وتلوح الفروق العقلية التي تفصل الإنسان عن الحيوان واسعة عند مقابلتنا بين المتمدن والحيوانات التي بقيت ضمن دوائر التطور الأدنى، وتزول الفروق أو تخف على الأقل إذا لم يقابل بين الحيوانات والإنسان الحاضر، بل بينها وبين أجداده الذين عاشوا في الكهوف قرونا طويلة، وذلك في وسط ذوات الثدي التي كانوا لا يمتازون منها إلا قليلا.
ويلوح أن المجتمعات الابتدائية التي تألفت من أجدادنا الفطريين لم تكن حائزة لبنية أرقى كثيرا من البنية التي أظهرتها المباحث الحديثة في مختلف مجتمعات الحيوان.
والعلم، بعد أن أهمل دراستها زمنا طويلا، انتهى إلى اكتشافه فيها بنيات محكمة جدا وسننا خلقية وثيقة إلى الغاية، وبعض القابليات التي تنم على أوجه من الذكاء كان الإنسان يجهلها فيدعوها بالغريزة عن عدم إيضاح للأمر، ولا يبدو كثير من مجتمعات الحيوان أدنى من بعض العشائر الابتدائية، كعشائر إفريقية الوسطى مثلا.
وكانت الهوة التي افترضت بين مجتمعات الإنسان ومجتمعات الحيوان تنشأ، إذن، عن نقص الملاحظة فقط. •••
كانت المبادئ القديمة عن خلق العالم وطبيعة الإنسان تشتق من المعتقد العام لدى جميع الأمم وفي جميع أدوار تاريخها، القائل إن الأرض والبشرية كانتا تسيران من قبل موجودات علوية مسيطرة على الكون.
وفي أيامنا انتهى الفكر الديني والفكر العلمي إلى اتباع اتجاهين مختلفين اختلافا بينا، ففي المبادئ التقليدية يوجه العالم دائما آلهة مهيمنون مجيرون، وفي المبادئ العلمية استبدل بهؤلاء الآلهة الشخصيين قوى غير شخصية يمكن تذليلها.
وكثير من المشاهدات يثبت أن التقلب والتحول كانا شرطين ضروريين لجميع عناصر الكون، بدءا من الصخرة التي كان يلوح تحديها لسير الأزمان حتى النجوم الساطعة التي تتلألأ ليلا، فالطبيعة لا تعرف السكون، وما كان الموت نفسه ليضع حدا لما يعانيه جميع الموجودات من تحولات مستمرة تعد شروطا أساسية لتطورها، وكان الموت إذا ما نظر إليه علميا، أي إذا ما قطع النظر عن المعتقدات الدينية، يلوح فيما مضى فناء نهائيا، ويصبح الموت شكلا جديدا للحياة إذا ما نظر إلى النظريات الجديدة التي تعد الشخصية مجموعة من الذاتيات الموروثة عن الأجداد. •••
والكون - كما يتمثله العلم في الوقت الحاضر - يلوح مؤلفا من سلسلة ضرورات تعين تطور الموجودات والحوادث.
وشأن الوجوب كعنصر مبدع يبدو في جميع حوادث الطبيعة.
ومع ذلك فإن هذا المبدأ الحديث لا يطابق مبدأ القدر القديم مطلقا، وإنما يعني أن كل حادثة معينة ببعض العلل تعيينا وثيقا فقط.
Unknown page