126

Falsafat Cilm

فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية

Genres

Cayley ، ووايتهد أن كل قضية في هندسة إقليدس تناظرها قضية في هندسة ريمان، وتناظرهما ثالثة في هندسة لوباتشيفسكي، فإذا كان ثمة خلل أو عدم اتساق في أي من هاتيك الأنساق الثلاثة فلا بد أن يكون الأمر هكذا في الباقيتين. والآن أي من هذه الأنساق هو الحقيقة؟ هذا سؤال لا تثيره الرياضة البحتة، الثلاثة في نظرها متساوية، كل منها صحيح ما دام متسقا مع البديهيات، أو بالأصح المقدمات التي بدأت منها، وانطباق أي منها على الطبيعة مسألة فيزيائية وليست رياضية.

50

وكان يمكن أن تظل هذه الثورة على المستوى الخالص، مستوى الرياضيات البحتة التي تبلورت وتميزت فقط في القرن التاسع عشر بفعل عوامل أهمها ظهور هذه الهندسات اللاإقليدية، وكما يقول دافيد هيلبرت، لرياضيات البحتة غير ذات صلة إطلاقا بالرياضيات التطبيقية والهندسة الفيزيائية! إنها لا تصبح تطبيقية إلا بعد اتباع طرق رياضية خاصة، أما الرياضيات البحتة في حد ذاتها فلا تلتزم إطلاقا بأي متعينات أنطولوجية - أي وجودية. لذلك أمكن للكلاسيكيين في البداية الحكم بأن هذه الهندسات تعبر عن عبقرية رياضية لا أكثر، أو أنها إنجاز عقلي فحسب، فتبقى إبستمولوجيتهم مصونة، أي يبقى عالمهم حتميا ميكانيكيا ويبقى علمهم يقينيا قطعيا ضروريا، ولوباتشيفسكي نفسه كان يميل إلى الاعتقاد بأنه تحقق في عالمنا الهندسة الإقليدية.

ولكننا ذكرنا أن جاوس حاول أن يثبت قابلية الهندسة اللاإقليدية للتطبيق التجريبي على العالم الفيزيائي، وبفضل جهود جاوس وغيره نشأت عن هذه الهندسات المتعددة مشكلة هندسة العالم الفيزيائي، فأيتها هندسته؟ وقد أدى هذا إلى مآزق، كان المخرج القوي منها إجرائيا بحتا وهو: أن ننظر إلى مسألة التطابق بين النسق الهندسي والعالم الفيزيائي لا على أنها مسألة ملاحظة تجريبية، بل مسألة تعريف، فينبغي ألا نقول: إن القضيبين الموضوعين في مكانين مختلفين هما بالفعل متساويان، إنما الواجب أن نقول: إننا نسميهما قضيبين متساويين، ويسمى هذا النوع من التعريفات بالتعريفات الإحداثية

Coordinative Definition

وهي تربط أو تكون إحداثيا بين موضوع كالقضيب الصلب، وبين تصور الطول المتساوي. وعلى هذا فإن القضايا المتعلقة بهندسة العالم الفيزيائي لا يكون لها معنى إلا بعد وضع تعريف إحداثي للتطابق، فإذا غيرنا التعريف الإحداثي للتطابق، نتجت هندسة جديدة، وهذه الحقيقة يطلق عليها اسم نسبية الهندسة، وهي تدل على أنه لا يوجد وصف هندسي واحد للعالم الفيزيائي، وإنما توجد فئة من الأوصاف المتكافئة، وكل من هذه الأوصاف صحيح داخل نسقه، أما الفروق الظاهرة بينها فلا تتعلق بمضمونها، وإنما باللغة التي تصاغ فيها فحسب.

51

والحق أن هذا التفسير الإجرائي بشكل عام هو أساس مدرسة مهمة من مدارس الاتجاه الأداتي في فلسفة العلم سنتوقف عندها في نهاية الفصل التالي، وهي المدرسة الإجرائية التي تعمم هذا التصور على كل المفاهيم العلمية.

المهم الآن أن نلاحظ كيف أن وجود أنساق هندسية تناقض بعضها، وإمكان تطبيق أكثر من نسق واحد وطبيعة هذا التطبيق نفسه «التعريفات الإحداثية»، كل هذا ينهار معه، بل يستحيل معه، مد الضرورة المنطقية الرياضية إلى ضرورة أنطولوجية تتخذ صورة الحتمية الميكانيكية، فضلا عن إقامتها على الأساس الإقليدي. فلم تعد الخاصة الأولية للهندسة الإقليدية مسلما بها، وأوضح بناء الهندسات اللاإقليدية إمكان الاتساق التصوري لمسلمات إقليدس التي كانت تبدو مبرهنة حدسيا. إنها حرمت الهندسة الإقليدية من صفة الضرورة، طبعا الهندسة الإقليدية صحيحة، ولم يختلف أحد على صحتها، الاختلاف فقط في تبرير هذه الصحة وفي تأويلها الإبستمولوجي؛

52

Unknown page