفصيل علمي لهذا. (4) العقل في اللانهايات
هنا ينبري الفيلسوف المتبحر في فلسفة ما وراء الطبيعة فيسأل: هل يستطيع العقل البشري أن يتصور النهاية تارة واللانهاية تارة أخرى؟ وكذلك البداية واللابداية؟ أو بالأحرى المحدودية واللامحدودية؟
إذا شاء العقل أن يتصور لهذا الفضاء العظيم شكلا كرويا أو أي شكل هندسي آخر، كان كأنه يجعل له حدا لكرويته أو شكله ويفرض له قياسا مقررا؛ فإذا تصور له هذا الشكل بدر له في الحال أن يتخطى ذلك الحد إلى ما وراءه، لا يستطيع أن يقتصر على تصور حد من غير أن يتمادى إلى ما وراء ذلك الحد، وإلى ما وراء ورائه؛ لأنه لا يستطيع أن يتصور في خياله حدا للفضاء ما لم يبدر له أن لذلك الحد وراء؛ فيتخطاه إلى ذلك الوراء.
إذن لا يستطيع العقل أن يتصور النهاية، ولا أن يتصور اللانهاية، وكذلك الأمر في البداية واللابداية؛ لا يستطيع أن يرسم في خياله صورا لأحد الوجهين، وإذا حاول ذلك خبلته الحيرة.
أليس غريبا أن هذا العقل الذي اكتشف إلى الآن معظم أسرار الكون يعجز عن أن يفهم سر النهاية أو اللانهاية، أو أن يفصل بينهما، أو أن يوفق بينهما؟
Unknown page