183

Al-falsafa al-Injlīziyya fī miʾat ʿām (al-juzʾ al-awwal)

الفلسفة الإنجليزية في مائة عام (الجزء الأول)

Genres

كان ماكتجارت - بلا شك - أكثر المثاليين اكتمالا واستقلالا بعد برادلي، ومن الواجب أن يدرج في الحركة المثالية العامة، ضمن الفئة الهيجلية. صحيح أنه كان، في نواح متعددة، أبعد بكثير عن الأصول الهيجلية من برادلي وبوزانكيت، ولكنه كان أقرب إليها بكثير في ناحية هامة، هي أن فكره نشأ عن دراسة فاحصة متعمقة لفلسفة هيجل، ظلت هي الأساس الذي بني عليه مذهبه الخاص، مهما كانت درجة ابتعاده عن هذه الفلسفة في اتجاهات خاصة به. وتتركز مكانته المميزة في الحركة الهيجلية الإنجليزية في أنه خطا الخطوة النهائية الحاسمة في فصم عرى الارتباط مع اللاهوت، وهو الارتباط الذي تميزت به أولى مراحل المذهب، وذلك بتشييده مذهبا إلحاديا على أسس هيجلية. وهكذا فإنه - في داخل المذهب الهيجلي - ينتمي إلى أقصى اليسار، في الطرف المضاد تماما لمفكرين مثل سترلنج وجرين كيرد، وهو يتميز عن برادلي وبوزانكيت - اللذين يمكن أن ينسبا إلى اليسار بدورهما، نظرا إلى اتخاذهما موقف الحياد، إلى حد ما، من التحالف مع اللاهوت - باستقلاله وأصالته الكاملين، فأبرز الاختلافات بينه وبين من بحثناهم حتى الآن هو ذلك التحول إلى مذهب الكثرة، الذي أدخله على اتجاههم الذي سار بقوة في طريق الواحدية.

وأيا ما كانت نتيجة الخلاف حول كون ماكتجارت هيجليا أو غير هيجلي، فمما لا نزاع فيه أنه بذل جهدا لا يكاد يكون له نظير في سبيل فهم هيجل، وأن فلسفة هيجل تحكمت في تفكيره في نقاط متعددة، ولكنه لا يمكن أن يسمى هيجليا إلا مع تحفظات هامة. والفكرة التي يخرج بها المرء عنه هي أن طرق التفسير المتكلفة المتعمدة التي طبقها على هيجل لو كانت قد طبقت على مفكرين آخرين - أو على أية حال على أفلاطون وليبنتس واسبينوزا وباركلي - لأتت بنتيجة مماثلة أو مشابهة، أعني بناء فلسفة خاصة به وهدم أية فلسفة أخرى . فالانتقال من أي من هؤلاء المفكرين إلى مذهب ماكتجارت ليس أصعب قطعا من الانتقال من هيجل إليه، ولقد لوحظ أن تعاليمه، وإن كانت ترفع راية هيجل وتمخر عباب المياه الهيجلية، إن جاز هذا التعبير، قد أسفرت مع ذلك، بطريقة لا شعورية، عن نوع من المذهب الأفلاطوني، كما قيل عنه إنه «اسبينوزا حديث». وكان لهذه التسمية ما يبررها، كذلك أكد البعض تقاربه الوثيق مع مذهب الذرات الروحية عند ليبنتس والمذهب الروحي عند باركلي، وهذا التقارب بالفعل واضح. غير أن هذا كله، على صحته، لا يدل إلا على أن مذهبه مذهب شخصي إلى حد بعيد، لم يتخذ من أفكار الآخرين مادة له، وإنما استخدمها وسائل وأدوات فحسب. وأيا كان الرأي في قيمة هذا المذهب أو أهميته، فهو قطعا من أجرأ وأروع وأصدق المحاولات التي بذلت في إنجلترا للتفكير في العالم في مجموعه، وهو يحتل ضمن بناة المذاهب الإنجليز المحدثين، مكانة لا يشاركه إياها سوى برادلي وألكسندر وهويتهد. ولقد أظهر، في صياغة مذهبه المقفل الجامد، قدرة على التفكير الرائع الواضح، وعلى الدقة في التعبير، ومنطقا حتميا صارما، وقوة بناءة، وعمقا تأمليا، وبصيرة صوفية.

ونستطيع أن نبدأ بإيضاح الطريقة التي انعكس بها تفكير هيجل على ماكتجارت، فهو ذاته يقول إن تفكير هيجل ظل هو الموضوع الرئيسي لبحثه طوال ما يزيد على عشرين عاما، وقد كرس لاختباره وعرضه النقدي ثلاثة كتب، وعند نهاية الكتاب الثالث، أصدر حكمه المبني على تفكير وروية، فقال «إن هيجل قد تعمق في الطبيعة الحقة للواقع أكثر مما تعمق فيها أي مفكر آخر من قبله أو من بعده.»

90

ولكن ليس معنى تقديره الرفيع هذا لهيجل، أن نتوقف حيث توقف هو، «فينبغي أن تكون المهمة التالية للفلسفة هي القيام ببحث جديد لهذه الطبيعة بوساطة منهج ديالكتيكي مشابه أساسا، ولكن ليس مشابها تماما، لمنهج هيجل.»

91

ولقد كان يؤمن بأنه على اتفاق مع هيجل في الجزء الأكبر من مناقشاته، وكل ما أراده هو أن يستخلص هنا وهناك نتيجة كامنة في تفكير هيجل ولكنها تركت بطريقة ضمنية، ولم يستخدم تعبيرا نقديا أو مخالفا إلا لماما، غير أن كل هذا الاتفاق الظاهري لم يتحقق، عند مفكر مستقل عنيد مثله، إلا عن طريق التفسير المتكلف والتشويه ووضع الأفكار في غير مواضعها. فهو قد كيف تفكير هيجل مع تفكيره الخاص عن طريق قراءة أفكاره هو ذاته في أفكار هيجل أو استخلاصها قسرا منها، بل إنه في الواقع قد بث الألغام في مذهب هيجل ونسفه من الداخل، فلم يترك في النهاية إلا أنقاضا لم يستخدمها إلا باقتصاد في تشييد مذهبه الخاص الجديد.

ولقد كان ماكتجارت يرى أن قلب فلسفة هيجل، ومصدر قيمتها الدائمة في تاريخ الفكر، هو منطقها والديالكتيك المتصل به، غير أنه كان يرى أن التطبيقات العديدة للمنطق على الأجزاء الجانبية من مذهبه، كالفن والدين والتاريخ والقانون والدولة، كانت متوقفة على ظروف عصر هيجل الخاص، ولم تكن لها أهمية كبيرة، وإن كان قد اعترف بتلك الثروة الكبيرة من الأفكار وتلك القوة الدافعة الهائلة التي أتت منها. وكان همه الأساسي في هذا الصدد هو الدفاع عن هيجل ضد الفكرة الباطلة، التي كانت لا تزال شائعة على نطاق واسع، والقائلة إن هيجل قد نسج العالم من الفكر المحض، ولم يتحرك إلا وسط تجريدات وتركيبات شكلية خالصة، دون أي اعتبار للمضمون العيني للتجربة، فهو قد أكد مرارا أن تفكير هيجل عيني، وأن الديالكتيك لا يتناقض مع التجربة، وإنما يفترضها مقدما في كل الأحوال. فالتجربة ترتكز بطبيعة الحال على المعطيات المباشرة للحس، التي لا يمكن أن تنتج عن الفكر الخالص، وإنما هي شروط وجوده. ولقد كان هيجل، في رأي ماكتجارت، يدرك هذا كله تماما، وكان يعلم ويعني أن حركة الفكر الديالكتيكية لا يمكن أن تتحقق إلا داخل الكل العيني للتجربة الذي تكون فيه المعطيات الحسية عوامل مستقلة متضايفة مع الفكر.

ولقد أدت دراسات ماكتجارت الخاصة للديالكتيك الهيجلي إلى رأيه القائل إن تصاعد المقولات ليس عملية تجريد متزايد، وإنما هو عملية اقتراب متزايد من الكل العيني، فقد بين أن المركب الأخير، الذي يتم الوصول إليه في «الفكرة» المطلقة، هو الشرط والأساس المنطقي لكل المقولات السابقة، وأن الأزواج العديدة من الأضداد والأفكار العليا التي تستوعب فيها هذه الأضداد وتتجاوز على التوالي، كل هذه تنتج بالتجريد من تلك المقولة العليا، التي هي أغنى المقولات، والتي تنتهي عندها الأخريات وتجد فيها اكتمالها. وهكذا فإن الانتقال من مقولة إلى أخرى ومن مركب إلى آخر ليس تقدما بمعنى وضع مضمون جديد لم يكن موجودا من قبل، وإنما هو قلب لعملية التجريد، واستعادة للوحدة العينية التي استمدت منها التجريدات. وبهذا المعنى يكون الديالكتيك هو المنهج الوحيد الصحيح والمثمر في الفلسفة. صحيح أن بعض انتقالات هيجل الجزئية ليست ضرورية منطقيا ولا مقنعة، غير أن هذا لا ينطوي على أي حط من قيمتها؛ إذ إن الانتقال من مقولة إلى أخرى لا يقتصر في الواقع على اتجاه واحد محتم منطقيا، وإنما هو يترك مجالا لإمكانيات أخرى. ومن الواضح أن ماكتجارت يتخذ في هذه الفكرة الأخيرة موقفا غير هيجلي على الإطلاق، وفضلا عن ذلك فليس المنهج الديالكتيكي جامدا، محددا على نحو نهائي، بل إنه هو ذاته معرض للنمو، وهو نمو يمكن رده إلى قانون عام. وأخيرا فإن ماكتجارت يذهب إلى أن مرحلة السلب تلعب دورا ضئيلا جدا في العملية الديالكتيكية من حيث هي كل، فلها أهمية في الأطوار المبدئية فقط، وهذه الأهمية تقل بالتدريج كلما ازدادت الحركة صعودا. وهذه المرحلة عرضية، لا أساسية، ففي التفكير، لا تنبثق كل مقولة من مقابلها السابق، وإنما تعبر عن الدلالة الحقيقية للمقولة الأدنى، وتحقق هي ذاتها طبيعتها الحقة في مقولة أعلى. وحيث لا يوجد تقابل لا يكون ثمة حاجة إلى التوفيق، أو إلى مركب تنحل فيه المتناقضات، وإنما تدعو الحاجة فقط إلى كشف وإظهار ما ترك ضمنيا، فالديالكتيك مثل النمو العضوي، إذ تنمو فيه المراحل العليا من الدنيا مثلما ينمو النبات من البذرة. فمرحلتا التقابل والسلب توضحان ما هو ناقص باطل في العملية، ومرحلة النمو الإيجابي هي التي تعبر عن الطبيعة الحقة للفكر. وعلى ذلك فإن معنى المنهج الديالكتيكي أو غايته تتحقق بقدر ما يحل العنصر الإيجابي محل العنصر السلبي. ولقد كان ماكتجارت يرى أن هذا التفسير للديالكتيك يمكن أن يوجد لدى هيجل أو يستمد منه، ولكنه كان هنا - كما كان في مواضع أخرى - واقعا في خطأ لا شعوري، فقد انزلق - دون وعي تام منه - إلى مواقف لم تكن دائمة قابلة للاندماج في مذهب هيجل، بل كانت أحيانا مناقضة له على نحو مباشر.

ولو نظرنا إلى دراسات ماكتجارت لهيجل في ضوء عمله الفلسفي العام، لبدت لنا هذه الدراسات مجرد استطراد كان ينبغي له القيام به لكي يصل إلى ذاته. ومن الصعب تحديد السبب الذي تعين عليه من أجله أن يقوم بهذا الاستطراد، ففي خلال السنوات التي تكونت فيها شخصيته، كان هيجل قد بلغ قمة الشهرة في إنجلترا، وكانت قراءته قد أصبحت موجة سائدة. ولكن ربما كان السبب الرئيسي هو حاجة ماكتجارت إلى تجربة قواه وممارستها على واحد من أعظم أعلام الفكر، والتسلق على أكتافه. ومع ذلك فإن هذا الاستطراد لا يبدو ذا ضرورة باطنة، إذ إن الميل إلى تكوين نظرة إلى العالم خاصة به كان يتملكه منذ البداية، وكانت الخطوط الرئيسية للنظرة التي عرضها فيما بعد، ظاهرة بوضوح في كتبه الأولى، فمن الواضح أنه لم يكن يحتاج إلا إلى ما يجلبه للزمن من مزيد من التفكير ومن النضوج، لكي يكون نظرته الخاصة إلى العالم ويتمها، فتطوره الفلسفي سار فيما يمكن أن يقال عنه إنه أنموذج ديالكتيكي؛ فقد كان مذهب هيجل يمثل مرحلة التقابل التي تعين عليه مواجهتها لكي يرتفع إلى تفكيره الخاص الصحيح، ويمثل المقولة الدنيا التي كان ينبغي فهمها أولا، ثم تجاوزها بعد ذلك في مذهبه الخاص.

Unknown page