Describtive not Demonstrative
واستفاد البحث من هذا القرار ولا يزال يستفيد.
فرأي الغزالي في السببية ليس من شأنه أن يعطل العقل عن البحث كما فهم بعض الجاهلين بقدره وأقدارهم، ولكنه الرأي الذي يفتح الأبواب المغلقة بحكم المألوف المسيطر على العقول فتنفذ منها إلى ظواهر أصدق من ظواهر، ومقارنات ألزم من مقارنات، وأصول - في المبادئ - أثبت من أصول.
وينبغي أن نفرق هنا بين السببية في رأي الغزالي، والسببية في رأي غيره من القاصرين عن البحث وعن إدراك الممكنات من وراء حجب العادة والتقاليد.
فقبل الغزالي قال أناس: إن الله جل وعلا هو مسبب الأسباب ووقفوا بهذا القول عند حدود التسليم والإيمان، فلا بحث هنا ولا تفرقة بين الظواهر والخفايا ولا بين الأصول والفروع.
وغير هذا رأي الغزالي التفرقة بين القول بالسبب والمسبب والقول بالظواهر المقترنة التي تحصل إحداها بفعل أخرى، فإنه رأي الباحث الذي وصل ببحثه إلى ما وراء أمد الباحثين، ولم يقف في أول الطريق مساويا بين الفهم والتسليم بل جعل للتسليم سندا من الفهم يصحح أخطاء الباحثين.
وما منع الغزالي قط أن نراقب الظواهر ونحصيها ونبني عليها علمنا بترتيبها واشتراكها (فاستمرار العادة بها - مرة بعد مرة أخرى - يرسخ في أذهاننا جريانها على وفق العادة الماضية ترسيخا لا ينفك عنه). إلا أنه يقول: إننا لم ندع وجوب هذه الأمور بل هي ممكنة يجوز أن تقع ويجوز ألا تقع ... وأن الله تعالى خلق لنا علما بما لم يقع منها وبما هو محتمل الوقوع.
وهذا العلم بجواز أسباب غير الأسباب الظاهرة لا يعطل البحث ولا ينقض المعرفة، بل هو الذي يفتح الباب للتعليل بعناصر النوى والكهارب بعد التعليل بعناصر النار والهواء والماء والتراب. •••
أيسر من هذه المعضلات جدا معضلة البعث بالأنفس المجردة أو البعث بالأنفس والأجسام، فإن الغزالي لا ينكر قول بعض الفلاسفة باستحالة البعث بالأجسام ، لاعتقاده أن البعث بالأنفس لا يجوز في العقول، ولكنه ينكر منهم الحكم باستحالته تعجيزا لله سبحانه وتعالى عن فعله، واقتدارا منه على تجريد الحقائق من المألوفات حيث يقصرون عنه، فإن الشخصية الإنسانية، تثبت لصاحبها في الأربعين وقلما تبقى له بقية في جسمه في الخامسة أو العاشرة، فإذا جاز بقاء هذه الشخصية بعد انحلال جسدها مرات فليس بالمستحيل على الله أن يعيدها بعد الممات.
وآية الغزالي هنا كآيته في معضلة الأسباب، لقد كان الفلاسفة القدم يخبطون في التفرقة بين الجوهر البسيط والجسم المركب خبطا لا يستندون فيه إلى غير الظنون، وفرقوا من أجل ذلك بين بساطة النور التي لا تقبل الانحلال وبين تركيب الأجسام المادية التي تنحل ولا تقبل البقاء، فماذا بقي اليوم من هذه الفوارق بعد العلم بأن الأجسام جميعا من ذرات وأن الذرات جميعا من شعاع وتصير إلى شعاع؟! وما أصدق ذلك النظر الذي سبق العلم قبل ألف سنة فأبطل هذه التفرقة بين المركب والبسيط، وبين ما ينحل ولا يقبل البقاء وما يبقى ولا يقبل الانحلال!
Unknown page