ولكن المسيحية ظهر فيها بعد بولس الرسول طائفتان من المدافعين عن عقائدها وقضاياها، هما طائفة المجادلين، وطائفة المسوغين أو المعتذرين.
فانصرف المجادلون - أو كادوا - إلى مناقشة أبناء الأمم الأخرى، وانصرف المسوغون - أو كادوا - إلى مناقشة اليهود والمعترضين من المسيحيين.
وكانت أكبر حجة للمجادلين أن الله الكامل لا يسأل عن الشر ولا يحبه، وأن الإنسان إذن هو مصدر الخطيئة وعليه وزر جزائها.
وكانت أكبر حجة للمسوغين على مثال ما تقدم في رسالة بولس الرسول وهي الرجوع إلى الأقوال المشابهة لعقائد المسيحيين في كتب أنبياء بني إسرائيل.
ووجد مع هذا من الآباء المسيحيين من أنكر وراثة الخطيئة، وقرر أن الموت نتيجة طبيعية للحياة، وأن الإنسان يموت ولو لم تقع خطيئة آدم، وأن باب الخلاص مفتوح لكل من تلقى نعمة السماء، وآمن بالسيد المسيح، وأشهر هؤلاء القس البريطاني «بلاجيوس» الذي نشأ في أواخر القرن الرابع، وتنقل بين رومة وإفريقية الشمالية وفلسطين، ونادى بدعوته في كل مكان؛ فأنكرتها مجامع المسيحية كلها في ذلك الحين، ومنها مجمع قرطاجنة ومجمع مليف ومجمع أفسس الثالث الذي ختم القرار في هذه المسائل سنة 431.
وعلى هذا أصبح من الباطل في عرف أصحاب تلك المجامع أن يؤمن المسيحي بأن (1) آدم كان سيموت ولو لم يخطئ. و(2) بأن خطيئة آدم أصابته وحده، ولم تورث بعد في سلالته البشرية. و(3) بأن الأطفال المولودين لهم من البراءة ما كان لآدم قبل اقتراف الخطيئة. و(4) بأن أبناء آدم جميعا يستحقون البعث لمجرد بعث المسيح. و(5) بأن الأطفال يستحقون الحياة الأبدية بغير عماد. و(6) بأن الإنسان قد يخلو من الخطيئة باتباع الوصايا الصالحة، واجتناب الخطايا الممنوعة.
وقد أصدرت هذه المجامع قرارها في عصر القديس أغسطين الفيلسوف المسيحي المشهور، ولم يشهد واحدا منها، ولكنه أقرها جميعا على ما ذهبت إليه، وألف كتابه عن «عقاب الخطيئة وغفرانها»؛ لتوضيح الفكرة من ناحية الدين، ومن ناحية الفلسفة، وخلاصتها: أن آدم كان حرا في مشيئة، فقادته هذه الحرية إلى الخطيئة، وأن أبناءه ورثوا عنه الخطيئة، ولكن العدل الإلهي لم يحرمهم وسيلة الخلاص منها؛ وهي كفارة الصليب!
وليس اعتقاد ذلك بالسهل على الذهن الفلسفي ولو كان له إيمان كإيمان القديس «أغسطين» ... فلم يزل يلقى من جراء التفكير في هذا الاعتقاد أو في هذه العقدة عنتا شديدا عبر عنه في كتاب الاعترافات؛ حيث قال: «ولكنني إلى ذلك الحين، وإن كنت أؤمن بأنك أنت يا ربنا الإله الحق الذي لم يخلق أرواحنا فحسب، بل خلق أجسادنا، ولم يخلق أرواحنا وأجسادنا فحسب، بل خلق جميع الكائنات وجميع الأشياء منزها عن النقص والتبدل، وعن كل اختلاف وتحول، إلا أنني لم أكن أفهم بغير مشقة أو غموض سبب وجود الشر في العالم، وأرهقت نفسي لكي أفقه ما كنت قد سمعته من أن الإرادة الحرة كانت هي سبب العمل السيئ منا، وهي سبب آلامنا وأوجاعنا، فلم أقدر على إدراك ذلك إدراكا جليا لا يشوبه الغموض، وكلما حاولت أن أنشل نفسي وأرتفع برؤياي من تلك الهاوية عدت إليها فغرقت فيها، ثم أكرر المحاولة وأكرر العودة إليها، ولكن هذه الجهود رفعتني قليلا إلى ضيائك حتى عرفت أنني أريد كما أنني أحيا، وأنني عندما أقبل شيئا أو أرفضه فإنما أنا نفسي الذي أقبل أو أرفض ولا أحد سواي، وبدا لي حينئذ أن هذا هو سبب الخطيئة، وكل ما صنعته على خلاف مشيئتي أدركت إذن أنني أحتمله أكثر مما أفعله، وأنه ليس في الواقع غلطتي، بل عقابي، وأرى لعدلك معترفا به أنني لم أعاقب ظلما وبغير جريرة، إلا أنني أثوب فأقول: ومن الذي خلقني هكذا؟ أليس هو الله الذي لا يوصف بأنه كريم فحسب، بل هو الكرم المحض والخير كله؟ فمن أين لي إذن أن أريد الشر ولا أريد الخير فأعاقب عدلا بهذا؟ من أودع ذلك طبيعتي وغرس فيها بذور المرارة وقد خلقت بيد الله الحلو الذي لا مرارة فيه ؟ وإن كان الشيطان هو السبب فمن أين أتى الشيطان؟ وإن كان ذلك الشيطان أيضا قد انحدر بطبيعته السيئة من ملك كريم إلى شيطان رجيم فمن أين جاءته تلك المشيئة التي عكست طبيعته فجعلته شيطانا؟»
ولكنه اعتقد بعد هذا القلق أنه استراح من وسواسه هذا بالتوفيق بين النقائض على النحو الذي قدمناه، وكان مدار راحته النفسية أن سبق العلم بعمل الأخيار وعمل الأشرار صفة لا تنفصل عن الذات الإلهية، وأن الله علم ما سيكون كما سيكون، ولا بد أن يعلمه العلم الصحيح، ويقدر تقديره على حسب علمه المحيط بجميع الكائنات.
وأكبر الفلاسفة الدينيين في المسيحية بعد القديس أغسطين هو القديس توما الأكويني، وهو يوافق أستاذه القديم، ويروي أن الإنسان يقود نفسه، ولا يقاد كما تقاد الدواب، وأن الإرادة تتبع العقل، والعقل من نعم الله على الإنسان، وغاية التقدير عنده كغاية التقدير عند أستاذه أنه علم سابق من الله، ولكنه كان يخالف أغسطين في نصيب الأطفال من الرحمة ويقول: إن الخطيئة أضعفت جانب الخير في الإنسان ولم تطمسه كل الطمس، وأن هذا الجانب هو الذي يعينه على تقبل الكفارة والخلاص.
Unknown page