141

Falsafat Cilm

فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية

Genres

ولكن كان الهم الأساسي للفينومينولوجيا - كما ذكرنا - هو العلوم الإنسانية وتقدمها. والواقع أنها لم تساهم كثيرا في هذا الصدد، وأسفرت عن مدارس محدودة التأثير في علم النفس وعلم الاجتماع، ولم تأبه بها المدارس الكبرى التي أحرزت حصادا علميا هائلا كالسلوكية المعدلة وعلم النفس المعرفي والوظيفية والسوسيومترية في علم الاجتماع والاقتصاد التحليلي ... إلخ. وحتى حين نشأ علم النفس الفينومينولوجي ظل أقرب إلى الفلسفة منه إلى العلم السيكولوجي، وأيضا لم يكن للفينومينولوجيا تأثير على فلسفة العلم، ولم تتلاق معها إلا فيما ندر.

من الأعمال المبكرة للرائد إدموند هوسرل كتابه «الفلسفة بما هي علم دقيق 1910م» فقد كانت الفينومينولوجيا حريصة على تمثيل ما لروح العلم، وفعلت هذا بطريقتها المتميزة والخاصة جدا التي ترفض الاستنباط الرياضي والاستقراء التجريبي على السواء. انصبت على عالم الظواهر كما يفعل العلم، وشقت لهذا طريقا مختلفا - كما صادرت منذ البداية - بما أسمته بالتجربة الحية المعاشة وتحليل ماهية الظواهر المعطاة للوعي، وبهذه الطريقة افترقت الفينومينولوجيا عن التيار المثالي في القرن التاسع عشر، واقتبست - بأسلوبها الخاص - الروح التجريبية للقرن العشرين. وعلى أية حال فإن الفينومينولوجيا بتفرعاتها وامتداداتها وتطبيقاتها من التيارات الهامة في فلسفة القرن العشرين التي تساهم في التعبير عن روحه العامة، خصوصا وأن الفينومينولوجيا منهاج للبحث وأسلوب للنظر، وليست البتة مصفوفة من الحقائق الأولية المثالية أو الميتافيزيقية المطلقة.

وكانت معاقل الهجوم الأخرى على المثالية الألمانية في مطلع القرن العشرين أكثر تمثيلا لروح التجريبية العلمية. جاء مد تجريبي قوي من الفلسفة الأمريكية التي لم تكن أبدا مرعى خصيبا للمثالية، بحكم روح وطبيعة الحضارة الأمريكية، وإن كان يوجد بالطبع قلة من المثاليين الأمريكيين أهمهم جوزيا رويس

J. Royce (1855-1916م) الذي يجاهر بأنه فيلسوف هيجلي، ومع هذا تأثر بأستاذه وليم جيمس، فلم تخل فلسفته المثالية من استجابة ما للبرجماتية

التي هيمنت على الفلسفة الأمريكية. لقد اكتملت البرجماتية، ونضجت لتكون بمثابة التمثيل العيني للفلسفة الأمريكية حديثة النشأة والنماء، حتى اتخذت أساسا لتفسير الدستور والقوانين والقيم الأمريكية. البرجماتية اسم مشتق من اللفظ اليوناني «براجما» ومعناه العمل. الفلسفة البرجماتية إذن هي الفلسفة العملية التي تبحث عن النافع والمفيد.

أول من صاغ البرجماتية كاسم وكمسمى هو الفيلسوف الأمريكي العظيم حقا، والمغبون الذي لم يلق ما يستحقه من تقدير، تشارلز ساندرز بيرس

C. S. Peirce (1839-1914م)، وهو رائد من رواد المنطق الحديث وفلسفة اللغة وفيلسوف علم جدير بالإعجاب، في طليعة المثبتين للاحتمية على أسس منطقية وفي سياق الفيزياء الكلاسيكية ذاتها. وضع بيرس نظرية للمنهج العلمي شديدة الشبه والتقارب مع أهم نظريات المنهج في القرن العشرين، أي نظرية كارل بوير، حتى يمكن أن تعد استباقا لها وإرهاصا بها. كان ابنا لأستاذ رياضيات مبرز في جامعة هارفارد، حيث درس بيرس ونال إجازته في الكيمياء، ثم انشغل بالمنطق والفلسفة، ولكنه للأسف لم يظفر بمنصب أكاديمي رفيع في الفلسفة على الرغم من محاولاته المستميتة . ويعنينا من أمره الآن أنه طرح أساس البرجماتية بمقاليه «تثبيت الاعتقاد 1877م»، و«كيف نجعل أفكارنا واضحة 1878م»، ثم صاغ المذهب ببحثه الهام «البرجماتية» الصادر عام 1905م، حيث نجد القاعدة الأساسية للمذهب البرجماتي؛ وهي أن معنى القضية يتوقف على نتائجها العملية، وإذا أردنا الحكم بأن مفهوما عقليا ما ذو معنى، لا بد وأن نأخذ في الاعتبار النتائج العملية التي تنتج بالضرورة من صدق هذا المفهوم. وخلاصة هذه النتائج تشكل المعنى الكلي للمفهوم.

ثم تحددت معالم البرجماتية وأصبحت مذهبا فلسفيا متكاملا على يد وليم جيمس ذي الفلسفة التجريبية الراديكالية «الجذرية»، والنظرة التعددية للعالم رفضا للواحدية المثالية. ويراه برتراند رسل صاحب أقوى أثر في تقويض المثالية الألمانية، فقد شن جيمس حملة شعواء على فلسفة هيجل ومطلقها المثالي ورآه كفيلا بتدمير القوى الخلاقة للإنسان الفرد، وقدم واحدا من أقوى عروض الفلسفة التجريبية لدرجة يصح معها الحكم بأن فلسفة جيمس المدخل الحق للتجريبية الغالبة على فلسفة القرن العشرين. وقد أشرنا سابقا إلى كتابه «مبادئ علم النفس 1890م» ودوره في علم النفس التجريبي، وهذا الكتاب له أيضا دور في لفت النظر الفلسفي إلى أن التحليل المجرد للعقلانية لا يكفي ولا بد من الانتباه إلى أهمية التفاعل والتواصل بين ما هو ذهني وما هو بيولوجي واقعي، أي علمي تجريبي، ورأى أن البرجماتية في ربطها المعنى بالنواتج الواقعية إنما هي تطوير طبيعي للتجريبية التقليدية، فأخرج عام 1907م كتابه «البرجماتية»، بعنوان فرعي: «اسم جديد لمنهج قديم في التفكير»، وأهداه إلى ذكرى جون ستيوارت مل مؤكدا أنه لو كان حيا لناصر البرجماتية بكل قوة. وكان جيمس دائما يميل إلى الدين ونصرة الإيمان، وفي كتابه «إرادة الاعتقاد 1897م» قدم تبريرا برجماتيا للدين، بمعنى أن نؤمن به؛ لأن الإيمان الديني نافع ومفيد في جلب الراحة والهدوء النفسي والضبط الأخلاقي. يحتوي «إرادة الاعتقاد» على أشهر مقال لجيمس وهو «معضل الحتمية» حيث يبين تناقضات الحتمية مع ذاتها ومع القضايا المتصلة بها، ويرفضها تماما إثباتا للحرية، وأبلى جيمس بلاء حسنا في قضية الحرية حتى عد من سدنتها المخلصين، وربما أيضا لأسباب برجماتية، فالحرية الإنسانية لها نتائج عملية مفيدة في تحمل المسئولية ، وجدوى الثواب والعقاب والقيم الخلقية إجمالا، والإبداع والتميز ... إلخ. وقبيل وفاته بعام واحد، أصدر عام 1909م كتابه «معنى الصدق: تتمة للبرجماتية»، حيث فصل ما أجمله تشارلز بيرس، فأوضح جيمس أن الصدق أو الحقيقة

truth

خاصية للاعتقاد الإنساني وليست كيانات مطلقة، وكل ما يقع خارج الدائرة الإنسانية ليس حقائق بل وقائع، وإذ تصبح الحقائق مسألة إنسانية فإنها بالتالي نسبية قابلة للخطأ متغيرة ومتطورة شأن كل ما هو إنساني؛ وذلك هو صلب الفلسفة البرجماتية.

Unknown page