William of Occam
في القرن الرابع عشر (والذي يعرف أحيانا باسم سكين أوكام
Occam’s Razor ) ينص على وجوب عدم تعديد مبادئ التفسير أو عوامله أكثر مما تدعو إليه الحاجة. ولقد كان الهدف من هذا «السكين» هو إيجاد سلاح لبتر الشوائب العديدة من الكيانات والجواهر والعلل، إلخ، التي تراكمت طوال قرون عديدة من التفكير في العصر الوسيط. وكانت نتيجته غير المباشرة هي تمهيد الطريق للصيغ العلمية التي وضعت في عصر النهضة، وإعطاء العلوم الجديدة - آخر الأمر - أداة من أهم أدواتها العقلية. ويقول هذا المبدأ، بلغة أبسط، إنه إذا كانت لدينا عدة تفسيرات محتملة لأية ظاهرة بعينها، كلها تبدو متساوية في قدرتها على تعليل الوقائع، وكلها منطقية بدرجة متساوية، فإن أساس الاختيار بينها ينبغي أن يكون هو البساطة. وهناك تعبيرات شائعة عن هذا المبدأ، مثل «الطبيعة تحابي أبسط المناهج» أو «الطبيعة تسلك بأيسر الطرق». ولو طبقنا مبدأ الاقتصاد في الفكر على فقرتنا السابقة، لكان مؤداه أنه إذا كانت العلل الطبيعية كافية لتعليل كل الظواهر؛ أي إذا كانت المعرفة العلمية تقدم تفسيرا كافيا - فما الذي يدعونا إلى الإتيان بفرض المثالية الذي لا يمكن إثباته؟
وبطبيعة الحال فإن لب المشكلة هو ما إذا كانت الصيغ العلمية تأتي بإجابات مرضية لنا في سعينا إلى المعرفة القصوى أم لا. ففي رأي المثالي أن العالم الذي تكشفه العلوم المختلفة قد يكون عالما حقيقيا، ولكنه لا يمكن أن يكون العالم الكامل مطلقا، بل إن المثالي يشك حتى في كونه نموذجا يمثل الواقع تمثيلا صحيحا، فكيف إذن يقال إن قوانينه تشكل تفسيرات كافية ترضينا؟ ويواصل المثالي كلامه قائلا إن قانون أوكام قد يكون صحيحا بالفعل، ولكن ينبغي أن يلاحظ أن المطلوب منا هو انتقاء أبسط تفسير كاف. على أن التفسيرات العلمية ليست كافية إلا بالنسبة إلى أغراض العلم، وهي في ذاتها قد تعطي صورة صحيحة عن الواقع المادي، ولكنها لا تنبئنا إلا بالقليل جدا عن «الواقع» الحقيقي الكامن من ورائه.
الآراء المتضاربة بشأن «الطبيعة»: ذلك لأن المثالي يرى أن «الاكتفاء الذاتي الظاهري ما هو إلا وهم».
4
فالعالم الطبيعي ليس إلا قناعا على وجه الواقع، وما الطبيعة بأسرها إلا مظهر، أو ظاهرة، يوجد من ورائها «شيء في ذاته» مختلف كل الاختلاف. وأساس العالم الطبيعي إنما هو هذه الحقيقة غير المادية، التي يتوقف عليها بناء الكون بأسره. أما صاحب المذهب الطبيعي فإن وجهة النظر هذه تبدو خيالية في نظره، فهي تبدو أشبه بوضع العربة قبل الحصان، ولكن على مستوى الكون بأسره. فالمذهب الطبيعي يرتكز على وجهة نظر الموقف الطبيعي، القائلة إن ما يبدو للطبيعة من اكتفاء ذاتي هو حقيقة أصيلة. والنظام الطبيعي لا يعتمد على شيء خارجه في وجوده أو بقائه، بل إن كل شيء في الكون، وضمنه الإنسان وذهنه، يعتمد إلى وجوده على النظام الطبيعي. فالكون يرجع أساسه إلى ذاته فحسب، ولسنا بحاجة إلى افتراض مصدر خارجي أو قوة علوية لإضفاء الوجود أو المعقولية عليه. أي إن الكون يقف على أرجله، غير معلق «بأربطة حذاء» كونية. ومن ثم فإن السؤال عما يقع خارج الكون أو وراءه هو سؤال لا معنى له، فاللفظ يشمل مجموع كل وجود - وكيف يمكن أن يكون وراء «الوجود» شيء؟
حول هذه المسألة يحدث الانقسام الأساسي بين المثالية وبين المذهب الطبيعي. فالحقيقة القصوى في نظر المثالي هي شيء روحي، يوجد من وراء الواقع الظاهري الذي يكشفه لنا عالمنا اليومي التجريبي، عالم اللحظة الحاضرة والمكان الحالي. أما في نظر صاحب المذهب الطبيعي فإن عالم التجربة هذا؛ أي النظام الطبيعي، هو في ذاته نهائي؛ ومن ثم فإن قانون الاقتصاد في الفكر يحتم علينا ألا نفترض أية عوامل تفسيرية غير ضرورية لتعليمه. فقوانين العلة والمعلول - كما يفهمها العلم وكما تطبق فيه - هي تفسيرات كافية، لا للعلم وحده، ولكن للفلسفة والحياة العملية أيضا. وهكذا فإن المذهب الطبيعي يرى أن الصيغ المفصلة التي تضعها المثالية والأديان معا، تبتر بواسطة سكين أوكام، ولا يوجد مبرر معقول لاستمرار وجودها.
وهنا قد يتساءل القارئ: «ولكن، إذا كان موقف المذهب الطبيعي سليما إلى الحد الذي يدعيه أنصاره، وكانت المثالية غير ضرورية، فلماذا ازدهرت هذه الأخيرة طوال تاريخ الحضارة الغربية، ولماذا كانت لا تزال تحتفظ بقدرتها الفائقة على النمو؟ لا بد قطعا أن يكون في المثالية شيء أكثر من التراث، هو الذي يحفظها حية!» وفي اعتقادي أن القارئ محق في ذلك تماما، وهذا «الشيء» هو أن وجهة نظر المذهب الطبيعي ليست كافية في نظر كل شخص بل ليست كافية في نظر أغلب الأشخاص. ذلك لأن وجهة النظر هذه، مهما تكن قدرتها على إرضاء العقول، لا ترضي قلوب أناس كثيرين.
كذلك فليس ثمة احتمال كبير في أن نظرة المذهب الطبيعي إلى العالم سوف تتمكن في أي وقت من إرضاء المطالب العاطفية لمعظم الناس على النحو الذي تستطيع أن ترضيها عليه النظرة المثالية. فسوف تضطر النظرة الطبيعية دائما إلى أن تواجه الاتهام القائل إن أنصارها قوم لا قلوب لهم، وإنهم لا يكادون يكونون بشرا، وإن نظرتهم باردة قاتمة بالقياس إلى ما تستطيع المثالية تقديمه من دفء وأمان. وكما قلنا من قبل، فإن هذا الاتهام الموجه لصاحب المذهب الطبيعي بأنه غير مكترث بمطالب القلب، هو في نظر معظم الناس أخطر وأهم من أية نقاط ضعف عقلية في المذهب. فمعظم الناس الذين يقبلون على الفلسفة ملتمسين لديها إجابات عن أسئلة تحيرهم، يكونون عادة على استعداد للتغاضي عن بضع هفوات في المنطق، وعن بضع مسلمات لم تختبر ، تسللت إلى الاستدلال، أو بضع ثغرات لم تسد، لو كان من شأن النغمة العامة والاتجاه العام للإجابة أن ترضي عواطفهم. ومن المؤكد أن المثالية تتيح مثل هذا الإرضاء، فهي قد تقف مع المذهب المنافس لها على قدم المساواة من حيث المنطق، ولكنهما ليسا ندين من حيث الإرضاء العاطفي. وهذه الحقيقة وحدها تكفي لتعليل الشعبية الواسعة والحيوية الدائمة للمثالية. (4) المثالية الميتافيزيقية مقابل المثالية الأخلاقية
Unknown page