79

Falsafa Bi Sirat Muannath

الفلسفة بصيغة المؤنث

Genres

31

لقد كتب لوبون (1841-1931) هذا في سنة 1895، وعاصر طبعا ما كان يتحدث عنه خلال الحرب العالمية الأولى ثم الثورة الروسية والأزمة الاقتصادية.

32

إلا أنه إذا كان لوبون ينهل من سيكولوجيا الجماهير، ومن علم النفس الاجتماعي، فإن آرنت تحاول الوقوف على وجهة نظر الفكر السياسي إلى ظواهر التوتاليتاريا موظفة بذلك تحليلات لوبون وفرويد. (4) رابعا: غياب الفكر (أو عوز التفكير) والأمل في محو الشر

تجعل حنة التفكير هو الأساس الذي بموجبه يمكن مواجهة ومقاومة الشر، فالفعل الذي قام به إيخمان يحتاج إلى تفكير جديد لا يقوم على أحكام القيمة ولا على المعاداة للنازية؛ لأن إيخمان هو مجرد شخص وقد أنجز عملا تافها تعود مسئوليته للنظام النازي. وبدون التفكير لا يمكننا القضاء على الشر. هكذا؛ فالتفكير الذي تدعو إليه آرنت هو تفكير في مجال الحرية والإرادة من زاوية سياسية، وليست أخلاقية كانطية محضة. وتقصد بالبعد السياسي النزوع نحو الانتقام والعنف، الذي يوجد داخل كل واحد منا، والذي تغذيه الأنظمة البيروقراطية والكليانية التي تدفع البشر إلى التصرف دون رحمة ودون شفقة، وهم يحسون أنهم يرتكبون مجرد أفعال بسيطة، ولكنها في الحقيقة إجرامية إلى حد بعيد إنه «الشر التافه والعادي»، ولكنه مخيف بشكل كبير. فالأنظمة التوتاليتارية من وجهة نظر آرنت وتحديدا النظام النازي والستالينية الروسية بشكل أخف، تذكي الاتجاه نحو تكريس النظرية السلوكية في الفعل البشري، بحيث يتصرف أجراء البيروقراطية الإدارية والعسكرية والاقتصادية والسياسية كفئران تجارب. ولقد أدت الحرب النازية على اليهود إلى إبادة ما يناهز المليونين من يهود أوروبا، وفي الآن ذاته عذبت الستالينية المعارضين السياسيين الموالين لصديق ستالين نفسه، هذا وقد كانت محاكمات موسكو 1936 التي تستشهد بها آرنت مثالا ساطعا عن الفظاعات التوتاليتارية، حيث تم إطلاق النار على المعارضين وتم إرسال عشرات الآلاف من بحارة بيتراسبورغ إلى معسكرات الاعتقال في سيبيريا، نفس الفعل قامت به السلطات النازية في ألمانيا على أيدي موظفي الجيش والساسة النازيين. فهل نجد حلا لكل هذه الفظاعات؟ ترى آرنت أن الشر يمارس في الفضاء العام وتحت أعين أشخاص مهيجين ومعدين سلفا تحت التأثير الأيديولوجي الصارخ الذي ترعاه المؤسسات الإعلامية الرسمية. وها هنا تصرخ آرنت في وجه هذه «المأساة الأنطولوجية» التي حلت بعالم اليوم الذي فقد صوابه، وتقول في وجه الملايين الذين اقتيدوا إلى معسكرات الاعتقال والإبادة: كيف لا تستطيعون أن تنتفضوا وأن تثوروا في وجه هذا النظام الهمجي؟ كيف تقبلون، أنتم الملايين، أن يقودكم في القطارات ما لا يتجاوز مائة جندي؟

33

هل بلغت الفظاعة بهذا الإنسان أن يكون خاضعا بشكل كلي لقوانين تتعارض مع إرادته وحريته؟ هنا تقف آرنت على الفهم الكانطي للقانون الأخلاقي، وتعتبر أن هذا القانون لن يجدي في شيء ولا يمكنه أن يحل مسألة الشر المتجذر في السلوك السياسي البشري، وتفتح هنا الآفاق للتفكير في حجم هذه الفظاعة الشرسة التي أدت إلى مجازر في حق البشرية. وأكيد أن شرط الإنسان الحديث يدعو إلى التأمل في كل أبعاده، فهل ثمة تبرير أخلاقي لفعل إيخمان أو بعبارة آرنت: كيف تبنى إيخمان الموقف الكانطي؟

بموجب السلطة التوتاليتارية يتحول الواجب إلى واجب القائد والزعيم (الفوهرر)، ويغدو مبدأ الطاعة متمركزا على الذات القائدة سياسيا، وهكذا يتحول مبدأ الطاعة المفترضة للواجب الأخلاقي الكانطي إلى طاعة الواجبات التي يفرضها ويمليها الزعيم. هنا يتماهى الفرد - كما هو الحال مع إيخمان - مع القائد الذي يقود كل الأفراد الآخرين، وهي الحالة التي يتحول فيها إيخمان إلى رجل عادي ولكنه يفعل الشر إلى أقصى حد.

34

ولكن فعل الشر هنا ليس نابعا من الفرد - من وجهة نظر آرنت - ذاته وإنما من السلطة السياسية والأيديولوجية التي حولت الفرد إلى قطيع يطيع أوامر الزعيم. وهو الأمر الذي وقف عليه فرويد قبل آرنت وغوستاف لوبون فيما يسمونه بسيكولوجية الجماهير، وهي حالة نفسية لم يعد معها الفرد قادرا على التصرف كفرد وكذات وإنما حالة فوران وانفعال تطبع معظم تصرفاته ومواقفه في تلك الأثناء. صحيح أن الأيديولوجيات الكبرى قد فتحت القرن الواحد والعشرين على إمكانات لتخليص الفرد من القيود التسلطية التي فرضت عليه طوال قرون، ولكن لطالما تحولت هذه الأيديولوجيات إلى عذاب أليم بالنسبة لتلك الجماهير التي أسكرتها وسحرتها بعباراتها التحررية. فستالين نفسه الذي يخطب في الناس أيام البلشفية الأولى، وهو في طريقه إلى جبال القوقاز لتجنيد الشباب للنضال ضد القيصر، سرعان ما سيتحول إلى مستبد أكثر من القيصر نفسه، وهو يشرف على مذابح موسكو 1936، وعلى الأخص ذبح زملائه في النضال السياسي. ونقرأ في أسس التوتاليتارية: «إن انجذاب الشعب نحو الشر والجريمة ليس شيئا جديدا. الناس لم يتوانوا عن الترحيب بأعمال العنف، مدركين أن هذه الأعمال قد تكون سيئة لكنها أعمال خلاقة. لكن الأخطر في نجاح التوتاليتارية هو عدم الاكتراث الحقيقي الذي يبديه المنضوون تحت لوائها. من المنطقي ألا يهتز النازي أو البلشفي في قناعاته عندما يشهد أعمال عنف ضد أشخاص لا ينتمون إلى الحركة أو يعادونها، لكن الغريب في الأمر ألا يرف له جفن حتى عندما يبدأ الوحش بالتهام أبنائه، أو حتى عندما يصبح هو نفسه ضحية للاضطهاد، أي إذا ما تمت محاكمته من دون حق، أو جرى طرده من الحزب، أو حكم عليه بالأشغال الشاقة أو أرسل إلى مخيمات الاعتقال» ... هكذا يصبح إيخمان، رجلا عاديا غير مسئول عن فعله لأنه ليس هو منبع الشر، وإنما مجرد أداة تنفيذ لأوامر الزعيم، وهذا ما تسميه آرنت بتفاهة الشر في مقابل الشر الجذري. وبموجب هذا ينبغي الانتباه إلى التحول العميق الذي حدث في فهم بنية الشر، بحيث لم يعد الشر - كما هو الحال عند كانط - القيام بأفعال لا تنسجم والقانون الأخلاقي، وإنما أصبح الشر نابعا من طاعة الأوامر القانونية، وهو الأمر الذي لم ينتبه إليه العديد من المتتبعين لمحاكمة إيخمان. وبمعنى آخر هل يمكن أن نعتبر أن إيخمان يعي جيدا أنه يفعل الشر؟ أو أنه يقوم بفعل الشر بمحض إرادته؟ إيخمان في نظر آرنت هو مجرد موظف ينفذ القرارات التي يمليها القانون؛ فأي مسئولية أخلاقية يتحملها إيخمان ها هنا؟ وهكذا فليس ثمة من شر - بحسب آرنت - في الطبيعة البشرية؛ لأن هذه الفكرة لاهوتية في الأساس (وعلى الأخص المسيحي الذي ينسب فعل الشر إلى غواية الشيطان)، ولكن ثمة شر تافه يجول في العالم كجرثومة قد تنتعش في كل مكان تجد فيه ظروفا ملائمة للسلطة التوتاليتارية؛ ولهذا تقول آرنت: «أعتقد صراحة أن الشر لم يكن راديكاليا أبدا، وإنما فقط شر إلى أقصى حد.»

Unknown page