Falsafat Cilm
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Genres
يمكن اعتبار اللغة مجموعة أنشطة مستقلة تماما كما أن المباريات الرياضية أنشطة مستقلة. وهذا لا يعني البتة أن اللغة نشاط تافه أو مجرد تسلية، بل هي الفاعلية الاجتماعية الأم.
ومع هذا الانتقال من وقائع العالم التجريبي في «الرسالة» إلى قواعد اللغة في «بحوث فلسفية» ما زال فتجنشتين مخلصا لهدفه الأولي، وهو أن تكون مهمة الفلسفة التوضيح لنحذف اللغو وينفرد العلم بمجال المعرفة. إننا نتعلم قواعد الدلالة أو السيمانطيقا والتركيب اللغوي أو السينتاطيقا كما نتعلم قواعد مباراة، وعن طريق هذه القواعد يتم تمييز المعرفة العلمية واستبعاد الميتافيزيقيات التي يتسع لها النحو، بينما هي خالية من المعنى. «حتى إذا تساءلنا لماذا يهتم الفيلسوف بدراسة قواعد مباريات اللغة؟ لكان ذلك فقط من أجل التوضيح والتمييز بين اللغو وبين الكلام ذي المغزى»؛
12
أي المنطق والرياضة والعلوم الطبيعية وسائر العبارات التجريبية. جميعها يسير التعبير فيها تبعا لإرشادات تخطيطية مجردة، وتبني لنفسها سياقها الخاص الذي يسير بواسطة فروض مطروحة بوضوح في إطار للعمل أو البحث. ويمكن الحكم على انتماء العبارات لهذه المجالات وفقا لاقتفاء العبارات قواعد السير فيها، أي قواعد التعبير اللغوي. وإذا أخذنا عبارة علمية أو منطقية كنموذج للوضوح وكمورد نهائي للصدق الأصيل، سوف نستطيع تحديد القواعد اللغوية للتمييز، وسوف يتجه تصورنا للوضوح نحو نوع من الصفاء الفطري الخالص.
13
لقد رأينا بادئ ذي بدء أن نشأة النزعة الاستقرائية، وفلسفة العلم إجمالا كانت بهدف تمييز المعرفة العلمية، ويأتي فتجنشتين متسلحا بالمنطق الرياضي؛ ليجعل التعبيرات التجريبية هي كل الكلام ذي المغزى وما عداه لغوا، ويحقق هدف التمييز عن طريق قواعد التعبيرات اللغوية، فلا غرو أن يصر إصرارا على قصر الفلسفة على منطق اللغة، متخذا موقفا غاية في القسوة والعنف من بقية امتدادات الفلسفة وفروعها - خصوصا الميتافيزيقا - يهدف إلى استئصالها جميعا بضربة واحدة!
يقول هنريك فون رايت إن المناطقة والرياضيين على السواء قابلوا إنجاز فتجنشتين ببرود. لعل كارل بوبر يفوق زملاءه المناطقة في هذا، فقد أسرف في رفض دعاوى «الرسالة المنطقية الفلسفية»، أما «بحوث فلسفية» فيصفه بوبر بأنه غث وتافه ومضجر! وأنه لا يجد فيه ما يستحق الاتفاق أو الاختلاف! ولا نندهش فديدن الفلسفة دائما هو الرأي والرأي الآخر، ومهما كان هذا الرأي أو ذاك فالذي لا شك فيه أن «الرسالة المنطقية الفلسفية» بالذات ظلت باقية وأعيد إحياؤها المرة تلو المرة، في الفلسفة المنطقية وفي تطورات النظرية اللغوية، ومن ناحية أخرى في فلسفة العقل التي تستلهم الكومبيوتر كما تتمثل في العلوم المعرفية ودراسة الذكاء الاصطناعي، وكان تأثيرها الأقوى في فلسفة العلم. ويظل فتجنشتين بمنطقه الصارم صاحب أخطر رسالة لغوية تلقتها الفلسفة.
كانت المحصلة القوية لفلسفة فتجنشتين في التيار التحليلي العريض، وأقوى مدارسه الوضعية المنطقية. هذا التيار كثيرا ما ينعت بأنه أهم تيارات الفلسفة في القرن العشرين، وإليه تعود الصبغة المنطقية القوية فيها. يلزم التوقف إزاء الفلسفة التحليلية وفيلسوفها برتراند رسل، ثم الوضعية المنطقية التي انسلت عنها لتمثلها في فلسفة العلم، بكل القوة والمضاء. وقبل أن ننتقل إلى هذا وذاك، نختم حديثنا في هذا الجزء من الفصل بنظرة شاملة على مآل ومسير المنطق حتى نهاية القرن العشرين.
أهم تطور حدث في المنطق بعد الحرب العالمية الأولى أتى من المدرسة المنطقية البولندية التي أسسها في وارسو، في فترة ما بين الحربين العالميتين أحد تلاميذ برنتانو وهو تفاردوفسكي
K. Twardowiski (1866-1938م) لتعكف على المنطق الحديث وأبعاده في الفلسفة وأصول الرياضيات، استمرت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية لتتفكك بوفاة وهجرة أعضائها، بعد أن تنجز خطى تقدمية محورية، لعل أهمها ظهور المنطق المتعدد القيم
Unknown page