2
الذي يقرر بأن النوع الإنساني لا يميل لشيء لذاته إلا ما كان لذيذا عنده أو ما كان فقده مؤلما، وأن من المسائل الواقعة المجربة أن الميل إلى شيء ورؤيته لذيذا، والنفور من شيء واعتباره مؤلما، ظاهرتان متلازمتان، أو بالحري جزءان من ظاهرة واحدة.
وقد اعترض على هذا المذهب باعتراضات، منها أنه لو كان الباعث لنا على أعمالنا هو اللذة كما يقولون، لكان الاندفاع إليها والإلحاح في طلبها مما يزيدها قوة وتحققا، غير أن الأمر بالعكس، فإن ذلك مما يفوتها ويذهب بها. ولنتخذ مثلا لذة شهود رواية تمثيلية، فإن المرء لا ينعم بها إلا إذا استغرق في التمثيل، وشارك الممثلين في عواطفهم، وتلهى عن تذكر ما فيه من لذة، أما لو حصر فكره في اللذة وطلبها فإنها تضيع عليه، وكذلك لذات الفكر والدرس والمطالعة ونحوها من اللذات المعنوية.
الثاني: «الباعث هو المشاعر الوجدانية لذة أو غيرها»، فكل عمل له باعثه وهو الشعور الوجداني الذي يثير ميلا إليه، وهذا الشعور قد يكون لذة أو ألما أو حقدا أو حسدا أو غيرها. وأشهر القائلين بذلك هو دافيد هيوم
David Hume
3
فقد كان يرى أن ما يبعث إلى العمل هو المشاعر والعواطف الوجدانية المختلفة، وليس للعقل أثر في ذلك، وكل أثره هو توجيه هذه المشاعر إلى الوجهة التي تصل بهذا لما تريد، فالمرء يتجه للعمل ببواعث من وجدانه فقط، والعقل ينير له الطريق الذي يصل لما يشتهيه بالسير فيه، وبذلك يكون العقل خادما لهذه الميول الوجدانية لا عمل له إلا هذا، حتى لقد ذهب «هيوم» إلى أن العقل ليس إلا خادما للمشاعر، ولا ينبغي أن يكون إلا كذلك، ولا يمكن أن يدعى غير خادمها المطيع.
والذي دفع «هيوم» للقول بأن العقل لا يوجه أعمال الإنسان ولا يبعث عليها ، هو فلسفته التجريبية والشكية، هذه الفلسفة التي كانت تقوم على أنه لا سبيل للمعرفة إلا الحواس الظاهرة والباطنة؛ الأولى بما تمدنا به من معارف عن الأشياء التي تقع عليها، والأخرى بالإصغاء إلى بواطن نفوسنا والتأمل فيما يكون منها.
وبالرجوع إلى المقدمات النفسية، التي ذكرنا عند الكلام في تعريف الخلق، يتبين أن الميول التي يرى «هيوم» أنها الباعثة على الأعمال، لا بد أن يكون كل منها تابعا لعالم خاص يعيش فيه، وهذه العوالم منها ما هو عقلي كما منها ما هو وجداني، وإذن فمن الميول أيضا ميول عقلية، أي ليست كلها وجدانية وعاطفية فقط، وعلى هذا فنحن نسلم أن المشاعر الوجدانية تكون باعثة على العمل، لكن لا على سبيل الدوام؛ لأن العقل يكون باعثا في كثير من الأحيان.
الثالث: «الباعث على العمل هو العقل وحده»، وهذا المذهب مقابل لسابقه؛ لأنه ينكر أن تكون المشاعر الوجدانية من دواعي الأعمال وبواعثها، ويقرر أن العقل هو الباعث الوحيد.
Unknown page