والرحمة قوة؛ لأنها إنقاذ لمن يستحق الرحمة من المرضى أو العجزة أو الصغار الموكولين إلى رعاية الكبار.
وقس على ذلك كل خلق حميد نفسره على هذا النحو من التفسير.
وفحواه أن القوي تحمد منه أعمال ولا تحمد منه أعمال، وأيا كان الظن بصواب هذه الفحوى أو هذا التفسير فليس في وسع أحد أن يقول: إن القوي يفعل ما يشاء ويندفع مع قوته كما يشاء، وإن كل ما يفعله وكل ما يندفع إليه حميد جميل.
فما هو الضابط إذن للأخلاق القوية؟ أهو الاستطاعة؟ أكل ما يستطيعه القوي حميد، وكل ما لا يستطيعه ذميم؟ إن معنى هذا إبطال مذهب القوة من أساسه، والرجوع به إلى العجز وقلة الاستطاعة في خاتمة المطاف.
ولماذا يشاء القوي أمرا، ولا يشاء أمرا آخر؟ لأنه يشاء ما يليق، أو يشاء ما يقدر عليه، أو يشاء بلا ضابط من القدرة واللياقة؟
كل ذلك لا تفسره كلمة «القوة» وحدها، ولا تغني فيه عن تفسير يقترن بالقوة، ويميز لنا ما هو جميل من أعمالها، وما هو شائن قبيح.
ونعود إلى مذهب المنفعة في الأخلاق، فنسأل: هل نرتضي أخلاق الجزع، أو أخلاق الغدر، أو أخلاق المشاكسة، ولو لم يكن لها علاقة بمصالح الاجتماع؟
أليس في رؤية الرجل الجزوع قبح تنفر منه النفس، ولو كانت فيه سلامة صاحبه، ولم يكن للخلق في ذاته علاقة بالفضائل الاجتماعية؟
أليس لنا مقياس آخر، غير مقياس المنفعة الاجتماعية، أو مقياس التفرقة بين الأقوياء والضعفاء؟
بلى، هناك مقياس لا بد من الرجوع إليه في جميع هذه الأحوال؛ وهو صحة النفس، وصحة الجسد على السواء.
Unknown page