وبعد بترارك قام في كلية بادو جان دي جاندون، وكان من أعظم أنصار فلسفة ابن رشد حتى دعي «سلطان الفلسفة وأمير الفلاسفة». ثم قام بعده بولس البندقي وكان من السالكين سبيله. وهكذا لم ينتصف القرن الخامس عشر حتى صار ابن رشد صاحب السلطان المطلق في كلية بادو والمعلم الأكبر الذي لا يعارض. ولو شئنا ذكر جميع الأساتذة والعلماء الذين شرحوا فلسفة فيلسوفنا في كليتي بادو وبولونيا في خلال القرن الخامس عشر، لكتبنا بذلك صفحات كثيرة يضيق دونها هذا الكتاب. وقد كان المعارضون لهذه الفلسفة في هذا الزمن ضعفاء الأصوات؛ لأنها كانت في أوج العظمة والسلطان.
ولكن هذه العظمة لم تدم وقتا طويلا. فإن إيطاليا في آخر القرن الخامس عشر اهتمت اهتماما شديدا بمسألة خلود النفس. فقام يومئذ بومبونا المشهور، وأحدث خرقا في تعلم ابن رشد. ذلك أن أنصار الفلسفة الرشدية كانوا يقولون: إن النفس بعد الموت تعود إلى الله وتفنى فيه أي تفقد شخصيتها. أما بومبونا الذي تقدم ذكره؛ فإنه أثبت من كتب اسكندر وفرويزياس الفيلسوف اليوناني - الذي شرح أرسطو قبل ابن رشد والذي كان ابن رشد يعتمد أحيانا عليه - أن الإنسان يفنى بعد الموت، وأنه لا خلود غير الخلود الإنساني النوعي الذي على الأرض. فانقسم يومئذ المشتغلون بالمبادئ قسمين؛ قسم يعتمد على ابن رشد في إثبات الشخصية للإنسان، وقسم يعتمد على اسكندر دفروديزياس. وعهد البابا لاون العاشر إلى العالم نيفوس بالرد على بومبونا. وكان نيقوس من أنصار مذهب ابن رشد. وفي ذلك منتهى العجب؛ لأن مبادئ ابن رشد صارت يومئذ بمثابة النصيرة للكنيسة على العدو الجديد الذي كان ينكر جميع أصول الدين بعد أن كانت عدوة للكنيسة. وهكذا تكون المبادئ في كل زمان ومكان؛ فإنها تختلف باختلاف العقول التي تتصرف بها والأحوال التي تنشأ فيها.
وكان الناس يومئذ يميلون كل الميل إلى هذه المباحثات. فكانوا يحرضون نيفوس للرد على بومبونا ويطعنون في بومبونا، مع أنهم يؤيدونه في السر ويحثونه على الرد على خصمه. وكان لبومبونا خصم آخر وهو أشيليني أحد زعماء مذهب ابن رشد. ومن المشهور - في كلية بادو حتى اليوم - أن أعظم ما حدث فيها هو الجدال الشديد بين بومبونا وأشيليني. وكان أشيليني يتغلب على خصمه في الظاهر إلا أن الجمهور كان يهرع إلى سماع دروس بومبونا ويفضلها على دروسه. ولعل ذلك كان من قبيل الرغبة في سماع الجديد الغير مألوف. وكان بومبونا يقول: إن فلسفة ابن رشد خالية من الأهمية ولا معنى لها، وهو يشك في أن مؤلفها كان يفهمها.
وكان حزب بومبونا يدعى (حزب الإسكندريين) وحزب الفلسفة العربية يدعى (حزب الرشديين) ولم يأت أول القرن السادس عشر حتى صارت تلك المبادئ مبادئ إيطاليا كلها. فرغبة في إيقاف إيطاليا عن نزول هذا الأحدور إلى النهاية انعقد مجمع لاتران وقرر حرم كل من يقول بأن النفس غير خالدة، وبأنها واحدة في جميع الناس، ومحاكمة كل الذين ينشرون هذه المبادئ. وكان ذلك في عام 1512. وقد روى المؤرخون أن بعض الحاضرين في المجمع أنفسهم قد تكلم مدافعا عن تلك المبادئ.
الفلسفة اليونانية
(وحلولها محل الفلسفة العربية)
وقد اتخذت كلية بادو في مدة القرن السادس عشر مبادئ نيفوس الرشدية شعارا لها؛ لأنه كان يمكن تطبيقها على الدين. وأصبحت الكنيسة منذ ذلك العهد تستحسن فلسفة أرسطو أشد استحسان حتى أن الكردينال بالافيسيني كان يقول: إنه لو لم يقم أرسطو في العالم لفقدت الكنيسة بعض براهينها. وكانوا يومئذ مجمعين على أن ابن رشد أفضل شراح أرسطو . ولذلك بلغت مبادئ ابن رشد في ذلك الزمن منتهى النفوذ والانتشار، واضطروا إلى مراجعة كتبه وإعادة ترجمتها وطبعها إجابة للذين كانوا يطلبونها من كل صوب.
فأين كانت يومئذ عينا فيلسوف قرطبة ليرى ما صار له في ذلك الزمان من السلطان على تلامذته الأوروبيين؟ أين كان حساده الذين كفروه ليروا كيف كان رجال الدين يجارون في أوروبا تيار الفلسفة، ولا يقفون في وجهه لئلا يجرفهم؟ هل كانوا ينظرون ذلك من أعالي السماء في ذلك الزمان؟ وإذا كان الخليفة يعقوب المنصور ينظر وهو في جملتهم فماذا عساه يقول بعد أن يرى بعينيه التبعة الهائلة التي وقعت عليه بمجاراته الحساد والوشاة في خنق العلم والفلسفة في أرض الأندلس. ألا يشعر حينئذ بزيادة ثقل تاج الخلافة على رأسه إذا كان بقى له هذا التاج هناك؟ ألا يقطع الفضاء السماوي شرقا وغربا وشمالا وجنوبا للتفتيش عن روح أبي الوليد لطلب الصفح والعفو منها. لا ريب أن أبا الوليد قد انتصر في أوروبا بعد موته انتصارا لائقا بحكيم قرطبة وأعظم فلاسفة الإسلام.
ولكن كل شيء يفنى ويتغير في هذه الحياة ولا يدوم إلا وجه الله ذي الجلال. فإن سلطانا فلسفيا كهذا السلطان لا يمكن أن يدوم وقتا طويلا، وهكذا جرى لابن رشد. ولبيان ذلك نقول: كان الأساتذة في أوروبا يدرسون فلسفة أرسطو من قبل بموجب تلاخيص ابن رشد وابن سينا. فلما قدم العهد بهذه التلاخيص صار الأساتذة يضعون شروحا عليها من عندهم ويتلونها على الطلبة. فصارت فلسفة أرسطو تصل إلى الطلبة بعد مرورها في التلاخيص الرشدية والتلاخيص اللاتينية. فكانت تخسر شيئا كثيرا من صفتها الأرسطوطاليسية. ولذلك كان لا بد من الرجوع إلى النص اليوناني الحقيقي عاجلا أو آجلا.
ومن جهة أخرى؛ فقد تقدم أن أنصار الفلسفة في أوروبا انشقوا حزبين. فحزب مع ابن رشد العربي. وحزب مع اسكندر اليوناني. وذلك مما أوجب - أيضا - الرجوع إلى النصوص اليونانية.
Unknown page