Falsafa Ingliziyya Fi Miat Cam
الفلسفة الإنجليزية في مائة عام (الجزء الأول)
Genres
ولا يمكن القول: إن المكونات المختلفة لهذه النظرية إلى العالم ، وعلاقاتها بعضها ببعض، تفي بمقتضيات النظرية الفلسفية؛ فالواقع هنا ينظر إليه على أنه مؤلف من ثلاثة عناصر: الوجود الظاهري
والواعي والعالي أو الخالص، أول هذه العناصر هو عالم الأشياء في الزمان والمكان، عالم التجربة اليومية والعلوم، ومع ذلك فإن شرط أي شيء ظاهري - أي الوعي - يوصف بأنه شيء يبدأ وجوده في وقت متأخر نسبيا، أعني شيئا مرتبطا ارتباطا لا ينفصم بالعنصر الظاهري، أي المادة. والنتيجة ثنائية قاطعة للنفس والجسم، فالأخير جوهر تجريبي، والأول نشاط «للوجود المطلق»، ولا يمكن أن يكون بينهما أي تأثير متبادل. فلا يمكن أن تكون الإرادة هي علة الحركة؛ إذ إن هذين الاثنين قد جعلا بحيث ينتميان إلى مجالات مختلفة للوجود. والأمر الذي تسببه الإرادة هو تغير في الوجود، ولدينا بهذا التغير وعي مباشر، كما أن نفس التغير يتضح لنا، بطريق غير مباشر، في الحركة التجريبية التي ندركها، وعلى ذلك فإن الوعي يصبح مرتبطا، لا بالجسم الذي يحل فيه بالضبط، وإنما بالوجود العالي بقدر ما يتبدى في الجسم. أما الطبيعة الجوهرية لهذا الوجود الضروري ولمظاهر فاعليته فأمر يدق علينا فهمه. ولو حاولنا أن نحدده بطريقة أدق لما كان ذلك إلا بأن ننسب إليه بعض خصائص الوعي، الذي هو المتضايف معه. وينسب ريد إليه، على سبيل الترجيح، الزمان (أو التعاقب على الأقل) والتغير والتواجد
Co-Existence (وربما لم يكن ذلك بوصفه علاقة مكانية)، والترتيب أو اطراد التغير. وهكذا يقدم إلينا أخيرا نظرة تجريبية إلى الكون، تخيم عليها ميتافيزيقا نظرية تأملية، وهي نظرة لها عيوب واضحة، منها مثلا: غموض ذلك الوعي الذي هو من جهة إدراك واع أصيل، ومن جهة أخرى شيء غير محدد، يرتبط بكل وجود أيا كان، ومن عيوبه أيضا رد العالم المادي إلى وجود ظاهري في الوعي العارف، وما يقابل ذلك من توسيع لنطاق هذا العالم نفسه إلى ما وراء الوعي في عالم من الوجود المطلق. وأخيرا تلك العلاقة الغامضة التي يتركها قائمة بين العالم الظاهري والعالم الحقيقي، وهي علاقة توجد - إن جاز هذا التعبير - من وراء ظهر الوعي.
وهو ينقل هذه الأفكار الميتافيزيقية في كتابه الأخلاق الطبيعية والاجتماعية
Natural & Social Morals (1909) إلى مجال الأخلاق ، فمبدأ الوحدة في هذا المجال هو الوحدة الأصيلة بين الناس عن طريق الإخاء والتعاون، والإشباع الكامل لكل رغباتهم، والاعتراف بغاية عليا لكل مساعيهم، وهذا الخير الأسمى هو الفلسفة بمعنى متسع، أي الثقافة
Culture ، فالفلسفة هي التحقيق الصحيح للطبيعة البشرية، وعن طريقها يصل العالم إلى معرفة بذاته، وبفضل معرفة الإنسان لذاته وحدها، يستطيع هذا الإنسان - بوصفه أعلى مظاهر الحياة الواعية والوجود التجريبي بوجه عام - أن يسمو إلى مراتب أعلى من الحرية والسمو والسعادة والحكمة. وهكذا فإن ريد كان أشبه بداعية متعصب لعصر التنوير حين توقع أن يتحرر الإنسان باطنيا، ويصل إلى سعادته الحقة وخلاصه، بفضل تلك الاستنارة المتزايدة التي يبعثها فيه العلم والفلسفة، وبفضل التعاون الفعال، وتطبيق مبادئ علم تحسين السلالات
eugenics . ولقد كان ريد واحدا من البريطانيين القلائل الذين آمنوا بحماسة بقدرة تدابير علم تحسين السلالات على القضاء على الانحلال المعنوي والمادي للأمم، وتحويله إلى عكسه، ويتضح هذا الاهتمام بالبيولوجيا في آخر كتاباته «أصل الإنسان وخرافاته
The Origin of Man and of his Superstitions » (1920، الطبعة الثانية، في مجلدين، 1925) وهو كتاب يلتزم حدود علم الأنثروبولوجيا.
ويمكن القول إن ريد هو آخر أتباع التراث التجريبي القديم؛ إذ إن صلته به - وإن كانت واهية في بعض النواحي - كانت صلة حيوية أصيلة، ولكن الواقع أن هذا التراث الذي استعرضناه حتى الآن كان في تدهور حتى في بداية العصر الذي بدأ فيه نشاطه الفلسفي؛ ذلك لأن جميع قوى الحركة التجريبية وطاقاتها المتعددة كانت قد تجمعت في جون ستيوارت مل، وعلى ذلك فقد كان موته نقطة تحول هامة وبداية انحلال بطيء ولكنه مستمر لتلك النظرة إلى الحياة والعالم، التي كان هو آخر ممثل ضخم لها، وبدأت قوى جديدة تطرق باب الفلسفة الإنجليزية، ففي أثناء حياة مل كان سترلنج قد جهر بصوته مدافعا عن كانت وهيجل، ولم تكد عينا مل تغمضان حتى أصدرت الحركة المثالية في أكسفورد أول كتاباتها الجديدة العظيمة. وهكذا افتتح عصر جديد للفكر، لنشق بطريقة واعية على الصور القديمة المتأصلة في الأرض البريطانية، وكان مصرا على طلب الحقيقة بطريقته الخاصة، وبدأ مذهب مثالي، من أصل ألماني، يتخذ مواقعه ضد التراث الإنجليزي، وأخذ ينتزع منه، ولا سيما في الأوساط الأكاديمية، الموقع تلو الآخر، ولكن حتى قبل استهلال هذه القوة الفلسفية الجديدة، وحين كان نجم مل ما يزال لامعا ظهرت قوى أخرى بدأت تمارس تأثيرها في صف المذهب التجريبي؛ فغيرت مظهره، وأعطته قوة دافعة جديدة، وحركته في اتجاه جديد، وقد أتت هذه القوى من علم خاص هو علم الحياة، وتكونت منها الحركة الهائلة التي أطلقها سبنسر ودارون في العقدين السادس والسابع من القرن التاسع عشر، وهي حركة كانت على الرغم من تجريبيتها تختلف اختلافا بينا عن المذهب التجريبي كما يمثله بنتام ومل؛ ومن ثم فقد وجب بحثها على حدة.
الفصل الثالث
Unknown page