151

Falsafat Cilm

فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية

Genres

وبالعود إلى العام الحاسم 1900م نجد شهر يوليو منه يشهد مؤتمرا دوليا للفلسفة عقد في باريس، حضره كبار الفلاسفة والمناطقة أمثال: ألفرد نورث هوايتهد وبرتراند رسل وجوتلوب فريجه وجوزيب بيانو ... كان هذا المؤتمر علة فاعلة لتلاقح الفلسفة والمنطق الرياضي، وشهد القرن العشرون فئة مستجدة تفلح أراضي لم تستكشف من قبل هي فئة الفيلسوف/المنطقي، غالبية أعضائها من فلاسفة العلم، مما أدى إلى توظيف فلسفي واسع للمنطق الرياضي. لم يعد المنطق كما كان مجرد أورجانون أو أداة للفلسفة، ومن أسبق الشواهد على هذا أعمال هوايتهد «مبادئ المعرفة الطبيعية 1919م»، و«مفهوم الطبيعة 1920م» و«مبدأ النسبية 1922م». وكان هوايتهد من أعظم الباحثين في أصول الرياضيات والمساهمين في تطوير المنطق الرياضي، بلغت إسهاماته الذروة في الكتاب الفذ «برنكبيا ماتيماتيكا»، لكنها أيضا توقفت بهذا العمل واتجه إلى الفلسفة الخالصة، بينما واصل رسل جهوده المنطقية بلا كلل أو ملل. وكان رسل قد أعلن أن أي مشكلة فلسفية إذا خضعت للتدقيق والتحليل الضروريين؛ اتضح أنها إما أن تكون مشكلة منطقية أو أنها ليست مشكلة فلسفية فعلا، بعبارة أخرى، كل المشاكل الفلسفية فعلا هي مشاكل منطقية،

7

وأصبح مألوفا أن تكنى فلسفة العلم بمنطق العلم. وكان فريجه قد رأى أن العلوم الفيزيائية تدرس قوانين الطبيعة، والمنطق يدرس قوانين تصور قوانين الطبيعة، المنطق من هذه الزاوية هو علم قوانين الطبيعة ليدخل في ذات الهوية مع علم العلم أو فلسفة العلم.

وإذا كان المنطق الرياضي قد لعب دورا كبيرا في تطوير فلسفة القرن العشرين ذات المنزع العقلاني والمعرفي، فإن فلسفة العلم على الخصوص هي التي أحرزت تقدما تقنيا كبيرا بفضله، وإذ تسلحت بهذه الأداة الفعالة - أي المنطق الرياضي - أصبحت التجريبية فيها مقننة تقنينا دقيقا يفصلها بمراحل عن التجريبية الفجة التي عبرت عنها النزعة الاستقرائية في القرن الأسبق. لقد أصبح من الممكن تجريد بنية النظرية العلمية للتعامل معها ومع العلاقات بين عناصرها، وبينها وبين وقائع الملاحظة، وانفتح الطريق إلى محاولة صياغة التجريبية ذاتها بلغة منطقية دقيقة تكون لغة للعلم الموحد.

إن المنعطف الحاد الذي جعل فلسفة القرن العشرين تصطبغ بصبغة منطقية إنما يتبوأر في حجر زاوية أساسي هو اللغة. أجل، المنطق هو علم قوانين الفكر منذ أرسطو وحتى عنوان كتاب جورج بول. ولكن القرن العشرين أدرك أن المنطق لا يدرس قوانين الفكر كسديم سابح في الأجواء الميتافيزيقية، أو كما يدرسها علم النفس مثلا، بل يدرس المنطق قوانين الفكر كما تتمثل في الانتقال من قضايا لغوية إلى أخرى، أسرف تشارلز بيرس في إيضاح أن اللغة جوهر التفكير، إنها الموضوع الفعلي للمنطق ومادته الخام التي يتعامل معها ويعالجها، فيبدو جليا أن المنطق يدرس الارتباط بين التفكير واللغة؛ لذا يزدهر في الأجواء التي تشهد ازدهارا في المباحث اللغوية، كما كان الوضع في كمبردج وأكسفورد، ومن قبل في الحضارة العربية الإسلامية.

الواقع أن العرب أدركوا مبكرا هذا الارتباط الوثيق بين المنطق واللغة، وأرسوها قاعدة تقول: إن المنطق هو نحو التفكير، والنحو هو منطق اللغة، وفي قول آخر: المنطق نحو يوناني والنحو منطق عربي، خصوصا وأن النحو العربي يتميز بأصول للاشتقاق وبتقنين وتقعيد محكم لا مثيل له في لغات العالمين. لقد رأينا التهانوي يعرف المنطق بالنطق والنفس الناطقة واللفظ، بحيث ارتبط المنطق - اشتقاقا ومضمونا، كاسم وكمسمى - بالنطق وباللغة، يقول التهانوي:

النطق بالضم وسكون الطاء يطلق على النطق الخارجي وهو اللفظ، وعلى النطق الداخلي الذي هو إدراك الكليات، وعلى مصدر ذلك الفعل وهو اللسان، وعلى مظهر هذا الانفعال، أي الإدراك. المراد بالنطق في قولهم الإنسان حيوان ناطق هو القوة الموجودة في جنان الإنسان التي تنتقش فيها المعاني، ولا خفاء في أنها لا توجد في الببغاء والملائكة والجن؛ لفقد الجنان في الجن والملائكة، وفقد انتقاش المعاني في الببغاء.

8

هكذا نلاحظ التطابق بين التفكير والنطق أو اللغة كقوة مميزة للإنسان، فيغدو المنطق في ذات الهوية مع التفكير ومع اللغة، وحينما أصبح المنطق الرياضي عصبا لفلسفة القرن العشرين اتجهت هذه الفلسفة بقوة نحو الاهتمام باللغة، وأصبحت فلسفة اللغة من محاورها.

في دفع الفلسفة نحو الاتجاه اللغوي، ربما تكاتفت مع المنطق فروع أخرى لعلوم نهضت في القرن العشرين من قبيل اللغويات النظرية وعلوم الكومبيوتر ودراسة الذكاء الاصطناعي وتشغيل برامج المعلومات، بيد أن دور المناطقة الرياضيين كان العلة الفاعلة بلا شك. ألم يتضح أن الرياضيات ليست حقائق ووقائع ميتافيزيقية كامنة في الما وراء، بل هي محض لغة للتعبير الدقيق؟! ثم تحمل الحركة التحليلية وفيلسوفها رسل فلسفة اللغة على كواهلها، مما يعني ارتباطا بالمدرسة المنطقية في أصول الرياضيات. في منتصف القرن العشرين اتضح الدور الكبير لجوتلوب فريجة كفيلسوف لغة. ربما لم يكن لديفيد هيلبرت دور في فلسفة اللغة، لكن الاتجاه الحدسي مع بروور - فيما يرى فون رايت - لعب دورا غير مباشر، فهجوم بروور على النزعة الصورية لهيلبرت هو بشكل ما نقد للغة في اتصالها بالحدوس الكامنة خلف التفكير الرياضي، والتي تشكل أصول الرياضيات كما يرى الحدسيون. هكذا تبدو مختلف المدارس في أصول الرياضيات والمنطق الرياضي وهي تدفع الفلسفة نحو اللغة، حتى أصبحت مناط ثورة فلسفية في القرن العشرين. معظم تياراته الفلسفية تهتم باللغة ولم تعد تسلم بها كوسيط شفاف للتعبير والتواصل، وكأنها اكتشفت فجأة أن عدسات النظارة التي ننظر بها دائما محتاجة لجلو وتنظيف.

Unknown page