214

Falsafat Cilm

فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية

Genres

هكذا كان معيار القابلية للتكذيب في معالجته الدقيقة لبنية النظرية العلمية بمثابة التمثيل العيني لمنطق التقدم العلمي، وما كان من الممكن طبعا تصور هذا المعيار في إطار العلم الكلاسيكي النيوتوني الحتمي. إنه أقوى وأنضج المحصلات الفلسفية لثورة الفيزياء الكبرى في القرن العشرين.

والمعيار في كل هذا كفؤ تماما في أداء مهمته، وهي تمييز المعرفة العلمية عن الميتافيزيقا واللاهوت وسواهما من مباحث ذات معنى وأهمية، لكنها ليست علما وليس مطلوبا منها أن تخبرنا عن وقائع العالم التجريبي. المهم فعلا أن المعيار قادر على استبعاد العلوم الزائفة التي تدعي الإخبار عن الواقع وتتذرع بما يبدو من تأكيد وتحقيق لها فتختلط بالعلم، وهذا هو الخطر المعرفي الداهم. مثلا علم التنجيم القائم على افتراض زائف؛ وهو أن حركة الكواكب لها تأثير على الأحداث الأرضية، يسهل العثور على الوقائع المؤيدة للتحقق منه، فلو قيل: إن مواليد برج الميزان سعداء، فإنه من السهل الإتيان بألف شخص من مواليد هذا البرج السعداء. وطالما انخدع المنجمون وخدعوا بما اعتقدوه من وقائع مؤيدة لنظرياتهم، ويتغاضون عن الوقائع المفندة لها. ودع عنك الاختبار ومحاولة التفنيد، إن البعد المنهجي للتكذيب غير قائم في أمثال هذه العلوم الزائفة. ومن الواضح الآن أن المعيار ومحاولات الاختبار التجريبي والتكذيب كفيلة باستبعادها.

وليس التحليل النفسي لفرويد وعلم النفس الفردي لآدلر علوما؛ لأنهما ببساطة نظريات غير قابلة للتكذيب إطلاقا، وليس لها أية فئة مكذبات محتملة، فليس ثمة أي سلوك إنساني يمكن أن يعارضهما، وليس ثمة أي سلوك إلا ويمكن تفسيره وفقا لمصطلحات هاتين النظريتين. والمثال الذي يضربه بوبر على هذا هو رجل يدفع بطفل إلى الماء بقصد إغراقه، ثم رجل آخر يضحي بحياته محاولا إنقاذ الطفل، كل من هذين السلوكين المتناقضين يمكن تفسيره بنفس السهولة بنفس المصطلحات في نظرية فرويد، وأيضا بنفس المصطلحات في نظرية آدلر. فتبعا لفرويد يمكن أن نفسر موقف الرجل الأول بأنه يعاني من الدوافع المكبوتة، مثلا إحدى مركبات عقدته الأوديبية. أما الرجل الثاني فنفسر سلوكه بنفس الدوافع المكبوتة، ولكنها في حالة إعلاء وتسام. وطبقا لنظرية أدلر نجد الرجل الأول يعاني من شعور بالنقص سبب له الرغبة في إثبات جرأته على ارتكاب جريمة ما، ونفس الشعور بالنقص سبب للرجل الثاني الرغبة في إثبات جرأته على إنقاذ الطفل! على هذا النحو نجد النظريات التحليلية دائما يمكن تطبيقها، دائما يمكن تأكيدها، تفسر كل شيء وتشرح كل شيء، ولو جاء رجل ليؤكد أنه لم يشعر إطلاقا بعقدة أوديب ولم يصدر عنه أي سلوك ينم عنها - وهذا ما لا بد أن يؤكده الأسوياء - فلن يعتبر التحليليون هذا تفنيدا لنظرياتهم، بل على الفور سيتملصون من هذا التكذيب بأن عقدة أوديب مكبوتة في اللاشعور، والنظرية بهذا غير قابلة للاختبار، وبالتالي غير قابلة للتكذيب. ويمكن على هذا النحو إدخال كل الأحداث الممكنة وكل الوقائع الممكنة وكل النماذج السيكولوجية الممكنة في نطاق هذه النظريات، بل وكتأكيدات لها، وهذه القدرة الظاهرية على تفسير كل شيء وأي شيء بدت في نظر العوام معلما على قوة النظرية الفائقة، لكنها من وجهة نظر معيار القابلية للتكذيب تبدو نفس سبب ضعفها الحقيقي وخوائها، فالنظرية تشرح كل شيء وتفسر كل شيء لذلك تعجز عن التنبؤ بأي شيء، ولا يترتب عليها - أو على الغالبية العظمى من أجزائها - نتائج تجريبية.

لا ينكر بوبر أن فرويد وآدلر رأيا أشياء معينة بطريقة صحيحة، وأن بعضا مما قالاه له أهميته ويمكن تطويره ليلعب دوره في علم نفس قابل للاختبار والتكذيب، لكن النظريتين بالصورة المطروحة من قبلهما تفتقران إلى السمة العلمية ولا تخبرانا بشيء.

أما النظرية الماركسية فوضعها مختلف، فهي كما طرحها ماركس نظرية علمية، ما دامت ترتبت عليها تنبؤات معينة تجعلها قابلة للاختبار التجريبي والتكذيب، غير أن وقائع التاريخ أتت لتنقض كل تنبؤات ماركس وتكذبها، لكن المأخوذين بها رفضوا الاعتراف بهذا التكذيب - كما يقضي منطق العلم - وأعادوا تأويل كل من النظرية والوقائع المكذبة ليجعلوهما متوافقين، ويعود كل شيء يؤكد النظرية ويحققها، فأصبحت الماركسية على أيدي أنصارها غير قابلة للتكذيب، غير علمية، بل باتت - بتعبير بوبر - عقيدة دوجماطيقية مقواه، وإذا شاء أنصارها يمكنهم الانصراف عن العلم والسمة العلمية، فلا يستطيع معيار التكذيب التطاول عليهم، ولكنهم مع كل هذا يصممون على الإبقاء عليها بوصفها نظرية علمية، بل والتفسير العلمي الوحيد للتاريخ. في أواسط القرن العشرين ناضل بوبر كثيرا من أجل هذه القضية، ثم أتت نهايات القرن بتعزيز لموقفه يعفيه من مواصلة النضال.

وظل بوبر حتى آخر لحظة يؤكد على القضية الأوسع، وهي أن علم التاريخ ذو طبيعة مختلفة ويتعامل مع وقائع منفردة ويستحيل أن نماثله بالعلوم الطبيعية لكي نصل فيه إلى نظريات تنبوئية، فلا يمكن التنبؤ بمسار التاريخ أبدا.

لكن العلوم الاجتماعية والإنسانية أمرها مختلف عن التاريخ، فيمكن دراسة ظواهرها دراسة علمية قابلة للاختبار التجريبي والتكذيب، أي قابلة للتقدم، والطريق الوحيد المفتوح أمامها هو أن تنسى تماما النزعات الكلية والنبوءات التاريخية الواسعة النطاق، وتحيط بالمشاكل المطروحة فعلا، كل مشكلة على حدة لتدرس النتائج غير المقصودة وغير المرغوبة، فتضع تنبؤات مشروطة قابلة للاختبار التجريبي بدلا من النبوءات التاريخية الحتمية الواسعة النطاق غير القابلة لهذا. وقد أوضح بوبر أن الطبيعة التكذيبية للنظرية العلمية تعني أنها تنفي وقوع حوادث ممكنة، وهذا يعني أن القانون العلمي يمكن وضعه في صورة نافية. والعلوم الاجتماعية بتلك الوظيفة ستستطيع التوصل إلى قوانين أو فروض علمية نافية، ويعطي بوبر أمثلة على هذا: «لا يمكن فرض الرسوم الجمركية على المنتجات الزراعية ونقلل في الوقت نفسه من تكاليف المعيشة»، أو «لا يمكن تحقيق العمالة الكاملة دون أن يتسبب ذلك في حدوث تضخم» ... وهكذا.

25

وهذا سعي مشكور من بوبر، لكن لا نستطيع الاكتفاء به؛ لأن مشكلة العلوم الإنسانية من أمهات مشاكل فلسفة العلم. والمدهش حقا أن معيار القابلية للتكذيب يفتح أمامها آفاقا مستقبلية لم يفطن إليها بوبر نفسه، وسنحاول أن نستكشفها، وربما نكون في هذا بوبريين أكثر من بوبر نفسه!

خامسا: مشكلة العلوم الإنسانية

Unknown page