138

Falsafat Cilm

فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية

Genres

لقد رأينا التجريبية العلمية العتيدة للفلسفة الإنجليزية، منذ فرنسيس بيكون ثم جون لوك وباركلي وديفيد هيوم وصولا إلى جون ستيوارت مل، ومع هذا لم تنج هي الأخرى من مد المثالية الألمانية. وفي بدايات القرن التاسع عشر انضم الشعراء والكتاب الرومانتيكيون في إنجلترا إلى زملائهم في القارة الأوروبية، واستقطبوا اتجاهات مثالية فرارا من عقلانية التنوير المفرطة وتعملق العلم الذي كان حتميا ميكانيكيا. وظهرت المثالية الألمانية في أشعار شيلي ووردزورث وكتابات توماس كارليل، واكتسبت ثقلا مع الشاعر الكبير كولريدج

S. T. Colerid (1772-1834م) الذي درس فلسفة كانط بتفاصيلها. ومع هذا كانت غزوة ضعيفة؛ لأنها تمت على أيدي هؤلاء الرومانتيكيين من الكتاب والشعراء، وجميعهم غير متخصصين في الفكر الفلسفي ولا محترفين إياه؛ لذلك سهل اندحارها على يد جون ستيوارت مل، وقد رأيناه يناصب المثالية الألمانية العداء. لكن هبت على الأراضي الإنجليزية غزوة مثالية ثانية في الثلث الأخير من القرن، افتتحها ستيرلنج

J. H. Stirling

بكتابه «سر هيجل 1865م»، حيث أوضح كيف أن هدف هيجل أو سره هو إحياء الإيمان بالله وخلود الروح وحرية الإرادة، فانتشرت المثالية مجددا في أعطاف الفلسفة الإنجليزية، من أجل إحياء تلك القيم التي هددها تقدم العقل العلمي، وتبدى ذلك في كتابات جمع من الفلاسفة الإنجليز أهمهم فرنسيس برادلي

F. H. Bradley (1846-1924م) وجون ماكتاجارت

J. E. Mctaggart (1866-1925م) وقرناء لهم من فلاسفة كمبردج العظام ذوي الثقل، ليبرزوا قوة المد المثالي آنذاك. في كتابيه «المظهر والحقيقة 1893م»، وأيضا «أصول المنطق 1883م» يعرض فرنسيس برادلي للمذهب الواحدي الذي يرى العالم ككل واحديا محكوما بعلاقات داخلية ولا أجزاء له ولا تعدد فيه، فيما يمكن اعتباره من أقوى عروض المثالية المتطرفة التي تنكر أية جدوى أو دور للتجريبية، وفي تاريخ الفلسفة بصفة عامة.

أما في فرنسا فالذي ينبغي أن يستوقفنا في تلك الحقبة هو تيار «نقد العلم» الذي يحاول تقليص نفوذ التجريبية وتقليم أظافرها، مستعينا في هذا بفلسفة كانط، يؤكد فلاسفته أنهم وضعيون. فقد نشأ هذا التيار النقدي موازيا للوضعية العلمية مع أوجست كونت وأشياعه، كرد فعل لها، لا يرفضها ولا يناصبها العداء كما تفعل الرومانتيكية، وإنما يحاول تحقيق شيء من التوازن معها عن طريق إبراز مشروعية المعرفة العلمية التجريبية كمعرفة وضعية بالعالم التجريبي، ثم الرفض البات لأن يتجاوز العلم الحدود المعرفية «الإبستمولوجية»، فلا ترتع حتميته في العالم الأنطولوجي لتهدد حرية الإنسان؛ لذلك غلب على أقطاب حركة «نقد العلم» الفرنسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أنهم يتبارون في محاصرة الحتمية العلمية داخل القوقعة الإبستمولوجية، أو دحضها ورفضها إجمالا؛ دفاعا عن الحرية الإنسانية والتصور الإنساني للعالم؛ لذلك يسمون بفلاسفة الحرية، هدفهم الأساسي إثباتها؛ وذلك عن طريق البدء منها، من الحرية كفكرة ... كشعور معطى ... كواقعة أولية للأنا ... كنشاط روحي مستور. باختصار الحرية واقع أولي معاش سابق على العلم وخارج عن إطاره، فلا تستطيع حتميته التي كانت أن تلغي تلك الحقيقة الماثلة: الحرية الإنسانية.

من هذا المنطلق كان تيار «نقد العلم» الذي يمثل استجابة قوية لفلسفة كانط، ويزعم أصحابه أن أساس فلسفتهم هو الوضعية، أو نوع متبصر من الوضعية. وينقسم هذا التيار إلى فرعين هما: الوضعية الميتافيزيقية أو الروحية، والوضعية النقدية.

الفرع الأول، الوضعية الميتافيزيقية أو الروحية، يجمع بين تأثير كانط وتأثير مين دي بيران

Main De Biran (1766-1824م) الذي رأى أن الواقع الأولي السابق على كل شيء هو الحياة الروحية الباطنية، والعلامة المميزة للحياة الإنسانية هي الشعور، والواقعة الأولية للشعور هي الأنا بوصفها العلة والقوة والفعل. ها هنا - كما يرى دي بيران - نجد معاني أولية هي أصول الفكر وأصول العلم على السواء من قبيل الوجود والجوهر والوحدة والهوية والقوة والعلة، وأهمها معنى الحرية كما يتجلى في معارضة الإرادة للنزوع. إن هذا الفرع يريد استيعاب الوضعية في إطار الروحية الميتافيزيقية. وقد رأينا نسق العلم يبدأ من المادة؛ لأنها المفهوم البسيط ويتدرج منها إلى الأكثر تعقيدا، إلى الحياة. أما هذا الفرع فيريد العكس، البدء من المعقد ليصل إلى البسيط؛ لأن المعقد يحتوي البسيط، فيبدأ من الروح والوجدان ليصل إلى الحياة وأخيرا المادة، ويرون المادة قاصرة غير قادرة على الاستقلال أو الاستمرار بدون الروح.

Unknown page