وسواء أكانت هذه السلطة سلطة الآلهة أم سلطة العادات أم سلطة الملوك تنعم وحدها على الأمة بالتحام لا تستطيع أن تدوم بغيره.
وبما أن الناس يحتاجون احتياجا عاما إلى الشعور بأنهم مقودون عند عدم اتباعهم عددا قليلا جدا من الأفراد قادرا على توجيه نفسه بنفسه، فإن من الثابت أن النظم السياسية لا تزول بزيادة الاستبداد، بل بضعفها. وكان لويس الرابع عشر سيدا لأنه عرف أن يسيطر على طبقة الأشراف والإكليروس والبرلمان، وعاد لويس الخامس عشر ولويس السادس عشر على الخصوص، لا يكونان سيدين لأنهما تركا السلطات المتنافسة تسيطر عليهما بالتعاقب، مع أن سلفهما عرفوا أن يزجروها.
وعمل مبدأ السلطة الأساسي هذا ينشأ عن كونه وحده هو الذي ينطوي على القدرة الضرورية لإيجاد وحدة الفكر والفعل، التي تحول نقعا من الناس إلى جماعة متجانسة؛ ولذا يمكن عد مبدأ السلطة في السياسة والدين والأخلاق من القواعد الأساسية لحياة الأمة.
وكان من أكثر العوامل التي يتوارى بها مبدأ السلطة تأليف أحزاب مختلفة ذات منافع متباينة ضمن المجتمع، ومتى شعرت هذه الأحزاب المتنافسة بأنها بلغت من القوة ما تدخل معه الصراع ضعف مبدأ السلطة وبدأ دور الأفول، وهكذا هلكت اليونان في الزمن القديم عندما أضاعت استقلالها بعد ازدهار لا يزال يبهرنا، وهكذا هلكت الجمهورية الرومانية عندما حملت، بعد سلسلة من المنازعات التي لا تعرف الرحمة، على معاناة دكتاتورية الأباطرة المهيمنة.
وهكذا هلكت في القرون الوسطى جمهوريات إيطالية، ولا سيما فلورنسة، نتيجة مخاصمات داخلية. فبما أن الخصومات بين النقابات المتنافسة كانت يومية في هذه المدينة الأخيرة فإن حياتها أصبحت مثل الجحيم، فكان من عوامل السلوان الشامل قبض آل مديسيس على السلطة وقضاؤهم على الجمهورية.
وهكذا هلكت بولونية بعد حين عندما قسمت بين جيرانها نتيجة انقسامات ومنازعات داخلية مستمرة. •••
وإذا أمكن أن يكون انحطاط الحضارة سريعا جدا فإنه يقع بطيئا جدا في بعض الأحيان، شأن الإمبراطورية الرومانية تماما، ولا مراء في أن دكتاتورية الأباطرة وضعت حدا للمنازعات المدنية، ولكنها لم تصنع غير عوق الانحطاط، وقد أصبح هذا الانحطاط تاما عندما جهل أمر السلطة، فانتحلت الكتائب حق انتخاب الأباطرة وعزلهم بعد أن كان خاصا بالسنات.
ويلوح أن أوربة الحديثة محكوم عليها بقطع أدوار مماثلة، وتجاوز أوربة دورا من أعقد أدوار التاريخ على الرغم من وجوهها الساطعة المدينة بها لتقدم العلم، وتغرق أوربة في فوضى عميقة، فيزيد فيها كل يوم حقد بين الأمم وحقد بين طبقات الأمة الواحدة.
وبلغت الفوضى مقدارا اضطر معه كثير من الدول كإيطالية وإسبانية واليونان، إلخ، إلى معاناة دكتاتوريات ثقيلة، وليس وضع بلاد أوربة الأخرى أحسن من ذلك. وتحاول دويلات شبه جزيرة البلقان استئناف منازعاتها المتأصلة، وتخرب روسية تماما بتطبيق أحلام المتعصبين الذين يودون فرض دينهم الجديد.
ولا تزال فرنسة وإنكلترة وألمانية تقاوم الفوضى بفضل بنيانها القديم، ولكنها تقضم مقدارا فمقدارا بفعل أوهام الاشتراكية التي يعظم نفوذها يوما بعد يوم. وتقوم قوة أمريكة البالغة على قليل من المبادئ الصائبة التي يوجه بها سير أناس فوض إليهم توجيه مصيرها.
Unknown page