Falsafat Cilm
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Genres
والسؤال الآن: لماذا تتناقض التفسيرات؟ أو لماذا تعجز العلوم الإنسانية عن خوض المرحلة التفسيرية باقتدار ونجاح؟ لعل الإجابة على هذا هي نفسها تحديد حيثيات مشكلة العلوم الإنسانية أو أسباب تخلفها النسبي.
وقد قيل الكثير في هذا الأمر الذي أصبح مألوفا بقدر ما هو عجيب؛ لأن مسائل العلوم الإنسانية كانت منذ الأزمنة البعيدة موضع الاهتمام الأكبر وتستقطب أعاظم العقول، فكان تناولها أكثر نضجا من تناول مسائل العلوم الطبيعية، وأبسط مقارنة بين دساتير أرسطو وبين فيزيائه أو بين تناول أفلاطون وفلاسفة الإسلام لمسائل الأخلاق والمجتمع والسياسة وبين تناولهم لمسائل الكواكب والمعادن تبين هذا. ولعل الفروق النوعية للظواهر الإنسانية وما تختص به من مثاليات غائية وإسقاطات حميمة هي التي جعلتها موضع الاهتمام الأكبر في الأزمنة القديمة، وهي نفسها التي جعلتها عصية إلى حد ما على مثاليات العلم الحديث، ومتعثرة في محاولات التفسير العلمي. تدور كثير من محاولات تحديد أسباب التخلف النسبي حول خصائص تتميز بها الظاهرة الإنسانية دونا عن الطبيعية، هذا من قبيل صعوبة التكميم واستخدام ألفاظ كيفية، وبالتالي صعوبة صياغة قوانين دقيقة، وأن الباحث جزء لا يتجزأ من الظاهرة التي يبحثها؛ فلا بد وأن يشعر تجاهها بميول وأهواء معينة تفرضها البيئة الثقافية والحضارية التي ينتمي إليها. نفس الظاهرة (تعدد الزوجات مثلا) تبحث في بيئة على أنها عرف محمود وفي بيئة أخرى كعرف مذموم، وفي بيئة ثالثة كجريمة يعاقب عليها القانون، فيؤدي هذا إلى إضفاء الأحكام الخلقية والإسقاطات التقييمية على موضوع البحث. ثمة قيم الباحث التي تؤثر على أحكامه، بل ومجرد رصده للوقائع وثمة القيم الموجهة لموضوع البحث ذاته، لن يتعامل الباحث مع العينة في حالة دراسته لظاهرة الدعارة نفس تعامله مع العينة حين دراسة الإبداع العلمي مثلا ...
هناك أيضا تعقد الظواهر الإنسانية وتعدد أبعادها بخلاف الظواهر الطبيعية، فثمة جانب جواني للحياة النفسية وآخر براني وهما غير متطابقين دائما، فضلا عن عامل الحرية الإنسانية الذي يمكن أن يمس من فكرة القانون العلمي ذاته ويجعله خاضعا للأهداف والأغراض البعيدة. ولعل أشهر الصعوبات هو ما يسمى بتفرد
uniqueness
الظاهرة الإنسانية، حتى إن محاولة التجريد والتعميم وإسقاط خصوصية الظاهرة قد ينطوي على تشويه لطبيعتها. ويتصل بهذا التغير السهل السريع للظواهر الإنسانية الذي يجعل الاطراد في مجالها أقل ظهورا، وصعوبة تكرارها
27 ... وكل هذا يجعل صياغتها في قانون تحتاج لعدد كبير من المتغيرات يبعد بها عن أن تكون دالة بسيطة كقوانين الطبيعة.
ويمكن أن نضيف إلى هذا معوقات البحوث الإنسانية لا سيما في البلاد المتخلفة، من قبيل ضعف التمويل نتيجة التشكيك في جدواها وحصائلها التطبيقية مقارنة بالعلوم الطبيعية، والانبهار بالآلة عنوان التقدم لحد اعتبار الدراسات الإنسانية ترفا يمكن بل يجب تأجيله! وانعدام التخطيط والتساوق بين هيئات البحث، وثمة نظام التعليم وإعداد كوادر الباحثين الذي يركز على باحثي العلوم الطبيعية ويخصهم بالقروض والمنح والبعثات والمراكز، دونا عن باحثي العلوم الإنسانية، فتستأثر الأولى بالطلبة النابهين؛ على أن تلك المعوقات تخرج عن مجال فلسفة العلم وتندرج تحت سوسيولوجية العلم أو عوامله الاجتماعية.
وبالعود إلى فلسفة العلم نجدها عن طريق الاختزال المنطقي تستطيع رد كل حيثيات أو أسباب مشكلة العلوم الإنسانية إلى عاملين أساسيين، هما: أولا: نوعية الظاهرة الإنسانية، وثانيا: طبيعة العلاقة بين الباحث وموضوع بحثه حين دراستها. وتفاعل هذين العاملين معا ينجم عنه افتقاد البحث العلمي للحدود المحكمة، أي افتقار العلوم الإنسانية إلى التقنين المنطقي الدقيق مما يجعل حدودها مستباحة، ومن هنا تأتي عوامل تعثر المرحلة التفسيرية.
إن المحتوى المعرفي للعلوم الطبيعية ينصب على ظواهر محايدة لخلوها من الوعي والإرادة، فيمكن للإطار الثقافي والسياق الحضاري أن يرفع يده تماما، وحين رفض هذا - كما حدث حين فرضية مركزية الشمس لكوبرنيقوس أو التطور لدارون - انهزم السياق الثقافي تحت القوة المنطقية للنظرية العلمية، حتى إن درجة التقدم التي أحرزتها العلوم الطبيعية الآن جلبت لها استقلالا معرفيا تاما، وأصبح السياق الثقافي لا يجرؤ على التدخل في صوغ فروضها أو عناصر نظرياتها، أي في محتواها المعرفي، ويقتصر فقط على التفاعل مع حصائلها التطبيقية وتكنولوجياتها. مثلا يتدخل السياق الحضاري لمناقشة استضافة الجنين في رحم آخر، أو نقل الأعضاء، أو الاستنساخ، أو التحكم في الصفات الوراثية للجنين، أو إنتاج القنبلة الهيدروجينية ... هل هذه التطبيقات مشروعة أم لا؟ مطلوبة أم غير مطلوبة؟ كيف يمكن توجيهها؟ ... إلخ. ولكن لا يتدخل في منطوق النظرية العلمية ذاتها أو يحاول استبدال فرض تفسيري بآخر مضمونه أقرب إلى ما يريد السياق الثقافي، أي إنه يتعامل مع العلوم الطبيعية من الخارج فقط، ولا يحدث خلطا منطقيا في محتواها المعرفي من الداخل.
وهكذا تجري العلوم الطبيعية في طرق حددت معالمها ممارسات عريقة وراسخة متفق عليها. فتسير عبر تخوم واضحة وتصاغ فروضها وقوانينها ونظرياتها في حدود منطقية مقننة بدقة، فقدر لها أن يتوالى تقدمها، واستقلت تماما عن الأوضاع والمؤثرات الخارجية.
Unknown page