Falsafat Cilm
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Genres
many-valued logic
لا يعرف المنطق الأرسطي التقليدي إلا قيمتي الصدق والكذب، القضية إما صادقة وإما كاذبة والقيمة الثالثة ممتنعة. أما المنطق الرياضي الحديث فلا بد وأن يعمل بقيم متعددة، فهو تحليلي يرد القضية إلى مكوناتها، كل مكون صادق أو كاذب، أما القضية في حد ذاتها فقد لا يمكن الحكم عليها بهذا أو ذاك. إذن ظهرت قيمة ثالثة، فضلا عن القيم المتعددة لحساب الاحتمالات بين قيمتي الصدق والكذب. لا ينفصل هذا عن بعث وإحياء منطق الجهة
Modal Logic ؛ أي الحكم على القضية من جهة الضرورة أو الإمكان أو الامتناع. وهذا مبحث عني به أرسطو والمناطقة العرب - خصوصا الفارابي وابن رشد - ثم أهمله جورج بول وفريجة. فلم يكن منطق الجهة محط اهتمام في مرحلة نشأة المنطق الرياضي. وفي العشرينيات بعثته البحوث السيمانطيقية مجددا وأعادت إحياءه. وكان هذا أساسا في إطار نقد منطق برتراند رسل. إن أعمال رسل ذات مردودات وحصائل لا أول لها ولا آخر، إنه عملاق في الفلسفة وفي الرياضيات على السواء. وقد رأينا كيف مثل المنطق الحديث معاملا مشتركا بينها.
منذ أرسطو وحتى يومنا هذا، المنطق جزء لا يتجزأ من دراسة الفلسفة، وهو الجزء الأهم، سار المنطق التقليدي في سياق مختلف عن الرياضيات، أما المنطق الحديث فيحتل مكانته في أقسام الفلسفة وأقسام الرياضيات على السواء بمختلف الجامعات في شتى أنحاء العالم. ولم يكن انضمامه للأسرة الرياضية سهلا، هذا ألفرد تارسكي
A. Tarski (1901-1983م) صاحب الإنجازات الحاسمة في مبحث ما بعد المنطق خصوصا السيمانطيقا وما بعد اللغة وما بعد الرياضيات والمنطق المتعدد القيم، ووصل إلى تعريف حاسم لمفهوم الصدق، وهو على الإجمال من أبرز رجال المدرسة البولندية، هاجر بعد تفككها إلى الولايات المتحدة. ويحدثنا تارسكي عن الصعوبات التي واجهته لكي يجعل المنطق تخصصا موقرا في أقسام الرياضيات بجامعة باركلي. على العموم، احتل المنطق الآن موقعه بين علوم الرياضيات في مختلف الجامعات.
في «برنكبيا ماتيماتيكا» يلتحم المنطق مع الرياضيات تماما، في إطار نسق موحد يبدأ من حساب القضايا وينتقل إلى حساب الفئات ثم العلاقات، ويتدرج دون أدنى فجوة أو قطع إلى الحساب العددي منتقلا منه إلى بقية فروع الرياضيات كما نسقها المذهب الحسابي لفريجه في تسلسلها عن العدد الصحيح. نحن هنا لا نستطيع أن نقول أين انتهى المنطق وأين بدأت الرياضيات.
14
لذلك أصر فتجنشتين على أن المنطق بأسره جزء من الرياضيات. وأوضح رسل أن المنطق يأخذ من الفلسفة، بخلاف التطبيق والتفعيل في المجالات العقلية الواسعة، فقط البدايات والأسس والأصول والقواعد، ثم يتوغل في متاهات قاصرة على الرياضيات. ومع هذا، ما أن انضم المنطق إلى الأسرة الرياضية الأرستقراطية الجليلة، إلا وراح يثير غبار الشك على أفرادها الموقرين، وتكفي مبرهنة كورت جودل الشهيرة التي أثبتت عنصرا من اللااكتمال في الإنساق الرياضية. فهل لهذا كان المنطق - خصوصا في الثلث الأول من القرن العشرين - قوة هائلة تجذب الطلبة الواعدين من أقسام الرياضيات إلى أقسام الفلسفة؟
رأينا هذا يحدث لفتجنشتين، ويشبه ما حدث لبرتراند رسل نفسه. فقد التحق بجامعة كمبردج في أكتوبر 1890م واختار دراسة الرياضيات وحصل على إجازته فيها بعد ثلاث سنوات. رأى رسل أسلوب التدريس في كمبردج عقيما ومجرد حشد للأذهان بحيل بارعة تمثل إهانة لذكاء الطالب، حتى بدت الرياضيات بأسرها أمامه مثيرة للغثيان! يقول رسل:
لما انتهيت من آخر امتحاناتي في الرياضيات عند نهاية سنتي الثالثة في كمبردج، أقسمت ألا أنظر بعدها إلى الرياضيات، وبعت كل كتبي الرياضية، وفي هذه الحالة النفسية والعقلية واجهتني الفلسفة بكل البهجة التي يبتهج بها الهارب من نفق إلى واد مزدهر فسيح.
Unknown page