Al-falsafa al-Injlīziyya fī miʾat ʿām (al-juzʾ al-awwal)
الفلسفة الإنجليزية في مائة عام (الجزء الأول)
Genres
وتتركز أفكار بوزانكيت في مشكلة الفردية، فمهمته هي إدراك طبيعة الفردية، لا في أي مجال خاص، كالمجال الأخلاقي أو الاجتماعي، وإنما في دلالتها الميتافيزيقية النهائية. هذه الدلالة، كما فهمها بوزانكيت، مضادة تماما للرأي السائد عن الفرد بوصفه شيئا منعزلا، خاصا، فريدا. ويتضح ذلك في موقفه من التاريخ، فهو، على خلاف بعض الفلاسفة الألمان المحدثين، الذين كان التاريخ في نظرهم هو المجال الخاص بالفرد، قد رأى أن التاريخ تجربة من نوع مختلط، تتميز بالتعاقب العارض والزمني المحض للحوادث؛ وبالتالي لم يعلق عليه أهمية. وهو بالفعل يرى بدوره أن الفرد شيء خاص يتميز على نحو فريد تماما من الجزئيات الأخرى، ولكن بمعنى أن هناك شيئا واحدا فقط هو الذي يعبر بوضوح عن طبيعة الفردية، ألا وهو المطلق، فالوحدات في الرياضة والعلوم الطبيعية، كالأعداد والذرات، تقف على مسافة بعيدة كل البعد عن الفرد بالمعنى الزاخر الذي فهمه به بوزانكيت، فالأولى وحدات مجردة، ومجرد تكرار لمتشابهات ، بينما الفرد الحقيقي هوية عينية كلية داخل كل منظم زاخر بالتنوع.
وهكذا فإن الفردية، بوصفها الكلية العينية، واللامتناهي الحقيقي بالمعنى الهيجلي، تبلغ أسمى مراحلها في تجربة «المطلق» اللامتناهية، أما في التجربة المتناهية فإنا نجد استباقات لها، وأفرادا من نوع أدنى، تتمثل أكمل أنواعها في العمل الفني وفي الشخصية الإنسانية وفي الطائفة الاجتماعية مثلا. ومن الواجب ألا نخطئ فهم هذه الفكرة في حالة الإنسان، ففي اللغة المعتادة يقال عن الإنسان إن لديه فردية بقدر ما يكف عن أن يكون مجرد ممثل للنوع الذي ينتمي إليه، وبقدر ما يغدو شخصية، أي بقدر ما يتميز بصفاته وأعماله الخاصة، بل إن التفكير الفلسفي ذاته كثيرا ما نظر إلى فكرتي الفردية والشخصية على أنهما فكرتان لا تنفصلان. وقد كان «راشدال»، من بين الفلاسفة الإنجليز المتأخرين، أوضح وأصدق ممثل لهذه النظرة التشخيصية، غير أن بوزانكيت يخالف هذا الرأي؛ فهو لا يوافق على أن الشخصية عنصر ضروري داخل في تكوين الفردية، ويؤكد مرارا أن الفردية البشرية ليست هي التي تحقق مقتضيات الفردية الكاملة بمعناها الصحيح، وإنما ينبغي التماس هذا التحقق فيما وراء المستوى الشخصي والمتناهي، فما الفرد البشري إلا جزء من كل أكبر، وهو بدون هذا الكل لا يكون شيئا، وإنما يحتاج إلى أن يكمل فيه، فهو ناقص مفتقر إلى الكمال طالما ظل على تناهيه، وهو لا يكون فردا بحق طالما ظل شخصا، وإنما هو في الأصل لا يعدو أن يكون كثرة وتعددا، يهفو إلى أن يصبح كلا واحدا، ومن هنا كان عليه أن يجد حلا وسطا أو توفيقا بين ما يكونه وبين ما يود أو ينبغي أن يكونه، وعلى ذلك فالصفة المميزة للمتناهي هي العلاء على الذات، وهذه فكرة لها أهميتها الرئيسية في مذهب بوزانكيت.
وتحتل الفكرة مكان الصدارة في الجزء الثاني من «محاضرات جيفورد» الذي حاول فيه تقديم عرض ميتافيزيقي «لقيمة الفرد ومصيره»، وهو يرى أن هناك ثلاث مراحل ينبغي أن يعتبرها المرء في سيره نحو مصيره، هي «تشكيل النفوس
moulding of souls »، «ومخاطرها ومشاقها
hazards & hardships » و«استقرارها وطمأنينتها
stability & security »، فالمركز الذي يتميز به الإنسان في الكون هو أنه يقف بين قطبي «الطبيعة» و«المطلق»، المتناهي واللامتناهي، بحيث إن له طابعا مزدوجا، وبحيث يكون متناهيا ولا متناهيا معا، فهو ينشأ من الظروف الطبيعية للحياة، ويكون في مبدأ الأمر مقيدا بهذه الظروف خاضعا لها في جزء من نسيج وجوده. غير أنه بقدر ما يكون نتاجا خالصا للطبيعة، يعجز عن تحقيق المعنى والهدف الصحيح لوجوده. على أن في الإنسان منذ البداية حافزا يدعوه إلى بلوغ مزيد من الكمال الذي يتجاوز صفاته الطبيعية الخالصة، هذا الحافز يولد اضطرابا في نفسه، واختلالا في التوازن المحكم الذي تتحقق في ظله الغريزة الحيوانية، بحيث ينغمس الإنسان في معترك الوجود الحي، في النضال والحاجة، في الخطر والهم، ولا يجد له في أي مكان مستقرا، غير أنه لا يستطيع أن يثابر على هذا التذبذب الدائم بين المتناهي واللامتناهي، ويهفو على الدوام إلى تلك الصورة العليا للوجود، التي يجد فيها وحدها ذاته الحقة وكماله. وفي عملية التقدم هذه يتعين عليه أن يترك جانبا فرديته المتناهية، بكل ما فيها من قلق وشقاق، وينبغي أن يختفي كل ما كانه من قبل، في تحول أصيل. وهو لا يصل إلى الخلاص مما تتصف به حياته الطبيعية من قصور ونقصان، ومن ضغط وعذاب، ولا يرتفع إلى مستوى الاستقرار والطمأنينة في الهدوء والكمال، إلا إذا تحقق هذا التحول. فعندئذ تنتقل ذاته محورة إلى الاندماج في السلام الأزلي للمطلق. ولو كان للاعتقاد بالخلود أي معنى، فهذا المعنى ليس هو أننا نحمل ذاتنا الحالية إلى العالم المقبل، وإنما أننا يمكن أن نظل باقين على نحو ما، في ذلك العالم في صورة متغيرة.
ومن الواجب أن نتجنب فهم هذه الأفكار بأي معنى ديني، فقد كان بوزانكيت يماثل برادلي في بعده عن الدين بمعناه الضيق، وكان مثله ينظر إلى الدين، مهما كانت قيمته وضرورته في مجاله الخاص، على أنه لا يعدو آخر الأمر أن يكون مرحلة مبدئية تمهد للميتافيزيقا، وكان ينظر إلى الله لا على أنه الكائن الحقيقي الشامل لكل شيء، بل على أنه مظهر، أي على أنه أعلى المظاهر، ولكنه ما زال أقل من المطلق، وإنما الواجب أن يفهم التحول، الذي تحدثنا عنه من قبل بمعنى ميتافيزيقي صرف، أي على أنه علو الفرد على ذاته، لا في عالم يتجاوز هذا العالم، بل في حياته اليومية في المكان والزمان الحاليين. ويعلن بوزانكيت أن إعادة تنظيم تجربتنا عن طريق إدراجها في تجربة كلية أكمل، هو شيء يمكننا أن نحققه في أي وقت، فالمطلق يدخل حياتنا المتناهية ويتبدى في أي شيء نفكر فيه أو نفعله، «فأي تحليل دقيق لحياة كائن بشري عادي في يوم واحد، كفيل بأن يأتي على نحو قاطع بكل ما هو لازم من حيث المبدأ لتأكيد المطلق.»
88
وعلى ذلك فإن بوزانكيت، مثل برادلي، يرى أن المطلق، الذي يضحى على مذبحه بفردية الإنسان الشخصية، إنما هو نتاج للشوق والتلهف، فهو المثل الأعلى الذي نصبو إليه، وهو أعلى قيمنا، وهو النجم الذي يهدينا في ارتقائنا بطبيعتنا. وعلى ذلك فهو لا يوجد وراء أفق بعيد، وإنما هو بيننا، وكل ما علينا هو أن نمد أيدينا لنصل إليه ونأتي به إلى وجودنا، بل إن في وسعنا، دون أن نخرج عن معناه، أن نسميه بالإنسان الأرقى
Superman
Unknown page