7
ذلك لأن الكون في صميمه ملائم للإنسان ومثله العليا.
الفصل الرابع
المذهب الطبيعي: العالم غير مكترث
مثلما أن الدين يجد المثالية أقرب المذاهب الفلسفية إلى قلبه، فكذلك كان العلم رفيقه الفلسفي الخاص، هو المذهب الطبيعي. هذا المذهب هو في أساسه الاعتقاد بأن العالم الطبيعي أو «الواقعي»؛ أي عالم التجربة البشرية - هو المجال الوحيد الذي يمكننا أو يجب علينا أن نهتم به. وهذا التحديد لم يوضع اعتباطا؛ إذ إن العالم الطبيعي هو الذي رسم حدود بحثنا، نظرا إلى كونه العالم الوحيد الذي تكشف لنا التجربة وجوده. ومن الواضح أن هذا الاعتقاد الأساسي في المذهب الطبيعي يعني آليا رفض الاتجاه إلى العالم الآخر، والنزعة المتعالية أو فوق الطبيعة بكل صورها. فأية معرفة أو قيمة أو مثل أعلى لا يمكن إرجاعه إلى التجربة البشرية وإلى ما فيه صالح البشر، لا يمكن أن يكون له معنى في نظر المفكر المؤمن بالمذهب الطبيعي.
وينظر صاحب المذهب الطبيعي عادة إلى الميتافيزيقا المثالية الرحبة على أنها بناء منطقي رائع، لم يشيد على أساس من التجربة، على حين أن النموذج الذي يقدمه الدين، والذي يمتلئ أملا وتبشيرا، يبدو في نظره ناتجا عن تفكير مغرض مبني على افتقار مماثل إلى أساس من الواقع. وصاحب المذهب الطبيعي يكون عادة على استعداد لترك المثالي ورجل الدين والمتصوف مع مذاهبهم، غير أنه يؤكد ضرورة النظر إلى هذه على أنها مسائل إيمانية خالصة، ليست لها أية علاقة بالبرهان التجريبي. وهو يفخر عادة «بصرامته الذهنية»، ويميل إلى النظر بطريقة تمتزج فيها السخرية بالسخط، إلى ما يعده «رقة ذهنية» لدى المثالي، الذي يبدو عاجزا عن الحياة، إن لم يشيد لنفسه عالما يلائمه ويحميه، والمذهب الطبيعي يتهم المثالية بأنها تجعل أماني الإنسان وأحلامه تؤثر في بحثه عن الحقيقة، بل تشوهه، على حين أن القائل بالمذهب الطبيعي يكون عادة واثقا من أن صفحته في هذا الصدد بيضاء. غير أن ما قلناه عن المذهب الطبيعي حتى الآن يكفي للتأثير في كثير من القراء مثلما يؤثر في المرء إناء من الماء البارد يلقى على وجهه، فالأفضل إذن أن نرجع ونضع بعض الأسس ريثما يلتقط القراء أنفاسهم. (1) المركز التاريخي للمذهب الطبيعي
يرجع تاريخ الفلسفة في العالم الغربي إلى حوالي عام 600ق.م. أي إن عمره حوالي خمسة وعشرين قرنا. وعلى حين أن هذه الفترة الطويلة من الزمان والتغير قد شهدت بالطبع مولد كثير من المدارس ووجهات النظر الفردية، فإن جهد الفيلسوف في يومنا هذا ما زال مماثلا لجهده في العصور اليونانية الأولى، وهو أن ينفذ من وراء الاضطراب والتغير الذي تنطوي عليه التجربة اليومية، ويكشف الطبيعة الثابتة للأشياء. على أن الطريقة المثالية في القيام بهذا البحث كانت ولا تزال، كما أوضحنا من قبل، أقوى الطرق في وصف الحقيقة تأثيرا وأوسعها انتشارا. ولو تصورنا الفلاسفة على أنهم يكونون لجنة تحقيق دائما، مكلفة بمهمة كشف طبيعة الحقيقة النهائية، لأمكن القول إن المثالية هي التقرير الرسمي أو تقرير الأغلبية عادة. ولقد اكتسب هذا القبول، على مر القرون، قوة زائدة مستمدة من السوابق التاريخية، بحيث إن أية وجهة نظر معارضة كانت تجد نفسها عادة في مركز من يهاجم «الوضع القائم» بكل ما يستتبعه هذا الوضع من مزايا.
المذهب الطبيعي بوصفه وجهة نظر الأقلية : إذا تأملنا تاريخ الفلسفة في عمومه، وجدنا أن المذهب الطبيعي يمثل تقرير الأقلية. وقد تفاوتت هذه الأقلية في الحجم من أقلية كبيرة (في أوائل العصر اليوناني، وفي العصور الأخيرة) إلى أقلية لا تكاد تذكر. كما أن جهودها تراوحت ما بين إثارة الضجيج الزائد (كما هي الآن) وبين الصمت الذي يكاد يكون مطبقا. ولكن مهما كان صغرها، فقد كانت دائما موجودة، تطلق النيران بطريقة حرب العصابات على المواقع المحصنة للأغلبية المثالية. ولقد كان تدفق تفكير المذهب الطبيعي في بعض الأحيان أشبه بقطرات ضئيلة لا يكاد يلاحظها أحد، وكان أحيانا أخرى - كما هو الآن - أشبه بالفيضان الذي يدفع المثالية إلى التحصن بأرض أكثر منعة. ولكنه سواء أكان قطرات أم فيضانا، فقد كان يشكل تيارا من الاحتجاج والنقد على المسلمات الأساسية والنتائج النهائية للتأملات المثالية. ولما كان هذا المذهب يمثل جماعة الاحتجاج أو حزب «الخوارج»، فقد كان بطبيعته عدوانيا؛ ذلك لأنه لما كان منذ البداية في مركز اجتماعي أقل، نظرا إلى أنه يمثل موقف الأقلية، فلم يكن لديه الكثير مما يخشى فقدانه. ومن ثم فقد كان في استطاعته أن يخوض بصدره غمار المعركة الفلسفية. وكانت نظرة المثالية إلى المذهب الطبيعي - شأنها شأن نظرة كل المدافعين عن «الوضع الراهن» إلى من يهاجمهم - هي أنه يفتقر إلى التهذيب وإلى احترام الوقار التقليدي للفلسفة. وكان رد الفعل الشائع في المعسكر المثالي هو أن «الشغب» لا يليق بالفيلسوف. ومع ذلك فقد استمر المشاغبون في مظاهراتهم، حتى أصبحوا اليوم يلقون معاملة أفضل، بل أصبح لهم صوت أكبر في إدارة شئون الفلسفة. غير أن التقابل الأساسي بين وجهتي النظر ما زال قائما، وأغلب الظن - بناء على أسباب سنحاول إيضاحها في هذا الفصل - أنه سيظل يمثل دائما أهم مظاهر الانقسام داخل الفلسفة. (2) ما هو العالم في صميمه؟
من الملاحظ أولا أن التقابل بين قطبي التفكير يظل باقيا لأن المسألة الأساسية ليست، كما يعتقد الكثيرون، هي كون طبيعة الواقع النهائي مادية أم ذهنية، بل إن هذه المسألة، كما رأينا في الفصل السابق، هي: هل نظام العالم آلي في صميمه، أم هو نظام أخلاقي؟ وهل الكون شبيه بآلة هائلة، بلا ذهن، وبلا غاية؛ وبالتالي خارج عن مجال الأخلاق، أم هو بناء أخلاقي، يسير على أساس غاية عاقلة، وفي اتجاه تحقيق القيم والمثل العليا؟ لا بد أن يتضح لنا على الفور أن هذا تباين أساسي، لا يمكن التغلب عليه حتى لو تم الاتفاق على «جوهر» العالم. فقد تتفق المدرستان على أن الطاقة هي الأساس النهائي لتركيب العالم (وهذا يبدو أمرا محتمل الوقوع). ولكن ما دامت إحدى المدرستين تنظر إلى هذه الطاقة على أنها في أساسها ذهنية أو روحية، وتتجه إلى الحديث عنها بصيغة التفخيم (وبذلك توحد بينهما ضمنيا - على الأقل - وبين الذهن الشامل أو الله)، على حين أن المدرسة الأخرى تنظر إلى الطاقة كما ينظر إليها العلم، فإن الانقسام سيظل قائما.
مركز القيمة : وهناك سبب ثان يؤدي إلى استمرار التعارض بين المدرستين: فالقيمة في نظر المثالية الكامنة في الكون، وهي موجودة في صميم الأشياء، كما أن الحوادث والعمليات الكونية تتجه إلى تحقيق الخير إلى أقصى حد ممكن. وعلى ذلك فالقيمة شيء موضوعي يكتشفه الإنسان بوصفه أساسيا في الكون، ولا شيء في نظر المثالي يثبت القرابة بين الإنسان وبين بيئته الملائمة بمثل الوضوح الذي تثبتها به هذه الحقيقة، ألا وهي أن الإنسانية والكون معنيان معا بالخبر. أما المذهب الطبيعي فيرى أن العالم لا يتضمن من القيمة والخير إلا بقدر ما نستطيع نحن أنفسنا تحقيقه بجهودنا الخاصة من بيئة غير مكترثة. فالقيم لا وجود لها إلا بالنسبة إلى الكائنات العضوية الحية، ويعتقد صاحب المذهب الطبيعي أننا نخدع أنفسنا لو سعينا إلى إسقاط هذه المثل العليا على شاشة الكون، وادعينا أن للكون أي شأن بها. ذلك لأن الكون يظل مترفعا عن آمال الإنسان ومثله العليا، غير مكترث بها، ولا يستطيع صاحب المذهب الطبيعي أننا نخدع أنفسنا لو سعينا إلى إسقاط هذه المثل معنى (أو حتى أي وجود) خارج مجال الأمور البشرية.
Unknown page