وتصلح ظاهرة وهن الإيمان الديني هذه لإدراك السبب في عدم فائدة معارضة المعتقدات السياسية - التي بلغت من الشدة ما تؤلف معه دينا - بالمعتقدات القديمة، فالمعتقدات الماضية لا يعود شبابها إليها.
والآن توجد أوربة الحديثة في دور من أدوار التاريخ الحرجة المشابهة لأوائل النصرانية حين أخذت الوثنية وهذا المعتقد الجديد في الاصطراع.
وإذا كان العقل غير مؤثر في المعتقدات الشعبية فهل كان يمكنه أن يؤثر في أناس بلغوا من الثقافة ما يستطيعون معه أن يحللوا إيمانهم؟
نجد الجواب عن هذ السؤال في الأمر القائل بتقبل كثير من أفاضل العلماء قصصا دينية على أنها من الحقائق التي لا يجادل فيها، مع أنه لا يستطيع عقل أن يدافع عنها.
وبين هؤلاء العلماء الذين حنت معتقدات زمنهم ظهورهم لا يمكن أن يذكر غير بسكال الذي حاول أن يجادل في الإيمان بعقله، فخرج الإيمان ظافرا من هذا الصراع، وذلك أن هذا المفكر الشهير وطن نفسه أخيرا على عد الأقاصيص الدينية التي كان يجب أن يوهنها الزمن من الحقائق، ولكن مع كونها تمثل في عصره حقائق خالدة.
وهل يستطيع معتقد ديني أوهنه الزمن أن يتحول إلى معتقد عقلي؟ لا يأتي التاريخ بغير مثال على مثل هذا التحول، وهذا هو الذي أتمته البروتستانية عندما اتخذت الطور العقلي كما يسمى، فقد رفض في تطور النصرانية الأخير هذا مبدأ وجود إله يدع ابنه يهلك في الآلام تكفيرا عن خطايا مخلوقاته، وقد أضاع يسوع أصله الإلهي وعاد لا يعد غير معلم بشر بحقائق نافعة. والنصرانية بعد أن تحولت على هذا الوجه عادت لا تكون دينا في الحقيقة، وصارت لا تلائم الرغائب الوجدية في النفوس التي تقلقها الحاجة إلى الإيمان بعالم قادم أكثر صلاحا.
وما كان أشد الاضطهادات ليزلزل المعتقدات، وما كانت الاضطهادات لتؤدي إلى غير تقويتها، وقد أتيت بأمثلة بارزة على أوائل الإصلاح الديني.
ولو دعي الشيوعيون في بقعة ما من بقاع العالم إلى مكابدة العذاب الذي فرضه نيرون على النصارى لاتسع نطاق الإيمان الشيوعي بأسرع مما يتفق له اليوم لا ريب. •••
وفي الجمل الآتية يمكن أن تلخص المبادئ النفسية التي تسيطر على نشوء المعتقدات، سواء أدينية كانت أم سياسية أم اجتماعية: (1) إن الحاجة إلى معتقد لتوجيه الأفكار والسير هو من التجبر والقوة، كالجوع والحب. (2) إن الإنسان وإن كان يغير اسم آلهته أحيانا، يستمر على السيطرة عليه ما سيطر عليه دائما من العوامل الوجدية. (3) يميل الإنسان العصري إلى استبداله بالألوهيات الشخصية السابقة عقائد وصيغا عزي إليها ما لهذه الألوهيات من قدرة سحرية، وما تنطوي عليه هذه العقائد الجديدة من صحة ليس أعظم مما تنطوي عليه المعتقدات القديمة على العموم. (4) لا تقوم المعتقدات الدينية والمعتقدات السياسية ذات الشكل الديني على العقل، ولا يمكن أن تزول بالعقل. (5) تقوم المعتقدات بالتلقين المشتق من النفوذ والتوكيد والتكرار، وتعد العدوى النفسية أهم وسيلة لانتشارها.
ويمكن أن يقال كنتيجة إن نفوذ الأشباح الإلهية التي عمرت السماء، وإن نفوذ الأوهام التي تميل اليوم إلى القيام مقامها، مما يدل على كون غير الحقيقي يمثل في التاريخ دورا له من الأهمية ما للحقيقي، فبتأثير غير الحقيقي ظهرت حضارات عظيمة من العدم وآلت أخرى إلى العدم، فغير الحقيقي أنعم على الإنسان بوهم في السعادة الأبدية التي لا تمنحه الطبيعة القاسية إياها، ولولا قدرته لظلت البشرية غائصة في وحشية خالدة.
Unknown page